الإثنين , 28 أبريل, 2025
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » برتغالي في أصيلا: حوليات مدينة مغربية محتلة

برتغالي في أصيلا: حوليات مدينة مغربية محتلة

برناردو رودريكس، حوليات أصيلا (1508- 1535). مملكة فاس من خلال شهادة برتغالي، تعريب أحمد بوشرب، الدار البيضاء، دار الثقافة، 2007.

صدر هذا الكتاب في منتصف 2007 وهو من تأليف أحد كتاب الحوليات البرتغاليين خلال القرن السادس عشر وتعريب أحمد بوشرب1، الذي يعد من كبار الأخصائيين الدوليين في الدراسات البرتغالية. يقع الكتاب في 646 صفحة من القطع المتوسط، ضمنها مقدمة وضعها المؤلف للتعريف بالكتاب كوثيقة متفردة عن تاريخ الوجود البرتغالي في شمال المغرب في 12 صفحة. وقد اعتمدت هذه الترجمة على النسخة التي حققها ونشرها سنة 1915 المستشرق والمؤرخ البرتغالي المعروف (دافيد لوبش) تحت عنوان: Anais de Arzila, crónica inédita do século XVI.

وقبل أن نعرف بدورنا بهذا الكتاب وأهمية شهادته في كتابة تاريخ المغرب عامة وتاريخ الوجود البرتغالي بالضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط خاصة، يجدر بنا أن نسجل بعض الملاحظات ذات الطابع الإستوغرافي:

الأولى، إن الكتاب يشكل واحدا من الشهادات البرتغالية المهمة عن المغرب في القرن السادس عشر ولا يمكن قراءته سوى ضمن الإنتاج البرتغالي حول المغرب. فمنذ احتل البرتغاليون سبتة سنة 1415 أصبح المغرب مجالا خصبا لكتابات البرتغاليين باعتبار الأهمية الإستراتيجية التي حظي بها هذا المجال في خطط التوسع البرتغالي في إفريقيا من جهة والتاريخ المشترك الذي تولد عن العلاقات الصدامية بين المغرب والبرتغال من جهة ثانية.

ففي نهاية القرن الخامس عشر كتب Zurara تاريخا مفصلا لمدينة سبتة عرض فيه لكيفية احتلال البرتغاليين للمدينة ولتاريخ حكامها. ومع بداية القرن السادس عشر احتل المغرب مكانة كبيرة في الرحلات الاستكشافية التي قام بها البحارة البرتغاليون، أو من كانوا في خدمة حكام لشبونة، ولعل من بين هؤلاء مستكشفين اثنين على الخصوص هما Duarto Pacheco Perreira وValentin Fernandes وركزا في أوصافهما على حالة الشواطئ المغربية من سبته إلى نهر السنغال مقدمين معلومات ليست ذات طبيعة ملاحية فحسب، بل أيضا ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية غير مسبوق ذكرها في النصوص التي تناولت تاريخ هذه المجالات.ولم يكتف البرتغاليون بإنجاز الرحلات بل انخرط بعضهم في كتابة تواريخ مستفيدين من الزخم الوثائقي الهائل، ففي سنة 1538 أنجز D.De Gois حوليات دون إيمانويل فجاء الكتاب زاخرا بالمعلومات حول علاقات المغاربة ببرتغاليي الثغور وعن المواجهات الحربية التي دارت بين الطرفين ومعلومات عن التنظيمات الجبائية والعسكرية البرتغالية بالمغرب. واعتنى Luis de Sousa بكتابة حوليات الملك يوحنا الثالث الذي حكم ما بين 1521 و1557 وهي الفترة التي شهدت تحولا كبيرا في العلاقات بين المغرب والبرتغال باعتبارها مرحلة عرفت استرجاع المغرب لعدد من ثغوره ذات الأهمية الإستراتيجية كأكادير وآسفي و أزمور. ولا تخلو المكتبة التاريخية البرتغالية من تواريخ محلية كما هو الشأن بالنسبة للنص الذي ألفه مجهول حول تاريخ مدينة أكادير أو نصوص أخرى تتعلق بمدينة مزغان والمعمورة.

