الأربعاء , 19 فبراير, 2025
إخبــارات

حج المهاجر

Omar Saghi, Paris – La Mecque : Sociologie du pèlerinage, Paris, PUF, 2010, 284 pages.

الحج سوسيولوجيا، الحج من بلاد الهجرة، العينة والتنميط، المدنس والمقدس

milaffat_0217-03تحمل رحلة عمر الساخي عنوان باريس – مكة: سوسيولوجا الحج Paris – La Mecque : Sociologie du pèlerinage. وتعتني الدراسة بالحج كذهاب فقط دون الاهتمام بالإياب وما يترتب عليه من عادات وطقوس. وينحصر دور باريس كمكان تفاعلي في فضاء مطار شارل ديغول حيث تنطلق الرحلة، وحيث يقع حدث طريف يضعه الكاتب كمؤشر على طبيعتها. ثم ينتقل إلى مكة حيث ميدان التحقيق المرتبط بتتبع ممارسة فريضة الحج، يقوم بها أربع مجموعات ذوو أعمار مختلفة، منهم من هاجر من شمال إفريقيا إلى فرنسا بعد مرحلة الاستقلال ومنهم فرنسيون من أصول مغاربية.

وأصل الكتاب دراسة علمية سوسيولوجية وأنثروبولوجية قدمها عمر الساخي لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية سنة 2009، غير أنه صاغها في شكل مقالة essai.

ويتألف الكتاب من جزأين، يحمل الأول منهما عنوان زبناء الجنة Les clients du paradis ويتكون من الفصول الثلاثة التالية:

– إحاطة بالأدبيات الإسلامية حول الحج وطقسه

– تقديم للمجموعات الأربعة موضوع الوصف والتتبع، وإفراد شخصية معينة من كل مجموعة

– تصنيف المجموعات، وتأويل الفضاء المكي وزمن الحج من زاوية المقدس

ويستمد الكتاب خاصيته من كونه عبارة عن نوع هجين/hybride، يكتسي أحيانا صبغة المقالة essai، ويسلك أحيانا أخرى مسلك العمل السوسيولوجي – الأنثروبولوجي.

والملاحظ أن هناك فارق زمني كبير بين القيام بالبحث الميداني خلال رحلة الحج التي تمت سنة 2003، وبين تقديم العمل للمناقشة سنة 2009. ولهذا الفارق أهميته إذا أخذنا بعين الاعتبار ما تحول في الحج من الناحية الاجتماعية والسياسية، وذلك بالرغم من غياب طارئ قوي خلال السنوات الفاصلة بين الرحلة والمناقشة، من قبيل ما سيحدث في الربيع العربي أو عند قيام تنظيم الدولة الإسلامية أو اندلاع الصراع السني الشيعي.

وهدف الدراسة وصف وتحليل شعيرة الحج كما يقوم بها أربعة مجموعات من الحجاج الفرنسيين من أصول مغاربية، يمثلون ثلاث أجيال متتابعة. وهم: المهاجرون الأوائل (65 سنة فما فوق)، والجيل الأول ممن ازدادوا بفرنسا (40-50 سنة)، وجيل الشباب الفرنسي الثاني (20-30 سنة). وتحاول الدراسة تبيان الاختلافات فيما يخص تعاطي كل مجموعة مع الحج من منظور انتظاراتها وتصوراتها وطقوسها.

وقد انتقى الباحث عينة تتكون من 26 حاجا تتراوح أعمارهم ما بين خمس وعشرين وسبعين سنة فما فوق. وتم اختبار العينة لكي تستجيب لأربع فئات محددة مسبقا، وهي الحجاج الشيوخLes vieux pèlerins والحجاج المحسوبين  les pèlerins comptablesوالحجاج الشباب les jeunes pèlerins  و الجيل الثاني born again  .

ويذكر هذا التقسيم ي بتقسيم آخر متطابق من حيث المرجعيات والمنظور. وهو ذلك المتمثل في تصور ماكس فبيير Max weber للاختلاف بين الكاثوليكية والبروتستانتية وما تفرع عن هذه الأخيرة خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية. وبناء على هذا التطابق يمكن اعتبار أن السلفي الجديد تقابله في البروتستانتية جماعة البونتكوتيست pentecôtiste .

لم يحدد الباحث بشكل دقيق أي إطار نظري محدد، وإنما حاول أن يستفيد من أبعاد وآليات متعددة مستمدة من علم السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا إلى جانب معطيات علم النفس. وموضوع المقالة العام يتمحور حول “الإشكالية أو السؤال الحقيقي المتعلق بالحج”. وهنا يجب التذكير بأن الكاتب يتعامل مع الحج كظاهرة اجتماعية، وبأن هدف الدراسة ضبط التحولات التي يشهدها طقس الحج. ويتطلب هذا الضبط حسب الكاتب التخلي عن مرجعية النص بالمعنى الحرفي والفقهي، والعمل بالمقابل على تكريس التحقيق الأنثربولوجي. وهكذا ينصب الاهتمام على “مراقبة الثغرات والفجوات” التي تتخلل طقس الحج، من طواف وإحرام ورجم، في مزدلفة وبين الصفي والمروة. كما يراهن على كشف طبيعة المعيش اليومي وما يرتبط به من علائق اجتماعية، مما يمكن من الوقوف على بروز “اقتصاد نفسي خاص بالمسلم الجديد والذي ينسف ويبطل دعائم الاقتصاد الرمزي والتقليدي للحج”.

