Jan-Werner Muller, What Is Populism? University of Pennsylvania Press, 2016.
يان فيرنير مولر، ما الشعبوية؟ (ترجمة رشيد بوطيب)، منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، قطر، 2017.
صدر ليان فرنير مولر كتابه ما الشعبوية؟ باللغة الانجليزية سنة 2016، وترجم إلى العربية والفرنسية في السنة الموالية. ومولر ألماني الجنسية ازداد سنة 1970، يشتغل أستاذا للعلوم السياسية في جامعة برنستون حاليا، وقبلها درّس في الجامعة الحرة ببرلين وأوكسفورد في بريطانيا. نشر كتابات أهمها الطعن في الديمقراطية: أفكار سياسية في أوروبا القرن العشرين الذي صدر سنة 2011، يتحدث عن التيارات السياسية التي عاشتها أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى على غرار الشيوعية والفاشية والتي عارضت الديمقراطية ليست كأفكار تقليدية ما قبل حداثية، ولكن باعتبارها تقدم بدائل متميزة عن الليبرالية للتعبير عن الشعب وهويته، وهي الفكرة ذاتها التي يطورها في معالجته للشعبوية في الكتاب قيد المراجعة. خصّص أيضاً سلسلة من المقالات نشرها في المجلة الأمريكية المتخصصة في مراجعة الكتب New York Review of Books ما بين 2014 و 2017 حول اليمين المتطرف في أوروبا في كل من بولونيا، هنغاريا وألمانيا، وهذه الدول تشكل نماذج محورية للشعوبية في كتابه الأخير.
يشير كتاب مولر إلى قائمة طويلة من نماذج وحالات الشعبوية عبر العالم تلتقي في أنها ظاهرة مرتبطة بأنظمة ديمقراطية، وأنها، سواء من خلال أدبياتها أو تصريحات زعمائها، تعتبر أن الشعب وحدة واحدة منسجمة، وأنها هي التي تعبر عنه في جوهره دون غيرها، وهي لذلك تعادي التعددية باعتبارها متنافية مع فكرة الوحدة التي يتبناها الشعبويون. يلتقي هؤلاء أيضاً في عدائهم للنخبة القائمة سواء كانت منتخَبة أو غير منتخَبة، كما هو الأمر بالنسبة للتقنوقراطيين أو القضاة، إذ إنها جميعها بالنسبة لهم ليست إلا جماعة متحكِّمة في آليات السياسة والاقتصاد، وأنها فاسدة ومنفصلة عن الشعب في حقيقته.
انطلاقاً من هذه الخصائص، يستثني مولر العديد من الحالات التي اعتبرتها كتابات حول الموضوع مظاهر للشعبوية. يرى أن حركة الفلاحين في أمريكا في تسعينيات القرن التاسع عشر، أو حركة ناروندنيكي الروسية في نفس الفترة ليست شعبوية بالرغم من أنها سمت نفسها بذلك، لأنها لم تكن تتحدث إلا باسم الفلاحين دون غيرهم من الشرائح وليس باسم الشعب ككل، سواء الأمريكي أو الروسي. وهو يميِّز النازيين عن الشعبويين، لأن هؤلاء لا يمجدون العنف، ولا يعتنقون إيديولوجيا صلبة ذات محتوى سياسي قار بقدر ما ينادون بمواقف ذات نبرة أخلاقية، ولا يربطون تعريفهم للشعب بعرق محدد، كما أنهم لا يتبنون الزعامة كمبدأ. والشعبويون يتميزون عن اللينينيين، لأنهم وعلى عكس الشعبويين، لا يعتبرون أن الشعب يتمتع بإرادة نقية صافية ومعصومة من الخطأ.
