تقديم:
سبعة أيام بعد وفاته في باريس، صدر آخر كتاب للمفكر والناقد الأدبي الكبير الفرنسي ذي الأصل البلغاري تزفتيان تودوروف (1939 – 2017)ن بعنوان “انتصار الفنان: الثورة والفنانين، روسيا 1917-1941″*. في ما يلي مقتطفات من هذا الكتاب والتي نشرتها جريدة لوموند في 9 فبراير 2017. ابن بلغاريا الذي انتقل، بحثاً عن حرية أكبر، للعيش في فرنسا، يقدم في هذا المقتطف ما يشبه قراءة لسيرته الذاتية الفكرية ومقارنة عميقة بين النظامين الشيوعي والديمقراطي وتطورهما في القرن 20 وبداية القرن الحالي. ويسجل أن هناك بعض “التقارب” بين الدكتاتورية الشيوعية والليبرالية المتطرفة مع حروب يوغوسلافيا والعراق وغيرها. لكنه يؤكد على “أن ملاحظة نقط ضعف الديمقراطية لا يعني أن نتخلى عنها كمثال. بل على العكس، هذه الملاحظة ينبغي أن تدفعنا إلى أن نجعل الديمقراطية أكثر ديمقراطية.”
النص:
“كانوا يعلموننا في المدرسة وفي وسائل الإعلام بأن كل شيء “هناك”، في الغرب، سيئ وبأن “عندنا” كل شيء جميل وعلى ما يرام. لكن نتيجة هاته الدعاية كانت عكسية تماما بالنسبة للعديد من الأشخاص الذين كانوا يرون أن “هناك” تعني الرخاء والثروة، وتعني في نفس الوقت الحرية. في حين أن “عندنا” هي أن نعيش في سجن كبير وبئيس. كنا نرغب، بكل ما أوتينا من قوة، في أن نعيش في الجهة الأخرى للجدار الحديدي، إلى درجة أننا كنا نعتبر أنه من غير اللائق تماماً أن نبدي أي ملاحظة قد تفيد بأن هناك أي شكل من أشكال الاستمرارية أو الشبه بين العالمين (الغربي والشيوعي). كما كان كل واحد منا يعلم بالمصير المأساوي الذي عرفه مواطنون آخرون، من الأقرباء أو غيرهم، كانوا ينتمون للبلدان الديكتاتورية. لهذا، فإن نسيان معاناتهم وتشبيه تجربتهم بحياة الحرية التي يعيشها سكان الدول الغربية، حسب ما كنا نتخيله، كان سيكون بمثابة لامبالاة غير مقبولة بهم وبمصيرهم، أو بمثابة خيانة لهم. وبطبيعة الحال، عندما جئنا للعيش في إحدى هاته الديمقراطيات الغربية، تبين لنا أن المفارقة بين هذين العالمين لم تكن كبيرة إلى هذا الحد، وبأن الأمور لم تكن كلها مثالية في البلدان التي استضافتنا، ولكن التناقض بين النظامين السياسيين كان يبدو لي دائماً محسوماً وواضحاً، وكانت ميولاتي السياسية ما تزال دائماً لصالح نفس الجهة.
وخلال السنوات الأولى لإقامتي في فرنسا، لم تكن لأبحاثي أي علاقة بالموضوع المعروض هنا بحيث إنها كانت منصبة فقط على البنيات الداخلية للأعمال الأدبية. إلا أنه وفي بداية ثمانينيات القرن الماضي، بدأت أبحاثي تنفتح على “قضايا المجتمع”، وبدأت أتعلم أنماط التحليل السياسي والأخلاقي. وهي تحاليل بدت لي وكأنها تؤكد حدوسي السابقة بحيث إنني كنت أرى دائماً بأن هناك تعارضاً تاماً بين الدكتاتورية والديمقراطية سواء على مستوى بنيات المجتمعات المعنية، أو على مستوى أحكام القيمة التي نحملها عنها.
