تمكن فريق من الباحثين اليابانيين المعززين بنظرائهم المغاربة من إصدار كتاب يتضمن تخريجا وتحقيقا لعدد من الوثائق المكتوبة على رق الجلد، والمتعلقة برسوم ملكية وانتقال بعض العقارات الموجودة في مدينة فاس ونواحيها خلال فترة تمتد من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر[1].
I – تقديم للكتاب :
صدر هذا الكتاب باللغة الإنجليزية، باستثناء الفصل الرابع الذي حرره لطفي بوشنتوف باللغة الفرنسية، والنصوص التي كتبت باللغة العربية. وتنقسم الدراسة التي خصصت لهذه النصوص إلى خمسة فصول، يمكن أن نوجز مضامينها بعجالة كالآتي:
1. الفصل الأول: هو مقدمة موجزة بقلم ميورا تورو، تطرق فيه إلى قصة هذه الرسوم العدلية الفاسية، التي اشترتها مؤسسة طويو بونكو، سنة 1989، وإلى طبيعتها، ونظام العقود في العالم الإسلامي وفي المغرب، وعرف بها في جدول مركز أحاط بها وعرف بها، وأغنى عن الكثير من الكلام وهو الآتي:
الرقم | العقار موضوع الرسوم | التاريخ | المقياس | عدد العقود | آخر مالك للعقار |
I | دار درب بن حيون | 1550- 78 | 92X61 | 10 | عائلة الزواق |
II | جنان سيطوط | 1539- 1676 | 80X30 | 23 | عائلة القصري |
III | عقد دار السبع لويات | 1538- 1637 | 72X30 | 5 | عائلة السفياني |
IV | رسم جنان الحبالات | 1623- 1838 | 51X27 | 11 | عائلة الجرندي |
V | عقد المعصرة | 1670- 1722 | 74X59 | 15 | عائلة اللمطي |
VI | بلاد واد المالح | 1712- 1823 | 39X42 | 5 | عائلة الجرندي |
VII | رسم نصف المصرية | 1683-1741 | 72X37 | 5 | عائلة الجرندي |
VIII | جنان بني مسافر الحبالات | 1721- 1838 | 69X51 | 15 | عائلة الجرندي |
2. الفصل الثاني: عن شكل واستعمال هذه الرسوم، من إنجاز ساتو كنتارو. وتطرق فيه إلى التعريف بالوثائق ووصفها، بما هو معلوم عند الباحثين المغاربة ولكنه ضروري لتعريف القارئ الياباني، ومن ذلك تأكيده على أن كل العقود مكتوبة من جهة واحدة ما عدا الرسم الثاني، وأن الكتابة تكون من أعلى إلى أسفل ومن اليمين إلى اليسار، وأن العقود ليست كلها أصلية فهي أحيانا نسخ من عقود أخرى يصادق عليها العدلان والقاضي، كما أن نسخا منها تحفظ عند العدلين والقاضي، وتحدث عن الضوابط المتبعة في كتابة العقود، ومواضيعها المختلفة، وكيف يتم إعدادها والحفاظ عليها، وغير ذلك من الأمور الشكلية التي تعرف بالوثائق وتفسر طبيعتها ووظيفتها وقيمتها للقارئ الياباني على الخصوص.
3. الفصل الثالث: وصف/ عرض للوثائق: هذا الفصل هو أطول الفصول، وهو على ما يبدو عمل مشترك تضافر على إنجازه كل أعضاء الفريق، وهو الفصل الأهم، حجما (مائة صفحة)، ومضمونا. وفيه يظهر المجهود الضخم الذي تطلب من الباحثين سنوات من العمل المتأني الدقيق، وهو الفصل الذي حاول فيه المؤلفون إظهار قيمة الرسوم التي عملوا على تحقيقها وتقديمها للباحثين، عن طريق التوضيح والتفسير، وتقريب المفاهيم المغربية للباحثين غير المغاربة.
