الجمعة , 19 أبريل, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » مغرب أحمد المنصور في مذكرات أسير برتغالي

مغرب أحمد المنصور في مذكرات أسير برتغالي

أنطونيو دي صالدانيا، أخبار أحمد المنصور سلطان المغرب، تقديم وترجمة وتحقيق إبراهيم بوطالب وعثمان المنصوري ولطفي بوشنتوف، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر،الرباط،  2011.

 

تتعدد النصوص المؤرخة لعصر الأشراف السعديين. فبالإضافة إلى المصادر المحلية الرسمية منها وغير الرسمية[i]، هناك نصوص أجنبية عبارة عن مذكرات ورحلات وتقارير، خَلَّفها أجانب قدموا إلى المغرب في إطار مهام ديبلوماسية وتجارية أو باعتبارهم مغامرين وجواسيس وأسرى[ii].

ويُعد مؤلف أخبار أحمد المنصور سلطان المغرب لأنطونيو دي صالدنيا Antonio de Saldanha من بين المصادر الأجنبية التي تقدم لنا معطيات غاية في الأهمية عن مغرب السعديين عموما وعهد أحمد المنصور الذهبي على وجه الخصوص.

 

أنطونيو دي صالدانيا: ظروف الأسر وسياق التأليف

 

kiraat_1106-01صَاحَبَ أنطونيو دي صالدنيا، المنحدر من أسرة برتغالية عريقة النسب، والده أيرش دي صالدنيا Aires de Saldanha إلى بلاد المغرب حين تم تعيينه حاكما لمدينة طنجة سنة 1591م، بصفته فارسا في حامية هذه الحاضرة. وبعد سنتين ونصف من هذا التاريخ، تعرض أنطونيو للأسر من قِبل المغاربة حين مشاركته في غارة شنها البرتغاليون خارج مدينة طنجة، وتم نقله إلى مراكش حيث بقي أسيرا مدة لا تقل عن أربع عشرة سنة. وبالرغم من الجهود التي بذلها والده من أجل افتدائه، حالت ظروف المغرب السياسية والعسكرية والطبيعية، في نهاية القرن 16 وبداية القرن 17م، دون إطلاق سراحه، ومنها انتفاضة الناصر وتمرد المامون والحروب الأهلية الطاحنة والكوارث الطبيعية. كما كان لوفاة الملك الإسباني فليب الثاني وتعيين والده أيرش نائبا لمدريد في الهند، ما بين سنتي 1600 و1605م، دور في تعقيد المهمة.

وتمكن المغامر الإنجليزي أنطوني شيرلي من فك أسرأنطونيو دي صالدنيا في العام 1606م، مستغلا الوضع المضطرب الذي عاشه المغرب بعد وفاة أحمد المنصور، واصطحبه إلى البرتغال حيث وافته المنية في مارس 1656م.

ويعتبر مؤلف أخبار أحمد المنصور سلطان المغرب، الذي حظي بعناية واهتمام كبيرين من قِبل الكثير من الباحثين[iii]، من أهم ما أنجزه دي صالدنيا بعد عودته إلى بلده الأم البرتغال.

والكتاب في الأصل مذكرات سجلها أنطونيو دي صالدانيا خلال مدة أسره بالمغرب، دوّن فيها وَقائِعَ عاينها أو سمع أخبارها من شخصيات شاركت فيها. ولم تنشر هذه المذكرات إلا في مطلع العقد الرابع من القرن 17م، حين طلب دي صالدانيا من كاتب متمرس تحرير المذكرات التي راجعها وأدخل عليها تصويبات تدل على معرفته الجيدة بالأحداث التي وردت فيه.

وقد ساهمت عوامل عديدة في حرص دي صالدانيا على إخراج مذكرات أسره بالمغرب إلى النور، ومنها الرغبة في تدوينها قبل أن يطالها النسيان مع تقدم السن، والحرص على توثيق منجزات أسرته وأمجادها خصوصا تلك التي حققها والده أيرش، والاستجابة لطلب بعض المسؤولين البرتغال الذين سبق لهم سماع فصول منها، وتدقيق وتصويب ما جاء في بعض النصوص الأجنبية كتلك التي كتبها جيرونيمو دي مندونصا وفرانكي بخصوص وقعة وادي المخازن، والتطلع على ما يبدو إلى عقد تحالف مغربي-برتغالي ضد إسبانيا التي ألحقت بلاده ببقية أراضيها، ودعم حركة المطالبة باستقلال وطنه بالتذكير بمعاناة البرتغاليين وقد أصبحوا خاضعين لجيرانهم الإسبان والحديث عن النكسة التي تعرضوا لها في معركة وادي المخازن.

ويتألف الكتاب من مقدمة و146 فصلا. وقام بتحقيق نسخته الأصلة أنطونيو دياش فارينيا Antonio Dias Farinha، وتُرجمه إلى اللغة الفرنسية ليون بوردون (Léon Bourdon)، وإلى اللغة العربية   إبراهيم بوطالب وعثمان المنصوري ولطفي بوشنتوف. وصدرت النسخة العربية، عن الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، بإضافات في التحقيق وتقديم وتمهيد وملحق يتضمن شجرة نسب الأسرة السعدية وفهرس للأعلام البشرية والجغرافية والصور والرسوم والخرائط وبيبليوغرافية مساعدة وفهرس للمحتويات.

 

مضامين المذكرات

 

تناولت فصول الكتاب قضايا وموضوعات متنوعة وغاية في الأهمية، من بينها:

1- أحوال المغرب وأخبار معركة وادي المخازن ووضعية الاسرى

خلافا لما نجده في كتابات أجنبية معاصرة وصفت المغاربة بصفات قبيحة من قبيل الخيانة والكذب والطمع والبخل والتمرد، رسم دي صالدانيا صورة مغايرة عن المغرب وسكانه، حيث بيّن أن أحد أسباب قيام الشرفاء السعديين هو تحسين أحوال الممالك المغربية، كما يشهد على ذلك التحول الذي عرفه المغرب على عهد الشريف أحمد المنصور الذهبي. وقد وقفت المذكرات على أحوال المغرب قبل مبايعته، وخاصة على الخلاف الذي شهدته الأسرة السعدية، والتدابير التي اتخذها عبد الملك السعدي على سبيل الإحتياط قبيل معركة وادي المخازن، وحيازة أحمد المنصور لممالك أخيه بعد وفاته. وقد اعتمدت المذكرات في هذه الاخبار على رواية دييكو دي طوريس في كتابه تاريخ الشرفاء.

