Jan-Werner Muller, What is Populism? University of Pennsylvania Press, 2016, 123 p.
في ندوة نظمتها كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية سنة 1967 حول مفهوم الشعبوية، اختلف الأكاديميون المشاركون في الندوة حول تعريف المفهوم بين من اعتبر الشعبوية إيديولوجيا، ومن رأى فيها حركة سياسية، ومن سماها متلازمة، ومن اعتبرها نتيجة منطقية للتحولات الاجتماعية والبنيوية للحداثة، ومن شدد على اختلاف السياقات الوطنية التي تجعل الشعبوية تعني شيئاً مختلفاً في كل بلد على حدة. وفي تقديمهما للكتاب الذي تضمن أشغال الندوة، أكد إرنست غيلنر وغيتا إيونسكو بأن ثمة غموضاً يحيط بمفهوم الشعبوية، فهو مفهوم صعب التحديد ومتلون على حد تعبيرهما، إذ أنه يأتي ضمن استعمالات مختلفة بل ومتناقضة، ويتساءلان: هل يعبر مصطلح الشعبوية عن وحدة مفاهيمية ما، أم أنه اسم يشمل تيارات غير مرتبطة فيما بينها1. وبعد مرور نصف قرن على انعقاد تلك الندوة، لا زالت هذه التساؤلات ذات راهنية، ولا زال مفهوم الشعبوية يُستعمل لوصف ظواهر سياسية مختلفة.
من هنا يستمد كتاب جان فيرنير مولر “ما الشعبوية؟” أهميته؛ فهو محاولة منهجية للإجابة على سؤال المفهوم خاصة في سياق التطورات العالمية الراهنة. يبدأ الكتاب بالإشارة إلى عدد من المعاني والاستعمالات التي يحيل إليها مصطلح الشعبوية. فمن جهة، هي ترمز لكل من / أو ما هو ضد المؤسسات بغض النظر عن المحتوى الإيديولوجي. ومن جهة أخرى، عادة ما يتم الربط أيضاً بين الشعبوية ومشاعر الغضب والخيبة تجاه النخب. ويستعمل مصطلح الشعبوية لوصف حركات سياسية مختلفة من بوديموس في إسبانيا إلى اليمين النمساوي المتطرف بزعامة يورغ هايدر، ومن برلوسكوني في إيطايا إلى المرشح الرئاسي الاشتراكي الأمريكي بيرني ساندرز، ومن لوبان في فرنسا إلى إيفو موراليس في بوليفيا، ومن تشافيز في فينيزويلا إلى حزب سيرايزا في اليونان. لا غرابة إذن أن يعنون مولر مقدمة كتابه بـ “هل الجميع شعبويون؟”. إن الاستعمال الواسع لمفهوم الشعبوية بهذا الشكل يدل حسب مولر على أننا نعاني من عجز في الحكم والتمييز في الحقل السياسي وفي النظرية السياسية. وهو ما يدل في المحصلة على أننا لا نتوفر على نظرية محددة للشعبوية ولا نملك معايير واضحة تخول لنا استعمال مصطلح الشعبوية بشكل مفيد وذي معنى.
فإلى جانب الاختلافات بين السياقات الوطنية (كالتناقض الصارخ بين الإيحاءات الإيجابية للشعبوية وعلاقتها بالليبرالية في الولايات المتحدة من جهة، والمعاني السلبية المرتبطة بنفس المفهوم في السياق الأوروبي من جهة أخرى)، ثمة تطورات وحيثيات تزيد مسألة التعريف تعقيداً مثل صعود حركتي “حفلة الشاي” و”احتلال وولستريت” في أعقاب الأزمة الاقتصادية لسنة 2008. أضف إلى ذلك أن صفة الشعبوية تستعمل أحياناً لانتقاد طرف سياسي ما بينما، هي صفة يفتخر بها البعض الآخر.
