عبد السلام الجبلي، أوراق من ساحة المقاومة المغربية، الرباط، دار المعارف الجديدة، 2015، 239 ص.
عبد السلام الجبلي من رموز الوطنية والمقاومة، ومن الشخصيات البارزة التي تركت بصماتها واضحةً في مرحلة مفصلية من تاريخ المغرب الراهن، تمتد في لحظتي الاستعمار والاستقلال. بيد أن هذا الفاعل/”البطل”، الذي عاش في أوقات مليئة بالصراعات، توارى عن الأنظار بعد أن استنفذ أدواره وابتعد عن الأضواء لبضع سنوات، ليلمع اسمه من جديد من خلال كتابه أوراق من ساحة المقاومة.
استحضر المقاوم عبد السلام الجبلي في هذا الكتاب مشاهد نضالية “عاشها وبعض مجايليه”( ص 9)، واستعرض أحداثا ووقائع تشكل امتدادا لكتب ومذكرات أصدرتها شخصيات سياسية ووطنية من أجل استعراض مساراتها وأعمالها السياسية أو النضالية في نفس المرحلة الزمنية. وما يثير الانتباه، في هذه المؤلفات التي تقاطعت مسارات مؤلفيها مع مسار هذا المقاوم، أنها قليلا ما خصصت حيزا من صفحاتها للحديث عنه.
ولهذا السبب، شعر الجبلي بضرورة تقديم شهادته، التي يحكي من خلالها عن تجربته السياسية والنضالية، في المقاومة في فترة الاستعمار وفي المعارضة في فترة الاستقلال. ولم يكتف باستعمال لغة الوصف لاستعراض تفاصيل وقائع عاشها وعايشها وسياقات شارك في صنعها أوكان شاهدا عليها، بل تجاوز ذلك، محللا الأحداث والأدوار، ومبديا وجهة نظره فيها، وواضعا اليد على الأخطاء والسلبيات التي كان لها -على حد قوله- أبلغ الأثر على نفسيته. وإلى جانب ذلك، حرص المؤلف على إبراز دوره في تلك “الملحمة البطولية”، ومقدار مشاركته في صنع أحداثها. ومن هذا المنطلق، اعتبر عبد العزيز آيت بنصالح، الذي تكفل بتحويل ذاكرة عبد السلام الجبلي الشفوية إلى أوراق مكتوبة، الكتاب “وقفة تأملية لمسار المقاومة وقراءة نقدية لزيغها”، إذ يستمد قيمته وخصوصيته، من الجهد الذي بذله الراوي لـ “إماطة اللثام عن التجربة الحقيقية للمقاومة”، خلافا للذين “لبسوا جلدة المقاومين وصرحوا وكتبوا سفاسف موهوا بها عن بعض القراء..” (ص 9).
1- مضمون الأوراق
يشتمل الكتاب على ثلاثة أبواب ومقدمة وخاتمة من وضع “المحرر” أي كاتب النص. ويتكون الباب الأول (ص15- 81)، المتعلق “بالحركة الوطنية بين مراكش وباقي ربوع المغرب، من أربعة فصول. يتحدث الأول عن “التمرد الشعبي” بمراكش وموقف الباشا الكلاوي منه سنة 1937، كما يتحدث عن طفولة الجبلي في كنف أسرته الوطنية وبداية تشكل وعيه الوطني. وينتقل الفصل الثاني إلى الحديث عن مشاركة الجبلي في إضراب جامعة ابن يوسف تضامنا مع طلبة القرويين، وعن جوانب من نشاطه الوطني بمراكش بين سنتي 1944 و1953، وظروف الانتقال من النضال السياسي الوطني إلى العمل المسلح، والبدء في تشكل الخلايا الفدائية. و يتطرق الفصل الثالث لـ”تجربة السجن وتنظيم المقاومة والعمل المسلح”. أما الفصل الرابع، فقد خصص لمسألة “تنظيم المقاومة في الجنوب” ومساعيه للحصول على السلاح”، واستئنافه العمل داخل حزب الاستقلال.
