عبد الله حمودي، المسافة والتحليل: في صياغة أنثروبولوجيا عربية، دار توبقال للنشر، عدد الصفحات 156، 2019.
صدر مؤخراً عن دار توبقال للنشر والتوزيع كتاب بعنوان: “المسافة والتحليل: في صياغة أنثروبولوجيا عربية“، تأليف الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي، الطبعة الأولى، 2019، وهو مولود جديد في الدرس السوسيولوجي بصفة عامة والأنتروبولوجيا بصفة خاصة. ويعتبر عبد الله حمودي أهم انثروبولوجي في المغرب الكبير.
في هذا الكتاب الجديد، يؤكد الباحث عبد الله حمودي أن الانتماء يوفر حميمية ويرسم مسافة معقولة بين الباحث المنتمي لمجتمعه وبين المعرفة المنتجة في بلاده، فهو يستفيد من الجامعات الغربية كما يريد، لكنه يعود ليشتق نظرياته من مجتمعه من خلال الانتماء، ليستفيد من الثقافة الشعبية المغربية/المغاربية التي طالما احتقرها الاستعمار، بينما هي في الحقيقة مخزن مهم وحقيقي لفهم المجتمع والدولة. وهذه هي الأسس المهمة لتأسيس أنثروبولوجيا وطنية مبنية على التوطين وتنحصر في الكتابة والابداع باللغة العربية دون التقوقع فيها. فالانفتاح على اللغات المحلية والأجنبية شرط أساسي أيضاً من أجل تحقيق مشروع عبد الله حمودي، إضافة إلى دراسة النظريات الغربية، ثم العودة إلى الرصيد العلمي والمعرفي الذي أنتجته المجتمعات بالعربية واللغات المحلية مثل الأمازيغية.
وقد جاء هذا الكتاب في 154 صفحة من الحجم المتوسط، وضم خمس دراسات نشرها على مدى ثلاثين عاماً في مجموعة من المجلات المغربية، وتشترك في البناء والتأسيس الفعال لمشروع الباحث، وهو الدعوة إلى تأسيس أنثربولوجيا عربية.
وتقدم المقالة التي تحمل عنوان “المسافة الضرورية لعالم الاجتماع“1لمحة عن مسار الباحث عبد الله حمودي وتوجهه لدراسة علم الاجتماع إبان تأسيس معهد السوسيولوجيا بالرباط،2 وتوجه اهتمامه منذ ذلك الحين إلى وصف المجتمع والاقتصاد المغربي قبيل الاستعمار، ليجمع في عمله ذلك بين الأنثروبولوجيا والتاريخ الاجتماعي. ويؤكد الباحث على أهمية الربط بين ما هو محلي (القبيلة، القرية) والمجتمع ككل. وقد جاء اهتمامه بالقرية من جانب ما تتيحه المجتمعات المحلية من معرفة، والتغيير الذي تحاول الدولة تحقيقه، والأسباب التي تدفع بالقرويين إلى مقاومة هذا التغيير (مشاريع الري، مشاريع زراعية). وقد صرّح الباحث بتأثره بـ”بول باسكون” (Paul Pascon) الذي درس العالم القروي ميدانياً، و”جوزيف غابيل” (Joseph Gabel)الذي استعان في أعماله بعلم الاجتماع التاريخي، وكان يتابع عن قرب أعمال المنظرين لمدرسة فرانكفورت.
