الأحد , 13 أكتوبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » المرأة من خلال رسوم عدلية

المرأة من خلال رسوم عدلية



       الوثائق الواردة في الكتب عبارة عن رسوم عدلية لدور وجنانات ومعاصر لعائلات فاسية، توفي أصحابها، فخضعت لعمليات البيع والشراء بعد تحديد عدد الورثة ونصيب كل واحد منهم ذكورا وإناثا. وتتضمن مسار هذه الممتلكات وما تعرضت له من عمليات التفويت بالبيع والشراء أو الضم من طرف أحد أفراد العائلة، أو المخارجة أو بطرق أخرى. وتمتد الفترة التاريخية المؤطرة لهذه الرسوم ما بين منتصف القرن العاشر إلى حدود القرن الثاني عشر. وتزخر هذه الوثائق بمعلومات نفيسة خاصة بالنسبة للمختص في التاريخ الاقتصادي. إذ تعطينا فكرة عن كيفية تداول المال والعقار والثروة بين الأسر الفاسية، كما تمنحنا فرصة لتقييم هذه الممتلكات، وتذبذب أسعارها وتقلباتها حسب الظرفية السياسية والاقتصادية. وبالرغم من كونها مجرد رسوم، فقد اختزلت المجتمع الفاسي وديناميته الاقتصادية وأعطت صورة للحياة في فترة من أهم فترات مدينة فاس. وعكست الترابط بين المال والسلطة والنفوذ، وسلطت الضوء على الفئات المتحكمة والمهيمنة في مجتمع هذه الحاضرة. وبالرغم من طابعها الاقتصادي، فإنها لا تخل من معلومات عن الحياة والعلاقات الاجتماعية. هذا بالإضافة إلى ما تزخر به من معلومات مهمة تخص المعمار، من قبيل نوعية مواد البناء وهندسة الدور وبعض الحرف المرتبطة بها[1]، وذكر أسماء بعض الأزقة والدروب وهندسة المدينة نفسها وغيرها من المعلومات.

طبيعة الحضور النسوي في الوثائق

        تتيح هذه الرسوم العدلية تتبع وضع المرأة في مجتمع فاس، من خلال عقود الإرث وزواج الجبر والقاصر والوصاية، وتعدد الزوجات، وبعض المعلومات المتنوعة عن مكانة المرأة في المجتمع الفاسي، وعن بعض التسميات النسوية المغمورة التي اندثرت حاليا. غير أن موضوع الإرث يشكل الموضوع الجامع لأغلب هذه القضايا.

المرأة والإرث:

      يتطلب البحث في موضوع المرأة من خلال الرسوم العدلية الواردة في الكتاب اعتماد منهج المقارنة والمقابلة للتمكن من عمليات التحليل والتفسير، لكون حجم المادة المتوفرة في الرسوم غير كاف للإلمام بخبايا الموضوع إلماما كافيا، مما يتطلب الاستئناس بما بمختلف الأجناس.

       ويتحكم عنصران أساسيان في وضع المرأة المالي بما فيه حقها في الإرث، ويتمثلان في النفوذ والجاه الذي تسعى لتحقيقه الأسرة في المجال الحضري أو الريفي من جهة، ونمط ووسيلة الإنتاج وكل ما من شأنه أن يراكم الثروة سواء بالنسبة للأسرة أو القبيلة من جهة ثانية.

     وبقدر ما تداخل العنصران، بقدر ما ازداد الوضع تعقيدا. ولا يشكل العنصر الديني، بالرغم من أهميته في تحديد نصيب المرأة في الإرث وباقي حقوقها المالية، إلا عنصرا ثانويا، يتم تجاوزه كلما دعت الضرورة لذلك. وتكمن أهمية العنصر الديني في كيفية توظيفه لخدمة العنصرين السابقين، ولقدرته على إضفاء صبغة القداسة على كل تصرف يرتبط بهما.