قام الباحثون بعرض مفصل للوثائق، بعد ترجمة مضامينها إلى اللغة الإنجليزية. وقدموها بالطريقة التالية التي نلمسها من أول صفحة من صفحات هذا الفصل (الصفحة 23). فعند تقديم الرسوم الثمانية، يستهلون التقديم بوصف عام للرق الخاص بكل عقار، يتضمن المواصفات التقنية مثل اسم العقار موضوع الوثيقة والعقود، وحجم الرق، وعدد العقود المضمنة فيه، والفترة التي شملتها عقوده، بالتاريخ الهجري والموافق الميلادي. وأسماء الأطراف المتعاقدة المذكورة فيه. وبعد ذلك تم التطرق بالتفصيل لكل عقد من العقود المتضمنة في الوثيقة، موضحين تاريخه وعدد الأسطر وإمضاءات العدول، التي أعطيت لها أرقام تيسر الرجوع إليها في صور بآخر الفقرة المتعلقة بكل رسم. وداخل كل عقد، تتم الإشارة إلى الإضافات والشهادات الملحقة بالعقود مرقمة، تحت عنوان: النص رقم 1 والنص رقم 2 وهكذا دواليك. وكلها مرفوقة بأسماء العدول وتاريخ الإضافات، ثم تم تقديم مضامين هذه العقود مبينين طبيعتها: الشراء أو الوصية أو التقديم أو التحرير من ثقاف الحجر، وغير ذلك. وبعد الانتهاء من كل رسم، زود الباحثون الكتاب بصور ورسوم توضيحية، تتضمن مثلا العلاقات العائلية -إن وجدت-بين الأطراف المذكورة في العقود، وصور إمضاءات العدول والقضاة المشار إليها آنفا، ثم أوردوا مخططا توضيحيا يبين العلاقة بين العقود والنصوص المكونة للرسم، بحيث تظهر العلاقة بين النصوص، وما هو مدون في الرسم أو تم نسخه ونقله وإضافته إليه.
وهذا الوصف يظهر بوضوح قيمة العمل المبذول في تخريج وتحقيق وتقديم هذه الرسوم. وقد اتبع المؤلفون نفس النهج مع كل الرسوم مما سيساعد القراء مغاربة أو أجانب من الاستفادة منه. وبذلك استعرضوا نصوص كل الرسوم التي تمت دراستها والتعريف بها، بنفس المنهج.
4. الفصل الرابع، من إنجاز لطفي بوشنتوف بعنوان: عندما تتجاوز فاس تهميشها:
أحسن الباحثون اليابانيون بإشراكهم لطفي بوشنتوف في هذا العمل، فهو مؤرخ مختص في تاريخ المغرب الحديث، ومختص أكثر في التاريخ الديني وعلماء الفترة، وله إلمام بالتالي بالعقود والعلماء الذين كانوا يحررونها، ومنهم علماء مرموقون تناول سيرتهم ومواقفهم في أطروحته الهامة عن العالم والسلطان، كما أنه متمرس بقراءة ودراسة مخطوطات الفترة، وفك طلاسم الخط المغربي. ولا شك لدي بأن إسهامه في تذليل العديد من الصعاب كان كبيرا.