من خلال الإشارة إلى هذه التناقضات وإلى الاستعمال الفضفاض لمصطلح الشعبوية، يتبين أن الهاجس الأساسي للكاتب هو محاولة التحديد المفاهيمي، ولذلك يمكن اعتبار الكتاب مساهمة في النظرية السياسية. ويتضح أيضاً أن فهم مولر للشعبوية يقتصر إلى حد كبير على السياق الأوروبي، ويبدو ذلك خاصة من خلال الأمثلة التي يركز عليها، وهي في الغالب من دول أوروبا الوسطى (مثل هنغاريا وبولونيا والنمسا)، بينما يتغاضى كلياً عن الدول الأسيوية والافريقية، ونادراً ما يشير إلى أمثلة من دول أمريكا اللاتينية.
يحدد مولر خاصيات المنطق الشعبوي في ثلاثة عناصر: أولاً، الشعبوية معادية للنخب، ويعود ذلك إلى الاعتقاد بأن المسلسل الديموقراطي والمؤسسات قد حُرِّفا بشكل يخدم فقط مصالح هذه النخب ويقصي فئات الشعب. هذا لا يعني أن كل من ينتقد النخب هو شعبوي بالضرورة، لكن انتقاد النخب بالنسبة لمولر شرط أساسي لكي نطلق تسمية الشعبوية على أية حركة أو شخصية أو حزب ما. ثانياً، تنفي الشعبوية التعدد، أي، إن الشعبوي يملك تصوراً موحداً وأوحد للشعب، وكل من لا يتفق مع هذا التصور أو يعادي الزعيم الشعبوي فهو ليس جزءاً من الشعب. ولذلك فإن القناعة المحورية لدى الشعبويين هي الاعتقاد بأنهم هم فقط من يمثل الشعب الحقيقي الخالص. يؤكد مولر بأن فكرة الشعب في التصور الشعبوي هي ذات طبيعة أخلاقية ومتخيلة، وليست تجريبية أو محسوسة. فقد يتكون الشعب من مواطنين بالولادة، لكنهم لا يمثلون جزءاً حقيقياً من الشعب الموجود في أذهان الشعبويين. ثالثاً، ما تعنيه هذه الرؤية الإقصائية للسياسة والهوية هو أن الشعبوية تصبح منافية للديموقراطية وتشكل خطراً عليها، لأن الديموقراطية بحاجة للتعدد. وإذا كان البعض يعتقد بأن الشعبوية تشكل فرصة لتصحيح مسار الديموقرطية عبر محاولة إشراك أوسع للشعب، فإن هذه العناصر الثلاثة تبين حسب مولر بأن الشعبوية ليست تصحيحاً للمسار الديموقراطي، بل هي بمثابة الظل الدائم والملازم للنظام الديموقراطي والخطر الداهم الذي يمكن أن تنزلق نحوه الديموقراطية في أية لحظة.
يمر مولر بعد ذلك إلى تفنيد بعض التفسيرات الشائعة للظاهرة الشعبوية أو ما يسميه بالطرق المسدودة. ويرى بأنها تفسيرات فضفاضة وغير مفيدة في تحليل الظاهرة الشعبوية. وأول هذه المآزق هو الاتهام الشائع للشعبوية بأنها غير مسؤولة في سلوكها السياسي. فيتساءل مولر: ما هي المعايير لتحديد ما إذا كانت مقولة أو سياسة أو حركة ما مسؤولة أم لا، ومن يقرر هذه المعايير؟ المأزق الثاني هو الحكم على الشعبوية بأنها ترتبط أساساً بالطبقات الدنيا ذات المستوى الثقافي والتعليمي والاقتصادي المتدني والتي تعبر عن غضبها وخيبتها من الإقصاء من طرف النخب. يرى مولر بأن هذا الربط غير صحيح، لأن الأحزاب الشعبوية تلقى الدعم والتأييد من الطبقات الميسورة اجتماعياً والمتعلمة أيضاً. ويذهب مولر إلى أنه طرح نابع في الأصل من نظرية التحديث التي يرفضها كتفسير للصعود الشعبوي، فهو طرح يقول بأن ما يحرك الفئات الداعمة للتيارات الشعبوية هو القلق والخوف من عجلة التحديث التي تجهز على نمط العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التقليدية لفترة ما قبل الحداثة ونسقها القيمي والأخلاقي. يعزو مولر هذا التحليل الطبقي إلى كون أولى الحركات المسماة شعبوية (أي في روسيا والولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر) هي حركة مزارعين وفلاحين. كما أن اعتماد هذا الطرح على مصطلحات مستقاة من القاموس الشعوري والنفسي مثل الغضب