بالرغم من صعوبة الاتفاق مع كل التفاصيل التي يقدمها مولر لحصر الشعبوية في حالات دون غيرها، أو لضبط مدى تطابق مفهومه مع المعطيات الأمبريقية القابلة لتأويلات متعددة على غرار ربط الشعب بعرق محدد في حالة شعبويات اليمين المتطرف في أوروبا الشرقية وفي فرنسا، أو عدم تبنيها مبدأ الزعامة في حالة تشافيس في فنزويلا، أو المقصود بالإطار الأخلاقي مقابل المحتوى السياسي لمشاريعها بالنسبة للرئيس الأميركي ترامب، فإن ذلك لا يمنع من التركيز على المساهمة الرئيسة لكتاب مولر. تكمن هذه المساهمة في طموحه لصياغة مفهوم دقيق للشعبوية يبرزها كظاهرة سياسية متفردة عن غيرها من الظواهر السياسية، ويزيل الغموض الذي ينتاب المقاربات السابقة لها. ويركز مولر على كون الشعبوية قد ارتبطت بالديمقراطية في سياق تاريخي خاص، وهو الأمر الذي جعلها تتميز عن التيارات السياسية المعارضة للديمقراطية أو المنافسة لها. فليست كل التيارات المعادية أو المنتقدة للديمقراطية شعبوية، وليست كل التيارات التي تتحدث باسم الشعب أو حتى تلك التي تسمى نفسها شعبوية هي فعلاً كذلك، وليست كل التيارات أو الزعامات التي يتم وصفها بأنها شعبوية هي كذلك. إن الشعبوية وعلى خلاف غيرها من التيارات السياسية تعارض الديمقراطية من قلب فكرة الديمقراطية نفسها، ولذلك فهو يعتبرها الظل المرافق للديمقراطية، باعتبارها تمثل التعبير الحقيقي للشعب وليس من خلال النخب الفاسدة المنفصلة عن هذا الشعب التي تفرزها الانتخابات. ويظهر من أمثلة مولر أن الفترة التي تبرز فيها الشعبوية بخصائصها المميزة هي فترة ما بعد الحرب الثانية.
يدعو مفهوم مولر في هذا السياق إلى تجنب قراءة الشعوبية انطلاقاً من مفاهيم غير مضبوطة، وعلى ضوء سياقات سابقة لا تنطبق على الوضع الحالي فحسب، بل هي تغفل الجوانب العميقة للقوة السياسية التي يتمتع بها الشعبويون اليوم، والمد المجتمعي الواسع الذي يشهدونه في الانتخابات. وتؤدي تأويلات الشعبوية التي تغفل هذه الخصوصيات إلى فهم ناقص للشعوبية، وإلى تبني استنتاجات ذات أبعاد سياسية متنافية مع الديمقراطية كفكرة وكممارسة، وغير صالحة لمواجهة المخاطر التي تواجهها هذه الأخيرة على غرار المطالبة بإقصاء الشعبويين باعتبارهم معادين للديمقراطية.
يضع مولر على رأس قائمة القراءات المشوهة تلك التي لا تعتبر الشعوبية إلا صورة وامتدادا للنازية. وهو يصر على الحاجة للتمييز بينهما ليس فقط لكونهما ظاهرتان مختلفتان، بل لأن النتيجة السياسية لاعتبارهما ظاهرة واحدة تنفي أية مشروعية سياسية للشعبوية وتلغي أي احتمال للاعتراف بها، والتعامل معها، وتدعو إلى اعتبارها خطراً لا يمكن محاربتها إلا عن طريق حصرها عن المشاركة السياسية وإقصائها من النقاش العمومي. وهو يرفض تلك القراءات التي تحللها كحركة رجعية معبرة عن الخوف المحافظ غير العقلاني من التغييرات التي تصاحب التحديث ومن التقويض الناتج عن ذلك لمقومات المجتمع التقليدي وفكره وثقافاته. وحسب هذه القراءة التي تبناها منظرو أطروحات التحديث فإن الشعبوية لا تشكل إلا ظاهرة اجتماعية مرَضية، ومقاومة يائسة محكومة بأن تندحر أمام قوة الحداثة وهيمنتها. إن الشعبوية بالنسبة لمولر لا هي برد فعل مؤقت، ولا هي بامتداد للنازية، بل إنها تعكس سياقات غير مسبوقة تعيشها الديمقراطية كفكرة وكممارسة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والأحداث الكبرى التي تلتها. تبرز ثلاثة سياقات محددة للشعبوية حسب منظور مولر.