في هذا الفصل يقدم بوشنتوف مادة تاريخية مركزة تساعد على فهم العصر الذي وجدت فيه هذه الوثائق، ومدينة فاس، من خلال مدخل أشار فيه إلى ظروف الانتقال من فترة ازدهار كبير في العصر المريني إلى التراجع الذي أوصل الوطاسيين إلى السلطة في ظروف صعبة، وفي مرحلة صراع أدى في الأخير إلى استقرار السلطة بيد السعديين، بدون أن يتأثر الإرث الحضاري الكبير الذي تشهد عليه المدينة بعمرانها وتنظيماتها ومؤسساتها ومكانتها بين المدن الأخرى. وركز على دور القرويين الذي لا يقتصر عليها كمؤسسة دينية، ولكن كمؤسسة رائدة في التعليم ومؤسسة اقتصادية لها وزنها في الإشراف على الأوقاف وتكوين موظفي الدولة، وفي السير العادي لباقي المؤسسات، وتتمحور حولها معظم الأنشطة الاقتصادية. كما تحدث عن فاس كمدينة حاضنة لمجتمع متعدد الأصول، محافظ على الانسجام في إطار التعدد الذي يغني حضارة المدينة والمغرب. بدون إغفال العلاقات القوية التي نسجتها المدينة مع المحيط وإشعاعها الذي فاق إطار المدينة الضيق. ثم تطرق إلى التطورات التي عرفتها المدينة ما بين سنتي 1554 و1557، وهي السنوات التي تلت دخول السعديين إلى فاس، وتثبيتهم لسلطتهم في البلاد. حيث تأرجحت أوضاع المدينة السياسية بين الاستقرار والاضطراب، وهو ما أثر على أوضاع المدينة الأخرى-كما ورد في نفس الفصل-حيث عرفت فترات من الازدهار، لم تخل من أزمات اقتصادية ناجمة عن الحروب والأوبئة والمجاعات، وصلت إلى حدها الأقصى مع وفاة السلطان أحمد المنصور وصراع أبنائه على السلطة، وما أفرز من تشتت سياسي خيم على المغرب لعدة عقود.
5. الفصل الخامس: الأرقام الفاسية المستعملة في الرقوق:
أفرد فيه كاميا مانابو بضع صفحات للتعريف بالأرقام الفاسية المستعملة في الوثائق، موضحا ذلك بصور منها وبجداول مفيدة للباحثين غير المتمرسين بالتعامل مع هذا النوع من الوثائق.
وبعد ذلك نجد في الكتاب ملاحق تتضمن صورا لكل الوثائق كما وصلت من المغرب، بطياتها ووضعيتها المتردية، ثم بعد أن أزيلت منها آثار الطي وأصبحت صالحة للاستغلال. وبعدها نجد فهرسا بيبليوغرافيا للمصادر والمراجع التي تم الرجوع إليها، وثبتا بأسماء الأماكن والأعلام والمصطلحات المستعملة في الكتاب.
وفي الأخير نجد نصوص الوثائق باللغة العربية، بنفس النظام، حيث نجد الوثيقة واسمها، ثم كل عقد على حدة، وأرقام الأسطر، والتمييز بين النصوص المتضمنة في العقد والمضافة إليه. وبدل الإمضاء يحال على صورته بالرقم/ الرمز الموجود في النص المكتوب بالّإنجليزية. وقد اختار المحققون أن يصححوا أو يكملوا في النص ما اعتقدوا أنه خطأ أو بتر أو رجحوه على غيره، وأشاروا إلى نصه الأصلي في الإحالات الهامشية، ووضعوا الفراغات أو ما رجحوا تكملة الفراغ به بين معقوفتين، وعلامة استفهام على ما أشكل عليهم ضبطه، بدون أن يستغلوا الإحالات الهامشية للتعريف بالأعلام وشرح المصطلحات العديدة، التي اكتفوا بوضع ثبت لها في القسم المحرر بالإنجليزية.
II – ملاحظات ما بعد القراءة:
إن القراءة المتأنية لهذا الكتاب، تسمح بتقديم بعض الملاحظات المتعلقة بأهميته، والإضافات التي أتى بها، وطريقة العمل التي اشتغل عليها الفريق، وغيرها من الملاحظات والاقتراحات التي سأجملها في الآتي :
1- عناصر القوة والأهمية في الكتاب:
يستمد هذا الكتاب أهميته من عدة مميزات يمكن أن أوجزها في الآتي:
- الطباعة الجيدة: هذا الكتاب الذي يحتوي على 296 صفحة، جيد الطباعة، وغلافه مجلد تجليدا جميلا، بحجم مناسب، وأوراقه صقيلة بلون مريح، وهو مزين بملاحق صور بجودة عالية وبالألوان.