ويرصد الباب الثاني (ص83-155)، المشتمل على ثلاثة فصول والحامل لعنوان كثير الإيحاء: “التكامل بين تجربة المقاومة في مراكش والبيضاء”، معطيات تتعلق “بفعالية تنظيم المقاومة في مراكش والبيضاء” (الفصل الأول)، و”التكوين السياسي للمناضلين في زنازين السجون” (الفصل الثاني)، ومعلومات عن”المشهد السياسي” بالمغرب قبل الاستقلال وبعده، مع التركيز على سياق المفاوضات من أجل استقلال المغرب، ومسؤوليات المقاومة بعد انتهاء عهد الحجر والحماية، ومسألة “إعادة هيكلة الحزب والتنظيم النقابي “، و”ملابسات حل جهازي المقاومة وجيش التحرير” (الفصل الثالث).
أما الباب الثالث والأخير (ص. 159-232)، الذي حاولت فصوله الثلاثة رصد “المشهد السياسي” بالمغرب بعد الاستقلال، فقد سلط الأضواء على “قيادتي الحزب والمقاومة”، و”إرهاصات الانشقاق” عن حزب الاستقلال، ومسألة “محاسبة المتعاونين مع الإدارة الفرنسية”، ونشاة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، و”محاولة البحث عن بديل” لعمله (الفصل الأول). كما تحدث تحت عنوان” المعارضة المغربية بالخارج” عن انتقاله إلى إسبانيا ثم الجزائر بعد الإعلان عن استقلالها سنة 1962، وعن معارضته فكرة الانقلاب، وأورد معطيات عن “استمالة الجزائر للمعارضين المغاربة” ورفضه الموقف المساند للجزائر في حرب الحدود، وانقلاب بومدين على بنبلة، وعن أثر أحداث 23 مارس 1965 على الوضع السياسي العام بالمغرب واستعدادات “الانقلابيين” “لقلب النظام” (الفصل الثاني). وخلص إلى الحديث عن “الرحيل إلى فرنسا”، وفشل محاولاته “تفادي الوضع الكارثي” الذي أدت إليه أحداث مولاي بوعزة (1973). وانفراج الوضع السياسي بعد المسيرة الخضراء، وملابسات عودته إلى المغرب، ونشاطه السياسي والمهني بعد العودة.
وتتويجا لفصول الكتاب، أبرز المحرر في الخاتمة ( ص 233-235) أفكار الكتاب ودلالاته وقيمته ومغزاه، باعتباره سردا لوقائع تتعلق بلحظات من تاريخينا الراهن، وخطابا حاملا لأسئلة تجعل من الماضي المتحدث عنه “حاضرا مفهوما ومفيدا”.
ومن خلال هذا الرصد الأولي لمحتويات الكتاب، يمكن حصر الأفكار والمعطيات الأساسية الواردة فيه، فيما يلي:
- يبدو الجبلي في الكتاب كـ”بطل”، يتميز بمهاراته في التنظيم والتأطير وبناء”الاستراتيجيات”، وذلك من خلال التركيز على مواقعه في العمل الحزبي والمسلح، واستعداده بسبب نزعته التقدمية لاعتناق هموم الشعب. وعلى هذا الاساس حسب اعتبر “العقل المدبر لهذه المرحلة والموجه الأساسي لرجال المقاومة الذين كانوا يلجأون إليه في حالة الخلاف والاختلاف”. وبناء على ما ذكره محرر الكتاب بخصوص بداية مرحلة الاستقلال، فقد كان الجبلي “حريصا على إصلاح هياكل حزب الاستقلال، وبعث الروح في قواعده بما ينفع الناس…”. وكان بذلك من الوطنيين القلائل الذين أعجزوا الاستعمار على أن يوقف مسيرة شعبهم…” (ص. 153)، والمناضل الذي “لم يرف له جفن، وهو يجوب أقطار المغرب، يعاين عن كثب مشاكل المغاربة المنسيين الذين حصدوا بذور شوك خلفه الاستعمار، لعله يجد حلا لمشكلاتهم أو يخفف عنهم (ص. 152). وظل الجبلي حتى في الفترة التي كان فيها “بعيدا عن المسؤولية”، “يتدخل” و”ينبه”، لحرصه على “تفادي الوضع الكارثي” (ص. 214)، الذي كان الفقيه البصري يحاول أن يورط البلاد فيه حسب زعمه.
