الثلاثاء , 12 نوفمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » ترجمـات » الصدفة في التاريخ

الصدفة في التاريخ

محاضرة للمؤرخ جان نويل جيانيني

Jean-Noël_Jeanneneyالتقديم سبق لي أن بينت، بمناسبة ترجمة وتقديم محاضرة للمفكر الفرنسي إدغار موران(Edgar Morin) حول الثقوب السوداء في المنظومة التربوية، الفائدة المعرفية والبيداغوجية لصيغة المحاضرة بالنسبة للقضايا الفكرية الشائكة، ولخصتها في كون صيغة المحاضرة تلزم المحاضر بنظام محدد للعرض يراعي دقة المضمون ووضوح العرض وتيسير الفهم لجمهور الحاضرين الذي لا يفترض فيه بالضرورة العلم المسبق بالموضوع ولا بالتخصص الذي تتأطر ضمنه المحاضرة. فيكون المحاضر ملزما باحترام هذه المطالب إن أراد لمحاضرته تحقيق المراد، وهو الفهم الذي يحول الاستماع إلى متعة.

لكني اليوم، أجد نفسي مضطرا للإجابة عن سؤال قد يطرحه كل متتبع لمجلتنا الإلكترونية رباط الكتب: لماذا نشر محاضرة ألقيت شفويا في مجلة هدفها هو الحديث عن الكتب لا عن المحاضرات التي ينتصر فنها للإلقاء الشفاهي لا للكتابة؟

للإجابة عن السؤال أقول: أولا، إن ترجمة المحاضرة هي كتابة، أو بالأصح إعادة كتابة لما نطق به المحاضر أمام الحضور حين كان يلقي محاضرته، سواء كان نصا محررا أو رؤوس أقلام، وهو ما قد يكون خلاصة قراءات لكتب و تمعن لتجارب في الحياة، قد تنتهي بدورها كتابا أو كتبا… ثانيا، تعتبر هذه المحاضرة جولة افتراضية بين كتب معينة استحضرها المحاضر وهو يفكر في دور الصدفة في التاريخ ومكانتها. فهو في هذه المحاضرة كان يربط بين بعض الكتب برباط الصدفة، ومن هنا بالذات تجد هذه المحاضرة مبدأ استضافتها داخل هذه المجلة.

وتريد الصدفة أن يكون هذا العدد مخصصا في جزء منه لمؤرخ ومفكر مغربي دافع عن التاريخانية، وبالتالي عن فهم معين للتاريخ يستحضر التوتر الدائم بين مطالب العقل المنظم والمشرع انطلاقا من فهم معين للضرورة التاريخية المبنية بعديا، من جهة، ومفاجآت الصدفة…وإنها لفرصة طيبة لمعاينة هذا الحوار الدائم بين الضرورة (التاريخية) والصدفة…وهو حوار يربي الفهم وينسب الفعالية البشرية، غير أن تنسيبه لتلك الفعالية ليس ضدها بل من أجلها حتى تعرف حدودها ومسالكها.

والمؤرخ جان نويل جيانيني(Jean Noel jeanneney ) من المؤرخين الفرنسيين المرموقين، اختص في تاريخ الفكر السياسي والتواصل. تقلد مناصب سياسية عليا، وتولى منصب الرئيس المدير العام لإذاعة فرنسا، كما تحمل مسؤولية إدارة المكتبة الوطنية الفرنسية، وبصفته تلك دافع عن مشروع المكتبة الإلكترونية العمومية “أوروبيانا”.

ألقى جيانيني هذه المحاضرة بتاريخ 03 ديسمبر 2004 بالرباط، بمناسبة افتتاح فعاليات “مواعيد التاريخ” التي تنظمها وزارة التربية الوطنية. نقدمها للقراء بعد تعريبها، مع بعض التصرف وإضافة بعض التوضيحات من أجل تسهيل الاستفادة وتعميم الفائدة.

نص المحاضرة:

أعتقد أنه ما كان من الممكن لموضوع كهذا: “الصدفة في التاريخ”، أن ينال حظه من المعالجة، لو طرح ثلاثين أو أربعين سنة خلت حين كانت فلسفات معينة للتاريخ تسود في مناطق عديدة من العالم، أي حين كان الشعور السائد هو أن قدر الناس، أفرادا وجماعات، مسجل في سجل حتميات تنفلت من إرادتهم. وتعرفون بالتأكيد، ما آلت إليه فلسفات التاريخ هاته. فقد بدأ يبرز بقوة عنصر جديد ومزعج في فكر ونوايا من كان يعتقد في هذه الحتميات، ألا وهو دور الصدفة في التاريخ.

أعتقد أن هذا الموضوع مهم جدا بالنسبة للمؤرخ ليقف عنده، حتى لو كان هذا المؤرخ يعتقد بأن الصدفة قوية كل القوة، وحتى وإن كان يقبل بأن لاشيء يفسر تفسيرا نهائيا بأي نوع من أنواع السببية. قد أقف عند هذا الحد وأهجر مهنتي، وهي من أجمل مهن العالم! ولكن اطمئنوا لن أنتهي في محاضرتي هذه النهاية، وأصل إلى هذا النوع من التشاؤم. ولكن، على الأقل، نربح من خلال استحضار دور الصدفة، الحالة الذهنية التالية: لا نعود نطمئن بسذاجة لما يعتبر يقينا، ولا لتسلسل الأحدث المحدد قبليا، وبالتالي، فإن المؤرخ معني بهذا الأمر بشكل كبير.

لقد أشرتم (يقصد المؤرخ ابراهيم بوطالب الذي ترأس الجلسة وقدمه للجمهور) إلى بعض المراحل في مسار حياتي على المستوى السياسي، ولكني رغم تحولات مساري، فأنا مؤرخ قبل كل شيء. وبالتالي فأنا معني مباشرة، كباقي زملائي الحاضرين بهذا اللايقين، بل قد أضيف قائلا إن المواطن معني بهذا الأمر أيضا، لأن التفكير فيما تستطيعه إرادتنا ومالا تستطيعه في علاقتنا بالأشياء، هو أيضا تفكير في الصدفة، بشكل ما.

“صاحبة الجلالة، الصدفة” هذا ما كان يحب فولتير أن يكرره. وهو ما يعتبر صحيحا، إذا ما اعتبرنا دور الصدفة أو الحظ (fortune)، حسب معنى القدامى، في مجرى تاريخ البشر، بحيث لا يمكننا إلا أن نندهش من حجم العرضي والصدفة في حياتنا. كان أنطوان كورنو(Antoine Cournotَََ) الفيلسوف وعالم الرياضيات والاقتصاد من مفكري القرن19 الذين فكروا في الصدفة. كان يعرفها باعتبارها الالتقاء المتزامن لواقعتين لا يوجد بينهما رابط، وإن كان لكل منهما سببه. ولنأخذ المثل الذي يقدمه هو نفسه حين كان سائرا وسقطت عليه قرَميدة، فواقعة مروره من ذلك الطريق، وواقعة سقوط قطعة من البناء، لا رابط بينهما. فالصدفة هي التقاء سلسلتين سببيتين مستقلتين عن بعضهما البعض.