ولم يتوقف البرتغاليون عن الكتابة عن المغرب بالرغم من نكسة وادي المخازن، وإن قل صبيب هذه الكتابات، فقد خص Antonio Saldanha، وكان قد وقع في أسر المغاربة سنة 1592 وبقي في البلاط السعدي إلى سنة 1606، كتابا سجل فيه حوليات المنصور السعدي، كما قدم أسير آخر مجهول التسمية كتابا، عبارة عن “كناشة طريق”، سجل فيها بعض الارتسامات عن مغرب ما بعد معركة وادي المخازن.

الثانية، تتعلق بالعناية التي أولاها البحث التاريخي الكولونيالي لترجمة ونشر النصوص البرتغالية، فعلاوة على المصادر غير المنشورة لتاريخ المغرب التي أشرف عليها دوكاستر والمتكونة من خمسة مجلدات، وتضمنت الوثائق البرتغالية المتعلقة بالمغرب والمحفوظة في أرشيفات لشبونة، عكف كل من دافيد لوبس وروبير ريكارد على ترجمة نصوص برتغالية إلى اللغة الفرنسية، غير أن هذه الترجمات شملت بالخصوص تلك النصوص التي لها علاقة بالمجال الذي كانت تتحكم فيه إدارة الحماية الفرنسية، فيما لم تحظ النصوص التي اهتمت بشمال المغرب، أي “المنطقة الخليفية”، كتاريخ مدينة سبتة الذي أنجزه زورارا والنص الذي نحن بصدد تقديمه، بعناية المترجمين الفرنسيين وهو ما يدل على العلاقة الوطيدة بين ترجمة هذه النصوص واستعمالاتها السياسية. وقد اعترف روبير ريكارد بذلك عندما أكد في أحدى مقالاته إن دراسة التجربة الاستعمارية البرتغالية في المغرب تسعف كثيرا في إنجاح التجربة الاستعمارية الفرنسية.

الثالثة، ولها علاقة بالملاحظة السالفة، فقد ترتب عن عدم ترجمة النص إلى اللغة الفرنسية قلة استعماله بالرغم من المعلومات الثمينة والقيمة والفريدة التي يشتمل عليها. لقد اعتمد المؤرخون والباحثون المهتمون بالغزو البرتغالي للمغرب على النصوص المترجمة إلى اللغة الفرنسية، فكل الدراسات التي تناولت الجهاد السعدي والعلاقات التجارية بين المغرب وأوروبا استحضرت النصوص المترجمة واستفادت منها إلى حد بعيد.

من يكون صاحب الكتاب وما هي محتوياته وما هي إسهاماته في الدراسات البرتغالية؟ لا نملك معلومات عن حياة صاحب النص باستثناء تلك المعلومات التي يتضمنها النص نفسه. فقد ولد المؤلف في مدينة أصيلا في حدود سنة 1500 من والد جراح استقر بالمدينة منذ سنة 1471 أي منذ احتلالها من قبل البرتغاليين. وكان يتقن لغة أهل البلاد، وسمح له امتلاكه ناصية اللغة بالتعرف بطريقة عميقة على المغرب وأهله. كما أنه لم يكن على غرار برتغاليي الثغور منحصرا في المدينة التي استقر بها بل كان كثير التنقل بين مدن المغرب الأخرى، فقد زار مدينة فاس لأكثر من ثلاث مرات وهو ما سمح له بإجراء مقارنات مع المجال الذي ألفه. ويسمح النص أيضا بالوقوف على محيطه الضيق وإن بشكل مختصر جدا عندما يذكر أن أخاه كان طبيبا وكان قد أشرف على علاج المولى إبراهيم وزوجته لالة عائشة أخت السلطان أحمد الوطاسي.

كان برناردو رودريغش يهدف من خلال وضع هذا الكتاب إلى تدوين مذكراته وحفظ ذاكرة مدينة أصيلا عن طريق سرد أعمال ومنجزات قباطنتها من سنة 1508 إلى سنة إخلائها سنة 1551، ويحرص المؤلف على التنصيص على ذلك منذ الصفحات الأولى من الكتاب عندما قال: “إن ما أهدف إليه من هذا الكتاب هو أن لا تضيع، كما ضاعت أصيلا، أعمال ومنجزات كبيرة عرفتها المدينة، خصوصا على يد قبطانيها العظيمين الكوند دو بوربا وابنه الكوند دو روداندو” (ص3). غير أنه تعذر عليه بلوغ ما سطره من أهداف حيث توقف لأسباب غير مفصح عنها سنة 1535.