يتعلق السياق الأول بالحرب العالمية الثانية وبالإشكال السياسي والفكري الذي طرحته النازية كنقيض للمقومات المؤسِّسة لفكرة الديمقراطية من قلب المؤسسات الديمقراطية نفسها، والتي كانت تتمثل في حالة ألمانيا في جمهورية فايمار. أدت التجربة النازية إلى التشكيك في القناعات التي كانت سائدة حول قدرة الديمقراطية على حماية نفسها بنفسها من مخاطر التيارات والأفكار المعادية للديمقراطية وإلى الاعتراف بالحاجة إلى دعامات إضافية تحصن الديمقراطية من مخاطر أعدائها. وعلى غرار ما كان عليه الأمر بالنسبة لمبادئ فصل السّلط وتشتيتها على مؤسسات متعددة، كوسيلة تضمن حماية الشعب من استبداد الحاكم المنفرد بكل السلطات، فإن المبادئ الليبرالية تم تبنيها كقيود تحصر المؤسسات التي تنتخبها الأغلبية في الديمقراطيات، أي أنها ،في نهاية الأمر، تحمي الشعب من نفسه. وشكّل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التجسيد القانوني والأخلاقي للخطوط الحمراء المرسومة أمام أي نظام والتي لا يمكن تجاوزها بأي مبرر كان، بما فيه مبرر الإرادة الشعبية النابعة من المؤسسات الديمقراطية.
لم تعمل الديمقراطية على حماية نفسها من أخطار الديمقراطية التي فرّخت النازية عن طريق التركيز على مبادئ حقوق الإنسان فحسب، بل أيضاً عن طريق تقييد المؤسسات الديمقراطية المنتخَبة بواسطة مؤسسات غير منتخبة كالمحاكم، وعن طريق تقييد الدولة الوطنية وإضعافها بواسطة الاتحاد الأوربي وبيروقراطييه وتقنوقراطييه غير المنتخَبين. أفرز هذا السياق المرجعية التاريخية والسياسية للشعبوية التي اعتبرت أن الليبرالية تقيّد حرية الشعب الحقيقي بشكل يتنافى مع الإرادة الشعبية، وأن الشعبوية بالمقابل، تمثل التعبير الخالص عن إرادة الشعب غير المقيَّدة.
يرتبط السياق التاريخي الثاني بفترة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذي تبرز فيه بالخصوص شعبويات أوروبا الوسطى، وهي المنطقة الذي تحتل مركز الصدارة في اهتمامات مولر. فبعد فترة قصيرة احتفت خلالها الأوساط الديمقراطية في العالم بالأنظمة ما بعد الشيوعية كنماذج ناجحة للانتقال الديمقراطي السلمي والسريع، أصبحت هذه الديمقراطيات الجديدة توجه انتقادها الرئيسي للاتحاد الأوروبي باعتبار أن مؤسساته تتصدر مراكز إدارتها النخب غير المنتخبة من التقنوقراطيين والبيروقراطيين، وأنها بالتالي متعارضة مع الديموقراطية التي تنبني على تمثيلية الشعب. واستهدفت انتقادات التيارات الشعبوية الليبرالية السياسية التي يتبناها الاتحاد الأوروبي والمتمثلة في الدفاع عن الحريات الفردية وفي حماية الأقليات، والمهاجرين، والليبرالية الاقتصادية التي تركز على حماية قواعد السوق حتى عندما تتعارض مع الحقوق الاجتماعية.
السياق الثالث والأخير يبتدئ بالأزمة المالية لسنة 2008 التي مست جل الديمقراطيات الكبرى وفرضت تبني سياسات التقشف التي أضرت بشرائح مجتمعية واسعة، وعرّت عن حجم الفساد المتفشي في صفوف النخب الاقتصادية والمالية في الديموقراطيات الغربية المتقدمة. وبرزت في إطار هذا السياق حركات شعبوية على غرار حركتي البوديموس الإسبانية، وسيريزا اليونانية.