والواقع أننا نلتقي دائما بالصدفة، عندما نفكر في هذه الوقائع التي يمكن أن نسميها “الأسباب الصغيرة ذات النتائج الكبيرة”، والتي كانت موضوع تفكير، خصوصا ابتداء من القرنين السابع عشر والثامن عشر. وتعرفون، في هذا السياق، قولة بليز باسكال(Blaise Pascal) عن أنف كليوباترا: “لو كان أنف كليوبترا أقصر لتغير وجه العالم” ( في الواقع، يكتب باسكال في الخاطرة رقم161 ما يلي: “من أراد معرفة فعلا غرور الإنسان ما عليه سوى اعتبار أسباب الحب ونتائجه. السبب هو نوع من ال “ما لا أعرف”(كورنيل)، ونتيجته مفزعة. فهذا ال “ما لا أعرف”، شيء تافه لدرجة عدم القدرة على التعرف عليه، ومع ذلك يحرك كل الأرض، والأمراء، والأسلحة، والعالم أجمع. أنف كليوباترا: لو كان أقصر، لتغير وجه الأرض كاملا” المترجم). ونفس باسكال ضرب مثلا آخر لا يقل أهمية عن الأول، هو مثل كرمويل الذي قال عنه: “كان سيقضي على كل الديانة المسيحية، والعائلة الملكية كانت ستزول لتتقوى عائلته بصفة نهائية، لولا الحصاة التي سدت مجرى بوله. روما نفسها كانت سترتعد تحت رحمته، لكن هذه الحصاة استقرت حيث عُلم، وكانت سببا في موته، واندحار عائلته، ورجوع السلام والملك إلى عرشه” (الخاطرة 194).

كان فولتر ٍVoltaire)) يشير إلى باسكال وكرمويل ويتحدث عن “صاحبة الجلالة، الصدفة”، وكان يورد مثالا آخر همه كثيرا، ألا وهو مثال أميرة انجلترا آن الذي كان بإمكانه أن يغير كليا وجه أوربا. كان لهذه الأميرة صديقة أو مرافقة رئيسية، سيدة شرف أولى، وهي في نفس الوقت زوجة عسكري بارع هو مارلبورو قائد الجيوش البريطانية الذي هزم الجيش الفرنسي. ولكن سيدة الشرف الأولى أثارت غيرة سيدة شرف أخرى تنافسها، وعندما علمت هذه الأخيرة بأن منافستها، أي سيدة الشرف الأولى وزوجة مالبورو احتاجت قفازات جديدة لحفل راقص فطلبتها من خياطتها التي اعتذرت لها لأن الأميرة آن طلبت منها بدورها إعداد قفازين، وبأنها أقنعت الخياطة بأن تقدم طلبها على طلب الملكة، وبأنه لا بأس إن هذه الأخيرة انتظرت، ثم إنها لن تعلم شيئا، وهي يمكنها أن تذهب إلى حفلها الراقص بقفازيها الجديدين وشت المنافسة للملكة بسيدة الشرف الأولى، فكان أن طردتها الملكة، وأعفت زوجها (الجنرال مالبورو) من مهامه العسكرية، مما سهل بشكل كبير التوقيع على اتفاقيات السلام آنذاك، وانتهت حرب اسبانيا! سبب صغير بأثر كبير! ويمكن أن نقدم بسهولة العديد من الأمثلة.

كان ليبنز(Leibniz) يقول: “غالبا ما تولد الأشياء العظيمة من الأسباب الصغيرة”، ويقدم مثال القذيفة التي أصابت تورين(Touraine) (الماريشال الفرنسي الشهير) صدفة وأردته قتيلا في وقت حاسم من المعركة كان فيه قريبا من الانتصار. إنه حدث غير وجه حرب هولاندا، ومع ذلك، فإن تغيير اتجاه القذيفة ومسارها ارتبط بأشياء تافهة. إن تاريخ الحروب يقدم أمثلة مفيدة لفهم دور الصدفة في التاريخ، وهو بذلك مفيد جدا لموضوعنا، حيث تظهر فيها الصدفة حاضرة بقوة أكثر مما تحضر في الحياة المدنية.

كان كلوسفتز(Clausewitz)، فيلسوف الاستراتيجيا، يقول: “لا يوجد نشاط إنساني يرتبط أكثر وبشكل أساس وعلى نحو كامل وكوني بالصدفة كالحرب”. وبالفعل، نجد أمثلة كثيرة تؤكد مضمون القولة، وسأختار بعضها. في الجزء الأول من المحاضرة سأقوم بتعداد الأمثلة التي تتجلى فيها قوة الصدفة مقابل ادعاءات التعميم التي ننتصر لها في خطاباتنا، وادعاء التصرف بشكل تركيبي.

لنأخذ مثالا مثيرا، هو معركة غيتزبورغ (Guitzburg) التي تعتبر محطة مهمة من محطات الحرب الأهلية الأمريكية. نحن في شهر يوليوز 1863، وهي أكبر معركة وقعت على أرض الولايات المتحدة الأمريكية إلى حد الآن: قوى الشمال ضد قوى الجنوب، تقريبا حوالي ثمانون ألف جندي في كل جهة. بعد ثلاثة أيام من المعركة، لم تظهر ملامح النهاية ولا من المنتصر، إلى حين قرر جنرال قوات الجنوب، الجنرال لي(Lee) الهجوم صباح يوم 2 يوليوز؛ فأرسل ضابط استخبار للاستعلام عن حالة الجناح الأيسر لقوات العدو. رجع الضابط ليخبر الجنرال بأن الجناح الأيسر للعدو مضطرب وفي حالة فوضى. والواقع أن استطلاعه تزامن صدفة مع الوقت الذي كان فيه قائد القوات الشمالية يغير فرقته، وهي العملية التي لم تستغرق سوى 20 دقيقة، هي المدة التي عاين فيه الضابط الحالة ليخبر بها الجنرال لي، قائد قوات الجنوب، الذي أسرع بإعطاء الأمر لقواته بالهجوم على الجهة اليسرى للقوات المعادية، لكن هذه الأخيرة كانت قد أخذت مواقعها وانتظمت من جديد. فكان أن فقد جيشه. هذا مثال أول، ويمكن تقديم مثال آخر، أقرب إلينا، من تاريخ الحرب العالمية الثانية.