مجتمعان متعارضان
وفي التسعينيات خصصت عدة دراسات للأنظمة الدكتاتورية معتمدا على نفس التقسيم المفاهيمي: بحيث أنني قدمت هذين المجتمعين على أنهما يوجدان على طرفي نقيض تماما، رغم أنني أشرت إلى بعض التدقيقات المتعلقة بالإغراء الذي يمكن أن تمارسه الأنظمة الدكتاتورية، أو إلى بعض نقط ضعف الأنظمة الديمقراطية. وفي كتاب حول تاريخ القرن 20 في القارة الأوربية بعنوان: “ذاكرة الشر، إغواء الخير” (منشورات لافون – 2000)** أوضحت بأن النزاع بين الدكتاتورية والديمقراطية هو الحدث الأبرز في تاريخ هذا القرن، ووصفت، من جهة أخرى، الدكتاتورية السوفياتية أو النازية بأنها تطور جديد وجذري عرفته تلك الفترة.
(…) لكنني في نفس هذا الكتاب، قمت ببلورة نقد شمولي للنظام الديمقراطي الذي كنا نعيش فيه. وقد جرتني إلى هذا النقد الأحداث المعاصرة التي تسبب فيها انقلاب، كنت أتمناه كثيرا ومنذ مدة طويلة، ألا وهو نهاية الحرب الباردة التي سيرمز إليها انهيار حائط برلين، أي انهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا ثم في روسيا. والحقيقة أن هذا الحدث كان يبدو، للوهلة الأولى، وكأنه يؤكد وجود تعارض تام بين هاذين النظامين ما دام أن أحدهما تخلى عن جميع طموحاته، في حين أن النظام الآخر لم يتخل عن أي عنصر من عناصر برنامجه. وقد تم تفسير هذا الحدث من قبل عدد من الملاحظين وكأنه انتصار للخير على الشر.
لكن عواقب هذا الانقلاب خلفت – على الأقل بالنسبة لي – أثراً عكسياً. بحيث تلته ردتا فعل لم أتوقعهما تماماً. أولاً، كان هناك رد فعل المواطنين في الدول الشيوعية السابقة، والذين اتضح أنهم لم يعيشوا تحولهم من النظام السابق إلى أشكال جديدة أكثر ديمقراطية للحكم وإلى اقتصاد السوق، لم يعيشوها كخطوة كبيرة نحو السعادة وبالشكل الذي كانوا يتمنوه (ويتمناه العديد من الملاحظين المتعاطفين معهم). بحيث ظهر أن هاته التحولات تحمل معها انعكاسات أخرى اعتبر أنها لا تثير الإرتياح. ومن جهة أخرى، كان هناك رد فعل الدول الغربية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي استغلت نهاية “توازن الرعب” والمنافسة بين كتلتين: “الكتلة الاشتراكية” و”الكتلة الرأسمالية” وذلك من أجل نهج سياسة جديدة هجومية هدفها المعلن هو تعزيز المبادئ الديمقراطية الكبرى وحقوق الإنسان، لكن نتيجتها الوحيدة والملموسة كانت هي تقوية سيطرة هاته الدول على باقي دول العالم. وبفعلها هذا، صارت تقترب، بشكل خطير، من الممارسات الدكتاتورية الملعونة سابقاً.
(…) وبموازاة كتابتي لهذا المؤلف، كشفت لي حرب الحلف الأطلسي في دول يوغوسلافيا السابقة شيئاً جديداً وهو أن الديمقراطيات قادرة على ارتكاب تجاوزات قريبة من تجاوزات الدول الدكتاتورية. هذا التقارب لم يجعلني أكثر تسامحا مع الممارسات الدكتاتورية، ولكنني صرت أكثر حذراً إزاء بعض تطورات الديمقراطية. إن هذه الأخيرة، كمبدأ، لا تقول إنها عقيدة للخلاص، أو إنها تعد بالجنة فوق الأرض، ولا تتطلع إلى أن تقود مواطنيها إلى المثالية. ولكن يمكنها، هي أيضاً، أن يصيبها الغرور والغطرسة والغلو وخاصة عندما تكون هي المنتصرة. لقد صارت كل الأحداث تجري كما لو أن “اليوتوبيا”، التي كانت حتى الآن امتيازاً لليسار وتم الاعتقاد بأنها ماتت بعد انهيار الأنظمة الشيوعية، هاته اليوتوبيا انتقلت إلى اليمين، أي إلى أفكار من يسمون خطأ ب”المحافظين الجدد”، وهي الأفكار التي تم تبنيها بالخصوص في الولايات المتحدة على عهد الرئيس جورج بوش، والتي ظهر أثرها في السياسات التي نهجها في عدة مناطق (…)
نهاية “توازن الرعب” وحرب العراق
هاته النوايا هي بالضبط التي بررت حرب العراق في 2003 والتي مازالت آثارها السلبية تؤثر إلى غاية اليوم على الشرق الأوسط وعلى باقي العالم (…) ومنذ أن لم يعد هناك توازن للرعب، صارت الحروب التي يشنها الغرب بقيادة الولايات المتحدة تتوالى بدون توقف تقريباً: من يوغوسلافيا إلى أوكرانيا، ومن أفغانستان إلى سوريا، ومن الصومال إلى كوت ديفورا. وعلى نفس النهج سارت فرنسا وبريطانيا، وهما قوتان استعماريتان. وفي فرنسا، صارت أطروحات المحافظين الجدد تلقى إقبالا من قبل اليسار واليمين. وهكذا يمكننا أن نلاحظ انتشار نوع من المهدوية السياسية سواء في ظل الأنظمة الشيوعية أو في الديمقراطيات الليبرالية اليوم.
