*محمد برادة، بعيداً عن الضوضاء…قريباً من السكات، دار الفنك، دار الآداب، الدار البيضاء، بيروت، 2014م.
تنضاف رواية محمد برادة الأخيرة “بعيدًا عن الضوضاء… قريباً من السكات” إلى سجله الإبداعي الذي يتكوّن من المجموعة القصصية “سلخ الجلد”(1979)، وروايات “لعبة النسيان”(1987)، و”الضوء الهارب”(1994)، و”مثل صيف لن يتكرّر”(1999)، و “امرأة النسيان”(2002)، و”حيوات متجاورة”(2009).
عالج برادة في هذه الرواية عوالم نفسية واجتماعية وتاريخية وإنسانية، تستند في عمقها على الأحداث التاريخية والتحوّلات الاجتماعية والحضارية التي عرفها المغرب منذ عهد الاستعمار إلى بداية الألفية الثالثة، مروراً بالتطوّرات السياسية التي واكبت المرحلة. ولا يمكن إدراك المسؤولية التي تحمّلها محمد برادة دون مراعاة الظروف التي طبعت المرحلة التاريخية للمغرب خلال ستينيات القرن العشرين، والتي شكّلت وعيه بالدورين الثقافي والسياسي المنوطين به، في ظلّ حمولة ثقافية وتكوين أكاديمي وإيديولوجي تشبّع بهم في القاهرة وعاد بهم إلى المغرب مع مجايليه الذين درسوا بدمشق، وأتيحت لهم الفرصة للاحتكاك والتفاعل مع الثقافة الغربية بشكل مباشر أو غير مباشر. كلّ هذه العوامل دفعته لينخرط في تأسيس وبناء كلّ ما هو ثقافي أو سياسي داخل المغرب، خصوصاً وأن المجالين كانا متداخلين في فترة ما بعد الاستقلال، محاولة منه لإشراك القارئ العربي في الإطلاع على فترة معيّنة من تاريخ المغرب، أعتبرها حاملة لخصائص سياسية وفكرية جديدة.
هكذا ينسج محمد برادة عوالم روايته من الواقع والتخييل وفق مقتضيات التخييل السردي، مع إدراكه العميق للمسافة الفاصلة بين الإبداع وشروطه الجمالية، وبين الواقع المعيش وأحداثه اليومية، إذ تبدو أغلب الأحداث البانية لمرجعيات الرواية لصيقة بالواقع في كينونته وتجلّيه الخارج نصّي لكنّها مرتبطة بسياقها التاريخي الذي أنتجها.
وعليه تتأسّس هذه الرواية على مرجعية سياسية اجتماعية يبرزها احتكاك التاريخ باليومي، ويتبلور ذلك من خلال تعامل الشخصيات مع الأحداث المطروحة التي تناولها الروائي في خمسة فصول تمتدّ على فترة زمنية تبدأ من 1931م، وهي السنة التي تلت صدور الظهير البربري، وتصل إلى 2011م، حيث تصاعدت الحركات الاحتجاجية التي عرفها المغرب آنذاك، والتي تندرج فيما يسمّى بالربيع العربي، مرورًا بما تخللته هذه المرحلة من أحداث تتجلّى، من جهة، في الآمال في نيل الحرية والاستقلال والمطالبة بنهاية الاستعمار، ومن جهة أخرى، في صراع الأحزاب مع السلطة، وما ترتّب عن ذلك من هزائم متتالية من قبيل انهيار المشروع الوطني، وسيطرة السلطة التقليدية على الأحزاب الوطنية، وفشل عملية التناوب، وخمود حركة 20 فبراير.