- حاول الكتاب رصد سلبيات المعارضة في مرحلة الاستقلال، ومنها المشاكل التنظيمية داخل حزب الاستقلال والاغتيالات التي ذهب ضحيتها عباس المساعدي وإبراهيم الروداني وغيرهما . وعبّر من خلال ذلك عما شعر به من ضرورة “عدم تورط جهازي المقاومة وجيش التحرير في مزايدات تحولهما إلى قتلة أو إلى حزب سياسي…” (ص128)، ورفض مواقف رفاقه “الانقلابيين” الراغبين بـ”محاولاتهم اليائسة” في “توريطه في إعدادهم لقلب النظام الملكي…”( ص 234).
- لم تقتصر مرويات الجبلي على الجوانب المتعلقة بالعمل السياسي والمسلح، التي ترمز لما برز في المرحلة المتحدث عنها من قمع وعنف، إذ قدم، بالأخص في سياق الحديث عن مراكش، معطيات سوسيو ثقافية ثمينة عن البيئة الاجتماعية التي ترعرع فيها، ومنها ما تعلق بالكتّاب والتعليم والحرف وتقاليد السلطة والتسلط والعقاب. واستعمل، في هذا الإطار، ألفاظا مستوحاة من الواقع المعيش، ترمز لما يتوفر عليه الوسط الذي عاش فيه من رصيد تراثي لغوي غني.
- لم يكتف الجبلي برصد لحظتي المقاومة والمعارضة، بل تعداهما ليرصد لحظات الغربة (من سنة 1961 إلى دسمبر 1979)، التي صادفت ما اصطلح على تسميته بسنوات الجمر والرصاص. كما استعرض المعطيات الأساس التي ارتبطت بعودته إلى المغرب، وبما لقيه من ترحيب من الملك الحسن الثاني، وما أنجزه من أعمال ومشاريع خاصة.
2- رواية الشاهد، بين الشفوي والمكتوب:
تتداخل في النص المتعدد الأبعاد ثلاثة أصوات، يرمز أولها للبطل الشاب صانع الأحداث أو المشارك فيها، وثانيها الراوي-الشيخ الذي لم يرو روايته ولم يحك عن ذكرياته المختزنة في ذاكرته إلا بعد مرور بضعة عقود، وهكذا فإن المسافة الزمنية التي تفصل زمن الأحداث عن زمن الحكي تترك أثرها بما لا يدع مجالا للشك على نفسية الراوي وبنية النص، وبالتالي فإن الحكي، الذي جرى “بلسان دارج” وكان حسب محرر الكتاب “شائقا ومتماسك البناء” (ص 8) لما يتوفر عليه الراوي من مهارت في فن الحكي، وليد بيئة اجتماعية وسياسية وفكرية أخرى مغايرة لزمن الأحداث مثقلة بمفاهيمها وهمومها الخاصة التي يصعب التخلص منها لحظة الكتابة.
أما الصوت الثالث، فيمثله محرر أوكاتب نصوص الكتاب، عبد العزيز آيت بنصالح، الذي سبق أن أظهر مهارته في الكتابة في كتاب ” شيشاوة منذ ما قبل التاريخ إلى الآن” (سنة 1912) وروايتي “بابل” (2008) و”العميان”(2012). إن هذا الكاتب هو الذي نقل شهادة الجبلي، التي كانت مندرجة “في متن مصوغ بلغة وسيطة مشوبة بالتكرار والتداعي ونقائص كثيرة”، “إلى لغة فصيحة” (ص 7). وهو الذي قام أيضا بضبط الوقائع والأخبار، الواردة على لسان الشاهد، و”تصنيفها حسب سياقاتها وتسلسها الكرونولوجي” (ص 7)، بالاعتماد على “أسلوب وصفي مباشر” تمتزج فيه “الكتابة التاريخية والإبداع”. وهذا يعني أنه أولى عناية فائقة للجانب الأدبي والفني والبعد الجمالي للنص، مع الحرص حسب قوله على عدم الوقوع في متاهات “الخيال المفرط أو النسبية المطلقة” (ص 7).
