أناس ابن الشيخ، العائلة وإنتاج أنماط القرابة في المجتمع الصحراوي: دراسة سوسيو-أنثروبولوجية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، إشراف: خالد شكراوي ولحسن أمزيان، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط، 2018-2019.
تعالج الأطروحة موضوع العائلة والقرابة في المجتمع الصحراوي، وتنطلق إشكاليتها من السياق الميداني، وتنصب على دراسة مجتمع الساقية الحمراء، وتحاول اختبار أهمية العائلة والقرابة في تدبير النظام الاجتماعي الصحراوي. والملاحظ أن الاكتفاء بالاهتمام بالبنيات الكبرى مثل القبيلة وأجهزتها التقليدية، كما ذهبت إلى ذلك العديد من الدراسات، يثنينا أحيانا عن التعمق في باقي البنيات الاجتماعية. وتظهر مركزية القرابة والعائلة على مستوى تدبير النظام الاجتماعي في مستويات كثيرة، مثل السهر على ديمومة السلالات وتدبير عملية التنشئة الاجتماعية وإنتاج أنماط قرابية متعددة، فضلا عن استراتيجياتهما المحكمة في تسيير العلاقات الفردية والجماعية بناء على منطق جينيالوجي (lignages) وآخر اجتماعي (المكانات الاجتماعية ومنطق الزواج بالكفء والزواج القرابي…)، مما يبرهن على أن العائلة والقرابة تعدان من البنيات الجوهرية في تدبير هذا المجتمع.
ويأتي تناول العائلة والقرابة بشكل مترابط، باعتبارهما كلا متجانسا يصعب فيه الفصل بينهما أو محاولة التجزئة، لاسيما في سياق المجتمع الصحراوي، سواء على مستوى تدبير مجموع البنيات الاجتماعية أو من حيث تدخلها في إنتاج السلطة المادية والسلطة الرمزية. وفي هذا المستوى تعد العائلة منتجا رئيسيا لمجموع الروابط القرابية وعنصرا جوهريا في تدبير هذه الروابط. وهو ما تفصح عنه أيضا تصورات بيير بورديو (Pierre Bourdieu) وموريس غودولييه (Maurice Godelier) في مقاربتهما لهذه البنيات، حيث تنتظم علاقات الأفراد ضمن روابط قرابية متنوعة، إما عن طريق المصاهرة (الزواج) أو بشكل استثنائي عن طريق قرابة التبني، أو عن طريق أشكال أخرى قد تتخذ صيغا محلية (تبني الغرباء أو ما يسمى محليا ب: “الدْخِيلْ”). وبمعنى أدق، لا يمكن الحديث عن العائلة دون إنتاج علاقات قرابة، ولا عن علاقات قرابة دون أن تنتج أشكالا عائلية.
وهكذا، حاولت هذه الأطروحة الوقوف على أهمية القرابة والعائلة في تشكيل بنية النظام الاجتماعي الصحراوي. واهتمت في مستوى أول بالسياقات المرتبطة بالانتقال الملتبس الذي عرفه المجتمع الصحراوي الصنهاجي، من القرابة الأمومية (parenté matrilinéaire) إلى القرابة الأبوية (parenté patrilinéaire). واختبرنا في هذا السياق أهمية بعض السياقات التاريخية في إنتاج هذا التحول القرابي، مثل الحركة المرابطية والهجرات الحسانية والصراعات الصنهاجية العربية.
يتعلق الأمر إذا ما استعرنا تحليلات عبد الودود ولد الشيخ[1]، بواقعة انقلاب تاريخي نتيجة تحالف الشيخ الكنتي[2] ضد «أخواله» (ابدوكل[3]) مع أولاد «عمه» أولاد الناصر[4] من قبائل حسان. مما جعل ولد الشيخ يومئ في عبارة استعارية تحيل إلى ما يسميه بقتل الأم (meurtre de la mère)، الأمر الذي ساهم في بداية الهيمنة الأبوية والانسحاب التدريجي للروابط الأمومية.
وفي مستوى آخر، تم الوقوف عند بعض الأشكال القرابية المميزة في المجتمع الصحراوي، أي ما يتصل أساسا بالقرابة المفترضة. ونقصد بها القرابة المؤسسة على الروابط غير الدموية، أو ما يدخل عموما ضمن الروابط الاجتماعية، مثل قرابة “الحليب” (الرضاعة) وقرابة “الدْخِيلْ “(الدخلاء)، إذ لا تقل أهمية عن قرابة الدم من حيث فاعليتها والالتزامات المرتبطة بها، غير أنها تضعف في سياق الزعامة.