لقد أثرت هذه الأحداث بشكل مباشر على مصائر وحيوات الشخصيات التي يُتبادل بينها السرد داخل الرواية، ويتعلّق الأمر في البداية بشخصيتين هما: شخصية الرحماني الذي لم يظهر إلا مرّات معدودة في الرواية، والذي لا نعرف عنه سوى أنه مؤرخ في السبعين من عمره، وأنه يتحرّى الدقة والأمانة في نقل الحقائق التاريخية، ثمّ شخصية السارد المسمّى الراجي الذي كلّفه الرحماني بمساعدته على الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي تؤرقه، والتي تخصّ الخمسين سنة الفاصلة بين سنتيْ 1956 و 2006م، وذلك من خلال استنطاق بعض الأشخاص الذين لم يسبق لهم أن خاضوا غمار السياسة أو عبّروا عن آرائهم في حاضر المغرب أو ماضيه، واستدراجهم للإجابة عن بعض الأسئلة من قبيل معنى مقاومة الاستعمار وانتظارات الناس من الاستقلال، ثمّ عن كيفية تعبير الواقع اليومي عن الأزمة التي تعرفها البلاد، وعن إمكانية اكتساب هذه الأخيرة لآليات الانخراط في الألفية الثالثة.
في غياب المؤرخ الرحماني انكبّ الراجي، وهو من أبناء ثمانينيات القرن العشرين، على البحث عن الأجوبة من أفواه تشكيلة اجتماعية متنوّعة من خلال تحليله لأقوالهم واستخراج الخلفية الكامنة وراء كلّ خطاب حتى يتسنّى له الإقرار بتعثر الانتقال من مرحلة الاستعمار إلى مرحلة الاستقلال لعدم توفّر شروط ذلك، ولتلاحق أحداث مختلفة متسارعة أدّت إلى ما أدّت إليه من أزمات بما في ذلك أزمة البطالة التي يعاني منها الراجي نفسه وغيره من الشباب المعتصم أمام قبة البرلمان. ونظراً لاهتمامات الراجي الأدبية أو رغبة منه في توظيف المادّة المستخلصة في خدمة طموحه وتطلعاته إلى كتابة التاريخ كرواية تطبع شخصياتها سمات الأحداث التاريخية الكبرى وتنعكس على تصرفاتها اليومية، فإنه قرّر كتابة هذه الرواية الحلم، حيث بدأ بتسجيل افتراضات وتأملات عن الخمسين سنة التي يهتمّ بها المؤرخ الرحماني. فعل ذلك اعتماداً على تقنية السرد المتزامن الذي يجعل الأحداث والوقائع والشخوص تجري وتتحدث في الآن نفسه، ممّا يتيح للقارئ المقارنة والاستنتاج والتفاعل.
يقول الراجي في هذا الإطار: “استوحيت محكيات هذه الرواية من لقاءاتي بفئات متباينة من الناس الذين قبلوا أن يجيبوا عن أسئلة المؤرخ الرحماني، وفي الأثناء نفسها كان الحديث يجرّنا إلى استطرادات تبعد قليلاً أو كثيرًا عن الأسئلة المطروحة. ومن ثنايا ذلك كنت أستصفي بعض الشخصيات وأتخيّل مساراتها لأعيد رسم ملامحها وسياقاتها استناداً إلى ما يثيرني، ويستحثّ مخيّلتي. لم يكن التاريخ حاضرًا إلا بقدر ما هو صيغة حياتية محتملة لمرحلة ضاعت ملامحها في غضون الأحداث الكبرى” (ص. 25).
اختار الراجي ثلاثة تواريخ اعتبرها مهمّة لارتباطها بميلاد الشخصيات الأساسية في روايته، وهي توفيق الصادقي (1931م)، وفالح الحمزاوي، ونبيهة سمعان (1956م). وكما يبدو واضحاً فالشخصيات تنتمي إلى جيلين مختلفين، جيل مخضرم عاش في عهديْ الاستعمار والاستقلال، وجيل ولد مع الاستقلال وواكب الأحداث الموالية لذلك. وبالرغم من اختلاف الشخصيات واختلاف ظروفها والعوامل المؤثرة فيها، فقد كانت تربط بينها عناصر مشتركة ووشائج قويّة تبلورت مع الوقت، إذ نشأت وتطوّرت علاقة فالح الحمزاوي بنقيب المحامين توفيق الصادقي إثر التحاقه بالعمل بمكتبه بعد تخرّجه من كلية الحقوق، وكان قبلها قد تعرّف إلى نبيهة سمعان حينما كان قائداً طلابيًا إبّان سنوات الدراسة الجامعية في الرباط. واجتمع هؤلاء الثلاثة في الصالون الذي أنشأته نبيهة سمعان بمنزلها بعد عودتها من فرنسا وافتتاحها عيادة للتحليل النفسي.