ومهما يكن من أمر فإن الكتاب جاء على شكل شهادات حية لوقائع وأحداث عاينها أو اعتمد في روايتها على ما يسميهم بـ”الثقاة” من معاصري هذه الأحداث والوقائع الذي كان يثق فيهم ثقة عمياء فلا يشكك في رواياتهم ويروي عنهم بيقينية تامة خاصة بالنسبة للأحداث التي التي وقعت خلال الفترة الممتدة ما بين 1523 و 1535. وهي المرحلة التي سلك فيها الاختصار خاصة عندما يتعلق الأمر بمجالات بعيدة عن أصيلا يقول مثلا: لقد اختصرت الكلام عن هذه الواقعة لأن الذين كتبوا عن مشاركة الكوند في الحملة فصلوا القول بشأنها، وهو ما قام به كذلك مؤرخو المملكة”(ص97). ولأن المؤلف دون هذه المذكرات عقدا من الزمن بعد إخلاء أصيلا (يشير أنه شرع في التدوين سنة 1560) فإنه لم يكن بوسعه، كما سجل ذلك أحمد بوشرب، أن يكتفي بما اختزنته ذاكرته فسعى إلى استعمال بعض النصوص والوثائق وهو ما تكشف عنه الدقة في المعلومات وتردد الجزئيات والتفاصيل في الكثير من فقرات الكتاب.

يتضمن الكتاب أربعة أبواب كبيرة، خص الأول منها لولاية الكوند دو بوربا ويقع في 28 فصلا وخمسة ملاحق. وهي الباب الذي اعتمد فيها كما سبقت الإشارة على ما رواه له والده ومسنون شاركوا في احتلال أصيلا، وكان مقتضبا لم يتجاوز عدد صفحاته 112 صفحة. وبالرغم من هذا الاقتضاب إلا أن الباب يحتوي على معلومات مفيدة تتعلق بمختلف المحاولات التي قام بها البرتغاليون للاستيلاء على مدينة أصيلا ويسمح بتتبع العلاقة بين برتغاليي الثغور الشمالية والثغور الجنوبية مثلما هو الأمر عندما استعرض المؤلف الدعم المقدم من قبل قبطان أزمور لقائد الحملة البرتغالية على أصيلا. كما استعرض المؤلف في هذا الباب الغارات التي قام بها برتغاليو أصيلا في اتجاه الداخل مع ما يترتب على هذه الغارات من الاستيلاء على المواشي وأسر السكان وهو ما سمح بـ”در مداخيل مهمة… وإلحاق أضرار جسيمة بالمسلمين”(ص 61). على أن المؤلف لا يكتفي، عكس بعض الحوليين البرتغاليين، بالغارات البرتغالية بل يورد معلومات مفيدة عن ردود الفعل المغربية والغارات المغربية لكيفية محاصرة ملك فاس لأصيلا مرات متعددة وللمعارك الجهادية التي قام بها الوطاسيون في سبيل تحرير مدينة أصيلا.

ولم يكتف المؤلف بعرض الغارات والغارات المضادة بل يخوض في بعض التفاصيل المتعلقة بحكام المغرب مثلما هو الأمر عندما يقدم ملوك بني وطاس، يقول: “أنجب هذا الملك إثنى عشر ولدا، كان مولاي يحيى أكبرهم سنا. وقد أمر بقتله بعد أن اكتشف أنه سكير، وعين عوضا عنه أخاه مولاي محمد وليا للعهد. وكان هذا الأخير عدوا لدودا للمسحيين، ورجلا لا يخاف الحروب، ويشق ساحات الوغى، وساعده في حروبه أخوه مولاي الناصر الذي كان أسوأ منه بكثير. وكان أبو حسون بدوره أحد ملوك تلك الدولة ، وقد فر أبناؤه إلى البرتغال سنة واحد وثلاثين، فأكرمهم مولانا الملك وأحاطهم برعايته وخص كل واحد منهم بعطاء يومي بلغ عشرة كروزادو، قبل أن يعيدهم إلى بلادهم بعد أن صالحهم مع الملك ابن عمهم. وقد مات أحدهم بباب فاس وهو يحارب بشجاعة جيوش الشريف التي دخلت المدينة في يناير سنة ألف وخمسمائة وتسع أربعين.”(ص 105).