أفرزت هذه السياقات الثلاثة المعالم الأكثر وضوحاً للشعوبية والتي ترتكز على عنصرين أساسين هما: معاداة النخبة ومعاداة التعددية؛ باعتبار أن الأولى فاسدة منفصلة عن الشعب وهي بالتالي تفتقد لمشروعية تمثليه، وأن التعددية من خلال المعطيات الأمبريقية النسبية والتجزيئية لا تعمل إلا على طمس حقيقة الشعب في جوهره ووحدته وصفائه. إن الشعبوية عند مولر تشكل تهديدا محدقا بالديمقراطية من قلبها وليس من هامشها، كما هو الأمر بالنسبة للإسلام الراديكالي، أو للنموذج الصيني، وهي لذلك تتطلب بلورة أجوبة سياسية وفكرية دقيقة لمواجهتها. على المستوى السياسي يدعو مولر إلى تجنب إقصاء التيارات الشعبوية أو الدعوة لمقاطعتها، وهو التوجه السائد نحوها، أو كان كذلك حتى فترة قريبة. فالإقصاء بالنسبة لمولر يتنافى مع الممارسات الديمقراطية، بل إن تبنيه من طرف أحزاب ليبرالية سيجعلها أقرب إلى الممارسات التي تدعو إليها الأحزاب الشعبوية. يظهر مولر ثقة في قدرة الديمقراطية الليبرالية على احتواء الأحزاب الشعبية من خلال النقاش العمومي. بهذا الموقف، يَظهر مولر كتلميذ مخلص لهابرماس الذي ظل يصر على تبني النقاش العمومي العقلاني، بالرغم من أنه تعرّض للسخرية من طرف منتقديه على رأسهم بيير بورديو وألان تورين، باعتباره ساذجاً يغفل الجانب النزاعي للسياسة. وبالرغم من أن مولر لا يذكر أمثلة ملموسة عن الموقف المنفتح الذي يدعو إليه في التعامل مع الشعبويين، إلا أن هناك إشارات لتحولات تحدث في هذا المجال. فمثلاً، عندما شكل الحزب النمساوي المحافظ، الحزب الشعبي، من الوسط اليميني، تحالفاً مع حزب حرية النمسا Parti de la Liberté d’Autriche (FPO) وهو حزب من اليمين المتطرف بزعامةJorg Haider سنة 2000، اعتبرت الدول الأوروبية، على رأسها فرنسا وبلجيكا، بأن هذا اليمين المحافظ وقّع “عقداً مع الشيطان”. أما اليوم، وبعد أن ربط نفس الحزب المحافظ تحالفاً مع نفس الحزب اليميني المتطرف، اعتبرت أوروبا أن الأمر “لا يشكل حدثا يذكر” non-événement. بذلك، فإن فكرة مولر تبرز لا كأطروحة نظرية متعالية، بل هي تعكس مقاربة سياسية ملموسة تتبناها حكومات من موقع القرار، وهي لا تقتصر على الموقف من شعبويي النمسا فحسب، بل نجدها تتكرر بعد فوز الشعبويين في انتخابات كل من بولونيا وهنغاريا مؤخراً.
فقد أعلن بيتر مايير في كتاب أصدره سنة 3201، بعنوان حكم الفراغ: تجويف الديمقراطية الغربية (Ruling The Void: The Hollowing-out Of Western Democracy) أن عصر ديمقراطية الأحزاب في أوروبا الغربية انتهى، حيث صارت الأحزاب منفصلة عن المجتمع وعاجزة على أن تشكّل دعامة للديمقراطية، وأصبح الشعب ينبذ الأحزاب ويبتعد عن السياسة، الأمر الذي يجعله فاقدا لسيادته. وحذّر من أن تراجع المعارضة المنظّمة في إطار أحزاب تهيئ أرضية خصبة للشعبوية، وهي بذلك تحوِّل الديمقراطية إلى “حكم الفراغ” الناجم عن أحزاب تقليدية تحكم بدون تمثيلية، وأحزاب شعبوية تدعي تمثليية الشعب ولكنها غير قادرة على إنجاز وعودها. ويرى الصحفي إدوارد لوس في كتابه الصادر سنة 2017 بعنوان تراجع الليبرالية الغربية، (The Retreat of Western Liberalism) أن الديمقراطية الليبرالية توجد اليوم عبر العالم محاصرة من طرف قومية ذات صيغة سلطوية تغذّيها الهشاشة الاقتصادية التي تهدّد الطبقات الوسطى. وفي الكتاب الذي نُشر سنة 2015 بعنوان في صيغة سؤال الديمقراطية في أفول؟ (Democracy in decline?) الذي أشرف عليه ليري دايموند ومارك بلاتر، وهما من كبار المساهمين في التنظير لأطروحة الانتقال الديمقراطي، ينطلقان من أن سنة 2006 أعلنت عن توقف المد الديمقراطي الذي عاشه العالم منذ 1975. وبالرغم من أن المساهمين المتعددين في هذا الكتاب اختلفوا ما بين من أكّد هذا الأفول وبحث في أسبابه، وبين من شك في الأمر، فإن الاتجاه العام كان يعكس تراجع التفاؤل من مستقبل الديمقراطية، بل إن توماس كراتورز و ليري دايموند قدما اقتراحات عملية بالنسبة للذين يشتغلون في حقل الانتقال الديمقراطي للتهيُّئ لهذا الركود والتفكير في كيفية مواجهته. وكان ستفان لفيتسكي من بين الذين شككوا في أفول الديمقراطية في النص الذي ساهم به في هذا الكتاب، واعتبر أن أطروحة الركود الديمقراطي ليست سوى أسطورة. لكنه لم يلبث أن غير موقفه في كتاب مشترك هذه السنة (2018) مع الدودانييل زبلات ليطرح الموضوع بشكل درامي: كيف تموت الدمقراطيات (How Democracies Die). اعتبر الكاتبان أن الديمقراطيات في السابق كانت تموت بسرعة عن طريق الانقلابات العسكرية أو عن طريق الزعامات السياسية التي تفكّك المؤسسات الديمقراطية بسرعة حالما تصل إلى السلطة كما فعل هتلر في ثلاثينيات القرن الماضي. لكن الديمقراطية يمكنها أن تتآكل ببطء في خطوات تكاد تكون غير مرئية، وهو ما تشهده عدد من الأنظمة التي أفرزتها صناديق الانتخابات بعد الحرب الباردة والتي ترتد تدريجياً عن الديمقراطية. تلتقي العديد من الحالات التي يذكرها الكاتبان مع نماذج الشعوبيات التي وصلت إلى الحكم التي قدمها مولر في الفصل الثاني لكتابه عندما عالج فيه موضوع “الشعبويين في السلطة” على غرار تشافيز في فنزويلا، ورافييل كوريرا في الإكوادور، وفيكتور أروبان في هنغاريا، وإيفو موراليس في بوليفيا، وجاروسلو كاسزينسكي في بولونيا، وإردوغان في تركيا، وفلاديمير بوتين في روسيا. ويخلصان إلى إن الديمقراطيات غير محصنة ضد الموت. إلا أن الأمر المثير بالنسبة لهما هو أن هذا المصير أصبح يهدد مستقبل الديمقراطية في الولايات المتحدة بعد وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة. وبالنسبة للكاتبين، فإن ما حمى الديمقراطية الأمريكية لحد الآن ليست لا المؤسسات ولا مبدأ فصل السلط، بل ركنان مركزيان هما التسامح المتبادل بين الأحزاب المتنافسة التي تقبل ببعضها البعض كغرماء مشروعين، وتحلي الساسة بضبط النفس عند ممارستهم لصلاحياتهم المؤسساتية. ويلاحظ المؤلفان بأن هذين الحصنين الحاميين للديمقراطية الأمريكية أصبحا معرضين للتآكل، كما يتأكد من خلال الممارسات السياسية للشعبويين. إن مصير الديمقراطية في العالم، بما فيها أمريكا، يتعلق بالتزام المدافعين عن الديمقراطية بهذه المبادئ سواء كانوا في موقع السلطة أو في المعارضة.
لا تصل مخاوف مولر من مصير الديمقراطية إلى المستوى المتشائم الذي يطبع الكتابات حول تجويف الديمقراطية، وحصارها وأفولها أو تقهقرها وموتها. إنه لا يتوقع أن الشعبويين يفكرون في الانفصال التام عن الديمقراطية، لأن تكاليف السّلطوية المعلنة ستكون أكبر مما يتحملونه، وبالمقابل، فإن حفاظهم على الديمقراطية يضمن لهم الحصول على تذكرة الاعتراف من طرف المجتمع الدولي. ويعتبر مولر أن تحول الشعبوية إلى سلطوية ليس مآلا محتوماً، بل يمكن تجنبه عندما يتمكن معارضو الشعبوية من أن يفهموها بشكل دقيق، وألا يخلطوها خطأً بظواهر سياسية مختلفة كالنازية أو السلطوية، وأن يبلوروا بالتالي السياسات المناسبة تجاهها. يخُص مولر بالذكر بشكل خاص الدور الذي ينصح الاتحاد الأوروبي بأن يلعبه في هذا الباب. فمولر يعارض مثلاً نعت الشعبوية بأنها ديمقراطية غير ليبرالية، فهو يرى أن الليبرالية التي تتمثل في الحريات المحمية بالقوانين، مكوِّن لا يمكن فصله عن الديمقراطية، وأن وصف الشعبويين بالديمقراطيين، حتى عندما يُعتبرون غير ليبراليين، يضفي عليهم مشروعية سياسية لا يستحقونها، بل هم يستفيدون من هذا الوصف ويفتخرون به في مواجهتهم لليبراليين من منطلق أنهم يعبرون عن مطالب غير ليبرالية نابعة ديمقراطيا من الشعب. وهم في نفس الوقت ليسوا سلطويين لأن مشروعيتهم تنبع من الأصوات التي يحصلون عليها في الانتخابات والتأييد الشعبي الذين يحظون به. ويفضل مولر نعت الشعبوية بأنها “ديمقراطية معطوبة”، وأنها بالتالي قابلة للإصلاح، ويرى أن إصلاحها من طرف الاتحاد الأوروبي يتطلب الحوار وليس العقوبات. كما يتطلب أن يتجنب الأوربيون حصر مواقفهم تجاه الشعبويين بالدفاع عن الليبرالية، بل أن يبحثوا أيضاً عن وسائل تعميق الديمقراطية على مستوى مؤسسات الاتحاد الأوروبي نفسها.