وتبدو انتقادات الباحث لعدد من الأنثروبولوجيين المغاربة معقولة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الفترة التي نشر فيها هذا المقال، أي أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وهذه الانتقادات تنبه إلى مسألة إهمال أغلب الأعمال المغربية في علم الاجتماع القروي لقاعدة المزاوجة، وتمكن الباحث من أدوات اشتغاله ومن موضوعه، كما تلاحظ إهمال وصف الحياة اليومية في أدبياتهم العامة قبل الاستعمار (طريقة الأكل، اللباس…) إضافة إلى التسرع في الحكم على حصاد البعثة الثقافية الفرنسية بعد الاستقلال. كما ينتقد الباحث تقاعس الباحثين عن بذل جهد نسقي لإنتاج متن من المعطيات لدفع معرفة المجتمع إلى الأمام وتقديم انتقادات تجريبية مناقضة لما قامت به الإثنوغرافيا الاستعمارية. ودعا عبد الله حمودي الباحث المنتمي إلى المجتمعات المغاربية والشرقية إلى تناول المادة المدروسة بفعالية، فمن العقم الشديد الاستمرار في محاكمة الإثنولوجيا الاستعمارية، التي شكّلت منهجاً ورؤية عامة حول المجتمع القروي المغربي. وعلى هذا الأساس جاءت دعوته إلى رؤية ذواتنا بأنفسنا حتى نتعرف على أنفسنا من واقعنا ومن خلال واقع الآخر، ويجب أخذ الوقت الكافي لهضم المتن النظري، أي “العلم الأوروبي” حتى نتمكن من الانصات إلى مجتمعنا. ويؤكد الباحث مرة أخرى على أننا نجد القليل من الوصف لحياتنا، وعلى الباحثين والاهتمام بلغة الناس، كما يستحسن تعلم لغات أجنبية. وعلى المتعلم الإثنوغرافي التجوال عبر مجتمعات أخرى، من أجل موضعة جيدة للمجتمع المحلي؛ فالسفر والتجوال في عادات أخرى وطرائق أخرى للاشتغال مهم وأساسي.
تحدث الباحث عبد الله حمودي في مقال “كليفورد كَيرتز والأنثروبولوجيا”3، عن كَيرتز، هذا العالم الذي لعب دوراً كبيراً في تحديد مفاهيم فن الأنثروبولوجيا وتطوير مباحثه، فتعدى به الأنثربولوجيا لتشمل التاريخ والديانات المقارنة وعلوم السياسة وعلوم البيئة والجغرافية، وكذلك المجال الفكري العام. درس في جامعة شيكاجو في 1964، وتعرف الباحث على كَيرتز في 1978، ذلك أن كَيرتز كان يقدر الباحثين المغاربة ويتابع أخبارهم، كما ربط بهم علاقات تبادل علمي ومعرفي؛ ومنهم محمد الناصري ومصطفى بن يخلف وعبد الرحمان المؤذن ومحمد كنبيب، كما أنه خاض في المغرب تجربته الميدانية الثامنة (بعد تجربة أندونيسيا) في أوائل الستينيات حيث وجه اهتمامه إلى المغرب وحل بمدينة صفرو باعتباره ميدان بحث جديد. والإبداع الأول الذي أتى به كَيرتز هو إعادة النظر في مجموعة من المفاهيم، أهمها مفهوم الثقافة والأنثروبولوجيا، ثم الأنثروبولوجيا الثقافية أو التأويلية (وما سمي بعد ذلك بالأنثروبولوجيا الرمزية). وبما أن الثقافة توجه العمل الإنساني في جميع الميادين فقد أشار كَيرتز إلى أن المغاربة نشأت لديهم وتطورت ثقافة ذات ملامح خاصة بهم تمد حياتهم بمعانيها الأدبية، وأن المغاربة متشبثون دائماً بهوياتهم المحلية والجهوية وبلغاتهم، ما تولد عن ذلك التفاهم الذي طبع حياتهم وتساكن مع عناصر الاختلاف في جدلية دائمة.