تعلمون ما قاله تشرشل: “نادرا ما كان قلة من الرجال مسؤولين عن مآل حرب كهذه”، يقصد الحرب العالمية الثانية ضد النازية من طرف قوى الحرية. ففي بداية الهجوم الجوي الألماني على انجلترا أعطى هتلر الأمر القاطع بعدم إلقاء القنابل على المدن، وبتركيز الهجوم على المطارات حيث تجثم الطائرات الحربية للقوات الملكية. كان يعتقد بأنها أحسن طريقة لتحطيم قدرات الطيران البريطاني وبالتالي الوسيلة الأضمن لربح الحرب الجوية مما سيسهل غزو بريطانيا، فيما بعد. وهي الخطة التي نجحت في البداية، مما جعل تشرشل والحكومة البريطانية يقلقان فعليا على التقلص المتزايد لأسطول الطيران الحربي، إلى حدود ذلك اليوم، الذي كانت فيه بالصدفة، لندن مغلفة بضباب كثيف منع المقنبلات الألمانية من الرؤية الجيدة، فألقت بقنابلها خطأ على أجزاء من أحياء لندن. يمكن القول إن الأمر لم يكن خطيرا مقارنة مع ما سيقع فيما بعد. لكن رد فعل البريطانيين كان هو الرد، لا بضرب الجيوش الألمانية في الجبهة، بل ضرب مدينة برلين. كانت الحصيلة عددا قليلا من القتلى. وهنا رد هتلر بضرب لندن مباشرة مما سبب خسائر فادحة في العاصمة البريطانية، لكنه على مستوى آخر حمى المقنبلات البريطانية التي لم تستهدفها المقنبلات الألمانية بالدرجة الأولى، فسمح لها بمتابعة الحرب ومواجهة الأسطول الجوي الألماني، مما أدى إلى النهاية التي نعرفها. كل هذا وقع لأن الضباب كان كثيفا في يوم ما بلندن.

يمكننا أن نعدد الأمثلة من ميدان الحرب، ولكني أريد أن أشير إلى صنف آخر من الأحداث المتصلة بالصدفة، ألا وهو صنف محاولات الاغتيال. هناك مثال لا يمكنه إلا أن يترك المؤرخ الذي يهتم بالصدفة حالما، هو ذلك الحادث الذي وقع يوم 20 يوليوز1944 عندما قرر الكولونيل كلاوس فون ستوفنبرغ (Klaus von S) مع مجموعة من الضباط اغتيال هتلر. وضع قنبلة داخل حقيبة وأدخلها إلى قاعة الاجتماعات حيث كان هتلر سيجتمع بعدد من مساعديه، ووضع الحقيبة تحت الطاولة بالقرب من مكان جلوس هتلر، وغادر القاعة غير أن أحد الحاضرين ضايقته الحقيبة فأخذها ووضعها بعيدا بعض الأمتار، وراء طاولة أخرى من الخشب السميك جدا بحيث عندما انفجرت القنبلة لم يصب هتلر بأذى، وكان عدد القتلى قليلا. تصوروا ما كانت ستؤول إليه الحرب العالمية الثانية، لو نجحت المحاولة في العشرين من يوليوز 1944، وقتل هتلر. من الأكيد أن مآل الحرب سيكون مختلفا تماما. ربما كان الألمان سيطلبون السلام وإيقاف الحرب بسرعة أكبر، بحيث ما كان بإمكان جيوش ستالين الدخول إلى عمق أوروبا، وبالتالي ما كانت الحرب الباردة ستكون أو تأخذ الوجه الذي أخذته، ولتغيرت أوروبا بشكل مغاير للشكل الذي تغيرت به بعد الحرب. وها نحن ثانية أمام هذه الجملة: ” أسباب صغيرة، بنتائج كبيرة”. كل هذا لأنه تم تحويل الحقيبة التي كانت ستنفجر تحت هتلر صدفة بضعة أمتار!

هناك مثال آخر، أثار انتباهنا كثيرا بفرنسا، و بالمغرب أيضا، وهي محاولة اغتيال دوغول. تعرفون أن الجنرال دوغول نجى من محاولة الاغتيال التي نظمها باستيا-تيري وجماعته. وفي هذه الحالة كان التخطيط محكما لكن الطقس لم يساعد على تنفيذ الخطة، حيث قلص سقوط الرذاذ من وضوح الرؤية ولم يتمكن من كان مكلفا بتحريك الجريدة بيده، ليخبر بقدوم الجنرال حتى يتم إطلاق النار عليه مباشرة، من تحريكها في الوقت المناسب، فأخبر بذلك متأخرا، مما جعل الرصاص لا يوجه مباشرة إلى سيارة الجنرال بل جانبيا. ولم يصب دوغول ولا زوجته. لكن لا أحد يشك انه لو تم توجيه الرصاص مباشرة للسيارة واخترقها لقتل دوغول. في نفس اليوم، قال دوغول إنه لم يصب بأذى بفضل صدفة لا تصدق. وهو ما أكده في مذكراته حين قال مرافقه: “لقد حمتنا الرعاية الإلهية”. وهذه هي الكلمة، وقد نطق بها. وتذكرنا الكلمة بقولة دو شامفور (de Chamfort)، الكاتب الذي ينتمي للقرن 18: “يقول أحدهم إن العناية الإلهية هي اسم معمودية الصدفة؛ وقد يقول أحد الثقاة إن الصدفة هي الاسم المستعار للعناية الإلهية”. هنا، نصل إلى التساؤل عن ما إذا كانت قوة خارجية تنظم حياتنا، وما إذا كان بالإمكان تسمية هذه القوة صدفة؟

مثال ثالث: هو محاولة اغتيال ناجحة وبأية نتائج! أفكر في محاولة الاغتيال التي كانت سببا في اندلاع الحرب العالمية الأولى. تعرفون أنه كان هناك تآمر بوليسي ضد وارث العرش الهنغاري النمساوي الأرشيدوق فرنسوا فرديناند، الذي كان في زيارة لسرايفو مع زوجته. كانت المحاولة الأولى هي إلقاء قنبلة على سيارة الأمير، لكن فتحها وإلقائها لم يتما بالسرعة اللازمة بحيث أنها أصابت السيارة التي كانت وراء السيارة التي تقل الأمير، فنجا الأمير وجرح ضابطان اثنان. ليقرر الأمير المستهدف زيارة الجرحى بالمستشفى، مع أخذ الكثير من الاحتياطات، وتم تعديل مسار السير الذي تم تحديده في البداية ليتم تفادي أزقة قلب المدينة التي يمكنها أن تكون خطيرة. وهذه هي حبة الرمل (الحصى) الصغيرة التي تعطل الآلة: لقد تم نسيان إخبار سائق أول سيارة من سيارات الموكب التي أخذت أزقة المدينة القديمة، وحينما انتبه السائق لخطئه وخاف من العقاب، حاول الرجوع إلى الوراء، فتوقف الموكب بكامله داخل أزقة خطيرة جدا. وهنا انتبه الأمير مندهشا إلى المسدس المصوب إليه مباشرة من طرف أحد من كلفوا باغتياله وتعرفون كيف تسبب كل هذا في اندلاع الحرب العالمية الأولى واشتغال الآلة الجهنمية التي كانت وراء ملايين القتلى في أوروبا. ستتفقون معي، بدون شك، على أن هذا الحدث يدخل ضمن صنف الأحداث التي حددتها “أسباب صغيرة بآثار عظيمة”. إنها لواقعة بالغة الدلالة.