تنتمي هذه الشخصيات إلى طبقات اجتماعية متباينة؛ فوالد توفيق الصادقي كان من أعيان البلاد بمنطقة زعير، نواحي الرباط، أدخل ابنه إلى المدارس الفرنسية فحصل منها على البكالوريا سنة 1948م، وتخرّج من جامعة بوردو سنة 1953م (إجازة حقوق)، ثم اشتغل بمكتب محام فرنسي كان متعاطفاً مع الحركة الوطنية، في الوقت الذي كان هو خائفاً منها على مصيره بعد نيل الاستقلال، إضافة إلى أنه كان شغوفاً بالحضارة الفرنسية وما أتت به من حرّية وديموقراطية وانفتاح على الآخر، ممّا يدشّن لمرحلة جديدة لعلاقة الفرد بالمجتمع والأخلاق، لكنه في قرارة نفسه كان يتساءل كيف لبلد بهذه المبادئ أن يستعمر بلدًا آخر وينهب خيراته، فكان لا يستسيغ هذا الوضع، ويستوعب بصعوبة التحوّلات الطارئة. فبالرغم من انبهاره بالحضارة الفرنسية وتشبّعه بأفكارها الحداثية، فقد ظلّ حريصًا على العادات والتقاليد المغربية المتعلّقة باللباس وبالعلاقات العائلية بالخصوص، ويظهر ذلك من خلال مواقف حياتية كثيرة؛ منها طلبه من والدته أن تختار له الزوجة المناسبة. وكان هذا التذبذب في الآراء والأفكار من الدوافع التي قادته إلى صالون نبيهة سمعان والمشاركة في الحوارات الدائرة هناك، بحثاً عن تحقيق توازن نفسي وتصالح مع الذات المنشطرة بين زمنين وثقافتين مختلفتين.
هكذا تناول السارد من خلال شخصية توفيق الصادقي مجموعة من المسائل منها: مسألة تهيئ أبناء الأعيان من طرف الفرنسيين لتحديث المغرب الجديد وفق برنامج التمدين والتصنيع الذي يستجيب لحاجيات المتروبول في استثمار إمكانات المستعمرات، كما استرجع علاقة الأعيان بالمستعمر وكيف كان المغرب يعيش فترة الأربعينيات من القرن العشرين في ظلّ الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال. تناول أيضاً الشؤون الاقتصادية للبلاد من خلال تطرّقه لمسألة ضريبة الترتيب وكيفية إخضاع السكّان لها عند حديثه عن التحاق توفيق الصادقي بالعمل بمصلحة الضرائب المغربية.
أما شخصية فالح الحمزاوي فتمثل نموذج أبناء الأسر الفقيرة الذين يميلون إلى التمرّد على الأوضاع والسعي إلى تغييرها، فأبوه يشتغل بالدباغة، لكنه رجل خبر قساوة الحياة فنبّه ابنه، الذي نشأ مدلّلاً بين أمّه وشقيقته، إلى ضرورة التعامل معها بخشونة من أجل مواجهة تبعاتها والتغلّب عليها. وقد ظهرت بوادر التمرّد لدى الحمزاوي منذ المرحلة الثانوية إذ انخرط في مظاهرة خاضها التلاميذ احتجاجاً على قرار إلغاء تدريس مادّة الفلسفة، فواصل نضاله الطلابي بعد انتقاله إلى مدينة الرباط لمتابعة دراسته الجامعية، وتوّج مساره بانخراطه في حزب يساري، بعدما تبلورت مطالب اليسار وانتقاداته للقصر ومواقفه من استفراد المخزن وزبائنه بالسلطة، وانشقاق المنظمة الحزبية وقاداتها، فاهتدى إلى أن نهج الديموقراطية هو السبيل إلى مواجهة الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وتمثل شخصية نبيهة سمعان نموذج الفتاة المغربية المثقفة والمتحرّرة؛ فقد درست في الرباط وباريس، ونهلت من الثقافتين المشرقية والغربية فاهتمّت بالفكر والأدب، وأعجبت إبّان