- لغة تحرير الكتاب: من البديهي أن مصلحتنا كقراء مغاربة، في أن يكون هذا الكتاب باللغة العربية أو الفرنسية، لكن اختيار اللغة الإنجليزية، به الكثير من الفوائد والمزايا، فهو يعطي الفرصة لعرضه على قطاع عريض من القراء الأنجلوفون، الذين يتوزعون على العالم، وفي طليعتهم القراء اليابانيون، ويفتح الطريق أيضا أمام انتشار التعريف بالوثائق موضوع الكتاب وبتاريخ المغرب، ويساهم في إثارة انتباه الباحثين إلى الاهتمام بهما.
- العمل الجماعي: فقد تقاسم مهمة إنجاز هذا العمل فريق منظم، وزع المهام بين أفراده حسب التخصصات ومراحل الإنجاز، وطبيعته، وأشرك فيه من توسم فيهم تقديم الدعم، وتسهيل المأمورية من المختصين، وخاصة المغاربة، واستعان بخبرتهم واستشار معهم (نذكر على سبيل المثال: لطفي بوشنتوف ومحمد أعفيف ومحمد مزين ومؤسسة المكتبة الوطنية وغيرها) وزاوج بين العمل التقني المحض وبين العمل العلمي الهادف إلى الاستفادة من الوثائق وتيسير التعامل معها.
- اختيار الوثائق: لا نعرف بالضبط هل كان اقتناء الوثائق بالصدفة أم عن رغبة سابقة مبنية على دراية مسبقة بأهميتها. ولعل الأرجح هو أن اقتناء الوثائق تم في البداية على أساس الحدس بأهميتها، فهي في حد ذاتها، وبغض النظر عن مضمونها ثمينة، لأنها مكتوبة على رق الجلد، وتعود إلى بضعة قرون، والحفاظ عليها من مالكيها دليل مرجح لقيمتها. لكن هذه القيمة لن تظهر إلا بعد الفحص الدقيق لمضامينها ودراستها. فالحظ هنا ساعد على إعطاء قيمة إضافية لهذه الوثائق. ولذلك فإن هذا الاختيار كان موفقا ومفيدا.
- الزمن الذي استغرقه الإنجاز: تم اقتناء هذه المجموعة من الرقوق من لدن مؤسسة طويو بانكو سنة 1989، ولكن الفريق لم يبدأ الاشتغال عليها إلا سنة 2009، ولم ينته من عمله إلا بعد أزيد من خمس سنوات. وهي مدة كافية للتشاور والتأمل والتدقيق وإنجاز هذا البحث، والتغلب على المصاعب التقنية والعلمية التي يجب تذليلها. لقد تطلب العمل على هذه الرقوق زيارات ميدانية متعددة من الفريق الياباني إلى المغرب، والاستعانة بباحثين مغاربة، وتعلم اللغة العربية والاستئناس بالخط المغربي، والتعرف على طبيعة العقود المغاربة والإشكالات المتعلقة بالتعامل معها، وفهم طريقة صياغتها، ونظام المواريث المغربي، والوصية والشهادة، والتعرف على المدينة وأشكال العقار المعروفة، وزيارة الأحياء التي احتضنت العقارات، ومعرفة السياقات التاريخية التي أنشئت العقود في ظلها. وهي أمور صعبة على الباحث المغربي الذي لم يألف التعامل مع عقود العقار، وهي أصعب لا شك على أعضاء الفريق الياباني، وتطلبت منهم يقينا وقتا وجهدا للإحاطة بها ولو في أضيق الحدود.