ولكن ربما يعترض معترض بالقول: إنك تختار أمثلتك من تاريخ الحروب والوقائع السياسة، وبأن هناك مجالات أخرى لأنشطة البشر لا تسير فيها الأمور على النحو الذي وصفته. وقد يتم، في هذا السياق، ذكر تاريخ العلوم، لكن عادة ما يسود الانطباع بأن تقدم العلوم يسير حسب حتمية تفلت للإرادة البشرية للعلماء حيث تلعب الصدفة دورها أيضا. لنذكر بعض الأمثلة؛ ولنذكر باكتشاف الأشعة السينية من طرف فيلهايم كونراد روتكن، وباكتشاف هنري بيكوريل للنشاط الإشعاعي النووي الطبيعي. تعرفون بدون شك كيف تم الاكتشاف. لقد ترك بيكوريل صدفة بعض شرائح ملح الأورانيوم في صندوق مغلق نسيه أشهرا، وعندما فتحه تبين له أن النشاط الإشعاعي لليورانيوم يستمر حتى في حالة غياب الأشعة الشمسية. وهو الاكتشاف الذي كانت له النتائج التي تعرفونها قطعا.

تعرفون أيضا مثال اكتشاف مبدأ تقنية صناعة المطاط (الفلكنة) من طرف شارل كوديير- الذي أصبح مشهورا بفضل الثروة التي بناها منذ سنة 1839- عندما ترك صدفة خليطا من الكبريت بالقرب من المطاط قرب مقلاة حامية جدا. يمكنني، طبعا، أن أعدد الأمثلة من هذا النوع، ولكن قد انتهي بأن أكون مملا.

لهذا أريد أن أنتقل معكم، في هذا العرض، إلى مرحلة ثانية عبر تمرين فكري أحببته دائما، وأعتقد أني لست الوحيد. وهو تمرين نسميه Uchronie)). فكما توجد كلمة يوطوبيا التي تفيد “اللامكان”، توجد هذه الكلمة لكي تفيد “اللازمان” أو “خارج الزمان” كإطار لأحداث معينة لم تقع. وتعتبر هذه الكلمة في الحقيقة مفهوما نحته الفيلسوف الفرنسي شارل رونوفيي (Charles Renouvier) ليدل به على أحداث لم تحدث فعليا، ولكن يمكن تصور حدوثها منطقيا.إنه تمرين فكري بسيط نوعا ما، يقوم على تغيير أو حذف حدث ما وقع فعلا، وتصور ما كان بالإمكان أن يحدث تبعا لذلك.

مع هذا المفهوم، ننتقل في هذه المحاضرة إلى مستوى آخر من التأمل مقارنة بالأحداث التي بدأنا بها: نحول حدثا ما، ونتخيل ما كان سيقع انطلاقا من الحدث الجديد الذي تصورناه. إن الفيلسوف شارل رونوفيي هو الذي كتب سنة 1857 كتابا بعنوان خارج التاريخ: خطاطة تاريخية تقريبية (استعادية) لتكون الحضارة الأوروبية كما لم يحدث، وكما كان بالإمكان أن يحدث. في هذا الكتاب، يتخيل رونوفيي أن الفيلسوف والإمبراطور الروماني مارك أوريل تصرف على نحو مغاير مع الجنرال أفيديوس كاسيوس الذي استغل إشاعة موت مارك أوريل وأعلن العصيان ونصب نفسه امبراطورا، لكنه ُقتل وقطع رأسه وأوتي به لمارك أوريل. يتصور رونوفيي العكس: سامح مارك أوريل أفيديوس كاسيوس، ولم يقتل، واتفق معه على تصفية المسيحيين، وبالتالي كان ممكنا أن لا يكون المسيحيون في التاريخ سوى أقلية من أتباع مذهب ديني من بين أقليات كل المذاهب الدينية التي نمت آنذاك بالشرق الأدني، ولما كان لهم أدنى انتشار. فانطلاقا من هذه الفكرة، يراجع هذا الفيلسوف كل المسار التاريخي لتطور أوروبا في حوالي 600 صفحة، ويحكي فيها كل تاريخ أوروبا باعتماد فرضية أن المسيحية لم تنتشر فيها! وهو تمرين فكري مهم. ويمكننا أن نقوم به بالنسبة لتاريخ الإسلام أيضا، طبعا مع جميع التحفظات. وفي جميع الأحوال فهذه مغامرة لست مؤهلا لها.

لنأخذ مثالا آخر، وهذه المرة من الكاتب الفرنسي روجي كايوا (Roger Caillois) حيث نشر كتابا سنة 1961 تصور فيه أن القاضي الروماني بونص بيلات (Ponce Pilate) غير رأيه وأطلق سراح المسيح بعد أن حكم ببراءته، وبالتالي لم يصلب، ولم تكن هناك مسيحية، وعاش المسيح حتى سن متقدمة، وانتهى ملتحيا وجوالا. و طبعا أترك مسؤولية هذه الصورة لصاحبها. ولكن التمرين مفيد جدا في حد ذاته، على المستوى الذهني.

لقد مورس هذا التمرين في مجال الآداب أيضا. فهناك كتاب مهم جدا للكاتب بول غيمار (Paul Guimard) تحت عنوانسخرية القدر حوله المخرج السينمائي مولينارو (Edouard Molinaro) إلى فيلم حيث يتصور مقاوما يستعد لاغتيال ضابط ألماني حسب سيناريوهين: في أولهما تنطلق السيارة، وفي ثانيهما لا تنطلق السيارة. سيناريوهان للعملية لترتبط المصائر بانطلاق السيارة أو عدم انطلاقها. يحكى الفيلم قصتين بفارق صغير هو انطلاق السيارة أو عدم انطلاقها. يتم تحدد كل شيء في أقدار الأشخاص بحسب هذه المتغيرة.

تأتي صعوبة هذا التمرين الفكري المهم من أنه بمجرد ما نغير شيئا نوجه الممكنات في اتجاه معين. لنأخذ، مثلا، حالة الماريشال بيتان(Pétain) سنة 1942 حين تم احتلال المنطقة الجنوبية لفرنسا. فقد كانت للمارشال طوال ساعتين إمكانية الإبحار إلى شمال إفريقيا. وكان رئيس ديوانه العسكري يشجعه بحماس ليغادر في اتجاه شمال أفريقيا. وحجته أن التضحية بالذات من أجل فرنسا كلام مقبول. لكن فرنسا الآن محتلة كاملة، وبالتالي فمن المشروع جدا الانتقال إلى ما تبقى من التراب الفرنسي، أي شمال أفريقيا. فعوض دارلان (F. Darlan)، كان سيكون بيتان المحبوب والمحترم نوعا ما من طرف روزفلت، والسفير الأميركي بفرنسا كان نصيرا لبيتان. ماذا كان سيحدث؟

هنا، يمكننا أن نتخيل ونتصور من كان سيغتال عوض دارلان من طرف بونيي دو لاشابيل؟ وهل كان الأميركيون سيمنحونه امتيازا ما؟ وهل كان المسار اللامع للجنرال دوغول سيتأثر بفعل ذلك؟

أقترح كل هذه الأسئلة على خيالكم؛ ولكن لا ينبغي أن تندهشوا إن حدثكم عن الخيال مع أنني مؤرخ. فالتاريخ علم وتخصص له شروطه، وأحيانا أخرى، من السعادة أن تتخيل ما جرى أو ما سيجري، وبالتالي فإن الإجابة عن سؤال معرفة ما إذا كنا نستطيع، باعتبارنا مؤرخين، مواجهة هذا النوع من الأحداث، هذا الغبار من الصدف، لتعتبر بحق إجابة مطلوبة، حتى لا نحس كجامعيين وباحثين ومواطنين أننا بدون سلاح أمامها، مما قد يدفعنا إلى أن ننتهي إلى نوع من التشكيك والريبة المطلقة إزاء كل فعل محتمل.