وهذه تفصيلات مهمة قد لا نجدها حتى في النصوص العربية المتعلقة بتاريخ الدولة الوطاسية. كما أن المؤلف في هذا الباب يغرق في تفاصيل غاية في الدقة تتعلق بشمال المغرب مثلما هو الأمر عندما خصص الملحق الأول من الملاحق الخمسة للكتاب الأول لمملكة بنى كرفط، فتعرض لتضاريسها الوعرة وأنهارها وقراها بنوع من الدقة المثيرة للانتباه، وتعود هذه المعرفة الدقيقة لمشاركته في عدد كبير من الحملات عليها حيث يقول “ورغم ذلك كان لا يزال به يوم انسحابنا من أصيلا أكثر من خمس عشر أو عشرين قرية يمكنني ذكر جلها لأننا هاجمناها ونهبناها وطاردنا سكانها عدة مرات” (ص100-101).

أما الباب الثاني، فقد خصه المؤلف للأحداث التي عرفتها الفترة الأولى من ولاية دون يوحنا كوتينو دون الأخذ بعين الاعتبار الشهور الأربعة التي قضاها هذا الأخير “على رأس المدينة نيابة عن أبيه خلال مشاركته في احتلال أزمور” (ص118). وعلى غرار الباب الأول واصل المؤلف استعراض الغارات البرتغالية على مجموعة من المواقع سواء تلك الواقعة إلى الشرق من أصيلا، أي في اتجاه الأراضي المغربية في الداخل كما هو الشأن بالنسبة للحملة على جبل بني ومراس (ص243) وبوادي القصر الكبير مثلا أو تلك التي وجهها على بعض المدن المغربية الأخرى كالمعمورة.

وخلال استعراضه لمعلومات ثمينة ودقيقة في هذا الباب لا يفوت المؤلف التأكيد على المساعدات التي قدمت لقواد أصيلا سواء من الإدارة المركزية في لشبونة أو من قواد الثغور الأخرى مثل طنجة. ويتضمن هذا الباب بعض الاستطرادات المتعلقة بتاريخ الضفة الأخرى من المتوسط واستفادة السلطات المغربية من بعض هذه الوقائع، فهو يذكر مثلا أن عزم ملك فاس على حصار أصيلا سنة 1516 ارتبط إلى حد كبير بوفاة ملك قشتالة وأراغون وانتقال السلطة مؤقتا إلى أسقف طليطلة.(ص153) وفي هذا الباب يتعرض المؤلف للدور الذي لعبه المخبرون في نقل أخبار تتعلق بأوروبا إلى حكام المغرب.

وبالإضافة إلى موضوع الغارات اهتم المؤلف بقضايا طريفة ومهمة تتعلق بالأسر في الجانبين معا، أسرى مغاربة وأسرى برتغاليين، وقد سمح له ذلك بالحديث في إحدى المرات عن ثمن من كانوا يأسرون من المسلمين فيقول: “حقيقة أن ارتفاع مستوى المعيشة منذ ذلك الوقت قد انعكس على أثمان العبيد كما عاينت ذلك خلال الأسبوع الماضي حيت بيعت زنجية بأربعة وستين قطعة تساوي كل واحدة منها ألف ريال وهو ما لم يشاهد من قبل” (ص232). ومن القضايا الطريفة التي يوردها المؤرخ البرتغالي تلك الحكاية التي يرويها عن “حداد أصيلا” الذي تظاهر بإصابته بالمس بمجرد أسره من قبل المسلمين، وهي الحكاية التي استغلها مناسبة للإشادة بأخلاق المولى إبراهيم الذي أشفق على الحداد وأطلق سراحه، غير أنه أيضا يختم إيراد هذه القصة الطويلة “لتأنيب باقي الحرفيين الذين يسارعون فور أسرهم إلى عرض خدماتهم على الحكام المسلمين، وهو أمر خطير يفسر كثرة المدافع وباقي الأسلحة والذخيرة المتراكمة في مخازنهم، وهو ما لم يمكنهم من الدفاع عن أنفسهم وحسب، بل سمح لهم بطردنا من عدد من الثغور وحتم علينا إخلاء أخرى، مع ما مثله ذلك من عار للمسيحيين كما تجلى ذلك من خلال رأس غير التي انتزعوها بالقوة من مولانا الملك أو حجر بادس وغساسة وبجاية التي انتزعوها من الإمبراطور ملك إسبانيا”(ص295).