بعيدا عن التعصب الذي سقط فيه الكثير من المؤرخين البرتغاليين أمثال فرانكي وجيرونيمو دي مندونصا، تحدث أنطونيو دي صالدانيا عن معركة القصر الكبير، مشيرا إلى سماح السلطان أحمد المنصور بعيد مبايعته للنبيل البرتغالي دوارطي دي منيزش Duarte de Meneses بالبحث عن جثة العاهل البرتغالي دون سباستيان ونقلها إلى القصر الكبير ثم سبتة.

وفي سياق الحديث عن وقعة وادي المخازن، انتقد دي صالدانيا الرواية الرسمية حول مصير الملك سباستيان ومساهمتها في تشكل فكرة السباستيانية[iv]. ووضّح ذلك بالقول: ” كان [قبطان قلعة أصيلا بيرو دي ميشكيطا] يظن أن الملك قد فر حيّا من النكسة، وحتى لا يشتغل أحد بالبحث عنه، فإنه أمر نصرانيا ممن كان قد لجأ إلى أصيلا بعد المعركة بأن يسكت على اسمه الحقيقي ويدعي أنه هو الملك […]. بيد أن هذه الحيلة جاءت على عكس ما كان يُنتظر منها، فإنها حيكت أصلا للتمويه على المغاربة، لكن الذين اغتروا بها هم البرتغاليون، لدرجة أنه لا يزال إلى يومنا هذا من العسير إقناع الناس بأن الملك سباستيان ما كان ليركب أي مركب من أسطوله” ( ص. 33-34).

ودائما في إطار حديثه عن معركة القصر الكبير، أشار صاحب أخبار أحمد المنصور إلى دور الأب مارين، الذي كان يحظى بثقة السلطان أحمد المنصور، في توطد العلاقات المغربية-الإسبانية على عهد الملك فليب الثاني.

تحدث دي صالدانيا عن حرص المنصور على معاملة الأسرى والمسيحيين المقيمين في المغرب معاملة حسنة، وتسهيل ظروف عيشهم به[v]، بدليل إعطائهم الحرية في ممارسة شعائرهم وطقوسهم، وإقامة منشآت خاصة بهم، مثل دار “داخل القصبة للأسرى المتزوجين، وهي دار سميكة الجدران لها باب متين جميل. كما أقام لعلاج الأسرى مارستانا أطلق عليه النصارى اسم الرحمة. وأوقف على نفقته ثلاث أرحية وكثيرا من الأراضي التي يزرعها الأسرى أنفسهم، ويغلون منها أزيد من ألف كروزادوش. وبفضل ما كان يجمع من الصدقات بين الأسرى، فإن المارستان توفر على أزيد من خمسين سريرا” (ص. 74).

ومما يدل على هاته العناية، تطبيب بعض الأسرى المسيحيين المرضى وإعطائهم “كل الأدوية من صيدليته”(ص. 148). وهي العناية التي جعلت الأسرى ” الذين كانو في أسر الشريف […] لا يفكرون ولو للحظة واحدة في بلاد النصارى […]، حيث لا سبيل فيها لأن يعيشوا على تلك الدرجة من رغد العيش” (ص. 74).

وحتى يبرهن على سياسة التسامح التي كان ينهجها أحمد المنصور تجاه الأسرى، تحدث دي صالدانيا عن كيفية تعامله معه هو نفسه ومع النبيلين جورج دا سيلفا Jorge da Silva وبيرو سيزار Péro César حينما أمر بترحيلهم من طنجة حيث أسيروا إلى مراكش. وقال في هذا الصدد: “أمر الشريف بحملنا إلى القائد مسعود، وأمره بمعاملتنا بكل لطف، وأعطانا ثلاثة أسرى لخدمتنا وكل ما هو ضروري حتى بالنسبة لوضع مخالف لوضعنا. وعند حلولنا بالقصر، قال لنا القائد مسعود إن الشريف لا يريد مقابلتنا، لأن الأسرى من النبلاء لا يجب عليهم التكلم معه إلا بعد حصولهم على حريتهم، وعندئذ يستقبلنا. وقال لنا أيضا إن الملك أمره بمعاملتنا أحسن معاملة” (ص. 140-141).

وبرز تسامح المنصور حتى في حالات كان فيها للأسرى دور في إثارة الفوضى والبلبلة في بعض حواضر البلاد، وما حالة دييكو مارين، وهو ابن أخ الأب مارين، واثنين من رفاقه إلا مثال على ذلك. فعلى الرغم من قتلهم لسبعة من التجار الإنجليز وإصابتهم لأربعة آخرين بجروح بليغة، على خلفية احتفال هؤلاء التجار بانتصار حققه أسطول بلادهم على نظيره الإسباني، كان عفو السلطان السعدي من نصيبهم .

ومن تجليات تسامح الشريف السعديأيضا، حرصه في مناسبات عديدة على تيسير مهمة فك أسر الكثير من النصارى، لأن “روحه الطيبة وكرمه”، حسب أنطونيو دي صالدانيا دائما، “كان يسد كل النفقات” (ص.41). وهو كلام يدل على إعجاب هذا الأسير بشخصية سلطان المغرب الذي لم يتردد في مواضع مختلفة من كتابه في وصفه بالتسامح والدهاء والجود والكرم والطيبوبة.

2- سياسة أحمد المنصور الداخلية

اتخذ أحمد المنصور، لتوطيد نفوذه وتحقيق الأمن في بلاده والنهوض بأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، مجموعة من التدابير على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني.

و يتضح هذا المسعى من خلال الحرص على إسناد مناصب المسؤولية لأشخاص يحظون بالتقة خصوصا العلوج، والتخلص من الذين يثيرون الريبة مثلالأندلسيين الذين كانوا في خدمة أخيه المعتصم.

وللحفاظ على الأمن، نهج السلطان السعدي سياسة صارمة تجاه كل من عارض سياسته أوتورط في دعم المناوئين لحكمه، ومن ذلك معاقبته لجنود الزواوة لدعمهم ثورة ابنه محمد الشيخ المامون، وتنكيله بالذين ثاروا عليه في جبال الأطلس سنة 1586م احتجاجا على الفقر الذي أصبحوا يعانون منه جراء استحواذ المخزن على مزارع قصب السكر ومعامل تصنيعه.

ولتنظيم الولايات وتدبير شؤونهاعين أحمد المنصور أنجاله على بعضها. وحتى يضطلعوا بمهامهم على أحسن ما يرام، وحرصا منه على سلامتهم، أعطاهم حق تكوين قوات عسكرية خاصة بهم، كما مكنهم من مسؤولين يساعدونهم في تدبير المناطق التي أوكلت لهم مهمة تسييرها. كما استعان في تدبير الشوؤن الإدارية برؤساء القبائل من أجل ضمان ولائهم وتطويع الثائرين منهم.