      ويتضح من الرسوم العدلية أننا بصدد عمليات بيع وشراء لدور أو جنانات توفي مالكوها، بمعنى أننا بصدد قيام الورثة بتحويل ثروة عقارية إلى ثروة مالية. وحتى في حالة احتفاظ أحدهم بالملك، فإنه مضطر لمصالحة باقي الورثة عن طريق منحهم نصيبهم نقدا. وتحصل نفس الحالة عندما يستدعي الأمر تبديل عقار بآخر، فالفارق كذلك يتجسد في مبالغ مالية. وبالتالي، كيفما كانت طبيعة العمليات المصاحبة للبيع والشراء، توجد دينامية مالية تصاحبها وتتولد عنها، ولذلك حتما أثر على الحياة الاقتصادية من جهة، وعلى نفوذ ومكانة الأسر الفاسية من جهة أخرى.

      وتعود هذه الرسوم لفترة تاريخية ممتدة من منتصف القرن العاشر إلى العقود الأخيرة من القرن الثاني عشر. وهي فترة عرفت فيها فاس مراحل من الرخاء والازدهار، وأخرى من الأزمات المتتالية جراء اضطرابات سياسية واقتصادية وحتى طبيعية، أثرت بشكل بالغ في البنيات الاجتماعية وعلى تطور المدينة بشكل عام. وخلال كل ذلك عرفت نموا ديموغرافيا نتيجة للاستقرار السياسي والهجرات المتتالية للأندلسيين وغيرهم، كما عرفت نقصا ملحوظا في عدد السكان نتيجة للحروب والأوبئة. وشهدت إقبالا على التشييد والتوسع العمراني، كما شهدت أزمات سكنية ارتفعت فيها أثمنة الدور والجنانات المجاورة.

      ويلاحظ في الرسوم أثناء تعداد عدد الورثة، ورود أسماء لنساء، مما يدل على عدم استثنائهن من الإرث. ولا تكشف ديباجة الوثائق أن هناك أي نوع من الحيف أو الغصب الذي قد يهدف إلى حرمانهن من حقوقهن، بل تحدد نصيبهن من الاملاك المذكورة. غير أننا نلاحظ أن المطالبة بذلك النصيب أو حيازته يتم بطريقة غير مباشرة، حيث ينوب عن المرأة إما أخوها أو زوجها أو ابنها، بمعنى أنها لا تباشر هذه الأمور بمفردها وبشكل مباشر، حتى وإن كانت هي الوصية على الملك. وذلك ما يتبين من حالة دار درب بن حيون[2]، حيث جعل المالك أمه وصية على ملكه وأولاده. لكنها توارت بمجرد الشروع في عملية البيع، لينوب عنها حفيدها الذي قامت بترشيده ورفع الحجر عنه قبل بدء عملية البيع، حتى يتسنى له مباشرة ذلك بنفسه. واعتمادا على نفس الحالة، نلاحظ كيف ناب الأخ عبد الرحمان عن أخته فاطمة وابنة أخيه طامة في بيع الدار بحكم الإيصاء على الأولى والتعصيب على الثانية. وحتى في حال حضور المرأة في مثل هذه العمليات بدون نيابة، أي حين تنوب عن نفسها، كما هو حال عائشة زوجة عبد القادر أخو عبد الرحمان المذكور سالفا[3]، نراها توكل من ينوب عنها (أخوها) أثناء قبض نصيبها من الدار. وهذا يجعلنا نتساءل عن السبب، فهل هذا ناتج عن تحرج المرأة الفاسية من وجودها بأماكن يرتفع فيها عدد الذكور بحكم أن الشهود والعدول والقضاة كلهم ذكور مما يجعل عددهم يفوق بكثير عدد النساء؟ أو أنها تتحرج من التعامل مع الأجانب بدافع غيرة الرجال أو لكونهن من وسط اجتماعي معين لا يليق بأن تباشر المرأة التعامل فيه مع من هو أجنبي؟ أو فقط لعدم أو قلة درايتها بمثل هذه المواضيع المرتبطة أساسا بالحساب والعد؟