وتوخى الكاتب، أثناء دراسته للحج، كمادة تجريبية وكمظهر ذاتي، الوقوف على مدى التحول الجذري الذي عرفته هذه الشعيرة، لكن من دون أن يوضح القاعدة التي اعتمدها لقياس هذا التحول، ولا مقارنته بالرحلات الحجية السابقة والتي درس بعضها باحثون جامعيون. وقد تمثل هد ف الكاتب في دحض الاعتقاد بأن مكون الحج مسيج بمعنى لا يستحمل الجديد، ويرتكز فقط على إعادة إنتاج ما يشبه معرفة وطقس مطلق. وبالعكس من ذلك، تظهر المراقبة السوسيولوجية للواقع الحجي عامل المصلحة والنزاعات وكذا قلة التضامن وطبيعة المعاملات المالية. ويلجأ الكاتب، من خلال إبراز المتناقض في الحج والفرق في منظومته بين النص الثابت والطقس المتحول بفعل مصلحة الإنسان، إلى نوع من المشاكسة والشقاء إن صح التعبير subversion. وكنت أود أن أسأل الكاتب هل برز هذا البعد المشاكس لاحقا أثناء البحث العلمي أم كان ملازما له منذ الوهلة الأولى؟

لم تعتمد الدراسة موضوع الكتاب على المنهج الكمي في استسقاء المعلومات، إذ لم تستخدم الاستبيان ولم تعتمد على الآلية الإحصائية لتأسيس التحليل التأويلي. واعتمدت بالمقابل على النهج النوعي qualitatif بالخصوص، أي المحادثات والحوارات وتبادل أطراف الكلام وكذا الأسئلة غير المؤطرة. وقد أعطى الكاتب أهمية كبيرة للمنهج التشاركي. وهنا تجب الإشارة إلى أن اختيار الباحث يتمثل في الحج المنهجي وليست في الحج الإيماني، ذلك أن الغرض من حجه هو مراقبة حياة الحجاج الفرنسيين ذوو الأصول المغاربية وطبيعة العلاقات بينهم. كما أن الغرض هو المشاهدة مع احترام قاعدة الحفاظ على المسافة مع الطقس. وراعى الباحث، في علاقته اليومية مع مجموعات الحجاج الأربع، إظهار الطابع الإيماني لحجه. وذلك لكي يحافظ على الثقة التي من دونها يفشل تحقيقه. وتؤدي بنا الإشكالية التي تطرحها طبيعة هذه العلاقة وكذا الممارسة إلى اعتبار الكاتب – الدارس – الحاج عنصرا فاعلا في العملية وليس فقط مراقبا ومحللا، وهنا يبرز البعد الذاتي.

وفيما يتعلق بكيفية تنظيم الكاتب للدراسة، تلاحظ أنها تتكون من ثلاث قطع متصلة ومرتبطة ومتوازنة، القطعة الأولى تخص أدبيات الحج. ويدلي الباحث فيها بمعلومات وتفسيرات تخص الجانب التاريخي والسياسي والبشري والعلمي للحج. كما يناقش علاقة الحج بالجسد والشهوات والغريزة الحيوانية، ودائرة المحرم، ومواقيت الحج، وفضاء الحج المقدس، وممارسة الفرائض وأنواع الزيارة حجا وعمرة، وحج ما قبل الإسلام. ونعيب هنا على الدراسة أنها أهملت كتابات القدماء المهمة جدا، من قبيل “كتاب الأصنام” للكلبي وفقهيات الحج الكثيرة. كما نعيب عليها اقتصارها على ما قاله المستشرقون من أمثال Emile Dermenghem و Henri Bousquet و Godefroy Maurice وMaurice Demombynes و Mongomery Watt و Maxime Rodinson و Alfred-Louis de Premare، وعلى الطاهر عشور والسيد سابق في بعض الأحيان. وغالبا ما نلاحظ في الدراسة استعمال المصطلح المسيحي، من قبيل  apostolat, pastorat religieux، داخل المنظومة المفاهيمية الإسلامية من دون تفسير وتعليل لهذا الاستعمال. ويوحي هذا الاستعمال الاصطلاحي المزدوج بشيء أعمق مرتبط بالمرجعيات الفكرية التي تتقاسمها النخب الثقافية في الأوطان المغاربية على الأقل. ويفسح لنا الكاتب هنا المجال للإشارة إلى وجود تمظهرات موضوعاتية مسيحية في الإبداع الفني والأدبي المغربي تستحق الدراسة والتحليل.