ويستمر عبد الله حمودي في تطوير مشروعه النقدي في مقاله “في إعادة صياغة الأنثربولوجيا”،4 حيث ركز كثيراً على مسألة التعاريف الكثيرة الضرورية في بحثه، وأولها مفهوم الأنثروبولوجيا بما هي ميدان معرفي يدرس المنظومات السوسيو-ثقافية الإنسانية ويقارنها، وقد عممت هذه التسمية بعد الحرب العالمية الأولى. وتخصصت الأنثربولوجيا منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى غاية الستينيات من القرن الماضي في دراسة ما سمي في هذه الفترة بالمجتمعات “البدائية” التي تحيل على المجتمعات غير الأوروبية-الأمريكية: وضمنها المجتمعات المغاربية والشرق أوسطية. وقد اعتمدت الأنثروبولوجيا على ما تحصل من معطيات في أدب الرحلات والاستطلاعات والتاريخ والحفريات وذاكرة الشعوب، ثم بعد ذلك الدراسة الميدانية. كما اعتمدت على فعل المقارنة بين الكيانات المدروسة. وقد أشار الباحث إلى مجموعة من المناهج التي أطرت التحليل الأنثروبولوجي، من بينها المنهج الذي ظهر في أمريكا ويتخذ مقاصد الفعل الإنساني باعتباره موجهاً في أفق نظرة الحياة مستنداً في ذلك إلى مفهوم “الثقافة”. وبينما نادت الحركة النقدية الأولى لميدان الأنثروبولوجيا عند الاستقلال بنزع الطابع الاستعماري عن المعرفة في ميدان العلوم الإنسانية، ركزت الحركة النقدية الثانية على مسألة تكون هذا الميدان في الظروف الاستعمارية بواسطة مفهوم ما بعد الكولونيالية. وقد اعتبر الباحثون المغاربيون انتصار المقاومة الوطنية دليلاً على فشل المشروع السوسيولوجي الكولونيالي في تحقيق هدف البعثات العلمية المتمثلة في احتلال البلدان المغاربية احتلالاً علمياً سلمياً قليل التكلفة –بعد فشل تجربة الاحتلال العسكري في الجزائر.5
في خضم هذه الإشكالية قدم الباحث عبد الله حمودي الحل الذي يراه في الصياغة، التي يفهمها على أنها إعادة تشكيل القول في الأنثروبوليوجيا مبنياً على استنتاجات مؤقتة لممارسة معرفية مستمرة. من هنا طرح المؤلف ثلاثة أسئلة جوهرية وهي: ما الداعي إلى إعادة صياغة الأنثروبولوجيا؟ وما العمل بالأنثربولوجيا على إثر النقدين المشار إليهما؟ ثم ما العمل بتلك المادة التي تكدست بالخزانات الأنثربولوجية التي تكونت في ظروف الاستعمار وبعده في ظل الهيمنة المستغلة لظروف العولمة؟ من خلال اشتغال الباحث على الإجابة عن هذه الأسئلة طالب بصياغة الأنثربولوجيا، وهو مطلب دعت إليه ضرورة ما لاقاه هذا الفرع العلمي من حركة نقدية من طرف مؤسسيه في أمريكا وأوروبا، مما وسع أفق النقاش في إطار ميدان علمي له مؤسساته المتخصصة في البحث والتدريس. وتركيز الباحث على التجربة المغربية لا يجعله يلغي التجارب الأخرى في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، فقد رفض الباحث الدعوات التي تقول بتهميش وإقصاء التاريخ الاستعماري للأنثروبولوجيا ودعا إلى اختيار آخر سماه “إعادة الصياغة” خاصة في المنطقة المغاربية. فغداة الاستقلال نادى متخصصون بنزع الصبغة الاستعماري عنها، وإعادة كتابة التاريخ الوطني، ويتصور الباحث هذه الدعوة امتداداً لحركة إحياء معرفة الماضي (محمد داوود، المختار السوسي، علال الفاسي…ابن باديس، الإبراهيمي) في المغرب وتونس والجزائر. ويضيف الباحث أن عبد الكبير الخطيبي أصدر كتيباً صغيراً بعنوان: “حصيلة السوسيولوجيا الكولونيالية 1967” هو دليل على رفض المثقفين للأنثروبولوجيا. ففي هذا الكتاب خلاصة تظهر العلاقة بين تلك المعارف وأهداف الاستعمار، خاصة في المغرب والجزائر، حيث عمل على ذلك باحثون مغاربيون وفرنسيون مناهضون للهيمنة الأوروبية.6
نستخلص أن الباحث عبد الله حمودي يدافع عن عملية إعادة الصياغة بهدف مواجهة مواقف نتجت عن الحركتين النقديتين المذكورتين، فقد نتج عن التصدي للنقد المتكرر للكتابات الأنثربولوجية الكولونيالية اشتغال مفرط بنقد “الخطاب” الغربي على حساب توجيه النظر إلى الحياة العملية. كما يدعو الباحث في هذه الدراسة إلى موضَعَة جديدة، مبنية على الجمع بين نقيضين، الذاتي والموضوعي، وإلى عملية صياغة تعتمد نوعاً من المسافة نهتدي إليها بالخوض في تعميق المسافة المعرفية الكولونيالية واستثمار الرصيد الكولونيالي بدلاً من التهرب منه والسكوت عنه.