وللنهوض باقتصاد المغرب، عمل أحمد المنصورعلى تطوير القطاع التجاري بالانفتاح على قوى العالم المتوسطي، مع الحرص على التوازن المالي للمخزن. حيث كان يكاتب على سبيل المثال ملوك إنجلترا وبلاد الفلمنك وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا،، لأنه “تعلم […] أن أسباب العظمة في زمانه كلها من التجارة، فقرر تلافيا لخروج التجار بأموال المملكة أن تصنع كل البضائع في البلاد، وأن كل شيء قابل للتصدير الهنيء المريء باستثناء الذهب والخيول ومواد التموين” (ص. 76).

وعلى الرغم من مساعي المنصور لتطوير تجارته الخارجية والانخراط في التجارة العالمية “الميركنتيلية“، وحرصا منه على حماية مصالح المغاربة، فقد كان يحارب ظاهرة الاحتكار، وهو أمر يؤكده دي صالدانيا حيث قال: “فقد كان في مراكش عدد كبير من التجار الإنجليز والفرنسيين والفلامانيين والإيطاليين والإسبان يتداولون صفقات تجارية ضخمة. وكانت كل دولة تسعى إلى إرضاء الشريف وتبعث إليه برسائل تلتمس فيها سلامة رعايها واحتكارات لفائدة بضائعها. وقد أجاب الشريف بكثير من الترحيب، غير أنه رفض منح الاحتكارات قائلا: إنه كلما ارتفع عدد تجار كل بضاعة إلا وزادت المنفعة التي تجنيها بلاده من رواجها، لأنهم يبيعونها بثمن أرخص” (ص. 197).

وسعيا منه لتشجيع التجار الأجانب على القدوم إلى بلاده، أقام لهم في سوس ومراكش دورا “متينة البنيان […] محكمة الهندسة تحميها أسوار تعلوها مراصد يقوم فيها المغاربة بالحراسة طيلة الليل” (ص. 74).

وللنهوض بالصناعة والفلاحة والعمارة، قام المنصور بتشييد منشآت لتصنيع السكر والزليج والأدوية ومختلف أنواع الأسلحة (المدافع والبنادق والبارود والسيوف وسروج الخيل…)، وهي منشآت كان يشرف عليها خبراء أجانب (فلامنك، إنجليز…)، “أما العمال فمن أسرى النصارى الغلمان من معركة القصر الكبير الذين اختص الشريف بهم لخدمة دار ملكه” (ص. 73). ومما يثبت استعانة المنصور بالعمال والخبراء من أجل النهوض بصناعة بلاده، إصداره الأوامر سنة 1588 بــ”البحث في كل مكان عمن يمكنه العثور عليه من أمهر الصناع […]، بحيث صار أمهر المعلمين من كل المهن يقبلون عليه، ومن بينهم صناع المدفعية والحدادون الذين صنعوا له بإتقان الكثير من المدافع البرونزية من كل الأنواع ” (الفصل 49، ص 110).

وعلاوة على القطاع الصناعي، بذل المنصور قصارى جهوده من أجل النهوض بالفلاحة، حيث شجع زراعة قصب السكر والكروم والنخيل وأشجار الزيتون، وطوّر نظام الري. كما أولى العمارة عناية خاصة، مصداق ذلك إقامته للقصور والحمامات والدور الفخمة والأبراج والمساجد، كجامع الفنا ورياض الزيتون والقصر البديع الذي اعتبره دي صالدانيا من علامات ازدهار عهد المنصور.

وفيما يتعلق بتنظيم الجيش، وإدراكا منه لدوره في تحقيق الأمن والاستقرار ومواجهة التهديدات الخارجية، قام أحمد المنصور بتسليحه واختار له الأكفاء من الرؤساء والقواد ونَوَّع عناصره لتحقيق نوع من التوازن داخل المؤسسة العسكرية. وكان جيش المنصور مكونا أساسا من: “جمهور من العساكر الذين كانوا موزعين حسب الأجناس، من بين أندلسيين وأتراك وشراكة ومرتدين، وهؤلاء يسمون أنفسهم علوجا” (الفصول 13- 23، ص. 63).

3- سياسات المنصور الخارجية

أبان المنصور عن حنكة ومهارة عالية في تدبير السياسة الخارجية للمغرب، في وقت كان فيه التنافس الدولي على أشده بين القوى الكبرى (الدولة العثمانية، وإسبانيا، وأنجلترا) من أجل الهيمنة على المجال المتوسطي. وقد وظّف هذا السلطان عددا من الأوراق مثل الأسرى والتجارة والتحالفات السرية، من أجل تحقيق نوع من التوازن بين قوى المتوسط وحفاظا كذلك على وحدة المغرب وسيادته.

ويتبين للمتتبع لفصول الكتاب أن “تقصي الأخبار” كانت له أهمية بالغة في تدبير السياسة الخارجية للدول[vi]. ويتضح ذلك من خلال تنافس السفراء والمبعوثين والتجار والجواسيس على المعلومة لتقديمها للحكام. فهذا السفير الإسباني بيرو بنيكاس يسعى إلى معرفة طبيعة الأخبار التي حملها سفير السلطان أحمد المنصور العائد من الدولة  العثمانية. وبعد عجزه عن ذلك، استعان بالأب مارين الذي كانت له حظوته لدى الشريف أحمد المنصور.

ووعيا من المنصور بأهمية ودور تقصي أخبار العدو في سياسة قوى المتوسط الخارجية، قام بخلق شبكة من العيون والجواسيس، حيث استعان بــ” الكثير من المسلمين الغرناطيين والأندلسيين الذين يغرقونه بالأخبار والتقارير [ومنهم ماركيز فيلا ريال]” ( ص. 246-247). كما تبنى سياسة التمويه والإشاعة والحيل في تدبير الكثير من القضايا التي تهم السياسة الخارجية للمغرب، حتى كاد يوقع العداوة بين السفير الإسباني بيرو بنيكاس والأب مارين الذي كان يحظى بمكانة خاصة لدى المنصور، حتى اعتقد السفير أنه ترجمانه الخاص. وهو ما جعل السفير “ينتهز كل فرصة فيما بعد للصدع بأن الأب مارين كان كبير الحظوة لدى الشريف فعلى الملك فليبي أن يحتاط منه.لكن الشريف بدا مع الأيام وفي أحلك الظروف ماهرا في أساليب التوهيم، فكان لا يبدد الشكوك ما دامت الشكوك في صالحه، بل كان يسعى في إثارتها على العكس لدهائه في التمويه بمقاصده السياسية” (ص. 49 )

وبذل السلطان أحمد المنصور، في سياق تنافس دولي محتدم، كل ما في وسعه للحيلولة دون سقوط العرائش في قبضة إسبانيا والدولة العثمانية، موظفا خبرته وحنكته بل ودهاءه في التفاوض مع القوى الخارجية لضمان بقاء هاته الحاضرة تحت نفوذ السعديين. فــ”الحيلة [حسب دي صالدانيا] كانت قطب الرحى من سياسة الشريف” (ص59). وهي السياسة التي جعلته “ممتنعا على كلا القوتين [الدولة العثمانية وإسبانيا] اللتين كان يخشى من إحدهما ما يخشاه من الأخرى”(ص. 83 ).