      والغريب في الأمر أنه رغم تداول أسماء متعددة للنساء أثناء عمليات البيع والشراء وتقسيم التركة، لم تستطع المرأة، ولو مرة واحدة، حيازة الملك المذكور حتى وإن كانت لها القدرة على ذلك (أي أن تقوم بمخارجة مع باقي الورثة، وتضم مجموع الملك في ملكيتها). بل يؤول الملك في نهاية العمليات إلى الذكور دون الإناث، ويتم ذلك في الغالب عن طريق المخارجة، كما هو الحال في جنان سيطوط، الذي بعد موت مالكه ورثه كل من زوجه فاطمة وأولاده منها أم العز وعائشة وفرحونة وأولاده من غيرها على وآمنة وفاطمة، ليصير الملك في النهاية لعلي بمخارجة بينه وبين باقي الورثة[4]. كما يتم عن طريق التعصيب عندما لا يكون للهالك سوى الإناث (دار سبع لويات). ويتم أيضا عن طريق الشفعة (حالات متعددة). وأحيانا يتم ذلك بطريق أخرى كأن يعمد الهالك المتوفي إلى إدخال أولاد أولاده دون البنات منهم في التركة، كالذي أوصى لحفدته الذكور بالثلث مما جعل نصيب النساء ضعيفا حتى يعجزن عن حيازته. وكأن يقوم الأب ببيع الملك كله للابن، كما هو الحال في جنان سيطوط[5]. و نلاحظ في نموذج دار بن حيون أن فاطمة ابنة الهالك حاولت أن تحوز دار أبيها لملكيتها، فرفعت دعوة حق الشفعة على المشتري للدار أحمد بن أحمد الزواق موكلة زوجها محمد المدعو عسكر، إلا أن حكم قاضي الجماعة بفاس صار لصالح أحمد الزواق، إذ حكم بصحة البيع وبالتالي حرم فاطمة من حق الشفعة، علما أن الزمن الفاصل بين عملية البيع والمطالبة بحق الشفعة لا يتجاوز أربعة أيام فقط (البيع كان في الخامس من شعبان من سنة 968هـ ومطالبة فاطمة عن طريق موكلها بحق الشفعة كان في التاسع من شعبان من نفس السنة). هذا في حين سمح للأخ في حالات أخرى بحق الشفعة وتمكن من حيازة ملك أبيه، كما حال جنانات حبالات بني مغرز. وهذا متوقع لارتباط الملك بالنسب في فاس حيث يوجد مثلا جنان التازي وعرصة بن جلون وغرس قاسم ابن إبراهيم العطار وهكذا. وإذا يظل الملك يحمل نفس اسم الأسرة في حالات حيازة الذكور له. وبالمقابل يختفي اسم الأسرة إذا حازته الأنثى غير المتزوجة من ابن عمها، مما قد يؤثر على مكانتها ونفوذها.

      والملاحظ في إذا لم يستطع أحد ذكور العائلة الاحتفاظ بملكها عن طريق شراء باقي الأسهم أو غيرها، يحوزه رجل أجنبي عن العائلة، لكنه يمارس نفس مهنة الهالك، بمعنى أنه ينتمي لنفس الفئة أو الطائفة المهنية. فإذا كان الهالك تاجرا فالملك يسترجعه تاجر، ونفس المسألة إذا كان حرفيا أو فقيها أو عدلا أو فلاحا. واعتمادا على نفس مثال دار بن حيون، نلاحظ بداية أن الهالك التاجر سعيد مرسي الأنصاري جعل أحمد مشرف وأحمد الزواق التاجرين مشرفين على أمه حورية الوصية من طرفه على أولاده وملكه، بحيث أنها لا تبرم أمرا ولا تقوم بعمل إلا باستشارتهما وتحت إشرافهما وبإذنهما. ولما غاب أحمد المشرف في رحلة إلى الشرق وتخلى أحمد الزواق عن الإشراف بعدما قامت الأم بترشيد حفيدها، حاز هذا الأخير الملك (الدار) بعدما اشتراه من عبد الرحمان ابن الهالك والنائب عن أخواته. والأمر نفسه يلاحظ بالنسبة لباقي الدور والجنانات. فمثلا انتمي مالك جنان سيطوط وهو محمد بن محمد المدعو غازي القوري لعائلة عالمة، وكان الوصي هو الطالب ابن شقيق صاحب الجنان، وكان شريكه هو الفقيه المدرس أبي زكريا السراج وشقيقته والفقيه العدل أبي عبد الله محمد المشاط المنافي. ويتبين من خلال هذه الأسماء، أن الملك كان بين أفراد أسر علمية، ولكن هذه الأسر عجزت بعد مدة عن الاحتفاظ على هذا الجنان لينتقل إلى غيرها. ويبدو من خلال ألقاب هذا الغير أنهم من الحرفيين، مثل العطار والشماع. والغريب في الأمر، وبعد مرور أزيد من نصف قرن (من 945 إلى غاية 1014هـ) حيازة الجنان من طرف أحمد بن سيدي أحمد الشريف الهبطي المنتمي إلى عائلة عالمة. فكأنما هناك نوع من “الصراع الطائفي” في المجتمع الفاسي، بين الحرفيين والتجار والفئة العالمة من عدول وفقهاء والفلاحين. وكل طائفة حريصة أن تحافظ على مكانتها داخل المجتمع الفاسي، ولذلك فهي تسعى جاهدة أن تعالج الأمور المالية داخليا فيما بينها، ولا تسمح بتفويت ملك لصالح طائفة أخرى[6] إلا إذا اضطرت لذلك، وفي هذه الحالة سرعان ما ينتقل الملك مباشرة للفئة الأخرى. مثلا، بعدما استعادت عائلة الهبطي العالمة جنان سيطوط، يضيع منها من جديد لانعدام الذكور الوارثين بعد موت الشريف الهبطي، فورثه النساء وعصبه جماعة من المسلمين، ثم قام التاجر قاسم القصري بشراء الجنان من ناظر المواريث، أي أن الجنان انتقل إلى فئة التجار. وسعت هذه الأسرة جاهدة في الحفاظ بالجنان وتم ذلك كما سبقت الإشارة عن طريق الذكور، إذ سيرثه أبناؤه الستة محمد وفاطمة وآمنة وصفية ومريم وعائشة، والذين سيشهدون أن الملك إنما هو لأخيهم محمد الذي سيقوم ببيعه لابنه عبد الواحد حفاظا عليه. وبالتالي أصبح المالك الوحيد للجنان المذكور. إنه صراع وسباق بين الفئات المكونة للمجتمع الفاسي في اقتناء الدور والجنان، مما يعكس أهميتها وقيمتها المالية والمعنوية.