اهتمامها هذا بالكاتبتين جورج صاند، وأناييس نين، وبالمناضلة النسوية المصرية درية توفيق، فتبنّت مواقفهن التقدّمية، ورفضت العادات والتقاليد التي نشأت عليها، وكانت تتطلّع دائماً إلى حياة مختلفة سواء بفرنسا أو بالمغرب الذي عادت لتستقرّ به، وتفتتح عيادة تحليل نفسي بالدار البيضاء، كرّست لها كلّ وقتها وجهدها خصوصاً وأنها لم تتقيّد بوضع أسري محدّد، فقد تزوّجت وفشلت في ذلك مرّتين. كما عمدت إلى تأسيس صالون أدبي فكري واجتماعي، بعيداً عن كلّ غاية سياسية أو مادّية. يهدف هذا الصالون إلى استقطاب الحائرين الذين اخترقتهم العقد النفسية والاختلالات المواكبة لاهتزاز القيم وزعزعة العادات الموروثة التي عرفها المغرب منذ سبعينيات القرن العشرين، واستجابة لرغبة وجودية نابعة من أعماق الطبيبة النفسية المتمرّدة التي سعت إلى تغيير الحياة الخاملة الموروثة، وتكسير طوق الدونية المحيط بالنساء في مجتمع ذكوري محض.
صاغ الراجي هذه الشخصيات الثلاث وفق انتمائها إلى مراحل تاريخية مختلفة، وعمد إلى التلاعب بمصائرها وفق التحوّلات التي يفرضها كلّ ظرف، وذلك من خلال المزج بين محكيات واقعية وأخرى تخييلية تشمل محكي العادات والتقاليد، ومحكي السياسة، ومحكي التطلّعات المشروعة التي تحدّد مواقف كلّ شخصية وتبرّر تصرّفاتها. هكذا انحاز الراجي إلى توفيق الصادقي الذي يمثل نموذج الهنا والهناك، حيث عاش خمساً وعشرين سنة من عمره في عهد الاستعمار وتشبّع بالثقافة الفرنسية، إلا أنه اضطرّ إلى العودة إلى المغرب والاستقرار به بعد وفاة والده، التي غيّرت مجرى حياته وتركته في حيرة من أمره، محاولاً التوفيق بين ما عاشه في فرنسا وما هو مقبل عليه في بلده الأمّ، فاصطدم بمواقف أخيه الأصغر السياسية التي كانت بمثابة وعيه الشقي، وكان الحوار أو الصراع بينهما يشكّل حواراً أو صراعاَ بين اليسار بأفكاره وتطلعاته الرافضة للواقع والمتمرّدة عليه، وأفكار المخزن وأنصاره الهادفة إلى الحفاظ على الأوضاع كما هي لاستفادتها من ذلك.
أما شخصية فالح الحمزاوي فقد ظلت غامضة بالنسبة إلى الراجي نتيجة تذبذب مواقفها على مستويات متعدّدة، فعلى المستوى السياسي تاه الحمزاوي بين مبادئ اليسار وتحفظات اليمين، وعلى المستوى الشخصي انشطر بين الرغبة في التحرّر والانفتاح في مجالات مختلفة يفرضها العصر، وبين الانغلاق في ثنايا العادات والتقاليد، خصوصًا فيما يتعلّق بعلاقته بجسد المرأة وامتلاك الرجل له واحتكاره في إطار علاقات خاصّة تحدث الراجي من خلالها عن علاقات الحمزاوي الجنسية المتحرّرة وهو حديث الزواج من سيّدة تمتلك كلّ المواصفات التي تجعله وفيّا وسعيدًا.
وكانت شخصية نبيهة سمعان الأقرب إلى الراجي لأنها اختارت خوض غمار تجربة صعبة تخصّ الحديث عن خبايا النفوس الإنسانية وما يتطلّبه ذلك من جرأة وشجاعة وقدرة على التحرّر من كلّ قيود التربية والعوائق النفسية وتخطي العراقيل الاجتماعية خصوصاً وأن الصالون يستقطب نخبة من المغاربة الذين قد يفضّلون الصمت حينما يتعلّق الأمر بالحديث عن مشاكلهم الخاصّة لأوضاع اعتبارية مختلفة.