كما حرص المنصور على توطيد العلاقات الخارجية مع دول العالم المتوسطي، حيث استقبل سفراء هاته الدول وعقد معها تحالفات تخدم مصلحة المغرب. وقد كانت تلك العلاقات تتباين بين الانفراج والتوتر حسب الفترات التاريخية وحسب الوقائع والأحداث.

وهكذا حاول المنصور بناء علاقاته بالدولة العثمانية على أساس المسالمة والحفاظ على سيادة المغرب وتجنب التوتر. ولهذه الغاية تبادل السفارات مع الباب العالي ” لتثبيت أواصر المسالمة مع السلطان التركي المنعقدة بينه وبين أخيه” (الفصل 10، ص. 39 ). غير أن المؤلف قدّم رؤيته الخاصة للعلاقات المغربية العثمانية التي كانت تحكمها – حسب رأيه – أداء الغرامة والجباية وسعي المنصور لقطع صلته بالسلطان التركي مقابل توطيدها مع الملك الإسباني. وذلك ما ظهر من إلحاح السفير الإسباني بيرو بنيكاس على سحب “الراية [التركية] المقرونة بذيل جواد أبيض وهي علامة تبعيته للسلطان التي كانت ترفع أمام خيمته” (الفصل21، ص. 60). والواقع أن السلطان سعى إلى الحفاظ على مصلحة البلاد”، وأنه كان قد صرّح بالطاعة للسلطان التركي فيما أبرم من المعاهدات مع ملك الجزائر، وأنه كان ملزما بناء على ذلك بأن يقدم بين يديه ليس رايته الخاصة بملكه، ولكن ذيل الفرس الأبيض الذي هو الرمز المعتاد عند السلطان التركي، فإنه رأى أن يبدي من السلوك ما تخلى عنه بعد سنتين…” (الفصل 9 ، ص. 36- 37).

وتبنى المنصور بعد توليه الحكم سياسة الأمر الواقع بمناورة الأتراك تارة وإبداء علامات الصداقة مع ملك اسبانيا تارة أخرى، لأن “الخطر أكبر لعدم توفره على أسطول يحمي حماه خلافا لملك إسبانيا” (الفصل 11، ص. 40- 41). ولذلك قام باستقبال عدد من السفراء ومنهم فرانسيشكو دا كوشطا وبيرو بنيكاس، وسعى إلى تقريب الأب مارين للتفاوض مع الملك فليبي الثاني حول تحرير أسرى معركة واد المخازن. وقد كان هدف السلطان من توطيد العلاقة مع الإسبان هو اقناعهم بعدم دعم ثورة الناصر ومحمد الشيخ. لكن إسبانيا سعت مقابل ذلك إلى الضغط عليه من أجل قطع اتصاله بالدولة العثمانية وتسليم العرائش، قبل أن تدرك أن ذلك كان مجرد وهم.

وبالمقابل ركّز أحمد المنصور في علاقته مع أنجلترا على تعزيز الروابط الدبلوماسية والتجارية. ومن أجل ذلك استقبل عدد من المبعوثين والتجار الإنجليز. وفي السنة الثالثة من عهده “أوفدت الملكة إليزبيث ملكة إنجلترا، إنجليزيا [جون سيمكوطس] إلى الشريف يحمل رسالة ترمي إلى إبعاده عن صداقة إسبانيا، ويقول فيها بأن تجارها سيأتون بكل ما تحتاج إليه بلاد البربر من البضائع […]، ثم أوفد لديها بدوره مغربيا من مستوى مماثل لإثبات أواصر السلم مع إنجلترا” (ص. 50- 51). وقد وظّف السلطان علاقته مع أنجلترا للمناورة ضد الإسبان، بل استفاد في كثير من الأحيان من الصراع الاسباني الانجليزي. وحرص على أن تبقى علاقته مع الملكة غاية في السرية حتى لا تثار الشكوك من طرف ملك اسبانيا. لذلك أبدى بعض التريث والدهاء في تلبية طلب السفير الدون أنطونيو بمده بالمال وبالبارود. وكذا إعلانه عن التحالف مع ملكة انجلترا في انتظار ما ستؤول إليه أحوال الأسطول الإسباني سنة 1588م.

وبالرغم من ضغوط الإنجليز على الشريف لتمكين ملكة أنجلترا من ميناء آمن تستطيع السفن أن تنقل منه البضائع التي تستوردها من بلاد المغرب، فإن المنصور كان على دراية بأهدافهم، المتمثلة في الحصول على العرائش أو المعمورة من أجل رسو الأسطول الحربي الإنجليزي. ومن جهة أخرى، أفلح المنصور في توظيف ورقة دعم الأمير البرتغالي المطالب بالعرش، وتمكّن من استرجاع مدينة أصيلا سنة 1589م.

واقتضت نفقات الدولة أن يبحث المنصور على موارد ومداخيل جديدة، مما دفعه إلى التوسع نحو كاو وتنبوكتو. وقد بيّن دي صالدانيا أهم الترتيبات والإجراءات التي أقدم عليها السلطان، ومنها ترشيحه لإبنه المولى أبي الحسن لرئاسة الحملة إلى السودان والذي رفض المهمة، ثم قيامه باستطلاع وبحث ميداني دقيق، للتعرف على المسالك والطرق وخاصيات البلد، واعتمد في ذلك على المعطيات التي تأتي بها القوافل إلى درعة وتافيلالت، كما وجّه بعض العلماء وبعث برسالة إلى ملك كاو يعرض عليه الرغبة في إقامة روابط الصداقة، ووضع الملح وعدد من البضائع تحت مراقبته، وبعث له هدية ثمينة.