في المقال المعنون بـــ“الداخلي والخارجي في التنظير للظاهرة القبلية خطوة في طريق تأسيس خطاب أنثروبولوجي مستقل”7 يركز الباحث على أهمية المفهوم وضرورة أن تؤسس الأنثروبولوجيا مفاهيمها الخاصة بها وفتح النقاش حولها وإعادة تحليل مفاهيم مركزية. وسنلاحظ أن هذا الاهتمام شمل مفاهيم الظاهرة الأنثروبولوجية اعتماداً على جهد مفاهيمي يتصل بمصطلحات رجع إليها المؤلف عن طريق المقارنة مثل ظاهرة القبلية والقبيلة والعصبية، وذلك من أجل خدمة هدف الباحث وهو اقتراح إعادة صوغ الأنثروبولوجيأ ووضع الأسس لخطاب متميز لم يتحقق بعد حسب الباحث، حيث المحاولات لم تتعد استبدال خطاب غربي قديم بخطاب غربي متجدد، ذلك أن المشروع الذي يشتغل عليه المؤلف يتوخى وضع لبنات في التأسيس لخطاب أنثروبولوجي مستخرج من إرث منطقتنا، أي حصر الاهتمام بالظاهرة في منطقتي المغرب الكبير والمشرق.
ضمّ كتاب “المسافة والتحليل في صياغة أنثروبولوجيا عربية” مجموعة من الأمثلة العملية التي أراد بها المؤلف تحقيق منطلق عملي تجريبي لنقده المزدوج المبني على مسألة إعادة الصياغة، ومن بين هذه الأمثلة مفهوم القبيلة باعتبارها المحرك الرئيس للتنمية في منطقتنا المغاربية وفي المشرق، مثل موريطانيا والعراق والجزائر وليبيا ودول أخرى. ورغم أن التقليد الأنثروبولوجي يظل تقليداً أوروبياً-أمريكياً بالأساس، إلا أننا نجد مفكرين ينتمون إلى تقاليد فكرية أخرى عالجت مسألة القبيلة، رغم أن هؤلاء الباحثين واجهوا صعوبات كثيرة أهمها أن استعانة المفكرين بالمخبرين في جمع المعلومات دليل قوي على اعتمادهم على المصادر الشفوية غير الدقيقة، كما أن وصولهم إلى الميدان بمفهوم جرماني أو يوناني أو روماني جاهز للقبيلة ثم محاولتهم العثور له على مقابله في الثقافة العربية-الأمازيغية يجعلهم يهملون تعلم اللغة العربية للاطلاع على المعلومات من مصادرها الموثوقة، وأخيراً فإن طريقة تعاملهم مع المعلومات الشفوية تكون تصنيفية وانتقائية، فكانت النتيجة أن حاول الكثير من الأنثروبولوجيين تقديم تعريف للقبيلة غير مناسب للمجتمعات العربية التي تكون القبيلة فيه جزءً من الدولة الشاملة وتلعب دوراً كبيراً في إنتاج التجمعات السياسية الكبيرة. وقد عرض الباحث حالات من المغرب والمشرق، من أجل دراسة بعض القبائل مثل قبيلة بنو بطاو في السهول الواقعة شمال جبال الأطلس، والتي اشتغل عليها ديل أيكلمان، وقبيلة أيت عطا (المغرب) التي اشتغل عليها ﮔـيلنر وقبيلة بنو سعدة في برقة بليبيا، المرتبطة بقبائل أخرى تعرف باسم المرابطين في ليبيا، وقد اشتغل عليها بيترز. أما في السعودية فقد تحدث الباحث عن قبائل المُرة. وتتيح هذه الدراسات عرض مختلف وسائل التعرف عليها التي لجأ إليها الباحثون الغربيون من قبيل شجرة النسب، ومسألة القرابة، والتجمعات القبلية، مما يوسع مجال المفاهيم إلى مفهوم الخيمة والبيت ومفهوم العائلة والعشيرة والفرع والسلالة والقَبيلة. ومن المهم الانتباه إلى الفوضى وعدم الاستقرار الملحوظ في التصنيفات والمفاهيم في التراث المكتوب كما الشفوي على حد سواء، وهي ظاهرة أساسية انتبه إليها الباحث في هذا الكتاب.
