عبد الجليل ناظم وجلال الحكماوي، نصوص من الثقافة المغربية الحديثة، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2008.
بصدور كتاب نصوص من الثقافة المغربية الحديثة، أتاح لنا الأستاذان الصديقان فرصة للاطلاع الشامل والمنظم والأنيق على وثائق أساسية ترسم ملامح من تطور الثقافة المغربية الحديثة وتعكس طرائق التفكير والاهتمامات التي شغلت النخبة المثقفة في المغرب خلال القرن العشرين.
يأتي هذا الكتاب الجامع لنفائس من نصوص الثقافة المغربية الحديثة في وقت تحتاج فيه هذه الثقافة ويحتاج فيه متنورو المغرب المعاصر إلى التعرف وسبر أغوار الكتابة والتفكير التي عرفها المغرب الحديث من خلال صفوة ما كتبه علماؤه وفقهاؤه وشعراؤه وفلاسفته وسياسيوه. ولا أعتقد أن المهمة كانت يسيرة على الباحثين لما يتطلبه الأمر من ضرورة البحث والجمع والانتقاء والتصحيح والتبويب والفرز وتحري الموضوعية في اختيار النصوص الممثلة لمختلف الاتجاهات والموضوعات والقابلة للنشر ضمن كتاب موجه لعموم الباحثين والمهتمين بالاطلاع على أصول وهويات وخصوصيات الثقافة المغربية الحديثة.
قد يقول قائل: “ما حاجتنا لإنفاق الجهد والوقت والمال في إعادة طبع نصوص تنتمي لمختلف مشارب الثقافة المغربية ولأجيال مختلفة منها؟” ليس الأمر من الترف الفكري في شيء، ذلك أن الوعي قائم بقوة لدى النخبة المثقفة المعاصرة –وهناك في جامعات أوربية وأمريكية الآن مختبرات ووحدات بحث تعنى أساسا بالدراسة الأكاديمية للتاريخ الثقافي والسياسي للأزمنة الحديثة– أقول إن الوعي قائم في أن كل المعالم والمؤشرات الفكرية والثقافية والسياسية تحث على ضرورة استعادة التاريخ أو بعضا منه حتى لا يجرفه ويجرفنا النسيان، وحتى يضمن السير الحثيث نحو تكريس هوية وطنية موحَدة وموحِدة لكل الاتجاهات الفكرية والسياسية على ما فيها من الاختلاف، في زمن تطبعه الفرقة والصراعات السياسية العقيمة.
في مفهوم الثقافة
الأمر الذي بدت لي الإشارة إليه ذات أهمية بالغة هو اعتماد العنوان على عبارة “ثقافة” علما أنها لم تستعمل على نطاق واسع في الأقسام الثلاثة الأولى أي أن كتاب هذه الفترة من الصبيحي إلى القباج لم يحيلوا بقوة على كلمة ثقافة، ولم تشكل جزء واسعا من معجمهم في الكتابة رغم حضور خلفياتها كمفهوم يستجيب لتصوراتهم، وإنما كان التركيز على عبارات من قبيل: علم وفكر ونهضة وأخلاق ورقي وأدب وتربية وتعليم. وهذا لا يعني انعدام استعمالها بل نجدها حاضرة مثلا في نص محمد داوود (ص34): “إن لجمهور المفكرين في أمتنا ثقافة، إلا أنها ليست موحدة…”. وفي نص علال الفاسي (ص40): “فالثقافة الأدبية الصحيحة هي التي تنور العقل وتصقل الذهن وتملأ العاطفة إحساسا ووقدا.” وكذا في نص محمد اليزيدي (ص51): “ولكن أي نوع من أنواع الثقافة أحق أن يكون الخطوة الأولى لتدرج الأمة ورقيها، والعامل الأصلي لوصولها إلى رغباتها وآمالها…” كما تغيب كلمة ثقافة عن كل عناوين الأقسام الثلاثة المذكورة، ولكنها تحضر في القسم الأخير من خلال عناوين “الثقافة الوطنية” والوضع الثقافي” لعبد الله العروي و”المثقف العصري” لعبد السلام بنعبد العالي.
