Larry Diamond, Marc F. Plattner, Democracy in decline? Johns Hopkins University Press and the National Endowment for Democracy, Baltimore, Maryland, 2015.
تعالج فصول الكتاب قيد المراجعة موضوعين رئيسيين: الأول يتعلق بمدى كون الديمقراطية تعرف فترة تراجع في منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بعد موجة المد التي عرفتها منذ الربع الأخير من القرن الماضي. ويهم الموضوع الثاني الخيارات التي تواجهها المؤسسات الداعمة للدّمَقرطة في البلدان الغربية الكبرى على ضوء آفاق التحولات الجديدة.
برز الانتقال الديمقراطي الذي أصبح يعرف لدى البعض بعلم الانتقال (ترانزيتولوجيا) كـبارديغمparadigm هيمن على السوسيولوجيا السياسية منذ نهاية السبعينات، وكان من بين منظريه الرّواد عدد من المشاركين في هذا الكتاب ساهموا في تأسيس مجلة الديمقراطية Journal of Democracy سنة 1990، والتي تحولت إلى منبر متميز لبلورة وتعميم أطروحات هذا البارديغم. وعمل كل من مارك بلاتنر Marc F. Plattner الذي كتب مقدمة الكتاب ولاري دايموندLarry Diamond ، كمديرين لتلك المجلة التي اختارت مسألة تراجع الديمقراطية موضوعاً لعدد خاص أصدرته بمناسبة مرور ربع قرن على إنشائها، ثم نشرته سنة 2015 في صيغة الكتاب الذي بين أيدينا اليوم. ساهمت في الكتاب أيضاً كوندوليزا رايس، Condolezza Rice وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة بتقديم قصير يتبنى موقفاً متفائلاً من مستقبل الدّمَقرطة.
شكلت أطروحة سامويل هانتغتون Samuel P. Huntington[i] حول الموجة الثالثة، والتي برزت أول مرة كمقال في مجلة الديمقراطية سنة 1991، خلفية نظرية مركزية للانتقال الديمقراطي. يخلُص هانتغتون إلى أن الديمقراطية مرت منذ بدايتها سنة 1828، حسب المقياس الذي اعتمده[ii] بموجات مَدّ وموجات مضادة؛ ابتدأت موجة المد الديمقراطي الثالثة الحالية بنهاية دكتاتورية البرتغال سنة 1974. وتخصصت مؤسسة فريدوم هاوسFreedom House منذ أن أُنشئت كمركز للبحث بدعم من الحكومة الأمريكية سنة 1941 في تطوير مؤشرات قياس الديمقراطية التي تبنتها كتابات الانتقال، بما فيها أغلب المساهمات في هذا الكتاب. تصدر فريدوم هاوس سنوياً تصنيفها للأنظمة السياسية إلى “أنظمة حرة” (التي تقابل الأنظمة الديمقراطية)، و”أنظمة غير حرة”، وثالثة “حرة نسبياً” (أو ما يطلق عليها أيضاً ديمقراطيات هجينة)، وتستقر هذه التصنيفات أو تتبدل حسب الممارسات السياسية للدول وحسب عدد الدول الخاضعة للدراسة.
يتعلق السؤال المركزي الذي يطرحه الكتاب بمدى وجود تراجع للديمقراطية بعد أن شهدت توسعاً ملحوظاً منذ 1974 حيث كان عدد الديمقراطيات في العالم هو 46 دولة جلها تقع في الغرب الغني، إلى أن وصل إلى ما يناهز 119 دولة يشكل عدد سكانها حوالي 60 في المائة من سكان العالم سنة 2006، وهو التاريخ الذي يعلن عن توقف هذا المد الديمقراطي، وعن الظاهرة التي يحيل إليها مصطلحا التراجع و الركود الديمقراطيين. وتعكس عناوين الفصول تنوع الإشكالات التي يعالجها كُتّابها، وهي كالتالي: فرنسيس فوكوياما Francis Fukuyama، “ما هي أسباب ضعف إنجازات الديمقراطية؟”، وروبيرت كيغان Robert Kagan، “ثقل الجيو-استراتيجيا”، وفيليب شميتر Philippe C. Schmitter، “أزمة وانتقال، ولكن ليس تراجعاً،” والكاتبان ستيفان ليفيتسكي ولوكان واي Steven Levitsky and Lucan Way، “أسطورة الركود الديمقراطي،” وتوماس كاروثرز Thomas Carothers، “مساعدات الديمقراطية في سن 25: وقت الاختيار،” ولاري دايموند Larry Diamond، “مواجهة الركود الديمقراطي.”