لم يقف دور المحرر عند هذه اللمسة الإبداعية، إذ أنه أضاف للنص الأصلي، من الناحية المعرفية والمنهجية والنظرية، إضافات مثيرة للانتباه. إذ أضفى بعدا نظريا ومنهجياعلى الكتاب من خلال استشهادات واقتباسات استقاها من كتابات باحثين ومفكرين مرموقين، من أبرزهم عبد الله العروي وبيير نورا Pierre Nora. كما أنه أغنى النص، باتباع قواعد المؤرخين غير المعهودة لدى أصحاب المذكرات، بإحالات وهوامش لا علاقة للكثير منها بالمقاوم وتجربته !، وببعض “التعليقات القليلة السريعة المتقشفة” التي صيغت في رأيه “بشكل لا يخل بالتوثيق نفسه”. وألح، دفاعا عن هذه الخطوة، على أن “ما قد يفهم منه أنه خروج عن سياق التوثيق سنعتبره سوء تقدير أو سوء فهم، نعذر عليه ويعذرعليه من يعتبره كذلك” ! (ص 8).
وفضلا عن ذلك، فقد أضاف الكاتب بعدا فكريا وإيديولوجيا يتجاوز، في اعتقادنا، ما كان يجول في ذهن المؤلف- الشاهد. فهو لم يكتف في المقدمة والخاتمة بالقول إن الكتاب لا يسعى فقط إلى “استعراض الأحداث استعراضا اعتباطيا”، لأن الهدف الأكبر والأسمى، من استحضار الماضي يتمثل، من جهة في “فهم ما يندس بين طوباوية المقاومة وتكتيك السياسة”، ومن جهة ثانية في استيعاب “بعض ما يتحكم في الحاضر واستجلاء بعض ما يخبئه المستقبل”. وألح، انسجاما مع هذه الرؤية، على “ضرورة استنطاق الماضي بشأن إشكاليتين كبيرتين ترخيان بظلالهما على حياتنا السياسية والفكرية: التخلف التاريخي واستدراكه الواعي”(ص 9).
يقول المحرر في المقدمة : “إن ذاكرة الجبلي تحمل عناصر تفسير وإدراك وفهم لهذه المآزق التي مرت بها بلادنا وعاقت إلى حد ما استراكها الواعي لتخلفها التاريخي”. كما ذكر في مكان آخر أن الهدف من الانكباب “على شهادات الجبلي”، التي لاتخفى”أهميتها في تنبيه الوعي الوطني والتنشئة الاجتماعية”، لم يكن “هو السرد، بقدر ما كان إظهار العلاقة التي تربط اليوم المواطن المغربي المهتم بالمستقبل بملابسات فترة الحركة الوطنية ومقاومة الاستعمار”(ص10). وانسجاما مع هذا المنظور، ينهي الكاتب خاتمته بسؤالين منغمسين في الإيديولوجيا، يسائل الوطنييين من خلالهما عما فعلوا بما ورثوه، وما أعدوه “لفك لغز استعاضِ الاستعمار الجديد عن الاحتلال العسكري باحتلال اقتصادي ـ مدني فرنكوفوني وبوسائط محلية” (ص235). وبذلك يتحول الكتاب، بفضل قوة تدخل المحرر في المرويات، من نص حامل لذكريات إلى “رواية” مليئة بالعبر والرؤى ذات البعد النظري والفكري، وخطاب مشبع بهموم اللحظة الراهنة.
