عبد الحميد احساين، الإدارة المركزية في عهد الحماية الفرنسية (1912-1940) ، منشورات أمل، 2015، (358 صفحة)
يكتسي هذا الكتاب أهمية بالغة ضمن الأبحاث التي تناولت الفترة الاستعمارية من تاريخ المغرب، وذلك لثلاثة اعتبارات. يتمثل الأول في كونه درس الإدارة الاستعمارية الفرنسية التي شكلت القلب النابض والمحرك لنظام الحماية الفرنسية، وبالتالي فهو بحث في روح هذا النظام وما يرتبط به من جوانب سياسية واقتصادية وإدارية وقانونية وذهنية. ويتلخص الثاني في أن عبد الحميد احساين، مؤلف الكتاب، اختار، كما هو شأن قلة من الباحثين، معاكسة التيار العام لكتابات الذاكرة والدراسات التاريخية التي ركزت اهتمامها على الجانب الوطني بتنظيماته وشخوصه وأحداثه، بينما اشتغل هو على الجانب الآخر الاستعماري الذي طالما هُمِّش وسُكِت عنه وما زال يعتبر، لدى البعض على الأقل، “عارا” يجب نسيانه. ويعبر ذلك عن وعي الباحث بأن المشهد التاريخي لهذه الفترة لا يمكن أن يكتمل إلا بدراسة الجانب الآخر وفهمه فهما عميقا وموضوعيا متجردا من أي نزعة وطنية أحادية النظر. إن أخذ العبرة، كما دأبت الذاكرة على التأكيد عليه كواجب لها، يجب أن ينصب على الصفحات “المكروهة” من الماضي وليس “المشرقة” منه فقط. ويتجلى الاعتبار الثالث في أن قراءة الكتاب، والذي في الأصل أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في التاريخ نوقشت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 2005، تبين أن الحاجة مازالت ماسة إلى دراسة التاريخ السياسي، ليس بمعناه الحدثي الكلاسيكي، ولكن بمفهومه الإشكالي الذي يهتم بالبنيات السياسية وعلى رأسها الدولة باعتبارها بنية تتطور عبر الزمن.
يساهم الكتاب في تعميق المعرفة التاريخية بالبنية الإدارية المركزية لنظام الحماية. ويوضح أهم المبادئ التي تأسست عليها وتوجهاتها وأهدافها، كما يبين أهم مؤسساتها وديناميتها الداخلية وتحولاتها، ويبرز انعكاساتها على الدولة والمجتمع المغربيين. ولتحقيق ذلك اعتمد صاحبه على رصيد وثائقي غني وكثيف أغلبه من الأرشيفات الاستعمارية الفرنسية، فجاء غنيا بالمعطيات والمعلومات والتحاليل. لكن ذلك طرح صعوبات في إحداث توازن منهجي ومعرفي بين تمثلات المستعمِر والمستعمَر لهذا النظام، وهي على العموم صعوبات تواجه كل الباحثين في نظام الحماية وبنياته، نظرا لقلة الوثائق المغربية وتركيز الكتابات الوطنية على تطورات العمل الوطني وتنظيماته ومنجزاته، وتحاشيها الخوض في مؤسسات الحماية وأنظمتها الإدارية باستثناء بعض الإشارات القليلة والفضفاضة. لكن تعامله الحذر مع هذا الأرشيف وانفتاحه على العلوم الإنسانية والاجتماعية ذات الصلة بالموضوع مَكَّناه من تذليل هذه الصعوبات إلى حد كبير.