ولعل أهم فصل في هذا الباب ذاك المتعلق بمجاعة 1521 خاصة وأن المؤلف لا يستعرض المعلومات المتعلقة بهذه المجاعة في المجال المغربي فحسب، بل سعى إلى تأطيرها الدولي فتحدث عن هول الأزمة في شبه الجزيرة الأيبيرية بالرغم من وصول كميات كبيرة من الحبوب من صقلية وتركيا، وليبين في النهاية أن ما وقع بالمغرب كان أكثر هولا وأشد فظاعة، “فقد ماتت الآلاف منهم، ولا سيما في مملكتي فاس ومراكش المجاورتين لنا بسبب انعدام وسائل وإمكانات جلب الأقوات من الخارج” (ص297). ولكي يقنع القارئ بهول الكارثة ينتقل المؤلف من مستوى التعميم والوصف العريض إلى لغة الأرقام فيعطي بعض الإحصائيات حيث يذكر أنه من بين أربعين ألف من المسلمين التي جيء بها لحصار أصيلا من قبل ملك فاس لم يتبق سوى ثلاثة آلاف.ويميز المؤلف بين هول الأزمة بين الشمال والجنوب حيث يعتبر أن ما حصل بجوار أصيلا أقل وطأة مما حصل في دكالة، حيث كان المغاربة يقبلون على بيع أبنائهم وأهلهم مقابل الإطعام، ويلتقي برناردو رودريغيش في هذه الملاحظة مع ما ذكره إخباريون آخرون من أمثال دييغو دوطوريس. وما يميزه عن الإخباريين الآخرين في هذا الباب هو أن صاحب الحوليات يعطي شهادات خاصة عن البيع والشراء في المغاربة، إذ يروي محاولات الشراء التي قام بها هو نفسه، يقول: “وقد انتقلت أنا ورفاقي بين الدواوير، واشتريت من شخص يسكن خيمة ابنته وحفيدته دفعت في الأولى اثنين وثلاثين طوشطار..كما اشتريت صبيا لطيفا بسبعة عشر طوشطار..” (ص299).

أما الباب الثالث، فيتكون من 56 فصلا تغطي الفترة الممتدة ما بين 1525 و1529 وهي المرحلة التي تولى فيها أنطونيو دا سيلفيرا، وتنبع أهمية هذا الفصل في كونه يرصد للقارئ سيرة شخص من نبلاء بني كرفط تنصر نتيجة أسر زوجته وأصبح في خدمة البرتغال، بل وأحد القواد الكبار الذين دافعوا عن أصيلا لمدة خمس وثلاثين سنة، ويعرض المؤلف لسيرته بدقائق وتفاصيل غاية في الأهمية (ص435-439). ويواصل المؤلف استعراض الحملات والحملات المضادة وخلالها يعرض لسير بعض قادة الجهاد من المغاربة كما هو الشأن بالنسبة لعبد الملك المنحدر من جبل حبيب والذي عانى برتغاليو أصيلا منه، وعلي بن يعيش إلى درجة يعتبر معها أن أصيلا وطنجة لم تتنفسا الصعداء إلا بعد “موت عبد الملك وأسر علي بن يعيش”.

غير أن ما يثير الانتباه في هذا الفصل مسألة أساسية يتوقف عندها المؤلف في مناسبات متعددة، وتتعلق بتنصر بعض من وقع في الأسر من المغاربة. على أن عمليات التنصير وإن نجحت في بعض الحالات إلا أنها لم تكن كذلك في حالات متعددة، ويمكننا المؤلف من الوقوف على حالات التردد بالنسبة لعدد من المتنصرين كما هو الشأن بالنسبة ليوحنا داسيلفيرا الذي يعرض المؤلف لسيرته، فقد “اعتنق- داسيافيرا- الإسلام ثلاث مرات والمسيحية مرتين”(ص.473)، وشارك في عدة غارات ضد المسلمين، غير أنه كان حائرا بين البقاء على الدين الجديد وخدمة مصالح البرتغاليين والعودة إلى الدين الأصل، وتتدخل في هذه الحيرة عناصر مختلفة تتراوح بين الذاتية والموضوعية فهو كان متزوجا من موريسكية رفضت مرافقته في المرتين اللتين قررا فيهما العودة إلى ديار الإسلام، كما أنه لم يعد يحظى بنفس المكانة لدى قائد ثغر أصيلا عندما عاد نادما إلى التنصر. ويروي المؤلف النهاية المأساوية لهذه الشخصية التي اقتيدت إلى حبل المشنقة بعد محاولات يائسة للانتقام من محيطه البرتغالي.