      والملاحظ أخيرا، حضور الموت بشكل ملفت للنظر في هذه الرسوم. ففي الرسم العدلي الواحد تتعدد حالات الوفاة إما للورثة أو للشهود أو العدول. وهذا ما يفسر في كثير من الأحيان تعدد الرسوم الملحقة والطرر في رسم الملك الواحد. وهذا طبيعي بالنظر للفترة الزمنية المؤطرة لهذه الوثائق، حيث تبتدئ من منتصف القرن العاشر إلى نهاية القرن الثاني عشر، وهي فترة شهدت فيها فاس صراعات دامية حول السلطة سواء بين الوطاسيين والسعديين ثم فيما بين السعديين، أو تعرضت لهجوم القبائل المجاورة أو لاضطرابات داخلية خاصة في أواخر الدولة السعدية. ومن جهة أخرى تعرضت فاس لاجتياح أوبئة فتاكة ذهبت بعدد كبير من ساكنتها. ومن هنا تكتسي دراسة هذه الوثائق أهمية بالغة، فمن جهة تعطينا فكرة واضحة عن آثار هذه الأحداث على سير الحياة العامة ومن جهة أخرى تمكننا من تتبع مصير الثروة وأصحابها وصراع مختلف ذوي النفوذ المالي والعقاري أيام المحن. وقد أدت الوفيات حسب الرسوم إلى اضطرار الأسرة لتفتيت ثروتها أو فقدانها بالمرة، مما تسبب في خلخلة البنية الاجتماعية لفاس وساهم في تغيير خريطة نفوذ الأسر، وكان لهذا الأمر العديد من الانعكاسات.