اهتم الكتاب بالأدوار السياسية لهذا النظام أكثر من أدواره الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والدينية، وأولى عناية كبيرة، من الناحية المجالية، للمركز ونخبه المخزنية والوطنية والاستعمارية، ولم يتطرق لامتداداته الجهوية والمحلية، ولم يوضح منظوره لتدبير المجتمع المغربي في الجهات والهوامش، وخاصة فيما يتعلق بالمسألة القبلية. صحيح أن هذا الأمر كان موكولا للإدارة الجهوية والمحلية، لكن هذه الأخيرة لم تكن سوى أجهزة تنفيذية للتوجهات المركزية. وقد عزا الباحث ذلك إلى ضخامة هذه الإدارة وتشعبها وصعوبة الإلمام بها كلها، الأمر الذي دفعه إلى الاقتصار على جوانبها المرتبطة بالشؤون السياسية والأهلية.
قام المؤلف في بادئ الأمر بتأصيل تاريخي بيَّن فيه الإصلاحات التي عرفها المغرب خلال القرن التاسع عشر ومطلع من القرن العشرين، تحت ضغط القوى الاستعمارية الأوربية، والتي مهدت لإقامة هذا النظام الإداري. ومن أبرزها توسيع نظام الوزارة ليشمل خمسة وزارات، هي الصدارة العظمى، وأمانة الأمناء (المالية)، والشكايات (العدلية)، والحربية (الدفاع)، والبحرية (الخارجية). هذا، إضافة إلى إقامة مؤسسات جديدة اقتصادية وسياسية وعسكرية.
وبعد توقيع معاهدة الحماية سنة 1912 أقامت الدولة الحامية نظاما إداريا ضخم البنيات ومتعدد المؤسسات وشاملا لكل المجالات والقطاعات على غرار الأجهزة البيروقراطية التي نشأت وتطورت بفرنسا وأوربا منذ قيام الدولة القومية في العصر الحديث وإلى غاية بداية القرن العشرين. وقد مر ذلك من مرحلتين كبيرتين، كما يستشف من الكتاب، تمتد الأولى على طول فترة وجود ليوطي على رأس الإقامة العامة، وتشمل الثانية فترة ما بعد ليوطي إلى حدود بداية الحرب العالمية الثانية التي توقف عندها الكتاب، دون أن يوضح أسباب الوقوف عند هذا الحد، وهل للأمر علاقة بكون الحماية وصلت أوج قوتها في هذا الزمن وبدأت في الأفول؟ علما أن الإدارة الاستعمارية عرفت بعد هذه الحرب تحولات كبيرة، حيث أصبحت ذات سلطة كبيرة تجاوزت المقيمين العامين أنفسهم، ووصل التوتر في علاقتها بالسلطان والوطنيين إلى أعلى درجاته.
كانت المرحلة الأولى تأسيسية، ولذلك أوضح فيها الباحث مرجعية التأسيس. وقد شكلت معاهدة الحماية التي نصت على إقامة نظام جديد بالمغرب المرجعية القانونية التي قامت عليها الإدارة الجديدة. وقد قام المارشال ليوطي بدور كبير في تأسيس النظام الإداري الجديد، بل وطبعه بطابعه الخاص. وفي هذا الصدد، ركز الكتاب على منجزات ليوطي على أرض الواقع أكثر من تصوراته النظرية التي أسس عليها هذا النظام. ولهذه الجوانب النظرية أهمية كبيرة، خاصة وأن الكتاب اعتمد في كثير من فقراته على المقارنة بين خطاب نظام الحماية وممارساته على أرض الواقع.
هَدَفَ النظام الإداري الجديد والإصلاحات المتتالية التي أدخلت عليه إلى إخضاع المجال المغربي ومراقبته وتدبيره، وتنظيم شؤون الدولة والتحكم في المجتمع، والتسيير العقلاني للموارد المالية وتوفيرها، والتحكم في الثروات الطبيعية، وخدمة عمليات البناء العمراني والتجهيز الحضري وإقامة البنيات التحتية.
وقد حافظ البلد الحامي على الإدارة المخزنية تعبيرا عن احترامه لمقتضيات معاهدة الحماية، لكنه حرص على إعادة تنظيم المخزن والمحافظة على شكله التقليدي، وامتنع عن إدخال إصلاحات عليه تحدث قطيعة مع الماضي، كما عمل على إضعافه وإخضاعه للمراقبة وتجريده من الكثير من الصلاحيات والاختصاصات والوزارات الأساسية التي تُعَد من رموز السيادة المغربية، فأصبح مجرد سلطة صورية بدون صلاحيات حقيقية. وإلى جانبه، أقام جهازا إداريا عصريا استحوذ على أغلب السلطات والصلاحيات الإدارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والدبلوماسية. وكانت على رأسه الإقامة العامة وإدارات للشؤون الأهلية والشريفية والمالية والاقتصادية والتعليمية والأمنية والصحية والثقافية…
كان من الصعب على النظام الجديد الاستغناء عن السلطان بحكم ما نصت عليه معاهدة الحماية، ولكنه عمل على إضعافه والاستفادة من قوته المعنوية باعتباره أميرا للمؤمنين للاستحواذ على السلطة وإضفاء الشرعية على العمل الاستعماري. وقد حرص ليوطي على الإعلاء من شأن السلطان من الناحية الشكلية والبروتوكولية، بالمحافظة على المظاهر والتقاليد والطقوس المخزنية وإحيائها، وإظهار السلطان بمظهر المحافظ على كامل سلطاته. وقد كان مولاي يوسف على العموم منسجما مع هذا الدور وراغبا في تقوية جسور التعاون مع الفرنسيين.
حرصت إدارة الحماية على إبداء الاحترام لأعيان المخزن المركزي ونخبته والتعاون معها وإدماجها واحتوائها في النظام الجديد وإشراكها في الإصلاحات. وقد تجاوبت هذه النخبة، كما جاء في الكتاب، مع ذلك إما رغبة في الإصلاح عن طريق الحماية، أو دفاعا عن المصالح والامتيازات. وكان ليوطي يتعامل مع أعيان المخزن بكثير من الحيطة والحذر، كما أن علاقة هؤلاء مع الإقامة العامة لم تخل في بعض الحالات من بعض التشنج، خصوصا في ظل دفاع بعضهم عن صلاحياتهم وانتقاد بعضهم لسياسة وسلوك الحماية.
عرفت الإدارة المركزية في عهد ليوطي عدة تطورات منذ تأسيسها. فقد اصطبغت بطابع عسكري نتيجة عمليات الاحتلال العسكري للمغرب وظرفية الحرب العالمية الأولى. ولا يعني ذلك إلغاء تاما لدور المدنيين، حيث استعان ليوطي بمهندسين وإحصائيين وخبراء في التدبير المالي والاقتصادي.
حملت فترة ما بعد الحرب تطورات أثرت، حسب الباحث، على وضعيتها، أهمها تصاعد المقاومة المسلحة، وتفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وفقدان المقيم العام لكثير من مساعديه وخاصة من الوهرانيين العسكريين، وتزايد حضور عناصر مدنية تناصر مبدأ الإدارة المباشرة الذي يختلف عن نهج ليوطي، وتضخم حجم الجاليات الأوربية واشتداد ضغطها. وكانت هذه الجاليات تنتقد النهج السلطوي لليوطي ونزعته المحافظة، وترفض نظام الإدارة العسكرية، وتطالب بإقامة نظام مدني على غرار ما كان معمولا به في الجزائر وتونس، وبالمشاركة في اتخاذ القرار والتسيير والحكم وحق الانتخاب وتأسيس نظام برلماني. ودفعت هذه التطورات المقيم العام للقيام بإصلاحات إدارية، هدفت إلى توطيد دعائم النظام الاستعماري، وتقوية سلطات المقيم العام، وإحداث تغييرات سياسية وإدارية تنسجم مع هذه المطالب.