وتسهم القرابة المؤسسة على المصاهرة بشكل واضح في تجاوز الصراعات المحلية، وهو ما تظهره مجموعة من الوقائع التاريخية التي توقفنا عندها. فضلا عن ذلك، يمثل هذا الشكل القرابي ميكانيزما مهما وقت الحرب وهو ما يفسر دخول المجموعات القوية في مصاهرات بينية تخضع لمنطق تكافئي، وذلك لتفادي النزاعات فيما بينها وأيضا من أجل ضمان مساندتها في حروبها الخاصة.
على هذا النحو، جرى تتبع بعض الاستراتيجيات القرابية التي تدبر بعض الأشكال التحالفاتية، مثل الزواج الخارجي (أي بين القبائل)، الذي ساهم في إنتاج علاقات تحالفاتية مهمة، سواء ما يتصل بالتحالف المتكافئ أو ما يدخل في الحماية المؤقتة أو الحماية الدائمة. وفي هذا المستوى، تدخل القبائل المحمية ضمن دائرة الأتباع. وتترتب عن هذه العملية مجموعة من الالتزامات، من بينها فرض الإتاوات وتقديم المساعدات الحربية…الخ، مما يعني أن العائلة الصحراوية لعبت أدوارا مهمة في تدبير التحالفات والتكثيف من العصبيات الداخلية والخارجية.
ولم تقتصر العائلة الصحراوية على تدبير التحالفات السياسية والاقتصادية، بل تظهر أيضا على مستوى تثيب المكانات الاجتماعية واستمرارية التراتبيات التقليدية (المحارب والزاوي والصانع …الخ)، مما يعني ديمومة النظام الاجتماعي عبر اهتمامها بتدبير عملية التأهيل الجسدي والرمزي على نحو يتماشى مع التراتبيات التقليدية، وحيث تتشكل شخصية الفرد بناء على محددات تتناسب وشروطه المعيشية (التقسيم الوظيفي للعمل)، وتتوافق مع التمثلات المحلية المتصلة بالذكورة والأنوثة (الشجاعة والفحولة والطهارة…إلخ). فضلا عن مساهمة هذه الأخيرة في تثبيت مجموعة من العناصر الاجتماعية، من قبيل الشرف والعار ومفاهيم الشجاعة والفحولة، وإنتاج معايير خاصة بالجسد الأنثوي لا سيما ما يسمى محليا بـ “لَبْلُوحْ” أو “التَّبْلاَحْ”.
وفي مستوى آخر، تم الاهتمام بالاستراتيجيات العائلية المتصلة بتدبير السلالات والحفاظ على استمراريتها عبر التركيز على الدوافع الاجتماعية المرتبطة بالإنجاب، بحيث يدخل ضمن المرتكزات الجوهرية لتأسيس ما يسمى محليا بـ «التْخْيَّامْ»، أي الزواج. وفي هذا السياق تقول المبحوثة (د، ش، 68 سنة): “يَنْكَالْ لَعْلاَيَاتْ زَرِّيعَة التْرَابْ”، بمعنى أن النساء في المجتمع الصحراوي يرمزن إلى الخصوبة والإنجاب، يماثلن بذلك الزرع المرتبط بخصوبة الأرض. وهكذا يتجاوز الإنجاب الأبعاد البيولوجية ليضمر أبعادا أخرى تتعلق أساسا بديمومة الوحدات العائلية والقبلية، وبالتالي يصبح مساهما فعليا في حفظ الروابط النسبية.
أما فيما يتعلق بسياق التحولات التي عرفها المجتمع الصحراوي زمن التحضر، فيمكننا أن نتلمس أثر التراجع الملحوظ للوحدة القبلية في مستويات بنيوية، بحيث لم تعد القبيلة تنفرد بتدبير العلاقات الاجتماعية أو التحكم في إنتاج الروابط القرابية (الزواج القرابي مثلا بناءً على القرابة القبلية (الجد المشترك)). بل أصبحت العائلة تسهم بصورة حاسمة في إنتاج هذه الروابط وتحديد مآلاتها (الزواج….)، وفي تدبير التماسكات الداخلية لأعضائها من حيث التضامن المشترك (الدية، المهر… إلخ)، فضلا عن بروز الفرد كفاعل رئيسي في تحديد قراراته الشخصية (الزواج، المسارات المهنية…إلخ). وبالمقابل تراجعت التراتبيات الصارمة القائمة على محددات جينالوجية (النسب والشرف…) لصالح تراتبيات أخرى مؤسسة على محددات جديدة منها المهنة والثروة والمستوى الدراسي.