وتخص القطعة الثانية، المكونة من مجموع الشهادات وسير حياة les récits de vie أربعة حجاج مفردين، وينتمون لأربع فئات محددة سابقا كما ذكرنا، وهم محمد وعبد الغني وجمال ويوسف. ويمثل الحكي والشهادة العمود الفقري للدراسة الميدانية النوعية.

واهتم الباحث أساسا بالجانب الأنثروبولوجي الدينامي المتحول للحج. وقد همش براديغم النص، لكنه أبرزه من جديد مختلفا من خلال قصة حياة هؤلاء الحجاج. ويصبح الشاهد بدوره نصا، باعتبار أنه يمثل نمطا محددا من المسلمين: تقليدي أو سلفي أو إخواني. وتظهر الدراسة التناقضات التي تخص تصور الحاج التقليدي للفريضة بالمقارنة مع الحاج الفرنسي.

ويكون مجموع القطعة الأولى والثانية يوميات سفر الكاتب le journal de voyage. وتظهر لنا من جانب آخر هندسة كل من القطعتين مرتبطة بثنائية المقدس – المدنس. ومن بين الخلاصات المهمة والأساسية لهذه الدراسة – المقالة، والتي لها صلة بالتحولات التي تطرأ على طقس الحج وتنعكس بطبيعة الحال على الثنائية المذكورة ومجالي تعبيرها، تلك التي تفيد أن المتشددين (الشباب السلفي والتبيلغي) هم من يساهمون في تقليص رقعة المقدس في الحج لصالح المدنس profane، من خلال تكرار عملية الحج سنويا في بعض الأحيان، وإنتاج معرفة صغيرةle petit savoir  جزئية خاصة بجماعة الانتماء المشغلة، وتداول معرفة مرتبطة بحيثيات الحج داخل الجماعة المذكورة، مما يترتب عليه نتائج غير أخلاقية ولا تضامنية. هذا فضلا على السلوك المادي مثل التبضع والسياحة وأخذ للصور والتنازع. ومع ذلك تساهم هذه الممارسات والسفريات التي تضفي نوعا من العلمنة على طقس الحج سياسيا في توسيع رقعة التراب الإسلامي، حيث يتم تكسير الحدود بين المقدس والمدنس. ويستمد هذا النوع من التأويل من تحليل والتير بنيامين لظاهرة إعادة إنتاج العمل الإبداعي الفني وزوال قدسيته aura بتكراره. وليس بالضرورة أن يكون هناك زوال وتقويض للمقدس لصالح المدنس من خلال ممارسات هؤلاء الشباب. المهم بالنسبة لنا يتمثل في كيفية استيعاب المقدس والمدنس وفهمهما في إطار جديد وليس من خلال ما اعتدنا عليه في سياق التفسير التفكيكي اليساري.

ويمكن القول إن عمر الساخي قام بتنميط الحجاج وفق أربع فئات ذات خصوصيات مميزة. ويرتبط حج فئة الحجاج الشيوخ وعددهم تسع أفراد بالتقدم في السن. وتكرس الشعيرة عند هذه الفئة مسار حياة بعد تربية الأولاد والوصول إلى فترة التقاعد. وينطلق الحج عندها من مبدأ النية، وهو حج وحيد وحدث استثنائي. وتنتمي هذه الفئة اجتماعيا إلى طبقة الشغيلة التي نزحت في ستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي إلى فرنسا، ويبقى تصورها للحج مقترنا بالنسق التقليدي والعرفي.

أما فئة الحجاج المحتسبين فتقوم بالشعيرة الحجية عند أواسط العمر، وحجها متكرر في الزمان ويخضع غالبا لهدف مصلحي مادي متعلق بطلب التوبة التي لها رابط مباشر بطبيعة المهن الحرة والتجارية التي يزاولها أفراد ها.

وتمثل الفئة الثالثة الشباب السلفي الذي يشتغل في قطاع الخدمات، وخاصيتها أن لها ممارسة إنتاجية للدين. وتبقى سيرة الحياة le récit de vie المؤطرة لهذه الفئة ضعيفة في آخر المطاف وتختزل في الربح الأخلاقي والتراكم. وتمثل تيار ما بعد الحداثة.

وتتكون الفئة الرابعة مما أسماهم الباحث الجيل الجدد، ويدرجهم في خانة الحركة التبليغية، وحجهم لا يتكرر إلا نادرا لأنهم يعتبرون الحج بمثابة الحدث الفاصل أو القطيعة بين عهد حياة السوء وعهد حياة الخير وذلك في إطار تصور ثنائي للعالم.

 

- رشيد بلباه

معهد الدراسات الافريقية بالرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.