- طريقة اليابانيين في التحقيق، التي أضافت لمسة بنكهة خاصة لما جرى العمل به في المغرب. فبالإضافة إلى توزيع العمل، فإن جزء كبيرا من العمل انصب على الشكل، وظهر ذلك من الحيز المخصص له في الكتاب. الاهتمام أولا بالرقوق وأشكالها ومقاييسها، وإعدادها للاستغلال، واهتمام بالحبر وبالخط، وتوطين النصوص في كل رق، والجهة التي كتبت عليها العقود، والترتيب الزمني والمكاني للنصوص، والإمضاءات التي تتخللها، والأرقام وضبط الأسطر الأصلية وغير ذلك. ثم تقديم نتائج هذا العمل إلى القارئ في حلة عصرية، بالصور والخرائط والرسوم البيانية والتفسيرات المواكبة للنص، والملخصات التقديمية والترجمة، وكلها عمليات تتطلب الدقة والنفس الطويل والتعاون والتشاور وهي مزايا قلما تتوفر في هذا النوع من الأعمال.
2. ملاحظات من أجل الأخذ بها مستقبلا:
لا شك أن ما قدمته من ارتسامات أعلاه، تؤكد استحساني لهذا العمل، ولكن هذا لا يمنع من إبداء بعض الملاحظات التي أعتقد أنها كفيلة بإضفاء المزيد من الفائدة على هذا النوع من الأعمال، خاصة وأن هذا الكتاب- كما هو باد من عنوانه-هو القسم الأول، الذي سيتلوه بدون شك قسم ثان وربما أكثر من ذلك.
وأول ملاحظاتي هي عن اللغة التي حرر بها الكتاب، وهي اللغة الإنجليزية، وأبديت آنفا تحبيذي لذلك، لكن مؤلفي الكتاب حرروا فصلا واحدا باللغة الفرنسية، وكان بإمكانهم ترجمته إلى اللغة الانجليزية، لينسجم مع باقي الفصول أولا، ولأن النص موجه أساسا إلى القراء الانجلوفون، ولا شك أنه حين سيصل إلى هذا الفصل سيتجاوزه، لعدم وجود ملخص له أو ترجمة، وبالتالي لن يستفيد من التوطئة التاريخية الضرورية لفهم النصوص.
يرتبط بنفس الموضوع، أن الفصل المخصص للسياق التاريخي، يلزم أن يكون أكثر التصاقا بالموضوع، مضمونا وزمنا، وألا يقتصر على القرن السادس عشر، لأن النصوص تمتد إلى القرن التاسع عشر، كما أن العامل الاقتصادي كان حاضرا جدا في النصوص: نقود وأسعار ومعاملات وعقار، والجانب الفقهي القانوني كذلك (التقديم والوصية والإرث والشهادة…الخ)، مما يستلزم تعريفا أو مدخلا لوضع القارئ الأجنبي في الصورة، حتى يتمكن من الفهم.
في إطار الترتيب، فإن الدراسة الخاصة بالأرقام الفاسية، جاءت متأخرة بعد تقديم النص باللغة الانجليزية وبعد الفصل التاريخي، وكان من الممكن ترتيبها بعد الفصل الأول وقبل الفصل الثالث. وفي نظري أن الترتيب الطبيعي هو الفصل الأول والثاني ثم الفصل الخامس ثم الفصل الرابع مترجما وأخيرا وبعد أن نقدم للقارئ كل التوضيحات الممكنة، نصل إلى النص بالانجليزية ثم النص الأصلي بالعربية.
وبالنسبة لقراءة المخطوط وفك طلاسمه، كان من المفيد الاستعانة بخبراء الوثائق العدلية والخطوط المغاربة والعدول لأنهم أقدر على تقديم التفسيرات بحكم اختصاصهم، ويوجد حاليا متخصصون في المخطوطات والخطوط من مستوى عال في المغرب.
وأخيرا ينقص النصوص شيء هو في النصوص المغربية أساسي، وهو الإحالات الهامشية المفسرة لما يشكل على القارئ من أسماء وأعلام ومصطلحات وشروح لغوية وتاريخية، وهي كثيرة في الرقوق المعالجة، لكن هذا يتجاوز ربما طاقة الفريق الياباني، ويمكن تداركه في المستقبل.