اختلف المساهمون في الكتاب في قراءتهم للمؤشرات المقدمة حول أطروحة تراجع الديمقراطية. يؤكد كل من بلاتنير وفوكوياما وكيغان هذه الأطروحة، لكن بقية النصوص تقدم تأويلات مغايرة. ينتقد شميتر المؤشرات والتصنيفات التي تبتها فريدوم هاوس والتي يعتبرها حصرية بشكل مبالغ فيه. فصِنف “الأنظمة الحرة” لا يترك مجالاً للتطور، وصنف “الأنظمة غير الحرة” يعجز عن وصف حالات من هذا الصنف التي تزداد ابتعاداً عن الديمقراطية، في الوقت الذي لا تتساوى فيه “الأنظمة غير الحرة” في درجات الاضطراب والفوضى والقمع التي تعرفها. وينبه شميتر إلى أن مؤشرات مؤسسات منافسة لفريدوم هاوس تتوصل إلى استنتاجات لا تؤكد ظاهرة تراجع الديمقراطية خلال الفترة ما بين 2006 و 2010.
يرى ليفيتسكي وواي بأن الصورة القاتمة الرائجة من خلال مؤشرات فريدوم هاوس عن تراجع الديمقراطية ليست دقيقة. إنها لا تمثل إلا تصورات غَذّاها التفاؤل والإرادوية المبالغ فيهما اللذان طبعا انتظارات الفترة الأولى للدّمَقرطة بعيد نهاية الحرب الباردة. ويريا بأنه بالرغم من ذلك، فإن الديمقراطيات الجديدة تبقى صلبة وقوية. ولا يستنتج شميتر بأن الديمقراطية تعرف مرحلة تراجع بقدر ما هي تعيش أزمة الانتقال إلى مرحلة جديدة يعتبرها ما بعد ليبرالية، لكنها مع ذلك، حسب رأيه، ليست متنافية أو معادية لليبرالية. ويعتبر مارك بلاتير بأن هناك تراجعاً للديمقراطية منذ 2006، إلا أن ذلك لا يعني بالنسبة له استمرار هذا التراجع في المستقبل، لأن الديمقراطية تتميز عن غيرها من الأنظمة بقدرتها على التصحيح الذاتي. وبالرغم من أن دايموند يتخوف من احتمال استمرار تراجع الديمقراطية، إلا أنه لا يعتبر أن ذلك التراجع يصل إلى مستوى موجة مضادة للديمقراطية التي تذكرها أطروحة هانتغتون، كانت آخرها تلك التي حدثت مع صعود النازية والفاشية في أوروبا.
وبالرغم من هذه الاختلافات بين أنصار ومعارضي فكرة تراجع الديمقراطية، فإن الكتابات تتفق في أن عملية الدّمَقرطة تشهد تحولاً يحتاج إلى تحليل أعمق نجد في نصوص الكتاب عناصر مختلفة تفيد في تفسير مرحلته الحالية. ويبرز كيغان الدور الحاسم لتوازن القوى على المستوى الدولي في تحديد مصير الدّمَقرطة على ضوء مقارنة يقيمها بين الموجة الثالثة للديمقراطية في منتصف القرن العشرين، وبين ما يطلق عليه “ربيع الشعوب” الذي عاشته عدد من الدول الأوروبية سنة 1848. فبالرغم من أن عروشاً عديدة سقطت تلك السنة في كل من فرنسا وبولونيا والنمسا ورومانيا ودول إيطالية وألمانية، إلا أن تلك الحركة الليبرالية قد فشلت، لأن القوى الاستبدادية قضت عليها. ويربط كيغان ذلك بكون توازن القوى على المستوى الدولي لم يكن مساعداً وقتها على الديمقراطية. وعلى العكس من ذلك، كان ميزان القوى في ثمانينات القرن العشرين ملائماً للديمقراطية في الفترة التي شهدت هيمنة الولايات المتحدة. أما اليوم فهناك تراجع في القوة الأمريكية التي لم تعد قادرة على فرض إرادتها على العالم بدون منازع كما كان الأمر منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. وأن ما يحدد مسار الدّمَقرطة حسب كيغان هي إرادات القوى المهيمنة وتوازن القوى على المستوى الدولي، وهي في الوقت الراهن غير مساعدة على الدّمَقرطة.