وبهذا المعنى، عرف المجتمع الصحراوي انسحابا تدريجيا لمجموعة من الممارسات التقليدية، مثل لَّبْلُوحْ والختان الأنثوي. إضافة إلى تغير الاستراتيجيات المرتبطة بالتنشئة الاجتماعية، نتيجة ظهور وسائط جديدة مثل الروض والمدرسة.
أما من الناحية المنهجية، فقد تم
الاعتماد على مقاربة سوسيو-أنثروبولوجية، والاستناد إلى المنهج الكيفي (المنهج
السوسيو-تاريخي والمنهج الوصفي التحليلي). بينما توزعت الاختيارات المنهجية على
التقنيات المقابلة والملاحظة والسيرة الذاتية والاعتماد الجزئي على المجموعة
البؤرية والوثائق (التاريخية والإدارية…الخ).
[1] . يقدم الأنثروبولوجي الموريتاني عبد الودود ولد الشيخ تحليلا مميزا للأسباب الكامنة وراء انتقال المجتمع البيضاني من القرابة الأمومية إلى سيادة القرابة الأبوية، ويكشف بداية طبيعة هذا الانتقال الذي يعتبره انتقالا غامضا أو ملتبسا كون المجتمع لم يتخلص بشكل كامل من النسب الأمومي رغم انتشار النسب الأبوي بين مكونات المجتمع (القبائل العربية وبعض القبائل الصنهاجية)، يستند في مناقشته لهذا التحول القرابي إلي مجموعة من الوقائع التاريخية التي تؤشر على هذا الانتقال، مثال على ذلك: الصراع بين القبائل الحسانية القادمة من الجزيرة العربية والقبائل الصنهاجية المحلية، تراجع مكانة القبائل الصنهاجية التي عرفت بالنسب الأمومي مقابل تعاظم قوة القبائل العربية و سيادة نسبها الأبوي، إضافة إلى محاولة القبائل الصنهاجية تبني الأصل الشريف والانتماء إلى آل البيت مما يعني الرغبة في التحول إلى النسب الأبوي ، أنظر في هذا السياق:
Ould Cheikh, A, W., Nomadisme, islam et pouvoir politique dans la société maure précoloniale (XIème siècle – XIXème siècle): essai sur quelques aspects du tribalisme, Sous la direction de Louis Vincent Thomas, Thèse de doctorat en Sociologie, Paris V, 1985, p. 197.
[2]. الشيخ سيد محمد الكنتي: لقب بالكنتي نسبة إلى جده لأمه (محمد بن كنت بن زم) من ابدوكل اللمتونية (قبيلة صنهاجية)، عاش في القرن الخامس عشر ولعب دورا رئيسيا في الصراع الذي حصل بين القبائل الصنهاجية (ابدوكل) والقبائل العربية (أولاد الناصر).
[3]. إمارة ابدوكل: من بقايا لمتونة الصنهاجية ، عرفت بتعاطيها للتجارة وفرض الإتاوات على الطرق التجارية التي توفر لها الحماية مما جعلها قوة ضاربة في المنطقة، فضلا عن انتشارها في مجالي الصحراء الأطلنتية والمجال الموريتاني حاليا، وبعدما خاضت حربا شرسة مع القبائل العربية خصوصا قبيلة أولاد الناصر تراجعت مكانتها لصالح هذه الأخيرة.
[4]. أولاد الناصر: قبيلة من عرب حسان جدهم ناصر ويرفعون نسبهم إلي الجد الأكبر معقل، من القبائل العربية الحسانية التي استقرت في المجال البيضاني قادمة من شبه الجزيرة العربية. نشبت بينهم وبين إمارة ابدوكل حربا شرسة خلال القرن الخامس عشر وانتهت بتحول موازين القوى إلى صالح القبائل العربية على حساب القبائل الصنهاجية، ساهم فيها الشيخ سيدي محمد الكنتي من خلال تحالفه مع أولاد الناصر ضد أخواله ابدوكل وانتهت بهزيمة الفرع الصنهاجي (ابدوكل).