أو الخيبة أو عدم الرضا لتفسير الشعبوية يعبر عن نظرة تحقيرية متعالية ترى في جماهير الشعبوية أفراداً ضعافاً غير قادرين على الفعل، بل فقط على رد الفعل. أضف إلى ذلك أن هذا النوع من التحليل النفسي حسب مولر يؤكد صدقية الاتهام الذي يوجهه الشعبويون للنخب بأنها متعالية عن الشعب وعاجزة عن الإحساس بما يعيشه الإنسان العادي والبسيط، وهي بذلك تخون نفس المبادئ الديمقراطية التي تتغنى بها. والمأزق الثالث هو اعتبار تسمية حركة ما لنفسها بالشعبوية معياراً لإطلاق هذا الاسم عليها. وهو ما يتبين بوضوح من خلال حركتي المزارعين في روسيا والولايات المتحدة أواخر القرن التاسع عشر، واللتين أطلقتا على نفسيهما تسمية الشعبوية. ويضيف متسائلاً: “لماذا لا نعتبر النازية حركة اشتراكية ما دام أنها تسمي نفسها اشتراكية وطنية؟”
بعد تحديد هذه المآزق التحليلية، يمر مولر إلى اقتراح تعريف أولي للشعبوية. يعرف مولر الشعبوية بأنها تصور أو متخيل أخلاقي للحقل السياسي، ينبني على تعارض بين مفهوم للشعب كوحدة أخلاقية نقية أو خالصة، لكنها في نهاية المطاف متخيلة وغير حقيقية، وبين نخب فاسدة ومنحطة في الميزان الأخلاقي. ولذلك فإن العنصر الأساسي أو الضروري لكي نصف أحداً بالشعبوي ليس فقط التحدث باسم الشعب أو استعمال خطاب يمجد الشعب، بل هو الزعم بأن جزءاً من الشعب هو فقط من يعبر حقيقة عن الشعب وإرادته، وبأن الزعيم أو الحزب الشعبوي هو من يمثل هذه الإرادة.
يتوقف هذا التمييز الأخلاقي بين شعب نقي ونبيل ونخب منحطة وفاسدة على مجموعة من الثنائيات التي يلجأ إليها الخطاب الشعبوي، مثل ثنائية العمل والفساد؛ فالشعب يعمل ويكِد بينما تعيش النخب عالة على الشعب وتثري باستغلال جهده. وهناك أيضاً ثنائية الوطني ابن الأرض وعميل الخارج، وثنائية النقاء والفساد. وقد تستدعي الحاجة أحياناً لاستعمال ثنائيات عرقية، ولذلك فليس مستغرباً أن يتلون الخطاب الشعبوي بالشوفينية العرقية والعنصرية أو بنظرية المؤامرة.
يخصص مولر الفصل الأول أيضاً للتفصيل في التصور الشعبوي لمفهوم الشعب. وهو تصور يؤمن بأن الشعبوي هو وحده من يمثل الشعب، لأنه وحده من يعرف ماذا يريد الشعب ومن هو الشعب الحقيقي الخالص. يرى الشعوبيون بأن ثمة تصوراً واضحاً وبسيطاً للمصلحة العامة وبأن الشعب يعرف هذه المصلحة وأن الحزب أو السياسي الشعبوي هو القادر والمخول لسن السياسات الكفيلة بتحقيق أهداف ذلك التصور. هنا يؤكد مولر مرة أخرى بأن الشعب لدى الشعبويين هو فئة متخيلة موحدة موجودة خارج تفاصيل أو ضرورات الحركية الديموقراطية. ويعبر المفكر الألماني كارل شميت عن هذا المنطق حين يقول إن الفاشية قد تستطيع بلورة المثل الديموقراطية وتحقيقها بشكل أفضل من الديموقراطية نفسها. ولذلك فإن ما قد يبدو لأول وهلة وكأنه دفاع عن إرادة الشعب ليس في الواقع دعوة لمشاركة حقيقية وفعالة للشعب، بل هو ادعاء بأن الزعيم الشعبوي يعرف ما يريده الشعب، وبذلك يصبح المحدد الرئيسي ليس هو الشعب من خلال نسب الأفراد الداعمين أو المصوتين لهذا الزعيم أو ذاك، بل الشعب كفكرة رمزية متخيلة توجد في ذهن الشعبوي ويقررها هو. ويتصور الزعيم الشعبوي بأن الشعب يتحدث بصوت واحد ويمنحه تفويضاً لفرض سياسات معينة عندما يصل إلى السلطة. وبالتالي فلا مجال هناك للنقاش والاختلاف والتداول داخل المؤسسات التمثيلية. ثم يُذَكر مولر بأن ما تبينه الأبحاث في العلوم السياسية هو أن التصور الموحد والكامل لفكرة الإرادة الشعبية أسطورة أو خرافة لا وجود لها في الواقع.