إن مآل الديمقراطية في البلدان التي تشهد صعود الشعبوية ستحسمه الصراعات السياسية التي تشهدها والكيفية التي تدبَّر بها هذه الصراعات على الصعيدين الوطني والقاري. ويظهر من النصوص التي تمت الإشارة إليها أن التفكير في كيفية مواجهة الشعبوية لا يزال في بداياته. لكن البلدان غير الديمقراطية محكومة بأن تتابع التفكير حول الموضوع، وذلك بسبب الارتباطات المتعددة الأبعاد التي تشدّها إلى الديمقراطيات، لدرجة أن مآلات البلدان غير الديمقراطية بمختلف مكوناتها السياسية، والفكرية، والاقتصادية تؤثر فيها بشكل كبير التحولات التي تعرفها الديمقراطيات.
وتأتي على رأس هذه المكونات فكرتا الدَّمَقْرَطَة واللَّبْرَلَة واللتان أصبحتا، منذ منتصف السبعينات ثم وبشكل أكثر قوة بعد سقط جدار برلين، تعتبران من طرف الديمقراطيات الكبرى المآل الطبيعي لبقية دول العالم لا تقف في وجهه إلا مقاومات هشة تظهر بين الفينة والأخرى في دول غير ديمقراطية كالتطرف الديني، والصراعات الإثنية، أو النجاحات المؤقتة التي تحققها الأنظمة السلطوية على المستوى الاقتصادي. غير أن الصعود السريع والفجائي للشعبوية من قلب الديمقراطيات يعمل على زعزعة هذه الثقة في الهيمنة المحتومة للديمقراطية الليبرالية. وأصبحت الديمقراطيات الكبرى تفقد النبرة الأبوية التي طغت على مقاربتها للديمقراطية باعتبارها خياراً مترسّخاً لا يُواجه منافسة تذكر من قلبها. فعلى المستوى العملي، يؤدي تراجع هيمنة أطروحة الديمقراطية لانعكاسات على نوعية المساعدات التي تقدمها الدول الغربية للدول وللمجتمعات المدنية في البلدان غير الديمقراطية. وفي مساهمته في كتاب أفول الديمقراطية، ينبه توماس كاروترز إلى أن التحولات السياسية التي تعرفها الديمقراطيات الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لا شك أنها ستؤثر سلباً على المشاريع الميدانية لدمقرطة الدولة والمجتمع في الدول الممنوحة. يمكننا أن نتوقع أن تنامي حدة الخلافات حول الخيارات السياسية في الديمقراطيات الكبرى، وإعادة النظر في مفهوم ومحتوى الديمقراطية الليبرالية الذي تدعو إليه الأحزاب والزعامات الشعبوية سيكون له وقع على النقاشات السائدة في الدول غير الديمقراطية. وتأتي في رأس قائمة هذه النقاشات مسألة الهجرة التي تشكل موضوعاً مركزياً في خطابات الشعوبيين.