وطيلة وجوده على رأس الإقامة العامة بالمغرب، حرص ليوطي على المحافظة على سلطاته وتقويتها والتحكم في إدارته. لكنه كان يؤمن كذلك بمبدأ القيادة الجماعية والاستماع إلى فريقه واستشارته في اتخاذ القرار، خاصة وأن أغلب أعضائه كانوا ينتمون إلى نفس وسطه الاجتماعي، وكانوا يستهجنون فكرة الإدماج والإدارة الاستعمارية المباشرة ويفضلون مبدأ المشاركة وإشراك النخب المحلية في الإدارة والحكم وإعدادها لتحمل مسؤولياتها مستقبلا، ويتبنون مفهوم السياسة الأهلية الذي يقوم على مراعاة الاختلاف بين الأجناس وتطوير الشعوب المستعمرة لمحاولة إدماجها في النسق الاستعماري وإقناعها بفوائده. وهي على العموم أفكار ليوطي نفسه. ورغم ذلك، وعكس بعض الباحثين الذي أكدوا فكرة الانسجام داخل هذا الفريق، يذهب صاحب الكتاب إلى أن ذلك لم يلغ حدوث بعض التناقضات والخلافات بين أفراده، وقد ظهر هذا التناقض بسبب رغبة ليوطي في إظهار سلطته وتحكمه في كل مفاصل الجهاز الإداري وعجزه في الوقت نفسه عن فرض إرادته وقراراته على أعوانه في مجال السياسة الأهلية.
وفي تقييمه لتجربة ليوطي، استخلص عبد الحميد احساين وجود تناقض بين خطابه المؤيد للإدارة غير المباشرة وبين واقع السياسة الاستعمارية التي مست جوهر نظام الحماية، حيث مارست الإقامة العامة منذ البداية أسلوب الإدارة المباشرة تحت قناع المظاهر البروتوكولية.
ظلت الإدارة المركزية بالمغرب، بعد تنحية ليوطي، وفية لنفس النهج الذي رسمه ورسخه طيلة فترة مسؤوليته بدرجات متفاوتة من مقيم عام إلى آخر. وذلك بسبب اختلاف ميولات هؤلاء وبحكم بعض المتغيرات والتحولات المرتبطة بالسياق العام والدينامية الداخلية لهذه الإدارة وتطور المجتمعين الأوربي والمغربي في هذا البلد.
توجه هذا الجهاز الإداري إلى مزيد من توطيد دعائم الإدارة المباشرة والاستجابة أكثر لمطالب المجتمع الاستعماري الذي ازداد حجمه وقوته، وذلك فيما يتعلق بدعم السلطة البرلمانية. كما تميزت الإدارة المركزية بتزايد العسكريين في صفوفها وإعطاء الأولوية للاستراتيجية العسكرية قصد القضاء على المقاومة المسلحة التي كانت ما تزال نشيطة في كثير من المناطق.
وفضلا عن ذلك، اتسمت الإدارة المركزية في هذه الفترة باستمرار كثير من أعوان ليوطي في ممارسة وظائفهم، كما تم استقدام عناصر ليس لها سابق تجربة أو خبرة في المغرب أغلبهم جاؤوا من الجزائر. غير أن هذه التغييرات في العنصر البشري تمت بشكل تدريجي. وتعاظم دور الموظفين الإداريين، وخاصة الذين كانوا على رأس الهرم الإداري، وانخرطوا في الصراعات الحزبية والسياسية والإيديولوجية. وأصبح الموظفون الكبار أكثر أهمية وحاولوا فرض آراءهم وتصوراتهم، واتسعت رقعة التناقضات فيما بينهم ومع المقيمين العامين. وكانت هذه الخلافات ذات طبيعة شخصية أحيانا، لكنها كانت تدور كذلك حول النسق الاستعماري والسياسات الاستعمارية وترتبط بالمصالح والأهداف التي كانت تحرك المجتمع الاستعماري، وكانت تعوق في أحيان كثيرة عمل هذه الإدارة.