وإذا كان الشعبويون يرتبطون في النقاش السياسي بالمعارضة والهجوم على النخب، فكيف يكون سلوكهم عندما يصلون إلى لحكم؟ يخصص مولر الفصل الثاني للإجابة على هذا السؤال، ويؤكد في البداية بأن إحدى أهم سمات السلوك الشعبوي في الحكم هي اللجوء إلى تأجيج الصراع والاحتقان، وإضفاء طابع أخلاقي رمزي على الصراع السياسي، وذلك بالاعتماد على حجج مبنية على نظرية المؤامرة ووجود قوى متحالفة ضد الشعب وزعمائه الشعبويين. لذلك يستفيد الشعبويون من خلق وضع سياسي يعاني من أزمة دائمة يتم فيها باستمرار استحضار الثنائيات السالفة الذكر.
ويحدد مولر هنا ثلاثة أساليب يلجأ إليها الشعبويون في السلطة. أولاً، احتلال أجهزة الدولة بتمكين الموالين لهم من مناصب هامة في الأجهزة القضائية والصحافة وغيرها، ويتم ذلك دائماً باسم الشعب. ثانياً، الزبونية على نطاق واسع، أي، إسداء خدمات وأفضال لقاء الحصول على الدعم السياسي. يعمد هنا الشعبويون أيضاً إلى التمييز في تطبيق القانون، وذلك بمنطق “لأصدقائي كل شيء، ولأعدائي القانون”. ثالثاً، التضييق على المنظمات غير الحكومية وهيئات المجتمع المدني التي لا تساند الخط الشعبوي أو تنتقده.
تطرح هذه الممارسات الثلاث للحكومات الشعبوية أسئلة مقلقة حول حقيقة علاقة الشعبوية بالديموقراطية وعن حجم المسافة التي تفصلها بالسلطوية أو الديكتاتورية. هنا يؤكد مولر بأنه رغم محاولة الشعبويين الحفاظ على صورتهم الديموقراطية، إلا أنهم يشكلون خطراً على الديموقراطية في حد ذاتها. ويناقش في هذا السياق طرح الباحث السياسي الهولندي كاس مودا الذي يصف الشعبوية بالديموقراطية غير الليبرالية، وهو مصطلح بدأ استعماله في التسعينيات لوصف الحكومات التي تحافظ على الديموقراطية في أشكالها الظاهرية الأساسية كالانتخابات، لكنها لا تحترم القانون وتجمد آليات المراقبة والتوازن الدستوري المؤسساتي الذي تتميز به الديموقراطيات القوية. وقد صعدت هذه الأنظمة للحكم بعد سقوط المعسكر الشيوعي، فحظيت بسند شعبي هام، لكن سرعان ما بدأت في التضييق على الحريات المدنية والحقوق السياسية. فما تبينه هذه التطورات هو أن الاعتقاد بتلازم حكم الأغلبية مع تطبيق القانون هو اعتقاد خاطئ، مما يعني، حسب مودا، أنه بجانب الديموقراطية كشكل، يجب تقوية القيم الليبرالية، خاصة في مجتمعات غير متشبعة بهذه القيم الضامنة للحريات المدنية وحكم القانون والمؤسسات.