وأبادر إلى القول إن السؤال الذي أطرحه عليكم يجيب عنه جوابان، أعتبرهما واهمان.

الجواب الأول: هو ما يمكن أن نسميه بالجواب الغائي(الغائية). وهو خطر يهدد دائما المؤرخين. فمن الصعب جدا من الوجهة الفكرية أن نكون مكان “الفاعلين” الذين لم يكونوا على علم مسبق بما كان سينتهي إليه تاريخهم؛ من الصعب جدا الرجوع إلى الوراء وأخذ مكانهم. كان ريمون آرون (Raymond Aron) يقول: “كل مجهود التأريخ (عمل المؤرخ) يقوم على استرجاع الماضي ومعه لايقين المستقبل الخاص به”. وهي فكرة تصدق أيضا على الفكر والتأمل. وتصدق على المراحل التي يكون فيها التاريخ عبارة عن محاكمة. وقد كانت لنا، بفرنسا، فرصة معاينة هذه الظاهرة بمناسبة محاكمة بابون (Maurice Papon) بمدينة بوردو. وهي محاكمة تابعتها بنوع من الاهتمام . لقد كانت محاكمة ذات طابع خاص، إذ طُبعت بطابع الفارق الزمني، كما لو أن مذابح 1917 حوكمت في فترة حكم بيير ماندس فرانس. فهي نفس المسافة الزمنية الفاصلة بين الحدثين تقريبا. فكانت المحاكمة عجيبة فأغلب المحلفين لم يكونوا قد ولدوا وقت وقوع الأحداث التي سيحاكمون المتهم عليها! وبالتالي، فقد كان من الصعب جدا إعادة بناء الوقائع أمام القضاة في المحكمة كما تمت بالفعل. ولم يكن من البديهي أن تكون الوقائع مطابقة لما وقع بحيث تمكن من محاكمة المتهم محاكمة عادلة من خلال تحديد هامش التصرف الذي كان متاحا له. ففي غياب هذه الشروط لن يكون الحكم منصفا، وإن كان هذا لا يمنع من بعض الصرامة (في الحكم). ولكن تعويض الجهل بما وقع فعليا ببداهة خاطئة تقوم على الاعتقاد في خيط موجه لما وقع، فهذا أمر غير مقبول. إننا نعرف الاحتمالات الممكنة لما كان من الممكن أن يقع. إنه تمرين بالغ الصعوبة، وفي نفس الوقت مثير جدا يسمح لنا بطرد هذا الوحش، عدونا القديم والمشترك نحن المؤرخين، ألا وهو الخلط بين الأزمنة والعصور.

لننتقل إلى الجواب الثاني عن السؤال، وهو أيضا جواب واهم. إنه الجواب القائل بنوع من القدرية الحتمية. إنها فكرة تدفعنا إلى وجهة فلسفات التاريخ، وحيث يمكن لكل واحد منا أن تكون له فلسفة بهذا الخصوص. بالنسبة لبوسيي (Bossuet) ليس هناك مجال للشك. التاريخ محكوم بالرعاية الإلهية وموجه بها. وحتى بالنسبة لدو شامفور الذي كان يقول: “إن الرعاية هي اسم معمودية الصدفة”، وهو نفسه الذي كان يزيد قائلا: “والمؤمن سيضيف إن الصدفة هي الاسم المستعار للعناية(الإلهية)”. مع هذين المؤلفين، نحن في قلب التساؤل عن الأحداث، وجوابهما يقول: الإنسان ليس سوى لعبة بيد أحداث تتجاوزه رغم أنه يعتقد أن لديه قدرة التحكم فيها، ولكن في الواقع هذه الحتمية تقوده بعيدا جدا. وهو نفس الجواب الذي تقول به ديانات أخرى، بما فيها تلك الديانة العلمانية التي جسدتها الشيوعية!. ففي سنة 1966 زرت بكين، وحضرت بالمناسبة مهرجانا كبيرا إحياء لذكرى سن ياتْ سِن. وكانت السنة هي ذكرى ميلاده المئوية. كل شيء تم بناؤه وفق فكرة السير الأكيد عبر مراحل محددة نحو النيرفانا المطلقة (الكمال المطلق). في هذا المهرجان نجد مرحلة التقدم نحو الاستقلال باستقلال آخر الأباطرة، ثم سن يا ت سن، ثم ماوتسي تونغ. فالسير نحو الأمام يظهر كحتمية. وقد تساءل الكثير من الاشتراكيين وقادة العمال ما بين 1880 و 1890 عن هذا المآل والتقدم، وناقشوا قضاياه. وقد كان السؤال هو: هل تسير البشرية بالفعل عبر مراحل نحو مجتمع بدون طبقات، وسيلتها في ذلك الثورة الضرورية؟ فلماذا الفعل والتدخل إذا كان هذا المآل قدرا؟ وإذا لم يتدخل الإنسان فكيف الوصول؟ فلو اكتفى الإنسان بالاعتماد على أن تسير به هذه الحركة أو أن يقوده تيار هذا التوجه، فهذا سيدفعه إلى نوع من الخنوع والكسل في انتظار تحقق السعادة في مستقبل آت.

أعتقد، إذن، أننا لا يمكن أن نسير في هذين الطريقين، لا طريق الجواب الأول، ولا طريق الجواب الثاني، حتى لو كان لدينا الإيمان الأكيد بأن السير في هذين الطريقين أو في أحدهما يقود حتما إلى المآل المنشود. ويظهر لي أنه بالإمكان اكتشاف سبل أخرى ليس لمواساتنا بل لطمأنتنا على جدوى أعمالنا وتدخلاتنا وتأملاتنا المحتملة.

وأول هذه السبل جدلية الفردي والجماعي: من وجهة النظر هاته، تعتبر صورة خلية النحل أو النمل مستفزة لفكرنا وتفكيرنا. لوحظ دائما، أن لكل فرد داخل الخلية حرية حركة كبيرة؛ ولوحظت الفوضى الكبيرة سواء عند النحل أو النمل. ولكن كل تلك الحركات والفوضى، وكل تلك المظاهر تنتهي بخدمة غاية شاملة وواحدة.