3. الإفادات التاريخية المتوخاة من هذا التحقيق:
ما الذي يبرر بذل هذا الوقت والمجهود الكبيرين لتحقيق وضبط وتخريج هذه النصوص؟ هذا السؤال مهم جدا بالنسبة للباحثين الشباب الذين انصرفوا انصرافا شبه كلي عن التحقيق، الذي تناقص عدد المشتغلين به إلى حد كبير.
لا بد هنا من التذكير بالاختلاف الموجود بين المصادر التي يشتغل عليها الباحثون، حسب طبيعة المواضيع التي يشتغلون عليها، فالمشتغل على التاريخ السياسي والإداري يجد ضالته في الكتب الإخبارية والحوليات، التي توفر مادة غنية وميسرة، كما أن كتب التراجم تعطي للباحث ما يرغب فيه من معلومات عن مشاهير العلماء والساسة والقادة، وكتب المناقب تعطيه مادة غنية للبحث في التاريخ الديني. لكن جل المصادر تشح كثيرا عند البحث عن مادة تفيد الباحثين في التعرف على الأحوال الاقتصادية، وخاصة التفاصيل المتعلقة بالحياة اليومية، والتبادل التجاري، وحياة بعض الفئات الاجتماعية، والبضائع والنقود والأسعار، والعلاقة بين المدن والبوادي، وغير ذلك من المعلومات الكثيرة التي نحتاجها للتعرف على التاريخ الموازي الذي لم يهتم به المؤرخون في الماضي، ولم تسعف المصادر المؤرخين لتناوله بأريحية في الوقت الحاضر.
ميزة رقوق العقار المحققة، أنها تمكننا، ولو بصفة جزئية، وفي حدود ضيقة، من الحصول على معلومات متنوعة وصالحة للاستغلال التاريخي، وكفيلة، إن هي أضيفت إلى كم آخر من المعلومات المشابهة، أن تفتح للباحثين الباب للقيام بأبحاث عن العقار والملكية والاقتصاد المغربي وعن فئات التجار والحرفيين والعلماء خلال فترات مهمة من تاريخ المغرب.
سأكتفي بالإشارة بعجالة إلى بعض هذه الإفادات، حسب ما يتيحه المجال، كالآتي:
- نجد في النصوص معلومات عن مجموعة متنوعة من العقارات: الدار، والمصرية، والمعصرة والخربة والجنان، ووصفا لمواقعها في فاس أو خارجها: ” الأرض الكائنة بخندق السبع من لمطة وتتصل بجنان التازي وبعرصة بنجلون وبالطريق وبغرس قاسم العطار”، أو “الدار بالنيارين قرب السبع لويات من فاس القرويين وتتصل بالسقاية التي هنالك وبالفرن وتجاورها مصرية إمام جامع القرويين…”، أو ” جميع الخربة كانت دار الراعي داخل باب الجيسة المجاورة لروضة سيدي أحمد بن عمر ولعرصة ورثة سيدي أحمد بن يحي وزنقة درب البرامكة “.
- – نجد معلومات عن تطور وحالة العقار، خلال فترة تصل إلى أكثر من ثلاثة قرون، وما يتعرض له من تدهور، أو تغيير بفعل الملكية: الخربة التي تتحول إلى معصرة، وملكية المصرية ونصف المصرية وتقسيم الأراضي حسب الأسهم، وتجميعها عن طريق الشفعة أو الشراء.
- – نجد معلومات عن الملاك، فمنهم التاجر والعطار والخضار والبقال والدباغ، وغيره من الفئات الاجتماعية التي قلما نجد ذكرا لها في الكتب الإخبارية العامة، وهي – على قلتها-تؤكد انتماء بعضهم إلى فئة الملاك الميسورين نسبيا. كما نجد معلومات عن أشكال التملك وكيفية انتقاله، والعمليات الشرعية المرتبطة به، مثل: التحجير والترشيد، والوصايا، وتعيين أوصياء على الملك في حالة وفاة المالك للحفاظ على الملك، (حالتان: الأم التي لا تتصرف إلا بإذن وصيين، والوصيان اللذان لا يتصرفان إلا بإذن الأم).