لكن مولر يرى بأن هذا الفصل بين الديموقراطية والليبرالية غير صحيح، لأنه لا يمكن الفصل بين الديموقراطية من جهة، وبين سلطة القانون وحماية الحقوق المدنية والسياسية والإعلام الحر من جهة أخرى، لأنها هي التي تضمن التداول السلمي على السلطة. كما يلاحظ بأنه لا مانع لدى السياسيين الشعبويين في بولونيا وهنغاريا مثلاً أن يوصفوا بديموقراطيين غير ليبراليين، خاصة إذا كانت الليبرالية قد اقترنت في تجربة تلك البلدان بالنخب الفاسدة التي اغتنت على حساب الشعب. لذلك يرى مولر أنه يجب الحذر من استعمال توصيفات مثل الديموقراطية غير الليبرالية، لأن الشعبوية رغم أنها وصلت إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، إلا أنها في نهاية المطاف تشوه أو تحرف المسار الديموقراطي.
ويرفض مولر أيضاً وصف الشعبوية بالسلطوية أو الديكتاتورية، لأنه مازال ممكناً في هذه البلدان تأسيس أحزاب والكتابة والنشر على مواقع الانترنت مثلاً. لذلك يرى بأنه ربما أصبح من الضروري التفكير في توصيف جديد للسلوك الشعبوي، ويقترح في هذا السياق مفهوم الديموقراطية الناقصة أو المختلة، فهي ديموقراطية أصابها خلل وتحتاج إلى إصلاح، لكن لا يمكن تشبيهها بالديكتاتورية.
إذا كانت الأحزاب والحركات الشعبوية تضر بالنظام الديموقراطي، فلماذا إذن، يتساءل مولر، تحظى بدعم الجماهير؟ هل يعني ذلك أن هؤلاء الملايين من الأفراد هم أنفسهم ذوو شخصيات سلطوية استبدادية؟ يتناول مولر هذا السؤال في الفصل الثالث والأخير من خلال ثلاثة محاور: أولاً، تستمد الشعبوية جاذبيتها مما يمكن تسميته بالوعود المنقوضة للديموقراطية. ثانياً، تقدم الشعبوية جواباً أو حلاًّ سهلاً للسؤال المؤرق والمزمن، وهو: من هو الشعب؟ وهو السؤال الذي لا تملك الديموقراطية الليبرالية له جواباً. ثالثاً، يحاول مولر الإجابة عن سؤال جاذبية الشعبوية من خلال تقديم نبذة تاريخية عن بعض التطورات السياسية والمؤسساتية في السياقين الأوروبي والأمريكي، وهي التطورات التي بدا وكأنها تقوض مبدأ التمثيلية، فشكلت بذلك عنصراً مساعداً لصعود الشعبوية.
يذكر مولر في تحليله بأن تعريف الديموقراطية في حد ذاته يقدم وعداً بأنها “حكم الشعب”، لكن في التطبيق من الصعب تحقيق ذلك بشكل كلي أو مباشر كما قد يخيل للمرء، رغم أن فكرة قدرة الجماهير على التحكم في مصيرها هي فكرة جذابة. ويستحيل تطبيق هذا المبدأ بشكله المبسط لأسباب عديدة. يشير مولر في هذا السياق إلى عدد من الفوارق بين الديموقراطية والشعبوية. فبينما تنظر الديموقراطية إلى الشعب كجماعة أفراد هم في نهاية المطاف ليسوا إلا أرقاماً ونسباً في الانتخابات، ترى الشعبوية شعباً واحداً ذا تصور واحد. وبينما لا تنظر الديموقراطية إلى القرارات والسياسات بمعيار الأخلاق، ترى الشعبوية بأن أي شيء خارج الحزب أو الحركة الشعبوية هو فاسد ومناف للأخلاق. وبينما تخضع طروحات السياسي الديموقراطي لمبدأ الخطأ والصواب من خلال الممارسة المؤسساتية الاعتيادية، لا يمكن أن تتعرض طروحات الشعبوي للدحض أو التكذيب، لأنها لا تستند في ذهن الشعبوي إلى أسس تجريبية محسوسة، بل إلى أسس رمزية وأخلاقية غير قابلة للتفنيد. وبينما تعتقد الشعبوية بأن الحزب أو الزعيم يعبر عن الشعب بكامله كوحدة أخلاقية، ترى الديموقراطية أن ذلك شيء مستحيل حتى لو توفرت الأغلبية المطلقة.