تركز الشعبوية على وجود شعب موحد ومنسجم، وهي بالتالي تعتبر المهاجرين بمثابة شوائب لهذا الانسجام وخطراً على استمراره. بل إن الشعبويين يؤمنون بأن مستقبل شعوبهم مهددة بتزايد النمو الديمغرافي للمواطنين من أصول مهاجرة، وباستمرار تدفق المهاجرين والذين ينحدر عدد كبير منهم من البلدان غير الديمقراطية، الأمر الذي ينبئ بتحول الشعوب إلى أقلية في بلدانها. وعوض الاعتراف والاحتفاء بالتعددية الثقافية كمكون لمجتمع يتشكل من ثقافات متنوعة ويغتني بها، يتبنى الشعبويون مواقف رافضة للتعددية الثقافية، ومحاربة لها. وعلى المستوى العملي، فإن هذه المواقف تطالب باستصدار القوانين والتدابير الإدارية التي تقيد حريات المهاجرين، وتقنن الهجرة وطقوس العبادات وعادات اللباس والأكل والعلاقات الجنسية لدرء مخاطر التعددية الثقافية على فكرة الشعب المنسجم. إن مولر يشير إلى أن الشعبويين يعادون التعدية الثقافية، وأن مفهومهم للشعب يركز على إقصاء كل من يعتبرونهم أقليات ومهاجرين لا تنتمي إلى تصورهم عن شعبهم المنسجم والموحد. إلا أن مولر ينبه إلى أن أجوبة الليبراليين حول سؤال من هو الشعب، لا تخلوا من تناقضات، وهي لا تقدم حلاً بما يسمى “بمشكلة الحدود المحددة لمفهوم الشعب”. فمقابل التحديد الإقصائي للشعبويين لمفهوم الشعب، يرى الليبراليون أن عضوية من ينتمي إلى الشعب تبقى مسألة الصدف التاريخية التي تجعل فرداً ما يزداد في مكان معين أو أن يكون ابن أبوين معينين. إلا أن الصدفة التاريخية ينتج عنها بدورها إقصاء الذين لا ينتمون إلى هذا المكان المعين وهذين الأبويين المعينين. وما دام الليبراليون لا يدعون إلى دولة عالمية واحدة تمنح صفة المواطنة المتساوية للجميع، فإن هذه الحدود الإقصائية ستبقى قائمة. يرى مولر أن هذا الأمر سيبقى موضوع نقاش ديمقراطي داخل الدولة، والذي لا شك أنه سيتنافس فيه الذين يتبنّون موقف الإقصاء والذين ينادون بالإدماج، وهو يتوقع أن نتائج هذا النقاش لن تكون بالضرورة أحادية الاتجاه نحو الإدماج، بل ستبقى عرضة لتقلبات السياسة. تكمن أهمية مقاربة مولر للموضوع في تنبيها لتجنب الشعارات السهلة التي تغفل الأبعاد الشائكة في تحديد مفهوم الشعب وفي بلورة مقاربات للهجرة ترتكز على دعامات فكرية قوية.
بالرغم من أن مولر يصر على أن الشعبوية لا يمكنها أن تظهر إلا في الديمقراطيات، إلا أننا سنوظف مقاربته لنطرح على ضوئها مجموعة من الأسئلة الافتراضية حول بعض تجليات الشعبوية في المغرب.
السؤال الأول يتعلق بمدى أن ربط الشعبوية بالسياسة التمثيلية يقتصر فقط على الأنظمة الديمقراطية. ويظهر بالنسبة للمغرب، أن محورا رئيسا ً في الخلافات التي طبعت السياسة المغربية الحديثة منذ الاستقلال بين الأحزاب والتيارات المعارضة ظل يتصل بمسألة دور كل من الملك والأحزاب السياسية في تمثيلية الشعب. فعلى مستوى النصوص القانونية، فإن الدساتير المغربية حددت دور الملك باعتباره الممثل الأسمى للأمة، ودور الأحزاب في كونها تعمل على تأطير المواطنين، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين. لكن على مستوى الممارسات، ما زال الخلاف قائما حول الدورُ المعترف به من طرف الملكية للأحزاب في تمثيلية الشعب بشكل مستقل عن إرادة الملك. فما دامت الملكية لا تعتمد على سند أمبريقي في تمثيل الشعب، فإنها تلتقي مع فكرة الشعبوية التي تتجاوز حصر مفهوم الشعب الحقيقي في الانتخابات والاستفتاءات، وفي أنها، كما هو الأمر بالنسبة للشعبوية، تمثل المعبّر الأصيل عن الشعب غير المقيد في إطار المؤسسات والمساطر المادية للنظام السياسي القائم. لكن بالرغم من توجس الشعبويين من المؤسسات ومن الدساتير، إلا أنهم لا يصلون إلى الحكم إلا عن طريقها، وهم يعملون على تسخيرها عندما يصلون إلى السلطة للحفاظ على مواقعهم في قلبها. هذا في الوقت الذي لا تمر فيه علاقة الملك بالشعب عبر أية قنوات ولا تخضع لأية إجراءات مسطرية. وما دامت هذه العلاقة تعتبر طبيعية وخالدة، فإنها لا تحتاج إلى إثبات. على عكس ذلك، يكون الشعبويون في حاجة دورية، سواء من موقع المعارضة أو من موقع السلطة، إلى التدليل على تمثليهم للشعب. لهذا فإن علاقة الملك بالشعب تعتبر خارج ظاهرة الشعبوية التي لا تتبلور إلا في إطار التنافس بين فاعلين سياسيين في ظل الديمقراطية.