ويعرف علماء الاقتصاد أنه لا يمكن ادعاء تأسيس علم اقتصادي، إذ لم تكن هناك قناعة بوجود قوانين قابلة للتطبيق، كيفما كانت السلوكات الميكرواقتصادية. وإذا كان صحيحا أن علماء الاقتصاد لم يصلوا دائما إلى الإطمئنان لعلمهم الأكيد (وبصيرتهم النافذة)، فإنهم على الأقل علمونا بعض الأشياء منذ قرون. فقد وضحوا لنا أن الكثير من تدخلات البشر لم تكن عديمة الفعالية: فهذه إمكانية (فرضية).

ففي السلوك الجماعي نجد الصدفة. وأفكر هنا، في ظاهرة أثارت دائما انتباهي ألا وهي ظاهرة التضخم المالي والتي كانت إيجابية جدا بالنسبة للتوسع والازدهار، وخصوصا ازدهار القرن السادس عشر بأوروبا. وقد تم تحديد مصدرها بدقة من طرف المؤرخين عند اكتشاف الفضة بيوتان بالاند بأميركا الجنوبية. وهذا ما تم بالصدفة من طرف ديغو ويلبا، أحد الرعاة الهنود الذي احتفظ التاريخ باسمه لأنه هو الذي اكتشف صدفة الفضة عندما سقطت شاة من قطيعه في مغارة، فنزل لاسترجاعها فكان ما كان.

لقد تم ذكر مثال حدث هام آخر وقع باستراليا، وهذا لتعليم علماء الاقتصاد بعض التواضع رغم أنهم لا يحتاجون هذا الدرس، ولكن لا بد منه. كانت شركة دوبيرك تبحث عن الماس في منطقة معينة بأستراليا، ولم تجد شيئا، فيئست وقررت الرحيل عن الموقع ونقلت عمالها؛ ولكنها تركت وراءها عاملا وزوجته الحامل، باحثان مستقلان أصرا على البقاء، وكانا يعرفان أنهما لا يتوفران على الوقت اللازم مادام موعد الوضع قد اقترب، وبالتالي كان لابد من الانتهاء لتتمكن المرأة من الوضع بالمدينة حيث الشروط أنسب. فكانت أخر حصة للغربلة هي التي عثر فيها هذان الزوجان على الماس. وتعرفون بالتأكيد، أن أستراليا اليوم تنتج حوالي 40% من الإنتاج العالمي للماس.

لنذهب بعيدا بعض الشيء: نعم، كما بينا، هناك المفعول الجماعي الذي يؤثر على ما هو فردي. ولكن هناك شيء آخر، وهو فكرة أن تنوع سلسلات الأسباب هي من القوة والتعقد بحيث لا يمكن التمكن من إدراكها بصفة نهائية، ولكن يمكن، على الأقل، إدراك أجزاء من ترابط المتواليات التي تتكرر بطرق مختلفة. ويمكننا بالتالي أن نقدر أن الحدث (أ) لن يؤدي بالضرورة إلى الحدث (ب) وهو ما يمكن اعتباره تقدما مهما.

و أسمح لنفسي بأن أحكي لكم حكاية طريفة، في هذه المرحلة من العرض، وهي للروائي الأمريكي غور فيدال (Gore Vidal) الذي قال يوما: “لو تم اغتيال خروتشوف وليس كيندي لكان لذلك عواقب عديدة على الحرب البادرة، وعلى مركز التحالف، ولكن في جميع الحالات شيء واحد ما كان ليقع، وأنا متأكد من ذلك: ما كان أرسطو أوناسيس ليتزوج زوجة خروتشوف”.

ستلاحظون، إذن، أنه على مستوى معين، ليس ممنوعا التفكير في تشابهات وتقاربات نستطيع التنبؤ بها. وأنا مقتنع بهذا الأمر، وأستغل هذه الفرصة لأتحدث عن نفسي بعض الشيء. تعرفون أني أنشط برنامجا بإذاعة “فرنسا الثقافية” أسميه: “تطابق الأزمنة”(Concordances des temps) ليس بالمعنى النحوي، ولكن بمعنى أنه توجد بين العصور والأزمنة بعض التطابقات والتقاطعات من غير أن تقود ملاحظة هذه التقاطعات إلى القول بأن التاريخ يتكرر. إذ سيكون هذا القول بليدا. ليس هناك تكرار تام، لكن يكون هناك ما يكفي من التشابه والتقاطع لدرجة يمكن القول معها إنها تساعدنا اليوم على التفكير. لقد بدأت هذا البرنامج منذ سنة 1999. وأعتقد أني في النهاية سأستنفذ الموضوع، ولكن أجده عمليا كل أسبوع. بمعنى آخر، من المفيد أن نحاول دائما أن نرى تميز وأصالة ما نحن عليه في الحاضر، والتقاطعات والتقاربات مع الماضي، والتي لا تكون مفيدة فقط على مستوى فهم الأحداث، بل أيضا على مستوى سلوكات المواطنين. ثم إنه تمرين يسمح بتجديد المعايير. وأفكر في مثال يهم المؤرخ والمواطن في نفس الآن، ويهم كل الديموقراطيات. وهو المتعلق بما يسمى الفضائح. ما الفضيحة المالية مثلا؟ ننتبه إلى أنها ليست قانونا تاريخيا، بل هي قاعدة تأويل يمكن أن نفكر فيها في كل حالة، حسب ثلاثة معايير تحدد ظهور الفضيحة:

الفضيحة ليست حدثا مدانا في حد ذاته، بل يدان في سياق محدد خاص (عادة ما يكون عاما). تتذكرون مسرحية “تارتوف” لمُوليير ( le Tartuffe): الفضيحة هي ما يكون علنيا أو يظهر، وليس من ارتكب خطأ في السر بمرتكب للخطأ. نجد أولا، الإغراء، ودرجته بالنسبة لمن يتجاوز حدود المصداقية والنزاهة، ونجد ثانيا، القدرة على البحث والتقصي، وهي قدرة قد تكون كبيرة وقد تكون ضعيفة لدى من يتكلفون بالبحث بحسب الظروف والملابسات، ونجد أخيرا درجة الاستنكار المرتبطة بما نستنكره وما لا نستنكره. ففي فرنسا، نجد أن درجة التسامح بخصوص تمويل الأحزاب قد تطورت كثيرا في السنين الأخيرة. فإذا اتخذنا هذه المعايير الثلاثة لا تعود الصدفة هي التي تحدد الفضحية. ونجد هنا إمكانية للتفكير يمكن تعمميها. يقودنا هذا إلى القول بإن ما نرجعه للصدفة هو فقط مرتبط بجهلنا. ففكرنا يبقى بدون فعالية إزاء ما نجهله، وخصوصا جهلُنا المسبق لما سيقع. كان ريمون آرون يردد ” ادعاء المعرفة المسبقة بالمعنى والاتجاه الأخيرين وسبل الخلاص هو تعويض تقدم المعرفة والفعل بأساطير تاريخية”