(…) إننا ما نزال اليوم نتبنى العقيدة المسيحية وأفكار عصر الأنوار، ونتبنى أفكار ماركس ونيتشه، ونؤمن بالعلم والعقيدة. ما زلنا نحلم بتطوير الجنس البشري رغم أننا أصبحنا نعول، في هذا الصدد، بشكل أقل على قوة التربية وتأثير الوسط المجتمعي، وصرنا نعول أكثر على التلاعب بالشفرة الجينية. إن أصحاب السلطة يتطلعون دائما إلى المراقبة الشاملة للمواطنين رغم أنهم صاروا يعتمدون، بشكل أقل، على الشرطة المتواجدة في كل مكان وعلى شبكات المخبرين، وأصبحوا يعتمدون أكثر على التكنولوجيا التي تجمع ما يسمى ب “المعلومات الكبرى” الخاصة بجميع رسائلنا الإلكترونية.
إن الديمقراطيات الليبرالية اليوم، مثل سابقاتها، تحتاج إلى صورة عدو لا يكون إنسانيا تماما لمواجهته وللقضاء عليه إذا اقتضى الحال، ( لأنه لا توجد حرية لأعداء الحرية ! )، ولكن عوض الرأسماليين والبورجوازيين، صرنا نجد الإرهابيين والإسلاميين. إن الليبرالية المتطرفة المعاصرة تشبه في العديد من الجوانب الدكتاتورية الشيوعية أكثر مما تشبه الليبرالية الكلاسيكية للقرنين 18 و 19. وتسلط الأفراد قد تكون له عواقب مشابهة في خطورتها لتسلط الدول.
إن الإيمان بعظمة الإنسان، واليوتوبيا، والرغبة في فعل الخير هي كلها طرق للتفكير وللفعل كانت موجودة في عالمنا وذلك منذ عصر النهضة وعصر الأنوار وفي المجتمعات الدكتاتورية في القرن 20، والديمقراطيات الليبرالية المتطرفة في القرن 21. والعالم المعاصر، يدفعنا، بشكل ليس أقل من المجتمعات الديكتاتورية وفي جميع المجالات كالعمل والعدل والصحة والتربية، يدفعنا إلى ما يسميه “آلان سوبيو” Alain Supiot “الحكم بواسطة العدد” – وهو توجه سبق أن وصفه إنجلز بأنه هو المثال، ويقضي بأن نستبدل “إدارة الأشياء بحكم الأشخاص”. وما نشهده اليوم، مثل الأمس، هو مواصلة مسلسل تنميط وتوحيد وامتثال الناس ليصبح لديهم جميعا نفس السلوك. وكل هذا يؤدي إلى مراقبة الأفراد من قبل المجتمع، وبالتالي إلى نزع صفة الإنسانية عن الإنسان. لكن ملاحظة نقط ضعف الديمقراطية هاته لا يعني أن نتخلى عنها كمثال. بل على العكس، هذه الملاحظة ينبغي أن تدفعنا إلى أن نجعل الديمقراطية أكثر ديمقراطية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* العنوان الأصلي للكتاب:
Tzvetan Todorov, Le Triomphe de l’artiste. La révolution et les artistes. Russie: 1917-1941, Flammarion, 2017.
** العنوان الأصلي لهذا الكتاب، هو: Mémoire du mal, Tentation du bien: Enquête sur le siècle, éd. Robert Laffont, Paris, 2000.