3- بين الحكي والحصيلة المعرفية
يستحضر الكتاب المعطيات المتعلقة بمرحلة معينة من ماضينا القريب. وفي هذا الاستحضار نقل لتمثلات الراوي الذي استخدم، في تقديم روايته، آليات تحكمت في نظام السرد وبناء النص. وتتمثل أولاها في الإكثار من استعمال ضمير الجمع. صحيح أن الراوي استعمل كثيرا ضمير المتكلم، الدال على المفرد، ليقدم العديد من المعطيات المتعلقة بمساره وأدواره والمآسي التي تعرض لها، لكنه استعمل أيضا، على غرار ما سار عليه عدد من كتاب المذكرات، صيغة الجمع التي يختفي فيها وراء آخرين غير محددين، مما لا يساعد على تحديد المسؤوليات والأدوار. وهكذا يقول مثلا عن تجربته في مراكش: “فكرنا….وبدأنا نؤطر المواطنين …لنستقطبهم”، ويضيف: “وبعد مدة كوّنا حركة سياسية في القصبة” (ص33). ويقول في مناسبة أخرى: “وعليه، فكرنا في أن ينضم الطلبة إلى الحزب… و في تأطيرهم “. و لم يقدم في هذه الحالاث الثلاث أي أسماء أو معلومات عن الاشخاص الذين شاركوا في التأطير والاستقطاب، ولا عن أعداد من شكلوا “الحركة”. ويذكر أيضا، عن الفترة التي كان ما يزال فيها طالبا (بل تلميذا) مناضلا في “جامعة” ابن يوسف : ” أهل أكادير …وجهوا لنا دعوة لزيارتهم”. وهنا يبدو واضحا أن المعنى لم يكتمل، لأننا لا نعرف من هم أصحاب الدعوة وما هي أسماء المدعويين، أوالصفة التي دعوا بها ( ص 40 ). نفس الشيء، يمكن أن نلمسه في حديثه عن اشتداد الحصار على الدار البيضاء وعلى مراكش، إذ قال: “بدأنا نفكر بجد في …أن نفك الحصار…فجاءت فكرة العمل خارج هاتين المدينتين، لتشتيت اهتمام سلطات الحماية حولهما” (ص59). ونكتفي فيما يتعلق بمرحلة الانتقال من الحماية إلى الاستقلال بالاستشهاد بالجملة التالية: “طرحت علينا بعد حصولنا على الاستقلال، مسؤوليات جسيمة”. فهنا أيضا، لا نعرف الصفة التي يتكلم بها والجهة التي يتحدث باسمها. ومثل هذه الجمل كثيرة في الكتاب، وهي تطرح علينا الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام.
وتتسع مساحة الالتباس والغموض، بسبب الميل للتعميم والاختصار، مما لا يساعد على توضيح السياقات وفهم المعاني. ونلمس ذلك، على سبيل المثال، في قوله:” “بعد عودة عبد الله إبراهيم من فرنسا سطرنا برنامجا ثقافيا… وهو ما دفعنا إلى التفكير في إصلاح التعليم الأصيل”(ص 40). و هنا نجده يبخل علينا بالمعلومات التي تساعدنا على التعرف على مضامين البرنامج الثقافي والإصلاح التعليمي. وأثناء الحديث عن تنقله بين “مراكز عدة من الجنوب” المغربي، أورد معطيات تفيد بأن “الجميع” أصبح مستعدا للمشاركة في تشكيل نواة جيش التحرير. إذ يقول في هذا الصدد: ” كنا نتصل بجميع العناصر، في كل مكان، في تافراوت، …وكَلميم وفي طاطا….وفي أماكن أخرى، كنا نتصل بالمخازنية لننظم نواة جيش التحرير”( ص69). وهنا أيضا لا يقدم ما يشفي الغليل، بحيث أنه لم يحدد تاريخ الرحلة ومدتها، ولم يعط معلومات كافية عن عدد الخلايا ورجالها، وعن مآلها أو أدوارها. وفي سياق ما أورده من معلومات عن نشاطه في مراكش، أشار إلى “التنظيم” الذي كان ينتمي إليه بصيغة “تنظيمنا”. وبعد التقائه بالمقاوم الزرقطوني في الدار البيضاء، استعمل عبارة “التنظيم الجديد”. لكنه لم يحاول في الحالتين أن يسلط الأضواء على بنية التنظيمين وقاعدتهما البشرية وموقعه في كل منهما.