أما فوكوياما فيرجع السبب الرئيسي في تراجع الديمقراطية إلى هشاشة المؤسسات في عدد من الديمقراطيات الجديدة وضعف الحكامة بها، وهو ما جعلها تفشل في تحقيق إنجازات مقنعة. وبالمقابل، يشير كل من ليري وكاروثرز إلى أمثلة لأنظمة سلطوية وشبه سلطوية تمكنت من تحقيق معدلات عالية للتنمية في كل من الصين وروسيا وإثيوبيا، الشيء الذي بدا متنافياً مع الأطروحة التي تدافع عن كون الديمقراطية اللبرالية تعتبر النظام الأضمن لتحقيق التنمية المستدامة. وعوض ذلك، أصبحت الدّمَقرطة تمثل بالنسبة لبعض صانعي القرار السياسي في البلدان الغربية مغامرة محفوفة بالمخاطر بسبب دورها في إشعال الصراعات العشائرية كما حدث في العراق وليبيا. يضاف إلى ذلك أن الخوف من الإرهاب ومخاطره في الفترة الراهنة صار يدفع الدول الكبرى إلى تفضيل الحفاظ على السلطويات المستقرة بدل المغامرة بتغييرها. وفي عدد من بلدان أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، بدل أن تعمل الديمقراطية على خلق التقارب بين الديمقراطيات على المستوى الدولي، أدت إلى فوز زعماء شعبويين معادين للغرب.
وعلى خلاف الفترات الأولى لسقوط جدار برلين التي شهدت هيمنة الديمقراطية الليبرالية المترسخة في الديمقراطيات القوية، يعتبر دايموند أن التراجع الاقتصادي الذي تشهده الولايات المتحدة وأوروبا الغربية منذ 2008 (أضيف إلى ذلك تردي النقاش السياسي في هذه الدول طيلة السنة الحالية على الخصوص) أفقدَ هذه القوى بريقها كقدوة تشجع على نشر الديمقراطية.
والموضوع الرئيسي الثاني الذي شكل الخلفية العملية وراء إنجاز كتاب حول تراجع الديمقراطية يهم التوجهات المستقبلية للمساعدات التي تقدمها المؤسسات الغربية لمشاريع الدّمَقرطة عبر العالم بعد تراكم ربع قرن من التجارب في هذا المجال. ولم يتطرق لهذا الموضوع بشكل مباشر إلا فوكوياما وكاروثرز. ويقدر هذا الأخير قيمة مساعدات الديمقراطية بما يناهز 10 ملايير دولاراً سنة 2014، في الوقت الذي لم يكن هذا المبلغ يتجاوز المليار الواحد سنة 1980. ولا يقتصر مصدر هذه المساعدات على الدول الغربية الكبرى ومؤسساتها غير الحكومية، بل إنه بدأ يشمل عدداً من الدول الصاعدة مثل البرازيل والهند وإفريقيا الجنوبية. وقد همت هذه المساعدات ثلاثة مجالات: 1- دعم عمليات الانتخابات الحرة وتطوير الأحزاب السياسية. 2- تقوية إصلاحات في مؤسسات حكومية أساسية للديمقراطية، مثل تلك المرتبطة بمراقبة السلطة التنفيذية على المستوى المركزي كالبرلمانات والقضاء والحكومات المحلية. 3- ثم دعم المجتمع المدني والإعلام المستقل والنقابات ومبادرات التربية على المواطنة. ويرى كاروثرز أن مساعدات الديمقراطية هاته لم تخضع لتقييم شامل بعد، وأن المؤسسات المانحة كانت تقتصر على تجاربها الميدانية لتقييم حصيلتها.
كان الجيل الأول لمساعدات الديمقراطية كما يظهر من المجالات الثلاثة المذكورة أعلاه، يسعى للتميُّز عن المساعدات السوسيو-اقتصادية، لأنه كان يركز على أولوية التغيير السياسي كشرط سابق على النمو الاقتصادي. وظلت السويد، حسب كاروثرز، الدولة المانحة الوحيدة التي تجاوزت هذه المقاربة الضيقة للديمقراطية حيث تبنت عوضها مفهوم أمارتيا سينAmartya Sen (الاقتصادي الهندي الحاصل على جائزة نوبل) في أن “التنمية هي الحرية” التي تجمع بين الهدفين.
ينتقد كاروثرز المقاربات التي تتبعها المؤسسات المانحة في نقط متعددة: فهي تركز على مصالح المانحين أكثر من مصالح الممنوحين، وتتبنى آجالاً قصيرة غير واقعية في إحداث التغيير، وتفضل الاستعانة بالخبرة الغربية المستوردة على الخبرات المحلية. وهناك توجه لدى بعض مانحي مساعدات الديمقراطية نحو تجنب القضايا الحساسة المتعلقة بالتغيير السياسي في الدول السلطوية سعياً منهم للمحافظة على علاقة ودية مع قادة هذه الدول، ودعم برامج بديلة تركز على الحكامة الجيدة كمقاربة تقنية محايدة تخلو من حمولة سياسية واضحة. ويسير فوكوياما في هذا التوجه بدعوته المجتمع الدولي المانح للمساعدات إلى تبني مقاربة تركز على بناء مؤسسات الدولة وحكامتها عوض تشجيع جمعيات المجتمع المدني وتعبئته للدفع بمشاركة سياسية واسعة.