حضور النساء في الحياة العامة

       تشير مصادر المرحلة الذين أسهبت نوعا ما في توصيف الحياة بفاس، مثل وصف إفريقيا للحسن الوزان وإفريقيا لمارمول كاربخال، أن “النساء النبيلات” كن يتحرجن من الاختلاط. ففي الحفلات والأعراس التي من المفترض أن يكون فيها نوع من الاختلاط، ترقص النساء بمعزل عن الرجال حتى أن لهن مغنياتهن وعازفاتهن[7]. ونلاحظ الأمر نفسه بالنسبة للحمامات خاصة تلك التي تستعمل للرجال والنساء، فبمجرد دخول النساء يمد حبل على عرض الباب لإشعار الرجال بعدم اقتراب من الحمامات[8]. وينعكس ذلك بوضوح في طريقة لباس المرأة الفاسية حيث تضع خمارا على عادة أهل الشام يغطي الرأس وسائر الجسم وتحجب الوجه كذلك بقطعة من القماش لا تظهر منه إلا عيونهن[9]، مما يدل على حرص المرأة الفاسية على أن لا تنكشف أمام الأجنبي. والمرجح أن المسألة خاضعة لتراتبية الاجتماعية، فنساء “النبلاء” والعلماء لا يخرجن إلا للضرورة عكس العوام من النساء. وقد جاء في ترجمة بعض العارفات بفاس وهي عائشة بنت محمد بن عبد الله، المنتمية لأشهر بيوتات فاس العالمة، أنها “كانت لا تخرج على عادتهم”[10]. وهو ما أشار إليه الوزان بوضوح في وصفه لنساء مكناس. ولم يكن الأمر يختلف بالنسبة للفاسيات، حيث جاء عند الوزان إن “نساء النبلاء لا يخرجن من بيوتهن ولا يرغبن في أن يراهن أحد محجبات أو سافرات”[11]. أما ما أشار إليه أثناء وصفه لسوق بيع خيط الكتان الذي لا يسلك فيه الشخص إلا بجهد جهيد لكثرة ازدحامه بالنساء[12]، فدليل على أن الأمر يخص نساء العامة، وإلا لماذا هذا السوق دون غيره، فهو مكان بيع أحد المواد الأساسية في الصنائع التي تقبل عليها النساء ذوات الحاجة. وذلك ما يوافق وصف مارمول لسوق الملابس الذي يزدحم فيه أيضا النساء اللائي يأتين لبيع وشراء القماش[13]، مما يدل على انتمائهن لنفس الفئة الاجتماعية. هذا بالإضافة إلى العار الكبير الذي يلحق العائلة إذا ما تم اكتشاف فقدان بكارتها يوم زفافها[14] مما يجعل العائلات ذوات الصيت بفاس يتخذن كل الاحتياطات لكيلا يقعن في مثل هذه المواقف، وبالتالي تكون حريصة على ألا تختلط المرأة بمن هو أجنبي عليها. هذا مع ملاحظة ما كانت تعرفه فاس من ” تسيب أخلاقي” حيث يوجد بها المثليون ودور الدعارة، كما أن الرجل لا يتحرج من إبداء إعجابه وتغزله في امرأة، خاصة منشدو الملحون فتصبح قصيدته المغناة على كل لسان. إذن تتضافر مجموعة من المعطيات، لتدفع بالمرأة أن تتحرج من مباشرة التعامل مع من هو أجنبي. وهذا ما يفسر كون النساء لا تباشر عمليات تقسيم التركة أو البيع والشراء مباشرة، بل وحتى هندسة الدور.

حيازة الثروة للذكور دون النساء

        يبين مثال دار درب بن حيون ميل مجتمع فاس إلى حيازة الملك من طرف الذكور دون الإناث ووجود نوع من الميز الطائفي داخل المجتمع الفاسي. فقد كانت في ملك أبي عبد الله محمد بن سعيد الأنصاري، وهو من تجار فاس، ويبدو أنه كان ميسورا إذ يملك دارا ومالا كما حبس مصرية على المساكين. وأوكل الوصاية على أولاده وملكه لأمه حورية بنت إبراهيم الأنصاري الحاملة لنفس اللقب، لأن الذكور منهم ما زالوا صغارا. ويبدو أن هذه الوصاية لم تكن كافية للحفاظ على الملك بعده، فجعل التاجرين أحمد مشرف وأحمد الزواق مشرفان عليها. لا تقدم على عمل ولا تبرم أمرا إلا باستشارتهما وتحت إشرافهما. ولا تفصح الوثائق على نوعية القرابة بين الهالك والمشرفين إلا صفتهما المهنية وكونهما تاجرين. وهذا تأكيد على ما أشرنا إليه سابقا من وجود ميز طائفي حسب المهنة أو طبيعة الإنتاج أي حسب وسيلة تراكم الثروة. والملفت للنظر أنه لا يكاد يخلو رسم من هذه الرسوم العدلية من وصاية، والوصاية للذكور الأبناء في تسيير الملك دون الإناث، فإن تعذر ذلك كانت الوصية للمنتمين لنفس الفئة المهنية. ويرجح هذا الواقع وجود نظام صارم يقضي بأن لا يموت الهالك إلا بعد أن يضبط مصير ثروته وفق المتعارف عليه. وهكذا تدخل أحمد الزواق لشراء دار درب بن حيون في الوقت المناسب. والغالب أنه كان يراقب صيرورة الأمور ولم يتدخل إلا بعض أن ظهر له أن الأمر سوف يخرج عن السيطرة مما قد يؤدي لى خلخلة بنية النظام الطائفي.