وفيما يخص معرفة الأنثروبولوجيا ومعرفة مجتمعات المشرق والمغرب الكبير، فإن تقسيم التراث المغاربي-المشارقي إلى قسم شفاهي تهتم به الأنثروبولوجيا وقسم مكتوب يهتم به الاستشراق لا يغير في مسألة كون كل هؤلاء الخبراء هم في الأصل أوروبيون أو أمريكيون، يعطون أهمية دونية للمعرفة التي أنتجتها منطقة الشرق والمغارب، وخاضعة لسلطتهم المعرفية. وكانت السمة السائدة هي تهميش تراث المنطقة ومفاهيمه بسبب إصرار أغلب الأنثروبولوجيين الاستعانة بالخبر الشفوي الذي يقدمه المخبر، كما تظهر عملية التهميش في مجال حيوي يؤسس للتنظير، ألا وهو مجال مفردات التصنيف المتأصلة في ثقافة المنطقة نفسها، حين قام معظم الأنثروبولوجيين بتغيير أسماء القبائل المحلية بأسماء من عندهم. يجزم المؤلف أن العلم المدون بالعربية بشأن الجماعات الإنسانية يتجاوز مسألة القبيلة، ويشكل تراثاً أدبياً وعلمياً كبيراً.
يعيد الباحث في مقال “العلوم الاجتماعية بين لاقتباس والتوطين: الأنثروبولوجيا وعلوم أخرى”8 طرح إشكالية مشروعية استمرار العلوم الاجتماعية الموروثة عن أوروبا في مؤسساتنا العربية شريطة نزع الصبغة الاستعمارية عن مفاهيمنا ومناهجها مطروحة أواسط القرن العشرين. ويرى الباحث أن نزع الصبغة الاستعمارية عن العلوم الاجتماعية يمر بإعادة صياغة معرفة اعتبرها النقاد من صميم الاستعمار من خلال إعادة بنائها قصد إنتاج خطاب خارج التبعية التاريخية والراهنة. اشتغل الباحث على بعض النماذج من المفكرين المغاربة مثل الجابري وعبد الكبير الخطيبي: طرح من خلالهما مفهوم الوساطة التي تمارس بتموقع الباحث بين المعرفة المغربية من جهة، والتراث المعرفي للشعوب حديثة العهد من جهة أخرى، ويمكن في امتلاك الباحث سيادة طرح السؤال ووضع الإشكاليات ونزع سيادة الخطاب الكولونيالي قصد إعادة النظر في المعارف ومناهج الإنتاج، وبهذا لا يصبح المجتمع والباحث موضوعاً فقط، بل ذاتاً أيضاً. وقد ساهم التاريخ أولاً، ثم الاقتصاد ثانياً، وبدرجة أقل (إن لم تكن منعدمة) الجغرافيا في إزالة النزعة الكولونيالية عن العلوم الاجتماعية، في شمال إفريقيا والمشرق، كما احتل الميدان مكانة مهمة في الجامعة المغاربية الجديدة، ضمن النقد المزدوج الذي ازدهر في المؤسسات الأكاديمية في منطقة المغرب الكبير، وهو نقد أسس لخطاب وميادين تنفلت من الهيمنة الأوروبية، وهنا يشير المؤلف إلى أهمية الانتباه إلى الفرق بين موقف المؤرخ المنتمي إلى المجتمع المغاربي، وبين المؤرخ الكولونيالي الذي يتميز مشروعه بالتجزيئية وبالتهميش واحتقار المعرفة المنتجة في بيئة غير بيئته الغربية، بينما يكون المؤرخ المنتمي ما بعد كولونيالي يشعر بالتعددية والمحلية والكيانات الشاملة.