إن الشعبوية بالنسبة لمولر ليست فقط ظاهرة لصيقة بالديمقراطية، بل هي أيضا ظاهرة علمانية. فمن المثير أن مولر لا يولي أي اهتمام لدور الدين في الشعبوية ما عدا بعض الأمثلة الاستثنائية. فهو مثلاً يرفض تصنيف الإرهابيين الإسلامويين كشعبويين، وذلك لأنهم “قد يتوجهون إلى كل منسجم، مثلاً جماعة المؤمنين، في العالم، لكنهم لا ينظرون إلى الشعب-كنقيض للنخب الفاسدة-بوصفه “نقياً أخلاقياً”، بل بوصفه هو الآخر فاسد ويجب إيقاظه من سباته أو تخليصه من ضلاله”. كما قدم مولر أيضاً إشارات مقتضبة للبعد المسيحي لدى بعض القيادات الشعبوية في أوروبا الوسطى بالخصوص، لكنه لم يعتبره ذا أهمية تذكر. وهو أغفل بشكل نهائي وبدون أي مبرر ظاهرة الشعبوية في إسرائيل، بالرغم من أن ذلك كان سيثير التساؤل حول الدور الذي يمكن أن يلعبه الدين في الشعبوية في صيغتها الإسرائيلية. وحتى عندما كرّر إدراج الرئيس التركي رجب أردوغان كنموذج شعبوي، فهو لم يثر أصوله الدينية وحزبه. يمكن قراءة ذلك على أن النموذج التركي يشير إلى إمكانية أن يتطور حزب إسلامي إلى حزب شعبوي، وفي تلك الحالة ينتفي أي دور للدين يميزه عن مقومات الشعبوية كما يحددها مولر. إن النموذج التركي سيكون مفيداً في تتبع حالات البلدان التي تعرف أحزابا إسلامية كما هو الحال في المغرب، والكيفية التي يمكن أن تتحول فيها في ظل الديمقراطية إلى أحزاب شعبوية علمانية بالأساس، كما يفهمها مولر. وإذا كان الأمر محسوما بالنسبة لمولر، إلا أن قصر التجربة التركية لا تسمح بتأكيد ذلك. إننا مطالبون بتتبع التقلبات المتواصلة التي تعيشها الشعبوية التركية والتوظيف البراغماتي لمقومات مستقاة من التراث القومي والديني ومن الحسابات الجيو-إستراتيجية السريعة التقلب.
هذه الملاحظة بشأن حالة تركيا، يمكن تعميمها على باقي حالات الشعبوية التي تقدمها أطروحة مولر بشكل محسوم وبثقة في النفس تبدو أحيانا مبالغ فيها. فالدين لا يبدو محسوماً في حالة شعبوية تركيا فقط، بل أيضا في عدد من دول أوروبا الوسطى وفي إسرائيل. وهذا الموضوع بقي مهمّشا لدى مولر. كما أن مستقبل الديمقراطية في ظل الشعبوية لا يبدو كأمر محسوم أيضاً. وتترك مقاربة مولر الانطباع بأن خطر الشعبوية على مستقبل الديمقراطية ليس بالخطورة التي يتصورها البعض، في الوقت الذي لا تتوقف علامات تفكيك مقومات الديمقراطية في عدد من الشعبويات على رأسها تركيا وهنغاريا وبولونيا. وتعترف هذه القراءة بأن انتقاد الكتاب انطلاقاً من أحداث لم تقع بعد ليس تمريناً مقنعاً، إلا أن مقاربة مولر توحي بيقينية غير مطمئنة.