وانطلقت الحملة سنة 1591م بقيادة  القائد جؤذر باشا والقائد بوكطاية نائبا ومساعدا له، وكذا إثنين من قادته الشجعان وهما مصطفى سعدان ومحمد زرقون. وأصيب أحمد المنصور بخيبة كبيرة بعد استيلاء الجيش على مملكة كاو، لأنه لم ينل المراد وهو الذهب الذي تم تهريبه. وقد قدّم المؤّلف معلومات قيمة عن نهر التبر وما يوجد فيه من الذهب، كما تحدث عن مصير الجيش بعد عبور النهر وتوجهه إلى تنبوكتو، حيث مني بالهزيمة وقتل “بوكطاية وزرقون وعدد من الجنود” (ص. 130-131). وبعد توصل الشريف من كاو برسائل من القائد سليمان والقائد جؤذر يخبرانه فيها بإفلاس تجارة الذهب، “أمر بعدم عبور النهر وبعودة القائد جؤذر على وجه السرعة”(ص. 198).

ويمكن القول إن الحملة التي وجهها المخزن السعدي إلى بلاد السودان لم تحقق أهدافها إلا بشكل محدود جدا، بل ترتب عليها خسائر مادية وبشرية أسهمت في تعميق المشاكل التي كان يتخبط فيها المغرب في الفترة الأخيرة من حكم المنصور.

4- تصدع البلاد: الثورات والوباء ووفاة السلطان

ظلت قضية لجوء المولى الناصر إلى إسبانيا تشغل بال السلطان أحمد المنصور، الذي فعل ما بوسعه لتجنب عودته للمغرب وقيامه بالثورة، لذلك ما إن حلّ بالمغرب حتى سارع المنصور إلى إعلان الحرب عليه، حيث كلّف إبنه محمد الشيخ والقائد مصطفى باشا بالتوجه إلى جبل دبدو لمنازلته في 7 غشت 1594م.

وقد تحدث دي صالدانيا عن تفاصيل المواجهة مع المولى الناصر والتي شكلت تهديدا قويا للمنصور، حتى “أمر خدامه باعداد نسائه للرحيل مع كل الذهب الذي أمكنهن حمله، وذلك حالما يتلقوا إشارة منه بذلك […]، وأن يقصد جبل سوس رفقة كل العلوج والأندلسيين” (ص. 163). وقد انتهت تلك الحرب بعد أن تمكن القائد مومن بوكرزية من قتله وقطع رأسه وإرساله إلى المنصور بمراكش. والذي أدى صلاة الشكر وأقام الإحتفالات بالنصر لمدة ثلاثة أيام.

وبعودة الهدوء إلى “ممالك الشريف” أمرالمنصور أبناءه بالالتحاق بممالكهم، غير أن فترة الإستقرار لم تدم طويلا، فقد اتضحت نوايا محمد الشيخ بالثورة على والده، خاصة بعد ما تكاثرت الشكايات أهل مدينة فاس منه وإغتياله القائد مصطفى ورفضه وساطة المرابطين. وبعد إدراك المنصور أن خطر عصيان مولاي الشيخ يتزايد ويتفاقم، أرسل القائد عزوز إلى فاس في 5 نونبر 1603م، مرفوقا بحامية كبيرة من الفرسان وبهدايا ثمينة من أجل التفاوض مع مولاي الشيخ.ثم توجه بجيشه إلى فاس للقاء إبنه، الذي فرّ بعدما علم الخبر إلى زاوية أبي الشتاء الخمار ببلاد فشتالة. واستطاع المولى زيدان القبض على محمد الشيخ داخل هذه الزاوية بعد مقتل أتباعه وسلمها لوالده السلطان الذي عين المولى زيدان حاكما على مدينة فاس.

وزودنا أنطونيو دي صالدانيا بمعلومات مهمة عن وباء الطاعون الذي ضرب المغرب في نهاية القرن 16 ومطلع القرن 17م، والذي ساد الاعتقاد أنه أكثر الأوبئة فتكا في العالم، لاجتياحه مساحات شاسعة من المغرب ولما خلفه من نزيف ديموغرافي. ومما يؤكد خطور الوباء، اضطرار السلطان أحمد المنصور، في مناسبات عديدة، إلى مغادرة عاصمة ملكه والاستقرار في ضواحيها خوفا من الإصابة بالعدوى.

ولقد عانى الأسرى والمسحيون كثيرا من الوباء، بدليل قتله لأزيد من 1500 مسيحي كانوا يقطنون بمراكش، ومنهم الأب كونسطانسيو ماكني، وصديق المؤلف الأسير جورج دا سيلفا، على الرغم من تلقيهم للعلالجات الضرورية في أحد مارستاناتها.

وكان الوباء الذي اجتاح البلاد سنة 1601م ” أشد فتكا من سابقيه، على الرغم من أن الجو كان أقل فسادا من سنة 1598م. […]، وتعوّد الشريف أن يقضي هذه الأشهر الأربعة خارج المدينة. وقد وقع حدثان أصاباه برعب كبير[…]، فعم الجفاف البادية، وعندما هم الشريف بالعودة إلى مراكش، هبت ريح قوية على بعد مرحلة من المحلة، واشتعلت نار كبيرة، ساعدت الريح على انتشارها بقوة، لدرجة أن الجميع أيقن بالهلاك الوشيك” (ص. 205). وقد استمر الطاعون سبع سنوات وانتهى بأقل مما بدأ به من الفتك.

سعيا منه لضمان وحدة البلاد بعد مماته، وتجنبا لأي صراع محتمل بين أبنائه على السلطة، أمر المنصور، حينما أحس بدنو أجله، بتولية أبي فارس على مراكش ومولاي زيدان على فاس، وأوصاهما بالعيش في محبة وسلام. كما أمر هؤلاء بتوجيه مولاي الشيخ إلى أخيه أبي فارس ليعتني به ما تبقى من حياته. وهي وصايا لم يعمل بها أنجاله، بدليل سلسلة النزاعات المسلحة التي دارت بينهم بعد وفاته، والتي ساهمت في حالة عدم الاستقرار التي شهدها مغرب ما بعد المنصور.