فعدم قدرة الديموقراطية على الإجابة على سؤال التمثيلية الشعبية المباشرة هو عَرَض مزمن في الديموقراطية يستغله الخطاب الشعبوي. لكن هناك ما يتعلق أيضاً بتطورات وسياقات سياسية وتاريخية معينة جعلت مبدأ التمثيلية يتعرض للإضعاف. ويعتقد مولر بأن المشكل ليس ناتجاً عن غياب الديموقراطية كنظام، بل عن أزمة الديموقراطية داخل الأحزاب، والتي تبقى الآلة المحورية في العملية الديموقراطية. وقد كشفت أبحاث عدة بأن الشعبوية تتقوى في الأماكن التي يكون فيها النظام الحزبي في حالة ضعف (مثال برلوسكوني في إيطاليا التسعينيات). ويقوض ضعف الديموقراطية داخل الأحزاب مبدأ التمثيلية، وهو ما يعطي الانطباع للفئات الشعبية بأن النظام الديموقراطي ككل لم يعد يمثل إرادة الشعب.
ثم يضيف مولر إلى ذلك نبذة تاريخية مهمة في السياق الأوروبي لشرح أسباب ضعف التمثيلية. ويرى بأنه بعد الحرب العالمية الثانية، وبسبب تجربة التيارات الفاشية التي صعد بعضها عبر صناديق الاقتراع، كان هناك توجس وتخوف طبع النخب السياسية والقانونية إزاء النتائج الكارثية التي يمكن أن تقود إليها الإرادة الشعبية. ولذلك فمن أجل الحد من هذه الإمكانية، عَمَد رجال القانون والسياسة بعد الحرب العالمية الثانية إلى بناء نظام سياسي يُلجِم هذه الدينامية الشعبية من خلال السعي إلى تجزيء السلطة السياسية وسن آليات رقابة وفرض توازنات معينة بين المؤسسات، بل وفرض مؤسسات غير منتخبة لا تحتكم إلى الصناديق كالمحاكم الدستورية. يضاف إلى ذلك دور مؤسسات الاتحاد الأوروبي التي راكمت قيوداً تتجاوز سيادة الدولة الوطنية. ذلك أن محاولة تقييد الإرادة الشعبية بهذه التدابير كان سببه التخوف الناتج عن تجربة الفاشية وزخمها الشعبي في أوروبا ما بين الحربين، لكن ذلك ساهم في إعطاء الانطباع بأن المؤسسات لم تعد تمثل الشعب، وهو ما ساهم بدوره في تقوية البديل الشعبوي، بل إن مولر يضيف بأن الموجة الشعبوية الحالية نفسها، ليست نتيجة للأزمة الاقتصادية في حد ذاتها؛ فالأزمات الاقتصادية لا تنتج دوماً موجات شعبوية بالضرورة، بل إن العامل المحدد فيها هو المقاربة النخبوية التقنوقراطية التي اتخذتها الحكومات لمعالجة الأزمة.
يكتسي كتاب مولر أهمية بالغة ليس فقط لأنه دليل مفيد للقارئ لفهم الظاهرة الشعبوية الراهنة بمختلف تجلياتها خاصة في السياق الأوروبي، بل هو أيضاً محاولة جادة للتأسيس النظري لمفهوم الشعبوية، وهو يشكل بذلك مساهمة مهمة في النظرية السياسية. فتركيز مولر على خصائص معينة للشعبوية يُكسِب الكتاب دقة وقوة نظرية عندما يتعلق الأمر بالديموقراطيات الأوروبية، لكنه يطرح تساؤلات عدة. فإذا كانت الشعبوية ظلاًّ ملازماً للديموقراطية وتعبيراً عن أزمة التمثيلية، فكيف يمكننا الحديث عن الشعبوية في الأنظمة غير الديموقراطية مثل الدول العربية؟ وأية قيمة للمحددات الثلاثة للشعبوية التي أوردها مولر، أي، معاداتها للنخب والتعدد والديموقراطية، داخل هذه الدول؟ هل يمكننا الحديث عن صلاحية بعض العناصر في هذه السياقات المختلفة وعدم صلاحية أخرى؟ هل يقودنا هذا إلى الحديث عن نسخ متعددة للشعبوية أو عن أساليب مختلفة للخطاب الشعبوي؟ يشير مولر نفسه في نهاية الفصل الثاني إلى “درجات الشعبوية” دون أن يفصل فيها. هل يمكن الحديث عن الشعبوية كأسلوب ينتقي منه الشعبوي عناصر دون أخرى بشكل يشبه الانتقائية التي وصفها أمبرطو إيكو في مقاله الشهير عن عناصر الفاشية2؟