ويذكر الجبلي في مناسبة أخرى: “طرحت علينا، بعد حصولنا على الاستقلال، مسؤوليات جسيمة… وكان تحقيق الأمن مهما…طفت صراعات بين المجموعات…المسلحة، فعمت الفوضى…المجموعات باتت متجاوزة بفعل تسلل بعض الدخلاء إليها”. وهذا النص يؤكد ما ذهبنا إليه من ميله، باعتماد صيغة الجمع وأسلوب التعميم والاختصار، إلى الابتعاد عن تقديم التفاصيل الموضحة للأحداث والمواقف. وبالمقابل، نجده يميل، في أحايين كثيرة وبشكل مثير للانتباه، إلى نسج خطاب مبني على الاستنتاجات والأحكام والإيحاءات غير المدعمة بالمعطيات التاريخية أو المصدرية. ونذكر من ذلك مثلا ما قاله عن الاتحاد الاشتراكي وعلاقته بالملك، مع أنه كان بعيدا عن مسرح الأحداث. حيث أشار إلى أن هذا الحزب تأسس، من دون الفقيه البصري، بعد “مفاوضات سرية مع النظام لم يكن يطلع عليها كثير من الأطر القيادية”، “أبدى لهم الحسن الثاني فيها ما أسال..لعابهم” (ص 217 ). وكما هو الحال في هذا السياق، فإنه كان يتصرف في بعض الأحيان وخصوصا في الفترة التي أبعد فيها عن المغرب وأحداثه، كملاحظ غير منتم لأي تيار أو اتجاه. إذ وجد السبيل، بعد انحسار مساحة ما شاهده وعايشه أو شارك فيه، إلى التعويض عن ذلك بما سمع به وبتقديم تحليلات وأفكار يعبر من خلالها عن آرائه.
ومما يزيد مساحة الالتباس اتساعا في الكتاب عدم الحرص على ذكر التواريخ والسنوات ووضع الأحداث في سياقاتها الزمنية. ذلك آن المعطيات المقدمة، وإن كانت تسعفنا على معرفة تاريخ ولادته سنة 1929 وأحداث مراكش سنة 1937 وما ارتبط بتنصيب ابن عرفة في غشت 1953، فإنها لا تساعدنا البتة على تتبع تحركاته من الناحية الزمنية. حيث لا نعرف مثالا كم قضى من الوقت بين الخروج من مراكش والعودة إليها بعد أحداث سنة 1937، ولا متى انتقل إلى الدار البيضاء. كما أنه لم يعط أي أهمية للزمن في سرده لتفاصيل رحلته إلى “الجنوب”، بحيث لا يذكر متى كانت ولا كم استغرقت من الوقت. وكذلك الأمر بالنسبة لفترة السجن. ويبدو الأمر، بذلك، وكأننا خارج سياق الزمن، في زمن أسطوري يهتم بالأدوار والبطولات وليس بالسياقات الزمنية.
وتجدر الإشارة، مع ذلك، إلى أن الشاهد والكاتب معا ربطا الأحداث أحيانا ببعض التواريخ العامة. غير أن بعضها يستوقفنا لمخالفته ما هو معروف ومتداول. فهما يحددان مثلا تاريخ الهجوم على خطيب الجمعة بجامع المواسين، الذي أمسك عن الدعاء للملك الشرعي، في 14 غشت 1954، في حين أن العملية جرت في 14 غشت 1953(ص 53 هامش 7). كما أنهما ربطا “تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” بفاتح يناير 1959( ص 179)، في حين أن تأسيسه مرّ حسبما هو متداول عبر ثلاث مراحل تمتد بين 25 يناير و6 شتنبر 1959.