وقد ختم دي صالدانيا حديثه عن دولة الشرفاء بنوع من الحسرة والأسى، بقوله: “هكذا انتهت أمجاد الشرفاء التي انهارت دفعة واحدة بعد أن وصلت في عهد مولاي أحمد إلى أعلى درجات الإزدهار، حتى إنه على الرغم من استمرار مولاي زيدان وأبنائه في حمل لقب الشريف، فلم يفلح أحد منهم في أي شيء يمكن أن يقارن بما قام به الشرفاء السابقون وأصبحت ممالك مراكش وفاس وسوس الأقصى بدون ملوك ولا حكام […]، لكن ثوراتهم أدت إلى أكثر من ذلك إذ سمحت للملك فليبي الثالث بأن يمتلك المعمورة والعرائش في عهد مولاي الشيخ” (ص. 292- 293).

وأنهى المؤلف كتابه بطريقة مفاجئة، بالحديث عن معلومات تاريخية سبقت الإشارة إليها، وعن أسر النبلاء الثلاث الذين اعتقلوا سنة 1592م، وسبب استمرار الأسر وكيفية افتدائهم .والظاهر من ذلك أنالكتاب غير تام ومبثور، لخلوه من أحداث وتفاصيل تاريخية مهمة تؤرخ لأواخر القرن السادس عشر.

 

رواية دي صالدانيا بين التميّز والنمطية

 

حاول دي صالدنيا تقديم رواية موضوعية مناقضة لما جاءت به الإستوغرافية الرسمية في بلاده، باعتباره شاهد عيان على أحوال المغرب في فترة دقيقة من تاريخيه بعد معركة وادي المخازن. ويتضح أن المؤلف انفرد وتميز في الحديث عن مجموعة من الأحداث والوقائع والقضايا التاريخية. غير أنه سقطأحيانافي الصور النمطية التي سقط فيها غيره من الأسرى والمبعوثين المتعصبين. ويظهر ذلك في عدد من الهانات والهفوات التي وردت في النص.

ومن أهم معالم التميّز والانفراد في رواية أنطونيو دي صالدانيا، نجاحه في تدوين معطيات ثمينة عن “حقيقة” ما جرى في معركة وادي المخازن ومصير الملك البرتغالي سباستيان، وعن ظروف الأسرى المسيحيين الذي وصف حياتهم بدقة داخل الأحياء المسيحية، مشيرا إلى العناية التي حظوا بها من قبل الشريف السعدي. وهي عناية جعلتهم يفضلون الاستمرار في العيش بالمغرب بدل التوجه إلى بلدانهم. كما قدّم إفادات عن الحياة اليومية للمغاربة، وطبائعهم بمن فيهم السلطان أحمد المنصور، حيث ركز على صفاته ودهائه وحنكته السياسية والدبلوماسية في التعامل مع المحيط الإقليمي والدولي، كما تحدث عن مشاريعه المختلفة العمرانية والاقتصادية والتي سعى بها إلى تحقيق انخراط المغرب في منظومة “الميركنتيلية العالمية” مع الحفاظ على استقلاله الاقتصادي. كما تمكّن المؤلف أيضا من التعرف على أدق تفاصيل البلاط السعدي، وما كان يدور في رحابه من أخبار ومناورات ودسائس حول الحكم.

وكشف دي صالدانيا عن الدور الفعال الذي قامت به المرأة السعدية، من أجل تجاوز أزمة الحكم بين أبناء المنصور[vii]، ومنه دور لالة جوهرأم مولاي الشيخ ومولاي أبي فارس في التوسط لحل الأزمة التي وقعت بين المنصور وابنه مولاي الشيخ والقائد مصطفى. كما منه دور للا صفية، التي راسلها المولى زيدان من أجل أن تعمل على تزويج ابنته بمولاي عبد الملك بن أبي فارس وتدعم الروابط بينهما وتوثق صداقتهما.

وأمدنا المؤلف أيضا بمعلومات مهمة عنالوضعية الأمنية في البلاد، ومنها مسألة أمن الطرقوأهمية التحكم في المجال بالنسبة للأمراء والحكام ودوره في تحقيق الإستقرار. وقد وصف مثلا بدقة الوضعية الأمنية في عهد الأمير أبي الحسن بن المنصور، حيث قال:”ولما كان تأمين الطرق يحظى بالأهمية، فقد كان أبو الحسن من اليقظة والمهابة بحيث كثيرا ما يأتيه المغاربة حاملين البضائع أو الأموال من دون حراسة، وهو أمر لم يحاول أحد الاقتداء به فيما بعد […]، وصارت الأمور على هذا الحال، إلى درجة ساد الاعتقاد معها بوضوح أنه سيقوم عند وفاة والده بخلافته في كل ممالكه”(ص. 142-143). غير أن هذه الوضعية الأمنية لم تكن مستقرة، وقد اتضح ذلك حتى مع السلطان المنصور نفسه، الذي اضطر للاستعانة بمن يخفر له الطريق أثناء توجهه إلى مراكش، حيث ” بعث في الطليعة القائد رضوان العلج في أربعمائة من الجنود، خفرا لوالدته لالة جوهر وزوجه لالة سنة، وللعديد من التجار الذين نقلهم معه إلى مراكش، بعد أن أمرهم بالكتابة إلى بلدانهم بما كانوا يرون منه من حسن المعاملة” (ص. 43).

ويتضح من جهة أخرى أن مسألة التحكم في المجال كانت قضية مركزية بالنسبة للأمراء المتنافسين على السلطة. ويفيدنا المؤلف في رسم خريطة مجالية لحركات الأشخاص والفاعلين، وتتبع مساراتهم وتحركاتهم داخل المجال المغربي أو في حالة لجوئهم إلى الضفة الأخرى، حيث تبدو مدن ونقط مجالية مهمة في هذه الحركية، وأهمها: في الشمال: حجر بادس وامليلية وسبتة وطنجة وواد لاو وأصيلا وتطوان والقصر الكبير والعرائش، وفي الوسط والجنوب : تامسنا وتادلة ودكالة وآسفي وأزمور ومراكش وسوس، وفي الشرق: تلمسان ودبدو وتازة وفاس…غير أن سهولة اختراق هذه النقط والمدن المختلفة، بل حتى الحدودية منها من طرف بعض الأمراء ومنهم محمد المتوكل والمولى الناصر ومحمد الشيخ المامون وعبد الله بن محمد الشيخ، تجعلنا نعيد النظر في مسألة تحكم المغرب في حدوده المجالية البرية منها والبحرية خلال الحقبة الحديثة.

ويعطي كتاب دي صالدانيا مادة غنية للمهتمين بقضايا الديموغرافية التاريخية، إذ يصور لنا بدقة الوضعية الديموغرافية والصحية للمغرب، والنزيف الخطير الذي شهدته الساكنة جراء الطاعون الذي ضرب البلاد لمدة سبع سنوات وراح ضحيته عدد كبير من كبار الشخصيات والأسرى، وكانت له انعكاسات ديموغرافية وسياسية واقتصادية على المغرب.