في ختام هذه المراجعة النقدية نستطيع القول إن الباحث عبد الله حمودي يخلص إلى أن درس الأنثروبولوجيا يمثل تجربة يمكن أن يقتدى بها في إعادة صوغ علوم الاجتماع بالعربية. وفي البديل الذي يقترحه والمتمثل في مقابلة الرصيد العلمي والثقافي لمنطقة مغارب والمشرق لا يحاول تبرئة الأنثروبولوجيا من حمولاتها الكولونيالية، لكنه يفضل اتخاذ منهج جديد في النقد يقتضي الدخول العميق في التصورات والمفاهيم والوقائع التي تزخر بها تلك الأنثربولوجيا. ومن أهمية هذه الدراسة أنها تعطي حالات بعينها وتحيل على الكثير من الدراسات التي تناولت تلك الحالات. وإذا لم تخل الأسئلة العلمية من عودة إلى مساءلة الارث الكولونيالي، على سبيل التمحيص والمقارنة والآفاق المنهجية، رغم أسئلتها الدالة حول المسألة السوسيولوجية المغربية، فإن إصدار هذا الكتاب في سياق إعادة قراءة الأنثبروبولوجيا المرتبطة بالمغرب ودول شمال إفريقية والشرق الأوسط، من موقع الانتماء إلى هذه المناطق الجغرافية التي عانت من تهميش منتجها المعرفي من لدن الدراسات الاستعمارية، ويهدف هذا الكتاب إلى طرح التساؤل عن حصيلة الدراسات السوسيولوجية حول القرية والقبيلة المغاربية والمشرقية من خلال مجموعة من النماذج العملية والتساؤل عن دور الباحث الأنثروبلوجي المنتمي في إعادة تفكيك بنية المجتمعات القبلية في كل من ليبيا وموريطانيا والجزائر وبلدان أخرى كثيرة.
وعموماً يمكن القول إن هذا الكتاب يفتح بالفعل آفاقاً جديدة لقراءة الأعمال الأنثروبولوجية من خلال استجلاء ووصف وتحليل وتأويل التجليات الاجتماعية والثقافية والأنثربولوجية في الأرشيف الاستعماري وفي ما أنتجته البلدان المغاربية من معرفة محلية، وتكمن أهمية هذه الدراسة في استفادتها من تراكمات نقدية سابقة للمفكرين الأروبيين والأمريكيين والمغاربة، كما استفادت من تجربة الباحث الطويلة في هذا الميدان.
الهوامش:
1استجواب عادل حجي، مجلة Librement العدد الأول، 1988، وترجمته الباحثة فوزية الدكالي.
2تأسس معهد السوسيولوجيا بالرباط في 1965-1966، وأقفل أبوابه خمس سنوات فيما بعد. وبخصوص مسألة إغلاق معهد السوسيولوجيا، تحدث كل من عبد الكبير الخطيبي وزكية داود عن هذه المسالة، حيث تم إغلاق المعهد نهائيا سنة 1970، مما أنهى طموحات كل من باسكون والخطيبي بتشييد سوسيولوجية مغربية حديثة تتخلص من النزعة الإستعمارية. طرح مراد الخطيبي السؤال التالي: ألم يحن الوقت لإنجاز تقييم علمي للتجربة القصيرة لمعهد السوسيولوجيا؟ ولمَ لا يعاد فتحه من جديد ؟- أنظر: مقال: “بول باسكون وعبد الكبير الخطيبي ومشروع تخليص السوسيولوجيا المغربيَّة من النزعة الاستعماريَّة”، مراد الخطيبي، موقع مؤمنون بلا حدود، أكتوبر 2016.
3 جريدة الاتحاد الاشتراكي 16/17 دجنبر 2006.
4 نص المحاضرة التي ألقيت بتاريخ 21 سبتمبر 2010 في كلية الآداب، الرباط، ضمن سلسلة محاضرات مركز دراسات الدكتوراه، المجال والإنسان في العالم المتوسطي.
5عبد الرحمان المالكي، مقال “السوسيولوجيا الكولونيالية أمام ظاهرة الهجرة القروية في المغرب”، مجلة عمران، عدد 17/5، ص. 32، صيف 2016.
6ساهم الخطيبي إلى جانب بول باسكون في مشروع تخليص السوسيولوجيا المغربية من النزعة الاستعمارية، وفي تكوين نخبة من الباحثين المتميزين مثل: عبد الله حمودي وأحمد زوكاري وعبد الله حرزني وباحثون آخرون، وعمل هؤلاء جميعاً على تأسيس ورسم معالم البحث السوسيولوجي المغربي والخوض في مواضيع مهمة منها: الشباب المنتمي إلى القرى المغربية والطبقات الاجتماعية والتخلف والتغيرات الاجتماعية والمثاقفة والفساد داخل الإدارة المغربية والمجتمع المدني. أنظر: مراد خطيبي، مرجع سابق.
7صدر هذا المقال في مجلة عمران، عدد 19، المجلد الخامس، شتاء 2017.
8 نص الدرس الافتتاحي الذي ألقاه الباحث يوم الأربعاء 11 أكتوبر 2017 في شعبة العلوم الاجتماعية، جامعة محمد الخامس، الرباط.