       هكذا لم تحرم المرأة في فاس من أخذ نصيبها من الإرث مالا، والذي كان بالإمكان مضاعفة قدره عن طريق الوصاية بالثلث لأولاد الأولاد أو بالوقف المعقب[15] أي تحبيس الأملاك في أعقاب الذكور دون الإناث والتي كانت منتشرة بفاس وبغيرها من مناطق المغرب. لكن المرأة لم تكن تحز الملك سواء كان أرضا أو دارا أو غيرهما مما يعتبر وسيلة من وسائل تراكم الثروة، لأنه رمز للأسرة يحمل اسمها وعنوان نفوذها ومقدار سطوتها ومكانتها في المجتمع. فان لم يستطع أحد أفراد العائلة الحامل لنفس الاسم حيازته ناب عنه فرد من نفس الطائفة في غالب الأحيان إلا إذا تعذر ذلك[16]. وبقاء الثروة كيفما كان نوعها في عقب الذكور دون الإناث داخل العائلة أمر يسهل فهمه، فالذكر الحامل لنفس الاسم إذا ما استطاع حيازة الثروة برمتها من جديد بعد موت صاحبها الأصلي، يبقي للعائلة نفوذها ومكانتها داخل المجتمع، بخلاف الأنثى التي قد تنقل ثروة الأسرة إلى من هو أجنبي عليها فتضعف بذلك نفوذ أسرتها أو قبيلتها. لكن ما علاقة الأشخاص الآخرين المنتمين لنفس المهنة، والذين يحرصون أشد الحرص على حيازة الثروة إذا لم تحز من طرف ذكور العائلة؟ للإجابة لابد لما من فهم تركيبة المجتمع الفاسي في تلك المرحلة التاريخية.

      كان المجتمع الفاسي ينقسم إلى ثلاث أو أربع طوائف يضمر الصراع بينها أحيانا ويظهر أحيانا أخرى حسب الظرفية السياسية والأمنية والاقتصادية. فهناك طائفة العلماء والفقهاء والقضاة وغيرهم من الفئة العالمة، وطائفة التجار والحرفيين، وطائفة الفلاحين سواء عرب أو برابرة. أما الطرف الرابع فيمثله الحكم[17]. وتسعى كل واحدة من الطوائف الثلاثة مراكمة الثروة بمختلف أشكالها، لأنها وسيلتها لاكتساب النفوذ والسلطة والجاه وضمان بقائها واستمراريتها. لهذا تبعد المرأة عن حيازة أي شكل من أشكال الثروة، ليس لكونها امرأة ولكن لأن احتمال زواجها بأجنبي، لا يحمل نفس النسب ولا ينتمي لنفس الطائفة. وهذا ما يفسر الوصاية لأولاد الأولاد دون البنات، وإشراف التاجرين على أم التاجر الأنصاري. إن الصراع حول النفوذ وحول السلطة والجاه هو الذي يلقي بظلاله على وضع المرأة، ومن تم يتحكم في وضعها المالي. والأمر سيان في البوادي حيث نلاحظ، في حالة الجنانات (نموذج جنانات حبالات مغرز وبني مسافر والمعصرة …) كيف تتنازل المرأة عن نصيبها لأخيها أو عمها أو غيرهما، ممن يحمل نفس الاسم لأن الثروة هنا عبارة عن أرض وبالتالي لا سبيل لأي تهاون، لأن ذلك يقتضي تقسيم الأرض أي تفتيت الثروة. وإذا كانت التعابير المستعملة لا تفصح هل تم ذلك عن رضى أو غصب، فالنوازل المرتبطة بالبوادي التابعة لـ”لمملكة فاس” أو غيرها تشير بوضوح إلى ممارسة شتى أنواع الضغط النفسي والمادي لدفع المرأة للتنازل عن نصيبها، وفي حالة ما إذا رفضت تقصى وتبعد وتتبرأ منها كافة القبيلة[18]. ذلك أن الأرض هي ثروة الأسرة التي تحدد مكانتها داخل القبيلة، كما أن القبيلة نفسها لا تسمح بتمليك جزء من ترابها لمن هو أجنبي، فالقبيلة والأسرة عضد واحد شأن ذلك شأن العائلة والطائفة في المجال الحضري.