إن القصد من هذه الملاحظة هو الإشارة إلى اختلاف المرجعيات التي حكمت الاختيارات الاصطلاحية بين مرحلتين من الكتابة في تاريخ المغرب الحديث، وهو الاختلاف الذي مس مفهوم الكتابة في جوهره في العالم العربي ككل تبعا لمتغيرات عناصر المثاقفة بين الثقافة العربية ومرجعيات الثقافة الغربية المعاصرة. أضف إلى ذلك أن الثقافة كانت تحمل معاني واسعة لا تمس حقلا بعينه بقدر ما تمس كل مجالات الرقي البشري من أدب وفكر وأخلاق ودين.
وإذا عدنا إلى التعاريف المتداولة في الثقافة الغربية نجد شبه إجماع على أنها: “الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في المجتمع” وأنها كما في التعريف الانجلو سكسوني: “عملية تطوير المهارات الذهنية والمعنوية بواسطة التربية والتعليم. وهي أيضا المعرفة المتعلقة بالفنون والآداب وكل ما يرتبط بالمهارات التقنية.” تحضر هذه الخلفيات في مجمل نصوص الكتاب غير أن نسقية المفهوم تحضر على نحو أدق في نصوص القسم الرابع والأخير التي يلح أصحابه كل من منظوره على أهمية تشخيص قيم الحداثة وطبيعة العلاقة مع الآخر ورمزية وضرورة اندراج الماضي والتراث في التفكير والممارسة المعاصرين وعلاقة الوضع الثقافي بالعمق التاريخي والتفكير في اللغة وعلاقتها بالمجتمع والتنمية والإنتاج والإبداع والحضارة.
إن الهدف الذي يبدو جليا في هذا المشروع التوثيقي هو السعي إلى وضع الثقافة المغربية ضمن دينامية الانتقال من النص الذي يرمي بناء تصور أخلاقي اجتماعي أدبي في أفق الرقي والوحدة الوطنية انطلاقا من خلفيات سلفية أو مستشرفة للحداثة إلى النص الفكري الخاضع لسلطة النسق في الإحالة على المعارف الإنسانية المعاصرة والانخراط في روح العصر والمساهمة في بناء ثقافة وطنية ترمي إلى نفس الأهداف مع تغير الآليات والتصورات ووسائل بناء النموذج الثقافي.
نلاحظ هذه الوضعية التجاورية والتطورية، كما أشرنا إلى ذلك، في التقسيم الذي خضعت له أجزاء الكتاب:
المغرب الحديث: فكرة ومشروع
أثر العودة على الماضي في التحديث
الانفتاح على الغرب ونقد التقليد
الحداثة في أفقها المعاصر
يحيل هذا التقسيم على طبيعة المخاض الذي عرفته التحولات الثقافية في مغرب القرن العشرين، وهي التحولات التي انتقلت بالتدريج التصاعدي من محاولة بناء المغرب الثقافي انطلاقا من الربط بين التحديث واستلهام النموذج الماضوي باعتباره نموذجا أمثل، إلى جعل هذا الماضي نفسه لحظة قراءة واعية وأساسية في بناء النموذج الثقافي الحداثي انطلاقا من مقومات الانفتاح على الآخر ونقد النموذج التقليدي وفهم الضرورات السياسية والاجتماعية التي من شأن الوعي بإمكاناتها وحدودها أن يؤسس لمغرب ثقافي حداثي مدرك لعناصر القوة وأيضا لعناصر الهشاشة في بنياته الأساسية.
وربما يكون من الأساسي، في سياق الحديث عن هذا الكتاب، ولتأكيد ما ذكرناه، معرفة أن المفكرين والأدباء والفقهاء المغاربة منذ فجر النهضة في بداية القرن العشرين تشكل عندهم وعي عميق بضرورة العناية بالشأن الثقافي في أوجهه المتعددة ومن خلال نظام اصطلاحي متنوع ربط الثقافة ورقي الشأن الإنساني بالدين والاقتصاد والفلاحة والتجارة والصناعة. بل إن نزعة الكاتب لم تكن في عمقها إلا نزعة الزعيم الناصح المغير الداعية الهادي. يقول أحمد بن محمد الصبيحي (ص9): “رأيتني في المنام (…) وأنا مشتغل بتحرير رسالة إلى إخواني أهل المغرب الأقصى أشرح لهم فيها أصول أسباب الرقي الحقيقي التي إن تمسكوا بها أوصلتهم إلى بحبوحة المجد الشامخ والشرف الأقصى مبوبا لها بابا بابا، ومبينا لها سببا سببا، مبتدئا بباب الدين، فباب العلم، فغيره، فغيره. مستحضرا في ذلك المنام من المقالات والدلالات ما لا يحضر اليقظ في فكره. (…) وحيث كان الوقت كما أشرنا إليه معمورا. والنهي عن التكلف ثابثا في السنة مذكورا، فقد أردت أن ارسل القلم في نصيحة إخواني بلا تكلف غير ناقل من الأنقال إلا ما دعا إليه التوفق.”