توجد مساعدات الديمقراطية في الوقت الراهن حسب كاروثرز في مفترق طريقين: طريق يقود إلى التراجع عن دعم الديمقراطية، وآخر يتجه نحو فهمها بشكل أدق ويبحث عن مقاربات جديدة لدعمها. وهو يشير إلى حصول تحول في هذه المساعدات التي أصبحت واعية بنقائص نقل النماذج الغربية للدّمَقرطة إلى دول أخرى بدون فهم معمق لتنوع سياقاتها السياسية والثقافية، وبسذاجة الاعتقاد الذي كان سائداً منذ سقوط جدار برلين بأن الديناميات ما بعد السلطوية قادرة على التغلب على كل أشكال مقاومات التغيير الديمقراطي.
يظهر من هذه النصوص، إذن، مدى العلاقة الوطيدة القائمة في الغرب بين التنظير للدّمَقرطة الذي تنتجه مؤسساته البحثية وبين توجهات مساعدات الديمقراطية التي تقدمها هيئاته المانحة. ويبدو من هذه الزاوية أن الدّمقرطة لا تقتصر على كونها مساراً تتبعه القوى السياسية نتيجة تطور ذاتي على مستوى الدولة الوطنية أو بسبب الرّجّات الثورية التي تعيشها، أو بفعل انتقال الأفكار عبر الحدود وقدرتها التلقائية على أن تجد لها موطناً جديداً. ذلك أنها تتحول إلى مشاريع مساعدات تتبناها الهيئات المانحة الحكومية والخاصة، وتخصص لها موارد مالية تُمنح إلى قوى ومشاريع منتقاة في الدول المستهدفة، تدعمه أطروحات نظرية تتخصص مؤسسات بحثية في بلورتها ونشرها.
وتنطلق فصول الكتاب من موقف مسبق يتبنى بدون نقد إشكالية الترابط القائم بين التنظير للدّمَقرطة وبين سياسات الدول المانحة. لكن هذه الإشكالية تتطلب إثارة مسألة التناقض المحتمل بين المساعدات ومبرراتها وبين فكرة الديمقراطية نفسها، باعتبارها تعبر عن سيادة الأفراد واستقلالهم المبدئي عن إرادات الدول والقوى المهيمنة، سواء كان ذلك في نطاق الدولة الوطنية أو على مستوى العالم المعولم. ويشير نص كاروثرز إلى جانب من هذا الموضوع، لكن فكرته في تقييم مساعدات الديمقراطية تبقى شأناً محصوراً في الهيئات المانحة والمؤسسات البحثية في دول المركز، ولا تظهر فيه المجتمعات الممنوحة المعنية بعملية الدّمقرطة إلا كمساهم ثانوي في شرعنة الأطروحات النظرية وتنفيذ السياسات والبرامج المعدة لها مسبقاً.
إن الكتاب يوثق لنهاية مرحلة هيمنة أطروحة الانتقال الديمقراطي على المستوى النظري بأصوات روادها في الغرب، كما يشير إلى أن مساعدات الديمقراطية على المستوى العملي مقبلة على تحولات كبيرة في أولوياتها ومشاريعها. وعلى الرغم من أنه من المستبعد أن تتوقف هذه المساعدات، إلا أن هذا الموضوع يبرز الحاجة إلى دراسات معمقة للعلاقة الملتبسة بين مشاريع الدعم الخارجي وبين القوى السياسة المحلية التي يفترض فيها أن تكون هي الفاعل المركزي الذي يتحمل مسؤولية تحديد مآلات الدّمقرطة في بلدانها.
[i] صدر الكتاب سنة 1991، وصدرت ترجمته إلى العربية بعنوان الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين، دار سعاد الصباح، الكويت، 1993.
[ii] تبنى هانتغتون معيارين في تعريف الديمقراطية: أن يكون 50 في المائة من الذكور البالغين لهم الحق في التصويت، وأن يحصل مسؤول واحد على أغلبية برلمان منتخب، أو أن يتم اختياره في انتخابات شعبية دورية. (هانتغتون، ص. 74).
شكرا لكم على الإفادة