     ماذا لو كانت فاطمة المذكورة سابقا في دار ابن حيون، تزوجت من من هو أكثر سلطة وجاها واستطاعت فاطمة بالفعل ضم ملك أبيها لها. إذا افترضنا أنها حالت دون تملك زوجها لملك أبيها فإن أولادها الحاملين لاسم أبيهم سيضمون ملكها لملك أبيهم بعد وفاتها. لذلك حرصت الأسرة على تزويج الفتيات من أبناء عمومتهن، كما حرصت أن يكون زواجهن تحت سيطرتهن، فإذا كان الأب حاضرا فذاك وإلا فالأمر يوكل للوصي. ولذلك اقترنت الوصاية بتزويج الفتاة وإن كان ذلك كرها.

زواج الجبر وزواج القاصر

      لا يكاد يخلو رسم من وصاية، ولا تكاد تخلو وصاية من صيغة تتكرر نفسها دون تغيير أو تبديل في مضمونها، كما لو أنها جزء لا يتجزأ من ديباجة الوصايا، علما أن الأسر مختلفة والمجالات مختلفة وأحيانا الفترات الزمنية كذلك. وغالبا ما تختم الوصية بنفس الجملة: ” بالايصاء التام المطلق العام الجامع لفصول الايصاءات النظرية كلها المحيط بكافة معانيها بأسرها، وجعل لها (أو له حسب الوصي) إنكاح الأنثى قبل البلوغ وبعده، بحكم الإجبار من غير كشف ولا استئمار[19]. وحتى وإن تغيرت الصيغة فالمضمون واحد كما في رسم جنان سيطوط الذي جاء فيه ” يوصي (أي صاحب الجنان) أنه إذا مات فالوصي على ابنته أم العز البكر، التي في حجره وتحت ولاية نظره، شقيقها محمد والطالب محمد ابن شقيقه أحمد أي ابن عمها ” بالإيصاء التام الجامع لجميع فصول الإيصاءات النظرية حتى إجبارها على النكاح من غير مشورة ولا استئذان“.  نلاحظ كذلك أن الجملة القاضية بحق الوصي في تزويج الأنثى قبل البلوغ وجبرا معزولة، وكأنها بندا خاصا في الوصاية له أهميته، يتم عزله لتأكيد ذلك الحق للوصي حتى لا يقع أي لبس أو غموض. ويبدو أن الأمر كان متعارفا عليه وجاريا به العمل بفاس ولا يعاتب فيه عالم ولا فقيه ولا حتى قاضي الجماعة بفاس. ولا شيء بين سطور الرسوم يبين أن قاضيا أو عدلا أبدى اعتراضه أو حتى تحفظه على هذا الأمر، وكأنه نوع من التواطؤ الجماعي أو التسليم الجماعي بالأمر. إنها نفس الأسباب التي حالت دون حيازة المرأة لملك أبيها المشار إليها أعلاه. إنه الخوف من أن تكون المرأة بوابة لدخول الأجنبي على العائلة والطائفة بالمدن أو القبيلة بالبوادي. إنها الوسيلة لضمان عدم حدوث أي خلخلة في النظام الاجتماعي -الاقتصادي. ومن هنا نفهم حرص العائلات على تزويج بناتهن من أبناء عمومتهن، ونفهم حرص الأب على تمكين الوصي من هذا الحق. إن تزويج الصغيرة وإلزامها على من تختاره العائلة هو بمثابة صمام الأمان للحفاظ على النفوذ والجاه والسلطة، وأحيانا البقاء والاستمرارية.