فمن الواضح جدا، كما كان ستيفان مالارمي (Stéphane Mallarmé) يكرر: “رمية نرد لن تلغي أبدا الصدفة” وبالفعل لا يمكن لنا إلغاء الصدفة. فهل ينبغي لنا والحالة هذه أن نشتكي وضعنا؟ لا اعتقد تماما. فنحن نعرف أيضا لذة المفاجآت، ولذة الالتقاء باللامنتظر. ثم إن ادعاء القدرة على التنبؤ كما تدعي ذلك بعض العرافات، سيرجع في الأخير إلى الاعتقاد بأننا أمام مستقبل حُدد مسبقا، أمام قدر يسير بنا نحو مآله (من دون أن تكون لدينا أية فرصة للتدخل). فهل يكون هذا الموقف نافعا لنا وملائما؟ لا أظن ذلك، غير أنه من الواضح أن وعينا بحدود فهمنا لا يجب بأي حال من الأحوال أن تضعف إصرارنا وعزيمتنا المدنية والأخلاقية، سواء في حياتنا الخاصة أو العامة. بعبارة أخرى، يمكننا أن نختار طريقنا ما بين نزعة قدرية سلبية من جهة، والوهم الجنوني بعض الشيء بأن كل شيء في مقدورنا وتخطيطنا. لقد أظهر لنا القرن العشرين أن بعض المواقف البطولية البروميتوسية (نسبة إلى بروميتوس)، كانت خطيرة!

لاحظوا أني بدأت أبتعد بعض الشيء عن شواطئ المؤرخ، ولكن بما أنه ليس لدي أي تفضيل للتنبؤ، ولا لإعطاء الدروس الأخلاقية، وبما أني أدرك أني بعيد جدا عن القائلين بالغائية، لكل هذه الأسباب، أقف، إذا سمحتم، عند هذا الحد شاكرا لكم انتباهكم المميز وحسن استقبالكم [….]”.

آراء تم تدقيقها في سياق إجابة المحاضر عن تدخلات الحضور:

إن فكرة التقدم كقدر موضوع شاسع وشائك. وبخصوص دونيس ديدرو (Denis Diderot)، أريد، أن أوسع التساؤل حول “القدر” ليشمل عصر الأنوار، الذي يغذينا بعمق…فماذا يمكن أن تضيفه لنا؟ لنقوي إضاءة الأنوار، فهي لم تنطفئ لكنها خفتت بعض الشيء. ولنظهر ماذا تبقى لنا من بين الأشياء الكثيرة لهذا العصر. تتذكرون، بدون شك، “جاك القدري”، وأفضل أن أذكر كوندرسي )ِCondorcet). فقد حاول هذا الجيل من المفكرين بل دشن النظر إلى تاريخ العالم باعتباره تطورا نحو عالم أفضل. فمعهم ولدت فكرة التقدم. ولابد لنا من كتابة تاريخ لمفهوم التقدم. ويظهر لي أنه يمكن التمييز بين ثلاث مراحل في تطور فكرة التقدم :

مرحلة الثقة الكاملة في قدرات العلم، حيث ساد تصور للتقدم العلمي يتعالى على صدف الاكتشافات العلمية، وهو تصور كان بالإمكان أن يكون ضد كل الأمثلة التي قدمتها؛

مرحلة الشك القوي في تقدم العلم الذي ميزت القرن العشرين والتي سماها تكييف (Taguieff) “انمحاء المستقبل”، كما لو تعقل الأمر بعجزنا الكامل عن تصور أي مستقبل، أو أي تقدم فعلي.

ويظهر لي أن جيلي والجيل اللاحق دشنا المرحلة الثالثة حيث نلتحق ببعض الآباء المؤسسين للجمهورية الثالثة بالاعتقاد بأن لا حل لنا سوى المحاولة وتكرارها كسيزيف ألبير كامو(Camus): نصعد بالصخرة إلى أعلى وتسقط، ونحاول مرة ثانية، وثالثة، وهكذا… نعم نجاح محدود ولكن على الأقل نلتحق في هذا الجهد بما هو جماعي ويتجاوز الفرد خط الصدفة، بحيث يمكن القول في النهاية سنحقق تقدما، وهو ما نجده واضحا جدا عند كليمانصوا(G. Clemenceau) مثلا.

لقد كان واضحا أنه كان مرتابا من طبيعة البشر المحكومة بالصدفة. ثم ما كان بإمكاننا، اليوم، أن نتحدث عنه بنفس الطريقة لو لم تنطلق رصاصة المسدس بسارايِيفو، والذي جعلت هذا الرجل، يدخل التاريخ الكبير بعد أن قضى 76 سنة. فحياته كحيوات الرجال ذوي الأهمية الاستثنائية في تاريخ الشعوب، يمكنها أن توضح لنا قوة الصدف في التاريخ، لكن في نفس الآن فكرة أن كل جهد، يؤتي أكله في نهاية المطاف. ولن نتحدث مرة أخرى عن النمل لأنه في النهاية سنبالغ في تكرار نفس الفكرة والسلوك.

ولكن في النهاية يحدث شيء غريب من قبيل تفاعل كيميائي يجعل كل الصدف المتلاقية وكل الإرادات المتفاعلة تنتهي في الأخير إلى تطور ما. وأن هذا التطور يسير رغم كل شيء نحو حالة أفضل. والحال أن القرن العشرين الذي كان قرن الحروب، يمكن أن يشهد بأهواله ضد هذا القول أو يؤكده. ولكل أن يختار بحسب فلسفته أو طبعه ومزاجه.

أما بخصوص علماء الاجتماع فأنا أحترمهم، ولكن لا أناقش تصوراتهم…. لكن صحيح كل الصحة أن رؤية علماء الاجتماع تختلف عن رؤية المؤرخين مادام علماء الاجتماع يبحثون ويعممون، وإن كانوا يحتاطون انطلاقا من تحليلات تحاول تحديد التوجهات العامة، وعندما يكونون طموحين يحاولون البحث عن القوانين التي تحكم المجتمع. وأنا مسرور لتوضيح هذه النقطة لأنها تجعلنا ندرك أن هناك رؤية المؤرخ للمسألة متميزة، ومع ذلك فهي تفتح الباب على قضايا حية وشاسعة .

[…] نعم، إن مقاربتي (في هذه المحاضرة) هي جمع حوادث ووقائع تظهر أوجها عديدة للصدفة في التاريخ. ثم اقتراح تأويلات. فأنا أنتمي لجيل المؤرخين الذين تجاوزوا منذ أمد بعيد إغراء السرد…. إنني اندهش من التطور الذي عرفه تدريس التاريخ ما بين 1950 و1960 والنمط الذي يدرس به حاليا بثانوية هنري الرابع لابني، بعد مرور أربعين سنة. أعتقد أن الأمر أكثر أهمية اليوم لأننا انتقلنا من تاريخ خطي حيث يتم حكي تفاصيل الثورة الفرنسية. فلا صلة لما يدرس حاليا بما كان يدرس في السابق! ماذا نتعلم اليوم؟ نتعلم بالضبط أن التاريخ ليس خطا مستقيما، وأنه لا يسير بوتيرة واحدة في خط مستقيم، بل يتكون ويسير بفعل حركات متباينة ومترابطة بقوة في نفس الآن. وعندما نفهم هذا، يصبح الأمر أوضح مما كان عليه في السابق، وربما أكثر بروزا. ولكن هناك معطى آخر، ربما كان علي أن ألح عليه بقوة في هذه المحاضرة ألا وهو الرباط الوثيق الذي أصبح يجمع التاريخ السياسي بالتاريخ الثقافي، وبعبارة أخرى، فقد تعلمنا أن للوثائق وللتصورات نفس الوزن. فالفكرة التي نكونها عن الوقائع /الواقع تتحول بدورها إلى محرك للتاريخ وتؤثر بالتالي على الوقائع اللاحقة.