وقد اتسم الجهاز الإداري في هذه المرحلة باختلال التوازن بين حاجياته وإمكاناته المادية نتيجة لتضخمه. فاتجهت الإصلاحات التي خضع لها نحو تنظيم المصالح بتجميع الإدارات المركزية، وتقليص النفقات المالية عن طرق تخفيض مرتبات الموظفين، الأمر الذي أثار غضبهم، وخاصة الصغار منهم، فانطلقوا في عمليات احتجاجية مدعومين من طرف الأحزاب السياسية والمعمرين ورجال الأعمال.
ولمواجهة آثار الأزمة الاقتصادية لسنة 1929 وإعادة ترتيب الاقتصاد المغربي، أُنشئت إدارة الحياة الاقتصادية. ونظرا لتصاعد مظاهر الاحتجاج الوطني، خاصة بعد صدور ظهير 16 ماي، حلت إدارة الشؤون السياسية محل إدارة الشؤون الأهلية. وقد احتلت هذه الإدارة، التي كانت تدبر الشؤون السياسية والأهلية وتراقب تحركات ومواقف المخزن خاصة من الشبان الوطنيين واتسمت بطابعها السلطوي والقمعي، مركز الصدارة في الجهاز الإداري. وكان لها قوة وتأثير ونفوذ كبير على مستوى صنع القرار تجاوز أحيانا المقيم العام.
ويلاحظ عموما، أن الإصلاحات التي عرفتها هذه المرحلة، وخاصة في العشرية الثالثة من القرن المنصرم، نحت نحو إرضاء المجتمع الاستعماري. في حين لم تضع في الاعتبار مطالب الوطنيين في الإصلاح والمشاركة في الحكم والتسيير. وقد أدى ذلك إلى التوتر بين الإدارة والمجتمع المغربي، وبين هذا الأخير والمجتمع الاستعماري.
استمرت الإدارة المركزية عموما على نهج ليوطي في علاقتها مع المخزن. لكن ذلك لم يمنع من حدوث بعض التوترات بينها وبين السلطان. فبعد تزايد خبرته السياسية، وخاصة في آخر عهده، لم يتردد مولاي يوسف في معارضة “السياسة البربرية” وانتقاد الإدارة المباشرة. لكن عهد خلفه محمد بن يوسف هو الذي شهد تغييرا تدريجيا في علاقة السلطان بنظام الحماية من التوافق إلى التوتر في زمن الحرب العالمية الثانية وما بعدها. وقد بدأت إرهاصات هذا التغيير بعد إصدار ظهير 16 ماي الذي شكل مسا بمعاهدة الحماية وسيادة السلطان. فبدأ منذئذ ينسج تقاربا مع الحركة الوطنية الناشئة. وقد قامت هذه الأخيرة بعدة مبادرات وإشارات تروم تحقيق هذا التقارب، من بينها الاحتفال بعيد العرش سنة 1933، وتنظيم احتفالات بمناسبة زيارة السلطان لفاس سنة 1934…
وقد انقسم المخزن إلى تيارين فيما يتعلق بالتعامل مع الوطنيين. دافع الأول على تمتين هذه العلاقة، وناوئ الثاني ذلك ودعا لتحسين العلاقة مع الحماية. وعلى الرغم من حرصه على التقارب مع الوطنيين، ظل محمد بن يوسف حريصا في هذه المرحلة على علاقات جيدة مع الفرنسيين نظرا ضغوطهم الشديدة عليه.
وركز الوطنيون على فكرة الإصلاح ومقاومة الحكم المباشر والمطالبة بشراكة حقيقة مع الفرنسيين في تسيير الشؤون العامة تقليص الموظفين الفرنسيين واقتسام الوظائف والمناصب بين الفرنسيين والمغاربة. وظهر في صفوف الوطنيين تياران فيما يتعلق بفكرة الإصلاح، دافع الأول عن إصلاح البنية السياسية والاجتماعية (علال الفاسي) وشكل الثاني امتدادا لأفكار الحجوي التي دعت إلى الإصلاح الاجتماعي والثقافي (محمد حسن الوزاني).