المرأة والتعدد

     حالة واحدة ضمن كل الرسوم تحضر فيها ظاهرة تعدد الزوجات، حيث حضرت الزوجتان أثناء تقسيم

التركة. أما في الحالات الأخرى التي نفهم منها وجود زوجتين للهالك أو لأولاده، فلا تحضر عند تقسيم التركة سوى واحدة، بمعنى أن الثانية توفيت أو طلقت. وبالتالي فظاهرة التعدد نادرة في هذه الرسوم. وهذا أيضا أمر متوقع ومتولد عن نفس الخوف على الثروة المؤسسة للنفوذ والجاه والسلطة. إذ قد يسفر التعدد عن كثرة البنين والبنات، مما يولد إمكانية أكبر لتفتيت الثروة والانفتاح على “الأجانب”، واستوجب الامر العمل على تجنب وقوع هذه الحالة.

      هكذا شكلت الحقوق المالية للمرأة، حسب الشرع الإسلامي، في كثير من الأحيان وخاصة عندما تكون الظروف عصيبة، تهديدا لنفوذ ومكانة الأسرة (أو الطائفة بالمدينة والقبيلة بالبادية)، نظرا لارتباطها بحجم الثروة التي تمتلكها. ولذلك استعملت كافة الوسائل واستبيحت لحرمان المرأة من هذه الحقوق. وبالتالي المسألة غير مرتبطة بالنوع بقدر ما هي مرتبطة بصيرورة الثروة وعلاقتها بالنفوذ والسلطة.

وسوم: المرأة في تاريخ المغرب، الوضع الاجتماعي للمرأة: الإرث والثروة والزواج

حليمة عزاب

باحثة من كلية الآداب – عين الشق الدار البيضاء


[1]  كما هو شأن المعلمين البنائين الذين أدلوا بخبرتهم حول حال دار درب بن حيون وقاموا بوصف ما بها من شقوق وعيوب، ووثقوا ذلك بحضور العدول وذيل رسم الدار بهذه الوثيقة.

[2]  لا يعني أن هذه الدار تشكل استثناء بل بالعكس فحالات باقي الدور والجنانات هي حالات مماثلة، إنما اعتمدنا على هذا النموذج لكونه يتوفر على مختلف الحالات.

[3]  الأمر يتكرر في رسم جنان سيطوط (ص. 30) ودار السبع لويات (ص.38).

[4]  رسم جنان سيطوط، ص. 24.

[5]  ص.35.

[6]  يذكرنا هذا بوصف الوزان للحمالين بفاس.

[7] حسن الوزان، وصف إفريقيا، ص. 257.

[8] نفسه، ص. 230.

[9] نفسه، ص. 256.

[10] ابن عيشون الشراط، الروض العطر الأنفاس بأخبار الصالحين من أهل فاس، دراسة وتحقيق زهراء النظام، منشورات جامعة محمد الخامس، سلسلة رسائل وأطروحات، 1997، ص.151.

[11] الوزان، ص.216.

[12] نفسه

[13] مارمول، إفريقيا، ص.152.

[14] الوزان، ص. 256.

[15] خصص الأستاذ مصطفى بنعلة فصلا خاصا للوقف المعقب، تطرق فيه إلى هذه الظاهرة في جزئه الأول من دراسته الخاصة بتاريخ الأوقاف الإسلامية بالمغرب في عصر السعديين من خلال حوالات تارودانت وفاس. مصطفى بنعلة، تاريخ الأوقاف الإسلامية بالمغرب في عصر السعديين من خلال حوالات تارودانت وفاس، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية،2007، ج. 1،ص. 174- 184.   

[16] تكررت تقريبا هذه في جل الرسوم. فمثلا للدار السبع لويات والتي كانت من نصيب عائلة المنجور، نلاحظ تداول العديد من أسماء الفقهاء والعدول، أثناء عمليات البيع والشراء وفي النهاية سيحوزها طالب.

[17]  محمد مزين، فاس وباديتها، الجزء الأول، ص. 210 -211.

[18]  الجواهر المختارة، نوازل العلمي، المعيار للونشريسي، وغيرها.

[19]  رسم دار بن حيون، ص. 2، والرسم 1، والنص 1 ولا يكاد يخلو رسم من هذه الصيغة وكلما أوصى أحد لأحد إلا ووجدنا هذا البند.[

- حليمة عزاب

باحثة من كلية الآداب - عين الشق الدار البيضاء

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.