وأظن أن لفكرة الصدفة ولتمثلات الناس لها أهمية خاصة، وربما كانت أكثر أهمية ووضوحا وأقل غموضا. إنني أهتم كثيرا بالأفكار الجاهزة والمسبقة التي تكونها الشعوب عن بعضها البعض. الأفكار الجاهزة لدى الفرنسيين عن الغاربة، ولدى المغاربة عن الفرنسيين الخ. طبعا، في أغلب الحالات تكون الأفكار الجاهزة خاطئة. لكن واقع الاعتقاد فيها يحولها إلى أفكار معبئة تعبئ الفعل وتحدد السلوك التاريخي لهذه الجماعة أو تلك. بعبارة أخرى، يتحول التاريخ الاستيهامي، أو الذي نحلم به بدوره إلى محرك للتاريخ الفعلي. وألاحظ (كمؤرخ) أن بعض الفاعلين الرئيسيين يتوزَّعُهم الاتجاهان: وأفكر في الجنرال دوغول، أحاول أن أتذكر جملة كتبها دوغول حوالي 1969. كان قد خسر استفتاء أبريل. وفي مناسبة معينة، استقبل فيها سفير فرنسا بايرلندا الجنرال دوغول، وطلب منه كتابة كلمة إهداء على نسخة من مذكراته: مذكرات السلم. فماذا كتب دوغول؟ كتب ما يلي، مستشهدا بنتشه: “لا شيء يساوي شيئا، لا يحدث شيء ومع ذلك كل شيء يحصل، ولكن هذا الأمر غير ذي أهمية” إنها لجملة غريبة بالنسبة لرجل قوي طبع عصره بقوة كدوغول. فهذا النوع من المسافة إزاء كبرياء وادعاء ما يستطيع الإنسان فعله، إزاء الأشياء التي تفلت منه يستحق، في ظني، أن يكون موضوع تأمل وكون دوغول يكتب هذه الجملة يظهر لنا التنوع الشديد للأحاسيس التي يمكن أن يحس بها إزاء الفعل الممكن والذي يمكن أن يكون هو فعلنا نحن أمام التراكم الذي لا يصدق للصدف التي نواجهها.

أنهي أجوبتي بفكرتي عن التاريخ عموما. وأنا لا أدعي انه سؤال بسيط. ولكني لا أهرب من ضرورة الإجابة عنه. أولا، اطمئنوا، إني أقضي وقتي في محاولة تفسير ما وقع فعلا، وليس في تخيل ما كان سيقع. في هذه المحاضرة قدمت الأمر من وجهة اللازمن “خارج التاريخ” ولا أمنع نفسي من لعب هذه اللعبة . بل أقول، إنني في سني المتقدمة هاته أميل لكتابة سلسلة من القصص تلعب بالزمن. ولكن التاريخ ملزم، طبعا، بأن بالقيام بجهد من أجل معرفة ما وقع ومحاولة تفسيره. وكثيرا ما أُستفز عندما يقول بعض الصحفيين والمؤرخين بأنه لا إمكانية للموضوعية في التاريخ. يمكن أن نناقش هذه الفكرة إلى ما لا نهاية، لكن هناك في النهاية وقائع مضبوطة. تتذكرون ما قاله فكتور هيغو، وما قاله بول فاليري بخصوص التاريخ. خرجت الماركيز على الساعة الخامسة. لا يهمني كما كان يقول، بل إن كلود مورياك صنع منها رواية أسماها: الماركيز خرجت على الساعة الخامسة. ولكن كونها خرجت على الساعة الخامسة وليس على الساعة الخامسة إلا خمس دقائق أو الخامسة وخمسة دقائق يعتبر حدثا. فأنا كمؤرخ تهمني هذه الدقة، ولكن في نفس الآن علي أن أتساءل لماذا انتبهتُ إلى الماركيز وليس للفيكونت؟ وماذا أستنتج من كونها خرجت على الساعة الخامسة بشارع جورج ماندويل. فهل اهتمامي هو اهتمام بتطور السلوكات البورجوازية الباريزيات أو الأرستقراطية الباريسية في نهاية القرن العشرين؟ وهل كان من الأهمية أن نعرف ذلك لمعرفة نقاء الهواء الذي تستنشقه؟ وهل خرجت مع كلبها أم لا؟. بعبارة أخرى، وهذا ما أريد الوصول إليه، فما يهمني هو أن أرى أن كل حقبة تطرح أسئلتها الخاصة على الماضي، على ماضيها، لهذا قال أحدهم، أعتقد مارك بلوك “لا يوجد التاريخ إلا حاضرا”. ولم يكن يريد القول إننا لا ننتبه للتاريخ القديم، ولكننا نطرح دائما هذه الأسئلة انطلاقا من سياق معاصر ما، وهي أسئلة خاصة لا تتكرر، لأننا لا نبحث عن نفس المعلومات، ولا عن نفس الموضوعات، ولا عن نفس التأملات وليس لنا نفس الفضول. فهذه كلها أمور تختلف.

لنأخذ مثالا بارزا. وليكن مثالا واحدا.عندما كنت طالبا بأميركا الجنوبية بالمكسيك، كان الاهتمام الأساسي ينصب على الاستعمار: فهم ما وقع، والمظاهر الحربية والأساطيل والميكروبات، إلخ. لكن اليوم الاهتمام يتوجه إلى موضوع آخر: عصر الأنكا. وأعتقد أن المؤرخ كروزنسكي (Serge Gruzinski) هو الذي ألف كتابا شيقا عن العولمة التي كانت ميكسيكو ميدانا لها نوعا ما في بداية القرن السابع عشر لأننا نهتم أقل بالاستعمار وأكثر بالعولمة.

ويمكن أن أعد الأمثلة من هذا النوع. وهنا أيضا، لا يقودني هذا الموقف إلى نزعة نسبية، سيما وأن التاريخ يبقى تراكما بما فيه الكفاية. فالتاريخ يبنى بالتأمل في ما وقع فعلا، وبما كتب عنه، وبالتمثل الذي لدينا اليوم عما كتب في الماضي. إنه كلعبة الدمى الروسية، أو لعبة مرايا بدون نهاية عمق: مرآة داخل مرآة، وهكذا دواليك. وليس في هذا الأمر ما يحبط العزيمة أو ما يصيب باليأس. وفي جميع الأحوال، فإن هذا التصور للمهنة التي أزاولها لا يدفعني للتخلي عنها.

- محمد زرنين

جامعة محمد الخامس – كلية الآداب – الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.