ولم يكتف المؤلف بعرض حالات التنصير بل عرض أيضا لحالات البرتغاليين الذين أسلموا كما هو الشأن بالنسبة لحالة صياد بسيط انتقل إلى الاستقرار بأصيلا من مدينة تيفيرا (ص.449). والذي يهم من خلال استعراض هذه الحالات هو أحكام القيمة التي أطلقها المؤلف في حق من تنصر أو من تحول إلى الإسلام، فالتحول إلى الإسلام يعني الخشونة والتوحش، أما التنصر فيعني معرفة طريق الحق والحياد عن هذا الدين يعني التحاق صاحبه بجهنم.

وخلال هذا الباب أيضا يعرض المؤلف أيضا لمختلف الغارات التي قام بها المغاربة في اتجاه مدينة أصيلا والغارات المضادة التي شنها برتغاليو المدينة على المناطق المجاورة، ويمكن سرد هذه الغارات من الوقوف على مسألتين اثنتين بالغتي الأهمية، الأولى وتتعلق بالمعرفة الدقيقة للمؤلف بالمجال على النحو الذي ذكرناه في الباب السابق، حيث يرد ذكر بعض القرى والأماكن التي يصعب على القارئ توطينها. والثانية وتتعلق بمعرفته الجيدة بالعلاقات التي كانت تربط مختلف الفاعلين السياسيين في شمال المغرب وبخبايا بعض الأحداث، فبمناسبة الحملة التي قادها مولاي أحمد ملك فاس يورد (ص.486) التقلبات التي كانت تعرفها مدينة فاس على إثر خلع بوحسون ويرى أن “محرك ومنفذ ذلك الانقلاب كان هو جارنا المولى إبراهيم”(ص.488).

أما الباب الرابع فقد خصصه المؤلف لولاية القبطان يوحنا كوتينيو ما بين 1529 و1535 في 71 فصلا، وفي هذا الباب يقف المؤلف عند بعض التفاصيل المتعلقة بالعمليات التي قادها الوطاسيون لاسترجاع مدينة طنجة وعن المساعدات التي تلقاها برتغاليو طنجة من لشبونة “فقد تأثرت المملكة والبلاط للحدث، فهب جل النبلاء لنجدة المدينة” (ص.547)، كما يورد الأخبار عن محاولات المولى إبراهيم استرجاع مدينة أصيلا بالتنسيق مع الأمير الوطاسي حيث استقدم في إحدى هذه الحملات ما يزيد على ثلاثمائة فارس (ص.578)، ويعطينا المؤلف وجها آخر للمقاومة المغربية يتمثل في تلك الجسور التي ظل المغاربة يحافظون عليها مع برتغاليي الثغور، فهو لا يتردد في التنويه بنبل المولى إبراهيم فهو من أشجع القواد وأكثرهم نفوذا وأسماهم خلقا وأعرقهم نسبا” مما جعله ينال حظوة اليهود والمسلمين والمسيحيين.

ولم يكتف المؤلف بتسجيل الغارات التي قام بها المغاربة في شمال المغرب بل سجل تلك التي شملت ثغور الجنوب وتوقف عند الصدى الذي كان لمثل هذه الأحداث في الشمال كما هو الشأن عندما أورد الحديث عن محاولة الشريف السعدي يقول: “من الأحداث التي يمكنني تسجيلها بالنسبة لسنة أربع وثلاثين، حصار أسفي، فبعد مقتل القبطان دون يوحنا دو فراو ظن الشريفان أنهما قادران على دخول المدينة بفضل ما جلبوه من مدافع كثيرة ووسائل ضخمة. لكن نبلاء وفرسانا كثيرين هبوا لنجدتها دون تردد وتوصلت المدينة المحاصرة بكميات كبيرة من الذخيرة وبكل الوسائل الضرورية للدفاع عنها ولحماية سكانها”(ص619). غير أن ما يلاحظ على إيراد معلومات من هذا القبيل هو طغيان العموميات وغياب الدقة عكس ما نلاحظه عند إيراد معلومات تتعلق بأحواز أصيلا أو القصر الكبير.