وإذا كانت هذه بعض أوجه التميز في كتاب دي صالدانيا، فإن روايته وشهادته لا تخلو من ثغرات وهفوات، ومن أبرز مظاهر الصور النمطية التي سقط فيها.

ومن ذلك ما يتعلق بالمصطلح، حيث وظف كغيره من الأجانب أمثال مارمول كاربخال ودييكو دي طوريس وخورخي دي هنين، حقلا دلاليا لغويا يوحي بتفوق “المسيحي الإيبري” على”البربري المغربي”.وهكذا وصف المغرب والمغاربة بأوصاف ذميمة وقدحية، منها البرابرة وبلاد البربر والثوار والهمج والمؤمنون بأعمال السحر والتطير والمجبولون على الثورة والخيانة والمتقاتلون على المال. ولم يسلم من تلك الأوصاف والتسميات الذميمة حتى السلطان أحمد المنصور نفسه، الذي وظّف في حقه صفات متناقضة، فهو”الشريف والطيب واللطيف والكريم والسخي وخير من أنجبتهم بلاد البربر والحكيم والرحيم وصاحب الروح الطيبة” (ص. 41، 147، 270 )، كلما تعلق الأمر بتلبية حاجيات الأسرى وإبداء المرونة في تحريرهم. غير أنه في نفس الوقت في حالة تطبيقه للقانون وسعيه لإقرار الأمن وحماية مصلحة بلاده أمام الضغوط الأجنبية، السلطان الطاغية والمستبد والعنيف والمرتكب للقتل وسمل الأعين وقطع الرؤوس والمعاقب حتى على مجرد الأحلام وغير المتغافل عن الكبيرة والصغيرة سواء كانت صحيحة أم من وحي الخيال والذي تختلف أفعاله عن أقوله.

وارتكب دي صالدانيا أخطاء عديدة، سواء أثناء سرده للوقائع التاريخية أو خلال حديثه عن علاقات المغرب الدولية مع جيرانه. ومن أبرز الأخطاء التاريخية التي ارتكبها خطأ تحديد سن السلطان أحمد المنصور، حيث ذكر أن سنه يوم بويع بالملك كان هو إثنين وثلاثين سنة، يعني أنه ولد سنة 1546م، وذلك عكس ما ذكرته المصادر المغربية التي حددت تاريخ ولادته في عام 956هـ /1549م، أي أن سنه عند التولية كان هو29 سنة. وكذلك الشأن بالنسبة لتاريخ الوفاة، حيث تذكر المصادر أن مرض المنصور كان يوم الأربعاء 11 ربيع الأول وأن وفاته كانت ليلة الإثنين الموالي، ودفن في نفس اليوم أي 16 ربيع الأول من عام 1012هـ الذي يوافق 23 غشت 1603م، وليس 3 شتنبر 1604م كما ذكر المؤلف،  كما لم يفصح عن سبب الوفاة، التي اختلفت المصادر بشأنه بين وفاته بالوباء أو بالسم.

واستند أنطونيو دي صالدانيا، عند الحديث عن علاقات الدولة السعدية بمحيطها الدولي وخاصة مع الدولة العثمانية، إلى بعض الروايات التي أخذها عن دييكو دي طوريس ومارمول كاربخال، والتي تحمل أحكام قيمة عارية عن الصحة عند حديثه. حيث قالعن علاقة عبد الملك السعدي بالأتراك:”بعد فراره [عبد المالك] من أخيه عبد الله ولواذه بالأتراك، واستعانته بهم للرجوع إلى المغرب وإقلاق راحة تلك الممالك على أن يصبح من اتباع السلطان التركي ويؤدي إليه الضرائب الكبرى […]، وقضى عبد المالك أو ملوكو كما كان يسميه النصارى بناء على شجاعته، بينما يقول آخرون أن اسمه من شدة تذللـه للأتراك الذين كانوا يعاملونه معاملة العبيد” (ص. 24-25).

كما انفرد المؤلف برواية خاصة تهم لجوء عبد الملك وأحمد إلى الباب العالي، حيث اكتفى بالتأكيد على أن الأمير أحمد بقي في تخوم المغرب ولم يتجاوزها. وبالرغم من موافقة بعض المصادر على ما ذهب إليه وسكوت أخرى عن قضية اللجوء، فإن القرائن التاريخية والتأثير الذي ظهر في اقتداء المنصور بالنموذج العثماني التركي في نمط العيش وفي الجيش والإدارة /الديوان واللباس وغيرها يجعلنا نؤكد أن ذلك تم بعد اطلاعه عن قرب على أهم مؤسسات الدولة العثمانية ونظمها. وإلاّ كيف تذهب سحابة الرحمانية إلى السلطان العثماني ويبقى الأمير أحمد في التخوم؟

ولم تنل قضية الموريسكيين الأندلسيين ما تستحقه من عناية في كتاب دي صالدانيا، إذ أغفل الحديث عن الهجرات الكبرى وقرارت الطرد التي تعرضت لها الجالية الموريسكية من طرف ملوك إسبانيا وآخرها قرار 1609م[viii]، كما لميتحدث عن إسهاماتها المتميزة في الحياة الثقافية والعلمية والمعرفية ودورها في نقل المؤثراث الحضارية الأندلسية للمغرب[ix].

 

هكذا يزخر كتاب أنطونيو دي صالدانيا الموسوم بأخبار أحمد المنصور سلطان المغرب بنصوص تاريخية غنية وثمينة، تؤرخ لأخبار المغرب على عهد الشريف أحمد المنصور الذهبي بصفة خاصة والمغرب السعدي عموما. ويكتسي هذا الكتاب أهمية بالغة بالنسبة للمتخصصين في تاريخ المغرب الحديث، ذلك أنه يعد شهادة ورواية لنبيل برتغالي وقع في الأسر في بلاد المغرب، ومعاصر للأحداث والوقائع التاريخية التي رواها أو سمعها من مصادر موثوقة. كما أنه يقدّم رواية تتطابق مع ما جاء في المصادر المغربية التي أرخت للمرحلة، بل ويتفرد بذكر معلومات ووقائع لم تشر إليها.

ويقدم الكتاب رؤية مناقضة لما قدمته الإستوغرافية البرتغالية حول تاريخ المغرب والعلاقات المغربية البرتغالية والإسبانية، فيما يخص قضية معركة واد المخازن ومصير الملك سباستيان. ويمكّن من معرفة المرحلة الدقيقة التي كان يعرفها المغرب خلال الحقبة الحديثة، وجهود السلطان أحمد المنصور الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والأمنية في الحفاظ على إستقلال المغرب ووحدته.