- – العقود: توجد بهذه النصوص مادة غنية عن صياغة العقود منذ القرن السادس عشر، حيث تتنوع تنوعا كبيرا: الوصية والإرث والترشيد والتحجير والتقديم وتقسيم التركات، والشهادات العدلية واللفيفية، والمطابقة للعقود الأصلية، مع توقيع العدلين والقاضي، وأسماء الشهود، والمصطلحات الخاصة بكل عقد. والأرقام المستعملة والرموز وطرق القسمة (الأسهم)، ومسطرة انتقال الأملاك التي لا مالك لها إلى المخزن، وكيف يعيد بيعها، وطرق تحديد العقار، وإجراءات الخبرة عليه. (انظر ص 200 و189: الخبرة التي أجراها البناءان: المعلم علي بن فرج والمعلم محمد بن أحمد بن داود لدار درب بن حيون). ” وجميع ما بداخلها من البناء بعضه فخار مزير معلق وبعضه طابية مسطحة معرقبة وأرضها مسندة وأرض الغير كذلك مقدار عشرة أشبار ودرجها محمول من أسفله إلى منتهاه وبعضه على مناجل من جص مفرقعة مدقوقة وبعضه على عتب من خشب مفردة مطروشة وأعواد حلقتها مفردة مطروشة وأنعلتها مدلية ومشيعتها مرفوعة “.
- – في النصوص أسماء علماء اشتغلوا بالعدالة والقضاء، معروفين في المصادر التاريخية، ومنهم على سبيل المثال محمد بن خروف التونسي، وأحمد بن محمد الطرون والرغيني والعوفي وابن بردلة وابن المشاط وعبد الواحد الحميدي. تؤكد توفرهم على مداخيل مالية للعيش.
- – في النصوص أيضا معلومات عن أثمان العقارات، وعن النقود، مثلا: 155 دينارا من الذهب الدراوي، ومائة أوقية سكة تاريخه، وستمائة أوقية من الدراهم الموصوفة، والذهب المسكوك الجاري وقت تاريخه، و80 مثقالا دراهم…الخ. وتبقى هذه المعلومات ناقصة بسبب أن العقارات حددت بالموقع وليس بالمساحة، وأن قيمة ما تمثله النقود لا يمكن أن تظهر إلا إذا تحددت مساحة العقارات، وقورنت ببعضها، ويزيد الوضعية صعوبة أن المجال الزمني ممتد لعدة قرون، وأن النقود غير موحدة، ولذلك يرتبط الثمن بجملة: سكة تاريخه. ويستعمل الناس نظام المراطلة، كما يدل على ذلك وزن المثقال والأوقية، المرتبط بالدراهم والدنانير.
وفي الأخير، يبقى استغلال هذه الرقوق استغلالا أوفى
رهينا بالمزيد من البحث في هذا النوع من الوثائق، فالرقوق تمثل عينة صغيرة، معبرة،
ولكنها لا تكفي. وتعميق البحث في هذا النوع من الوثائق، سيمكننا بدون شك من التعرف
على مدينة فاس، وتطورها، وعلاقاتها بالنواحي، وإعادة رسم معالم أحيائها القديمة،
واستعادة الكثير من التفصيلات الضائعة عن حياة الناس ومعاملاتهم، وظروف عيشهم،
والتطور الذي عرفته المدينة، بالمقارنة مع ما بقي صامدا منها أمام التغيير.
[1] Miura Toru, Sato Kentaro, The Velum Contract Documents in Morocco in the Sixteenth to Ninetenth Centuries , Part I, Tokyo , The Toyo Bunko, 2015, 296 pages.