ويطرح الكتاب أيضا إشكالية الألفاظ والمصطلحات، حيث يستعمل الراوي-الشاهد كثيرا، عند حديثه عن النشاط الوطني في فترة الحماية، كلمات نحتت خارج الزمن المتحدث عنه. ومنها “تأطير” خلايا فدائية في سياق الحديث عن مرحلة الحماية. وقد تكرر استعمال هذه الكلمة بصيغ مختلفة دون تحديد المقصود منها والكيفية التي تم بها ذلك. نفس الشيء ينطبق على مصطلح “الحركة السياسية” التي تكرر استعماله أيضا. حيث يذكر مثلا: “وبعد مدة كونا حركة سياسية في القصبة” بمراكش (ص 33). وأغلب الظن أنه يقصد بذلك خلية أو خلايا وطنية. واستعمل بنفس الطريقة مصطلح “التنظيم” للإشارة أحيانا لخلية ما وأحيانا أخرى لحركة أوسع مشكلة من خلايا عديدة. ولا نعتقد بأن هذا المصطلح، الذي فرض نفسه في مرحلة الصراع بين الحسن الثاني والحركة الثورية والتقدمية، كان متداولا بين الوطنيين في عهد الحماية. والمثير للاستغراب أن المؤلف لم يستعمل، للإشارة إلى المنظمة التي انتمى إليها بالدار البيضاء، اسم “المنظمة السرية” مع أنه معروف ومتداول، بل أشار إليها مباشرة بعد انتقاله إلى هذه المدينة بلفظ “التنظيم الجديد”، واستعمل بعد الاستقلال للإشارة إليها دائما، مصطلح “المقاومة السرية” أو “التنظيم السري للمقاومة”، وكأن المغرب لم يعرف آنذاك تنظيمات أخرى غيرها أو أن كل التنظيمات توحدت فيها. وإلى جانب لفظي المقاوم والفدائي، نجده يكثر من استخدام مصطلحي”النضال” و”المناضل”. وهذا شيء عادي في نظرنا، لأنه كتب بلغة المناضل المتشبع بأفكار المعارضة التقدمية في السبعينيات من القرن العشرين.
وإلى جانب هذه الأشكال التعبيرية والصيغ اللغوية، التي أبدى الراوي والكاتب من خلالهما مهارتهما في الحكي والكتابة، نجد في الكتاب أيضا استعمالا موفقا لمنهجين/ آليتين: آلية الوصف لتقديم تفاصيل الوقائع والأحداث، وآلية التحليل للاستنتاج والنقد. ونشير، فيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة، إلى أن عبد السلام الجبلي، الذي”أبان” حسبما جاء في المقدمة “عن ضبط دقيق لكثير من التصريحات الكاذبة أدلى بها سياسيون”، قدم استنتاجات وأحكام تبرز أهمية دوره وتقلص من أدوار بعض رموز الحركة الوطنية. ففي سياق استعراضه لـ”إرهاصات الانشقاق” عن حزب الاستقلال، ألح قائلا: “وبتنا نجتمع لنناقش مشاكله (الحزب)، على مستوى جميع الأقاليم….(و) باتت (المعارضة) تتمتع بمد جماهيري قوي، وانضم إليها بعض من كانوا يستخفون بها”. ويشير هنا بشكل خاص إلى المهدي بنبركة والفقيه البصري من بعده. مع العلم أن المهدي بشكل خاص كان، حسبما هو متداول، “الدينامو” المحرك لحركة 25 يناير.
وفي هذا الاتجاه، كان الجبلي حريصا على توجيه سهام النقد للعديد من المقاومين والمناضلين البارزين، وإظهار سلبياتهم وأخطائهم. فقد أرجع الأخطاء التي ارتكبها بعضهم، ومنهم محمد الزرقطوني، لتهورهم واندفاعهم. كما وجه إلى آخرين، خصوصا في مرحلة الاستقلال، اتهامات أكثر خطورة. ومن أبرز هؤلاء الفقيه البصري الذي كان في رأيه كذّابا ومخادعا يلعب على الحبلين. والسبب في ذلك، تصميمه مع بعض رفاقه في قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على “مواجهة النظام عن طريق العمل المسلح”. وحسبما ورد في الكتاب فقد سيطر على ذهن الراوي، نتيجة ما اعتبره تناقضا داخل الاتحاد الوطني، سؤالان بدا من خلالهما كمحلل أو ملاحظ سياسي لا علاقة له بالحزب المنتقد الذي لم يعد بالنسبة له إلا موضوعا للتحليل، ينظر إليه من خارج معمعة الأحداث، وفي الغالب من خارج زمن الأحداث. والسؤالان هما: “هل يمكن للمغاربة أن يعلقوا آمالا كبيرة على الاتحاد؟ وهل في إمكان هذا الحزب أن يضع سياسة جديدة تضع المغرب على السكة الصحيحة؟ واستخلص في النهاية، بأن “اتجاه” الاتحاد لم يكن “سوى واجهة صورية” لافتقاده إلى “تخطيط” يمكنه من المساهمة “في تقدم البلاد”(ص 185).