ويعد المؤلف مصدرا مهما للمهتمين بالديموغرافية التاريخية، إذ يكشف النقاب عن وباء الطاعون والكوارث الطبيعية الأخرى التي كانت لها انعكاسات اقتصادية وسياسية وديموغرافية خطيرة على ساكنة المغرب.

لكن، وبالرغم من مزايا الكتاب المختلفة، فإن قراءته تتطلب الحيطة والحذر للتعامل مع بعض النصوص والأخبار، والتي لا تخلو من أحكام قيمة عارية عن الصحة ومواقف دينية تحمل نوع من التعصب والإستعلاء للآخر المسيحي.

ويبقى الكتاب مصدرا تاريخيا مهما، لأنه يقدم شهادات ونصوص ثمينة وقيّمة لا تبوح بها المصادر التاريخية المغربية الرسمية أو المعارضة…

 

 

 

[i]  أنظر مثلا: مناهل الصفا لعبد العزيز الفشتالي، والمنتقى المقصور لأحمد بن القاضي، وروضة الآس لأحمد المقري ونزهة الحادي لمحمد الصغير الإفراني وتاريخ الدولة السعدية التكمدارتية للمؤرخ المجهول.

[ii] أنظر مثلا: مارمول كاربخال، إفريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد زنيبر ومحمد الأخضر وأحمد التوفيق وأحمد بنجلون، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 1984؛ دييكو دي طوريس، تاريخ الشرفاء، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، مطابع سلا، 1988؛ خورخي دي هنين، وصف الممالك المغربية (1603-1613)، ترجمة عبد الواحد أكمير، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، 1997؛ الأسير مويط، رحلة الأسير مويط، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، دار المناهل للطباعة والنشر، 1989؛ جون وندوس، رحلة إلى مكناس، ترجمة زهراء إخوان، منشورات عمادة جامعة المولى إسماعيل، مكناس، 1993؛ جون بريث وايت، تاريخ الثورات في إمبراطورية المغرب بعد وفاة السلطان الراحل مولاي إسماعيل، ترجمة ودراسة مينة مادني، دبلوم الدراسات العليا المعمقة، الرباط، 1999-2000؛ ماركوس بيرغ، وصف الاستعباد في مملكة فاس، ترجمة عبد الرحيم حزل، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2011.

Jean Potocki, Voyages en Turquie et en Egypte, en Hollande, au Maroc, Introduction et notes de Daniel Beauvois, Fayard, 1980.

[iii]  نظرا لأهميته، حظي هذا الكتاب بدراسات عديدة، ومنها: عثمان المنصوري، “أخبار المنصور سلطان المغرب (1578-1603م)”، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، عدد24،2001م، ص. 199-209.؛ إبراهيم القادري بوتشيش، “مذكرات أسير برتغالي في مغرب القرن السادس عشر”،مجلة أسطور للدراسات التاريخية، ع 1، يناير، 2015م، ص.174-185؛ ؛محمد العمري، “جذور النظام المخزني في المغرب بعد معركة وادي المخازن: قراءة في كتاب أخبار المنصور سلطان المغرب”، الموقع الإلكتروني للجمعية المغربية للبحث التاريخي، في 07/04/2014…

[iv]) حول تشكّل فكرة السباستيانية وامتداداتها وانعكاساتها لدى النخبة والمجتمع البرتغالي، منذ الفترة الحديثة إلى الفترة الراهنة، يراجع:

– Lucette Valensi, Fables de la Mémoire. la Glorieuse Bataille des Trois Rois, Paris, ed du Seuil, 1992./ – Sebti Abdelahad, “Fables de la Mémoire. la Glorieuse Bataille des Trois Rois,]Compte rendu [“ in Annales HSS, 1995, Volume 50, n 6 pp 1279-1308.

[v]) يتضح من خلال مقارنة ما كتبه دي صالدانيا وغيره من الأسرى الذين كتبوا خلال القرن 18م، أمثال مويط وماركوس بيرغ، أن هناك فرق كبير في الحقوق والحريات وظروف العيش التي تمتع بها الأسرى والجالية المسيحية بين فترة حكم أحمد المنصور الذهبي، وفترة المولى إسماعيل أو المولى عبد الله بن إسماعيل.؛ ينظر: رحلة الأسير مويط، م س، ص. 54/68.؛ ماركوس بيرغ، وصف الاستعباد في مملكة فاس، م س، ص. 49/81.

[vi]) يراجع أيضا، عبد الرحيم بنحادة، “ناقلوا الخبر في العالم المتوسطي في العصور الحديثة”، في شبكات التواصل في المغارب والعالم المتوسطي، تنسيق عبد الرحمان المودن وعبد الرحيم بنحادة ومحمد لزهر الغربي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط،2008،  ص28/38.؛ يونس نكروف، معركة وادي المخازن بين الملوك الثلاثة، ترجمة وفاء موسى ويشو وحسين حيدر، منشورات عويدات، بيروت، 1987، ص. 61/63.

[vii]) تحدتث مجموعة من المصادر عن دور المرأة في تجاوز الأزمات خلال الفترة السعدية والعلوية، ومنها:المجهول، تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية، تحقيق عبد الرحيم بنحادة، دار تينمل، /103.؛ أحمد الناصري، الاستقصا، ج6-7، دار الكتاب، البيضاء، 1997، ص مراكش، 1994، ص. 55ص8/152؛ الإفراني، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، تحقيق عبد اللطيف الشادلي، النجاح الجديدة، 1998، ص 270.؛ جون بريت ويث، تاريخ التوراث، م س، ص 42.؛ خورخي دي هنين، وصف الممالك المغربية، م س، ص 37.

[viii]) محمد رزوق، الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب خلال القرنين 16-17م، افريقيا الشرق، البيضاء، 1989،ص. 111/148.؛ دلوى كاردياك، الموريسكيون الأندلسيون، المجابهة الجدلية (1492-1640)، تعريب عبد الجليل التميمي، تونس، 1983، ص. 30/89.

[ix]) خلافا لدي صالدانيا، تحدث الرحالة البولوني بوتوكي عندما زار المغرب خلال القرن 18م، عن الثأثيرات اللغوية والثقافية التي كانت للمورسكيين.

– Jean Potocki, Voyages en Turquie et en Egypte, en Hollande, au Maroc, op.cit, p 221.

- عبد الحي الخيلي

جامعة محمد الخامس / كلية الآداب بالرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.