من أهم النقاشات التي يساهم كتاب مولر في إثارتها، والتي هي أيضاً ذات راهنية في السياق المحلي، هي مفهوم الشعب نفسه الذي هو أصل الاشتقاق في مفهوم الشعبوية. وتجدر هنا الإشارة إلى نقطتين أساسيتين: أولا، يؤكد مولر على أن الشعبوية تصور أخلاقي للحقل السياسي يكون فيه الشعب صورة متخيلة تخول للشعبوي إدراج هذه الفئة أو تلك أو إقصاءها من الشعب. ولا شك أن لهذه النقطة أهمية على المستوى المحلي في النقاشات حول الهوية الوطنية وما يعنيه أن تكون مغربياً، وكيف تحضر هذه التمثلات في الاحتقان المصاحب لحركات احتجاجية مثل حراك الريف. ثانيا، يخصص مولر حيزاً هاماً من الفصل الثالث للتأكيد على ضرورة الحوار مع الشعبويين والإنصات لجمهورهم وعدم معاملتهم بدونية واحتقار، وهو ما يستلزم أيضاً محاولة فهم السياقات التي تدفع بالجماهير إلى الارتماء في أحضان الحركات الشعبوية، وهو تنبيه مهم في سياق مآلات الربيع العربي، خاصة وأن هذه المآلات السلبية في عدد من دول الربيع قد أدت بالعديد من النخب إلى تغليب الرأي القائل بأن الجماهير ميالة دائماً للعاطفة والعنف. فأحد المؤشرات المثيرة للاهتمام على هذه النظرة الدونية في الدول العربية هي الشعبية التي أصبح يتمتع بها في السنوات الأخيرة كتاب “سيكولوجية الجماهير” الذي صدر منذ أكثر من قرن للمفكر الفرنسي غوستاف لوبون، وهو كتاب يؤكد على النوازع العاطفية والغرائز اللاعقلانية والتدميرية للجماهيرـ وهي رؤية لا تخلو من التبسيط، وتؤدي في نهاية المطاف إلى نفس النظرة التحقيرية والمتعالية التي يحذر منها مولر3.
————————-
الهوامش:
(1) GhitaIonescu and Ernest Gellner, eds. Populism: Its Meanings and National Characteristics. Macmillan 1969.
(2) يحدد إيكو أربع عشرة خاصية للفاشية والتي لا ترقى لأن تشكل نسقاً إيديولوجياً موحداً، إذ إن بعضها يتناقض مع البعض الآخر، لكنها خصائص ينهل منها الخطاب الفاشي بشكل انتقائي، بحيث يمكن أن تكون الفاشية دينية مثلاً (مثل أصولية فرانكو الكاثوليكية)، ويمكنها أن تكون وثنية (كما هو الحال في النازية الألمانية).
Umberto Eco, “Ur-Fascism. ”The New York Review of Books.22 June 1995. http://www.nybooks.com/articles/1995/06/22/ur-fascism/
(3) رغم أن كتاب “سيكولوجية الجماهير” قد صدر سنة 1895، وتلته انتقادات عديدة منذ مراجعة سيغموند فرويد لنظرية لوبون سنة 1921، من المثير للانتباه ملاحظة شعبية كتاب لوبون على مواقع التواصل الاجتماعي في الدول العربية، وكذلك توالي الطبعات العربية للكتاب، حيث صدرت منذ سنة 2011، أي سنة الربيع إلى اليوم أكثر من ست طبعات. كمثال على استعمال كتاب لوبون للتعبير عن نظرة دونية للجماهير تبرر في نفس الوقت النخب الحاكمة في الدول العربية، انظر: رجاء العتيبي، “سيكولوجية الجماهير”، 13 فبراير 2018.
http://www.al-jazirah.com/2018/20180213/ar7.htm