وبالأدب والتربية والتعليم والاجتماع والأخلاق والثقافة الشعبية (علال الفاسي ومحمد داوود واليزيدي وسعيد حجي وعبد الله كنون ومحمد الفاسي)، يقول علال الفاسي (ص40): “الأدب الراقي هو الذي ينظم طريقة التفكير الصحيح ويمرن على البحث والاستنتاج ورعاية المقدمات والأشكال، ومتى تعلمت الأمة كيف تحكم ومتى عرف خواصها كيف يفكرون، فقد انفتح لها باب البعث وانزاح عن وجهها ستار العمى، وليس وراء ذلك إلا النهوض والسير إلى الأمام. وإن هذا الجمود البارد الذي لا يزال عالقا بنا متمسكا بـأذيالنا ليس إلا نتيجة لضيق الفكر وقصر النظر اللذين يمنعان من سماع النظريات المختلفة ثم دراستها على محك النقد ومجلى البحث، وما دمنا غير متخصصين في هذا النوع من الثقافة الذي يعدنا لقبول كل رأي وإعطائه ما يستحقه من تقدير وتحقير، فليس يمكننا أن نثور على هذه العقليات الجامدة والبيئات الراكدة التي نعيش فيها.”
وبالفكر الوطني ومعرفة تاريخ الأمة المغربية ومكونات وجودها وحضارتها وانخراطها في روح العصر (علال الفاسي والمختار السوسي وعبد الكريم غلاب وعبد المجيد بن جلون)، يقول علال الفاسي في نص بعنوان الفكر الوطني (ص86): “إن قوة الأرض أعظم تأثيرا، وأقدمها تاريخا، كما أنها أقوى صمودا من قوة الدم؛ لأن تغيير القوة الأرضية يحتاج لآلاف السنين بينما تغيير قوة الدم يتم في أقرب الأوقات؛ إذ هي تبلى ككل شيء حي وتمتزج بغيرها فلا تكاد تدري مميزاتها. والفكرة التي تتكون من التمسك بالأرض واعتبارها في مظاهر اتحادها مع النموذج النفسي هي التي نريد من الفكر الوطني الذي جعلناه عنوان هذا الفصل. ومن الطبيعي أن استمرار الفكر الوطني قائما لا يتم في نظرنا إلا بذلك الاتحاد بين العاملين الأساسيين للتطور من جهة، وبين اتحادهما مع روح العصر من جهة أخرى، وذلك ما يستدعي تجددا مستمرا في نوع من المتابعة لكل من روح الأرض وروح النموذج النفسي”
وبعلاقة الثقافة بالآخر من منظور أخلاقي من جهة ومقارن من جهة أخرى (عبد السلام العلوي وادريس الجاي وعبد الله ابراهيم) بل إن المثير للانتباه أن كتاب وأدباء هذه المرحلة ناقشوا بوعي أو بدونه عوائق التحديث في الثقافة المغربية ويظهر ذلك في مستويات عدة، يقول عبد السلام العلوي (ص125): “فأدبنا أدب ناقص لا يستوعب كل مظاهر الحياة ولا يحيط بكل معانيها وحقائقها بل له حد يقف عنده وإن لم يؤد كل واجبه من الصدق والصراحة. وحرية التفكير خصوصا إذا لمست بعض النواحي المصطلح على صحتها وإبقائها على حالتها توسم بالفجور والإلحاد والزندقة وإن كانت هذه النواحي ترتكز على البدع والتقاليد وتتبرأ منها أصول الدين وروح الشرع. والذي يجعل أدبنا خجولا لا يتستر وراء التعابير المقنعة ويفر من الصراحة والصدق إنما هو سقوط المحيط وعامية المجتمع. فقد ألصق بعض المتشبثين بالدين كثيرا من التقاليد في حين أنها ليست من الإسلام في شيء، وإنما اختلقوها وأضافوها إلى هذا الدين الحنيف فضيقوه وما خلق إلا واسعا. وأشد ما يقاوم المرء بأوساطنا هم أولئك الأفراد الذين ابتدأوا التعليم ولم يتمموه، فهم عند أنفسهم علماء في حين أنهم في الحقيقة جهلاء متعصبون لهذا الجهل، فإذا عبر أحد الأدباء عن فكرة جريئة دارت في خلده فصورها تصويرا صادقا صريحا وعارضت هذه الفكرة بعض بدع المجتمع قامت عليه القيامة وانهال القوم عليه بالطعن واللمز وأصبح معروفا بتطرفه إن لم نقل بإلحاده.”