تتحرّك هذه الشخصيات الثلاث في جوّ مشحون بالصراعات والتحوّلات التي لا تمرّ دون أن تترك أثرها في النفوس، وذلك منذ عهد الاستعمار إلى فترة ما سمّي بالربيع العربي، وما تخلّل هذه المرحلة من أحداث متنوّعة منها ظهور اليسار المغربي وتبلور مواقفه ومطالبه، ثم تراجعه عن مبادئه بعد انكساره وحدّ المخزن من طموحاته، وسنوات الرصاص وما نتج عنها من انتهاكات لحقوق الإنسان، ولجوء المخزن إلى وسائل القمع والزجر ومحاكمة الشباب دون تهم تذكر، ثم استقواء التنظيمات الأصولية المتدثرة بخطاب إسلامي يدعو إلى تقويم اعوجاج العقيدة وتطبيق الشريعة لإنصاف الناس من ظلم الحكام. هذه التحولات التاريخية زجّت بالمغرب في ظلام الأصولية وهيمنتها، ودفعته إلى البحث عن مخرج من هذا المأزق فاهتدى إلى فتح طريق الديموقراطية لإشراك كل القوى بما فيها أحزاب المعارضة والحركات الإسلامية والتكنوقراط، فنتج عن ذلك فكر التناوب على الحكومة الذي ما يزال مستمرًّا إلى الآن .
هكذا يستجمع الروائي الأشخاص والفضاءات والأحداث ليعيد ترتيبها وإدراجها في حالات وتجسيدات متباينة، ويعيد عجنها وتسويتها وفق ما يحلو لمخيلته، متنقلاً بين الفترات والأزمنة، ومحوّراً ما لا يروق له، وصانعاً عالماً موازياً يكون حقيقياً وتخييلياً في الآن نفسه. على هذا النحو نجد توالي الأحداث التاريخية الواقعية تتحرّك في فضاء تخييلي، والروائي هنا يطبّق مبدأ “كلّ تخييل يقترن بما يعاكسه، أي الاعتقاد بوجود عالم ملموس إلى جانبه، وفي الوقت نفسه لا توجد حياة واقعية إلا ضمن منطق مرافق يقتضي تغيير الحياة باتجاه عوالم متخيّلة”(ص. 136).
في الأخير تعمّد الروائي إرباك المتلقي ليدفعه إلى التفكير، إذ غيّر أفق انتظاره من خلال الظهور المفاجئ للحركات الاحتجاجية التي انتظمت في إطار ما سمّي بالربيع العربي، وغيرّت مجرى الأحداث بما في ذلك كتابة الرواية، فبعدما أوشك الراجي على إنهائها توقف عن الكتابة ليتساءل هل يكملها أم يحوّلها إلى سرد شفوي بمثابة صرخة ضدّ الضوضاء.
يتجلّى هنا إدراك محمد برادة للأبعاد السياسية العميقة التي عرفها المغرب منذ عهد الاستعمار إلى الآن، ولدورها الفعّال في خلق مواطن حرّ قادر على المواجهة والتعبير عن رأيه دون تردّد أو خوف. ويضفي إلمام برادة الواسع بالأحداث التاريخية على الرواية طابع الشمولية والطرح الجدري، إلّا أنها تفتح أبواب التساؤل حول علاقة الواقع بالتخييل والحدود الفاصلة بينهما في فعل التذكّر المنجز على جنس الرواية، ثم هل تقدّم الذاكرة حقائق ثابتة غير قابلة للشكّ وهي تخضع للتسنين الجمالي؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها تدعونا رواية “بعيداً عن الضوضاء، قريبًا من السكات” إلى التوغل في ثنايا الذاكرة لتوضيح الرؤية حول تاريخ بلادنا والتموضع في المكان المناسب الذي نختاره لأنفسنا حتى نتمكن من فهم ماضينا ومواكبة حاضرنا في انتظار مستقبل قد تشرق أنواره وقد تخفت وفق ما تجود به رياح التغيير العاتية.