وأعطت الإدارة الاستعمارية خلال ثلاثينات القرن الماضي الأولوية للسياسة الأهلية بسبب بروز الاحتجاج الوطني والتوتر الذي تصاعد بين المغاربة والمجتمع الاستعماري. وإن كانت في البداية قللت من أهمية الحركة الوطنية ومطالبها الإصلاحية التي استهجنتها ورفضتها، ولم تكن تثق في نوايا الوطنيين وتعتبرهم مجرد خبراء في الاعتراض والاحتجاج ويدافعون عن مصالحهم الخاصة. لكنها بدأت تتخوف من المشروع الوطني، لهذا كانت تدعو إلى استعمال القوة والحزم والمزاوجة بين الأساليب السياسية والقمعية في التعامل مع الوطنيين.
شعرت الحماية بخطرة التقارب بين الوطنيين والسلطان، وخشيت من أن يتسبب ذلك في تقليص قدرتها على التحكم في المخزن. وعملت على إقناع السلطان بالابتعاد عنهم وإثارة حفيظته ضدهم واستعمال المخزن لقمعهم. وقد دفع ذلك الإقامة العامة إلى الاقتداء بنهج ليوطي. وقد شكل نوكيس المثال الأبرز لهذا النهج، وكان أحد تلامذة ليوطي ومساعديه أثناء فترة وجوده على رأس الإقامة العامة. وقد حاول إحياء الوفاق بين الإقامة العامة وبين السلطان وتثبيت أركان الشراكة مع النخبة المخزنية واكتساب ثقتها في مواجهة الحركة الوطنية.
عمل نوكيس على تطبيق إصلاحات تستجيب لبعض حاجيات المغاربة وتنسجم مع مبادئ الاستعمار “الهيومانيستي”. وحاول إعادة تنظيم النسق الإداري، حيث عوض المؤسسات المنتخبة بأخرى معينة، ونجح في إخضاع الإدارات جميعها لمراقبته بالاعتماد على إدارة الشؤون السياسية. وفي مواجهة الحركة الوطنية، زاوج بين الأساليب السياسية والقمعية، وسعى إلى خلق تصدع في صفوف الوطنيين، حيث استجاب لبعض مطالب “المعتدلين” منهم، وسمح لقدماء تلامذة المدارس الفرنسية بعضوية القسم المغربي من مجلس شورى الحكومة.
يستخلص من قراءة الكتاب أن الجهاز الإداري لنظام الحماية قام بدور مزدوج. فمن ناحية، ساهم في تحديث الدولة وأساليب التدبير الإداري للمجال. ومن ناحية ثانية، عمل على تركيز التقليد والحفاظ على الأساليب العتيقة الموروثة عن الماضي. وكان الهدف من هذه الثنائية المتضادة تحسين أساليب استغلال المجال وفي الوقت ذاته ضبطه والتحكم فيه. ولذلك فقد حمل في طياته في نفس الآن عناصر التطوير والتحديث ومعيقاته، ولذلك لم ينتج عنه إلا دخولا جزئيا إلى الحداثة وخروجا محدودا جدا من التقليد. ولعل ذلك من الأزمات البنيوية التي تعاينها الإدارة المغربية الراهنة بل والدولة بصفة عامة. ذلك أنها ورثت كثيرا من خصائصها عن سالفتها الاستعمارية، فهي عصرية في تنظيماتها ومؤسساتها من الناحية الشكلية، ولكنها في الوقت نفسه عتيقة وتقليدية في عقليات القائمين عليها وفي علاقتها مع المجتمع. وربما كان ذلك جزءً من العطب الذي يعرفه المغرب منذئذ، حيث ظل يعيش انتقالا صعبا وغير منتهٍ بين التقليد والحداثة.
مقالة جيد تضعنا أمام محتوى الكتاب بشكل مقتضب و مركز
شكرا لصاحب الكتاب و شكرا لكاتب المقالة