الثقافة والوعي بالنسق
تم تخصيص الجزء الرابع والأخير من هذا الكتاب ل”الحداثة في أفقها النقدي المعاصر”, وبهذا الاختيار فإن التوجه العميق للكتاب يسير في اتجاه رصد التطور التاريخي للبنى الثقافية في المغرب التي عرفت تحولات أساسية بدأت بالخلفيات الأخلاقية والسياسية والاجتماعية وانتهت بظهور وعي ثقافي جديد ضمن قيم التحديث التي عرفها المغرب المعاصر وساهمت فيها الثقافة الأوربية المعاصرة (فلسفة واجتماعا وتاريخا وأدبا) بخلق آليات للتفكير والإنتاج لا ترتبط فقط بمفاهيم الحداثة التي تخلخل كل أشكال المألوف الفكري والاجتماعي، بل وتهدف إلى تكريس نموذج قوي لمفهوم النسق الثقافي والعلاقات التي يعيد بناءها والتفكير فيها بين الماضي والحاضر، بين التراث والتجديد، بين التقليد والحداثة، بين المشرق والمغرب، بين الثقافة الوطنية والثقافة الكونية، بين المثقف والمجتمع، بين الأدب وتاريخ الأدب، بين التحديث وعوائق التحديث. يقول عبد الله العروي في سياق الحديث عن شروط خلق ثقافة وطنية منغرسة في عمق الثقافة المعاصرة دون إغفال أهمية التجربة التاريخية والإطلاع على تفاصيلها. (ص182 – 183): “إن خلق ثقافة منا وإلينا وحدنا، هو في الواقع خلق فلكلور جديد، لا أقل ولا أكثر. إن موقفنا يتلخص في رفض تراثين: تراث الثقافة المسيطرة على عالمنا الحاضر التي تدعي العالمية والإلمامية وتعرض علينا نفسها إلى حد الإلزام والضغط ولا تفتح لنا بابا سوى باب التقليد أو الاعتراف بالقصور، وتراث ثقافة الماضي الذي اخترناه تعبيرا لنا في عهودنا السابقة لكنه لم يعد اليوم يعبر عن جميع جوانب نفسياتنا.
نحن مطالبون بنهج طريق ثالث غير طريق تقليد الثقافة الغربية الحديثة لأننا نحس أنها غير محتاجة إلينا (ماذا ينقص الأدب الفرنسي لو ضاعت الكتب التي ألفها بالفرنسية كل العرب والمسلمين)، وغير طريق تقليد الثقافة العربية القديمة لأنها أولا غير محصورة في قومية واحدة وثانيا لأنها بدورها غير محتاجة إلى إنتاجنا (لنحذف جميع كتب العقاد وطه حسين وهيكل، وكل القصائد التي ألفت منذ عهد البارودي، ماذا ينقص ذلك من قيمة الشعر العباسي، من تاريخ الطبري أو من مقامات الهمذاني). حقا إن الأدب العربي القديم غير محتاج إلينا حتى لإحيائه، لأنه يطبع من المخطوطات في أوربا وأمريكا قدر ما يطبع في الدول العربية كلها…
لابد إذن من إبداع اتجاه ثالث، مبني على التجربة والمخاطرة. لكن يجب ألا ينحصر هذا الاتجاه في البحث عن خاصيات قوميتنا والتعبير عنها، لأن ذلك انزواء وفلكورية. الخاصية ليس معناها حتما الرفض والمغايرة. قد تكون أيضا، كما رأينا، في القبول والإتمام. ليس من الضروري أن نبدأ برفض أشكال الثقافة المعاصرة، بل يمكن ويجب أن ننطلق منها، محاولين تعميقها وتوسيع نطاقها، مظهرين أن هذه الثقافة التي تدعي العالمية ليست عالمية تماما، تنقصها تجربة، هي تجربتنا التي، إن نجحنا في تشكيلها، ستكسب مدلولا عاما. وهذه التجربة يجب أن تتبلور في شخصية جديدة، في موقف جديد، في إحساس جديد وفي تعبير جديد.”