إن كثرة المعلومات ودقة التفاصيل تجعل القارئ يخلص في النهاية إلى أن هذا الكتاب يعتبر أداة لابد منها:

أولا- لإعادة قراءة تاريخ الغزو البرتغالي للمغرب فهو يمكن من تتبع مختلف السياسات التي اتبعها قادة الثغور الشمالية من أجل الحفاظ على ما كان بيدهم من مدن وقرى المغرب الأطلسي، كما يمكن من الوقوف على مختلف المحاولات التي قام بها المغاربة من أجل تحرير أصيلا ومدن الشمال وخاصة تلك التي قادها ملوك بني وطاس وتلوذ المصادر بالصمت المغربية عنها بالصمت.

ثانيا- لكتابة التاريخ الاقتصادي للمنطقة الشمالية للمغرب من خلال المعطيات التي يقدمها والتي تهم الأوضاع الاقتصادية، فلا يمكن أن نغفل قيمة المعلومات التي يقدمها عن الموارد المادية للمناطق التي عرض لوصفها بدقة متناهية، كما لا يمكن أن نغفل أهمية المعلومات التي يقدمها عن المجاعة الكبرى التي عرفها المغرب خلال سنة 1521 وعن الآثار الاقتصادية لبعض السياسات البرتغالية في المنطقة كسياسة الأرض المحروقة، فقد عمل البرتغاليون على انتساف وإحراق المحاصيل الزراعية “انتقاما” لمواقف المساندة لأمراء بني وطاس (ص528-530).

ثالثا- للوقوف على الوجه الطبيعي وتقديم معلومات إيكولوجية غاية في الأهمية حيث يمكن لقارئ حوليات أصيلا أن يقف على كثافة الغطاء النباتي وغزارة المياه المحيطة بأصيلا التي كان يغرق فيها من كان لا يحسن السباحة، وتحيلنا هذه المعلومات والمعلومات أوردتها الوثائق الأوربية حول وصول سفن كبيرة حتى مدينة تارودانت لشحن السكر، عن تغير الوجه الإيكولوجي للمغرب، كما يمكن صاحب الحوليات من الوقوف على الحيوانات المفترسة التي كان تخترق المجالات المسكونة بين الفينة والأخرى إذ يروي “تسرب عدد من السباع إلى محيط أصيلا وأنها افترست عددا من الأبقار والخيل” (ص565).

لقد بذل أحمد بوشرب مجهودا كبيرا في ترجمة هذا النص الغني وتعامل معه بشكل يمكن القارئ العربي من تتبع مضامينه بسهولة، فهو يعترف أنه تصرف بعض الشيء في النص من خلال إعراضه على ترجمة عدد من الجمل الاعتراضية التي رأى أنها “تعيق تتبع السرد وفهم النص” كما قفز على الانطباعات والتأويلات التي اعتبرها شخصية و”فقرات عديمة الفائدة التاريخية”. كما تصرف المترجم في عناوين الفصول التي أوردها المؤلف أو ناشر النص بالبرتغالية. وعلى جانب آخر قام المترجم بمجهود جبار في تحقيق السنوات كما طرح مسألة الاختلافات بين النص ونصوص برتغالية أخرى فيما يتعلق ببعض الوقائع والأحداث وضمن هذه الاختلافات في هوامش غنية. وتمكن المترجم لدرايته الواسعة بتاريخ البرتغال من تجاوز عدد كبير من المشاكل التي تهم مسألة المصطلحات ومقابلاتها العربية خاصة فيما يتعلق بالموازين والمكاييل وأسماء السفن والترتيبات الإدارية والعسكرية.

الهوامش:

1- صدر للأستاذ أحمد بوشرب دراسات غاية في الأهمية ومنها على الخصوص ثلاثة كتب الأول بعنوان دكالة والاستعمار البرتغالي ونال به جائزة المغرب للكتاب في العلوم الإنسانية بمجرد صدوره سنة 1984، أما الكتاب الثاني فهو مغاربة البرتغال وهو في الأصل أطروحة لنيل دكتوراه الدولة من جامعة مونبليي أبى المؤلف إلا أن يعربها لإفادة الباحثين العرب في حقل الدراسات التاريخية البرتغالية المغربية ونشر ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1997، ثم ترجمت إلى اللغة البرتغالية سنة 2004، وأما الكتاب الثالث بعنوان دراسات ونصوص عن الغزو البرتغالي للمغرب وجمع فيه دراسات ونصوص كان قد نشرها في مجلات مختلفة ونشر في الدار البيضاء سنة 1999.

- عبد الرحيم بنحادة

23

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.