ونتيجة لهذه العوامل، كانت شهادات الجبلي، حسب “الكاتب” نفسه، “مشاهد مختلف بعضها عن بعض، تبدو تارة منسجمة، وتارة أخرى متنافرة”. خصوصا وأنها “كتمت ما كان بإمكانه أن يجعل بعض المشاهد مكتملة أحيانا” (المقدمة، ص9، 8). ونشير في نفس السياق، إلى أن ترتيب الأفكار والمعلومات خضع لمنطق معين منسجم مع أهداف الراوي، مما لم يساعد على فهم الأدوار والسياقات. ونستشهد هنا مثلا بحديثه عن واقعتين حدثتا قبيل تعرضه لحادثة سير لم يتكلم عنها. وتتعلق الواقعة الأولى بدور الوساطة الذي قام للمصالحة بين “الهلال الأسود” و”المنظمة السرية”، و يبدو في هذا الحدث وسيطا محايدا لا علاقة له بالصراع الدموي المحتدم بين الطرفين. وترتبط الثانية باجتماع لمجلس المقاومة والاحتجاجات التي أبداها فيه. ونجد أنفسنا هنا أمام حدثين جريا معا في نفس الظرف أو الزمان، لكنه فصل بينهما في سياق السرد، ليبعد نفسه في الأول عن مسؤولية اغتيالات ذهب ضحيتها العديد من المقاومين ومنهم إبراهيم الروداني (يوليوز 1956 )، وليظهر نفسه في الثاني بمظهر المقاوم البارز صاحب المبادرات والمواقف الشجاعة.
وتأسيسا على ذلك، يمكن القول إن عبد السلام الجبلي كان يظهرمع الأحداث، التي لم يحرص كثيرا على حصرها في سياقها الزمني، كفاعل مشارك في صنعها أو يختفي خلفها، مكتفيا بدور الملاحظ أو المحلل المنتقد للأطراف المتدخلة فيها والتي مالت ملامحها إلى الانمحاء وأدوارها إلى التــقلص تحت تأثير نمط الحكي. والأكيد أن هذا الحكي، كما لاحظنا ذلك من قبل، قد تعزز بتدخلات “الكاتب”، الذي اهتم بالجانب الجمالي والإبداعي في الكتاب، وأشاد بمواقف الجبلي الوطني المقاوم والمناضل الفذ، والتقدمي الذي ظل “منتظرا ” بعد معارضته الفكر الانقلابي”أن يظهر له جليا ما يمكنه أن يسهم به في تقدم المغرب” (ص 200، الهامش5).
تنبغي الإشارة هنا إلى أن الكتاب لم يحد عن القاعدة المتبعة من طرف أغلب أصحاب المذكرات، الذين تركوا مسؤولية نقل شهاداتهم الشفوية إلى المكتوب لمحررين أو كتاب دون أن يفصحوا عن ذلك. لكن ميزته تكمن في حرصه على الإعلان عن اسم المسؤول عن “الصياغة”، الذي لم يكتف بصياغة المرويات بأسلوبه المتحمس والجميل، بل أضاف لها إضافات أفقدتها في نظرنا بعض عفويتها.
غير أن الملاحظات لا تقلل من أهمية الكتاب-الشهادة، التي يستمدها من قوة أدوار المؤلف في الزمن المذكور. وهذا ما دفع المتتبعين إلى اعتباره “مصدرا غير عادي “، يتمتع بالكثير من المصداقية والواقعية ( ص 8). لقد أتى الكتاب فعلا حافلا بالمعطيات الهامة والمفيدة والتحليلات المثيرة، التي تكشف عن بعض خبايا مرحلة مليئة بالألغاز. بيد أن آليات الحكي والكتابة، تركت ثغرات وفراغات في مساحة الكتاب، تضعنا أمام أسئلة وعلامات استفهام، تتعلق بالمسألة المصدرية والقيمة المعرفية للمذكرات ضمن مصادر التاريخ الراهن بشكل عام.