ويقول محمد بنيس في سياق تشخيص عوائق التحديث وعلاقتها بالمؤسسة السياسية الغربية. (ص197 – 198): “(…) أدت الهيمنة، في المشرق والمغرب معا، إلى نتيجتين متكاملتين: أولاهما: ظهور الحركة التقليدية، التي ترى إلى الاحتماء بنموذج الثقافة العربية القديمة الوسيلة الفاعلة في مواجهة استمرار الغزو الذي لا ينتهي، وثانيتهما: محاصرة كل الحركات التحديثية بالنموذج الأوربي ومحاكمتها في ضوء انفتاحها على الثقافة الحديثة الأوربية، وهي التي تلتقي فيها الهيمنة الأوربية مع المؤسسات التقليدية العربية في منع العرب عن المعطيات الإيجابية للحداثة الأوربية.
سيتواجه إذن كل من التقليد والتجديد مع الآلة الغربية التي تخلق للاختيارين معا مدارهما. فالتقليد عاجز عن الإبدال من داخله وحده، لأن الأجوبة التي يطرحها لا تستوعب المعطيات الجديدة للعالم العربي كما لا تستوعب المعطيات الحضارية الكبرى، كما أن التجديد يظل غريبا في العالم العربي، فهو قرين الغرب الهادم لدى التقليديين، ينجز المشروع الذي خطط له الغرب، فيما الغرب ذاته ينفيه كلما أخضع التجديدُ الغربَ للنقد، لأنه عندئذ يتخذ صورة عالم يخرج على مشروعه، فيكون الغرب حاميا للتقليد. وهنا نكون أمام وضع معقد ومربك في آن، ينتصر فيه التقليد بلا هوادة، بما هو بنية مترسخة في الوعي واللاوعي العربيين، تستدعيه مشاهد الغزو متعاضدة مع الشرائط الاجتماعية-التاريخية للعالم العربي، فلا تترك مجالا لاختيار حرية العلاقة واللقاء مع الآخر.
إن قراءة بنيتي التقليد والتجديد، في لاتاريخيتهما، تؤدي إلى مزالق في التحليل المفصل لإبدالات كل بنية على حدة، مما يوقع القراءة في شرك الخطاطة الجامدة، التي قد تتلبس بحال اللازمنية وهو ما لا نتغافل عنه، فضلا عن إمكانية قراءتنا للامتداد التاريخي للحداثة العربية كحالة موسعة تسمها هيمنة التقليد، التي جاء الغرب ليدعمها وقد وجد في الشرائط العربية الداخلية ما يسمح باستدامتها. وما نستخلصه بهذا الصدد، هو أن المؤسسة السياسية الغربية، شكلت مانعا أساسيا للتحديث ونقد نموذج الحداثة الغربية، شعريا وفي غير الشعر(…)”
لقد أجمعت نصوص الكتاب والمفكرين الذين أثثوا فضاء هذا القسم الأخير، كل من موقعه (العروي والخطيبي والحمودي وبنيس ومفتاح والمجاطي والجابري وبنعبدالعالي والفاسي الفهري) على أن شروط بناء النسق الثقافي مرتبطة ارتباطا، أولا بدرجة الوعي بالدور الذي من المفترض أن تقوم به الثقافة الوطنية والتجربة التاريخية، وثانيا بحجم قوة علاقات المثاقفة الميسِّرة لقيم التلاقح لا المساهمة في تكريس موانع حقيقية للتحديث وبناء نموذج ثقافي قوي ومؤثر. وهي بذلك أعمال تحتفي بقيم نبيلة وضرورية وملحة من قبيل التعدد والتسامح والمجتمع المدني والاختلاف والحداثة، مفاهيم تجعل من قيم الثقافة المعاصرة وتجذرها في الزمن الماضي وامتدادها في المستقبل أفقا لغد ذي معالم أكثر قوة ووضوحا.
وعلى سبيل الختم، فإن الحيز الذي يأتي فيه هذا النص لا يتسع لمقاربة الغنى المعرفي الذي تختزنه نصوص هذا الكتاب، والتي قد نخصص لها مجالا آخر للتحليل. حسبي الآن أن أقول إن المطلع على العمل سيدرك حجم الجهد الذي بُذل في إنجازه فجعل من هذه النصوص فصوصا تضيء المخزون الثري للثقافة المغربية الحديثة والمعاصرة وتبعث فيه حياة جديدة.