عبد الرحيم بوعبيد، شهادات وتأملات 1944-1966، الدار البيضاء-المركز الثقافي العربي، 2018، 519 ص.
تعتبر الذاكرة أساس الكتابة التاريخية حول الماضي القريب، بل تعد حسب بول ريكور بمثابة حوض السمك الذي يأخذ منه المؤرخون[1]، لما تثيره من تعدد المحكيات، والمساهمة في تراجع مساحة الطابو والمحرمات، وإن كان ضروريا الانتباه إلى سياق ورهانات الكتابة[2].
وتكثفت العودة للذاكرة بمستويات مختلفة وبأهداف متنوعة، حيث شهدت العقود الأخيرة تناسل عدد من الشهادات، حاول معها أصحابها استعادة تجاربهم الشخصية والسياسية، والأحداث التي شهدوها وكانوا من الفاعلين فيها خلال القرن العشرين[3].
ويعد عبد الرحيم بوعبيد من بين هؤلاء الفاعلين الذين حاولوا التوثيق لمرحلة من مساره النضالي، انطلاقا من عمل حمل عنوان شهادات وتأمّلات. ويضم هذا العمل مجموع الكتابات التي خلفها عبد الرحيم بوعبيد عن الفترة الممتدة بين عامي 1944 و1961. ويقع في جزأين من 519 صفحة، ويتكون الأول من الكتابات التي حرر عبد الرحيم بوعبيد أهمها في وقت سابق وأكملها خلال إقامته الجبرية بميسور إبّان شتاء 1981-1982. أما الجزء الثاني، فهو عبارة عن إعادة نشر الافتتاحيات التي سبق صدورها في جريدة الاستقلال، والتي كتبها في سنتي 1951 و1952. ويتعلق الأمر إذن بجزأين متعاقبين، متداخلين كرونولوجيّا، وكتبا في وقت محدد من مسار المؤلف.
وننطلق في قراءتنا لهذه الشهادة من جملة تساؤلات هي: كيف استحضرت تجربة بوعبيد هذه المرحلة؟ وما طبيعة الكتابة التي اعتمدها؟ وما حدود التقارب بين الذاكرة والتاريخ في هذه التجربة؟
يبتدئ الجزء الأول المعنون بـ دفاتر نحو الاستقلال 1944-1961، بالوقوف على حدث تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944. وكان المؤلٍّف من بين أصغر الموقعين على هذه الوثيقة. ويستعيد عبد الرحيم بوعبيد بقوة التفاصيل الدقيقة لتلك اللحظة المؤسٍّسة على المستويين السياسي والرمزي، كاشفا عن حيثيات الاستشارات التي كانت تتم في سرية تامة بين الملك وقادة الحزب الوطني منذ بداية سنة 1942، أي قبل نزول قوات الحلفاء بالمغرب في نونبر 1942. وذلك بعد أن تبين أنه لم يعد ممكنا إعادة طرح مطالب “برنامج الإصلاحات” التي تعود لسنوات 1934-1936 حتى لو تم تجديدها، لأنها أصبحت متجاوزة. كما لم يعد من الممكن إعادة طرح مطلب الاحترام الدقيق لبنود معاهدة 1912، والتخلي عن نظام الإدارة المباشرة، واستعادة ما تبقى نظريا من مقومات السيادة المغربية.
خلّف نزول الحلفاء لدى مجموع مناضلي الحزب الوطني وأطره إحساسا كبيرا بالمرارة. فالقيادة العسكرية الأمريكية لم تكن لها علاقات سوى مع القيادة الفرنسية الجديدة، وكانت تتجاهل عاهل البلاد. وشكل ذلك دافعا لإجراء اتصالات مع موظفي القنصليات الأمريكية في الرباط وطنجة، ثم فيما بعد مع بعض ضباط القيادة الأمريكية. إلا أن المخاطبين الأمريكيين، الذين كان يشعرون بنوع من الإحراج، اختاروا أن يظلون صامتين وقبلوا بالاستماع فقط. وفي هذا السياق يورد عبد الرحيم بوعبيد حدثا تاريخيا مهما، وهو طلب الجنرال موريس نوغيس من السلطان محمد بن يوسف الانتقال إلى فاس، بمجرد الإعلان عن عملية الإنزال الأمريكية بالدار البيضاء والمهدية. وكان الهدف من هذا الطلب هو تمكين المقيم العام من الاحتماء وراء السلطة الملكية والانسحاب بدوره إلى فاس. وكان هذا العمل سيفسر كنوع من المقاومة لعملية إنزال قوات الحلفاء. إلا أن العاهل رفض مغادرة الرباط، ولم يتبن موقف المقيم العام الممثل لحكومة فيشي.
انعقد مؤتمر آنفا يومي 22 و23 يناير 1943، واستدعي السلطان للحضور باعتباره عاهل البلاد، وذلك بإلحاح من الرئيس الأمريكي روزفيلت. والتقى السلطان، مصحوبا بولي العهد مولاي الحسن والجنرال “نوغيس”، بالرئيس الأمريكي الذي تحدث، بعبارات عامة، عن روح الميثاق الأطلسي، وعن ضرورة أخذ تطلعات الشعوب إلى حريتها وامتلاكها الحر لثرواتها، وذلك أمام تشرشل الذي ظل صامتا ويبدو عليه نوع من الانزعاج. هكذا تحقق الهدف، وأخبر السلطان نفسه حلفاء فرنسا الحرة بتصميم الشعب المغربي على وضع حد لروابط التبعية التي فرضتها معاهدة فاس وعلى استرجاع السيادة الكاملة. وكتب بوعبيد، “تم تحقيق خطوة حاسمة، في العمليات التحضيرية لعريضة 11 يناير 1944” (ص.26).
وقبل تحديد صيغة مشروع العريضة على الورق، تم اقتراح تسمية التجمع الذي سهر على العملية، أي اسم “حزب الاستقلال”. يقول بوعبيد: “اقتراح أحمد بلافريج، استند فيه ربما إلى الحزب الذي كان يحمل نفس الاسم في العراق. وقد أبدى المهدي وأنا شخصيا، بعض التحفظات… استقلال، نعم ولكن لماذا كلمة حزب؟ فجبهة وطنية أو أي صيغة أخرى ستكون أكثر ملاءمة لبنيته ومكوناته المختلفة، لأن المعركة ستكون طويلة، وإذا وقعت انشقاقات فالانشقاق عن الجبهة سيكون بتأثير سياسي أقل. إلا أن هذه الملاحظات لم تحظ بما تستحقه من الاهتمام” (ص.28).
وأشارت المذكرات إلى الاتصال بمحمد بلحسن الوزاني بيد أنه رفض العرض، وبالمقابل بقي موقف بعض أنصاره غامضا. كان الاستثناء هو محمد بن العربي العلمي، الذي قبل أن يكون بين الموقعين على العريضة. وذكرت كذلك التواصل مع جمعيات قدماء تلاميذ فاس والرباط وسلا وغيرها من المدن، بهدف لفت انتباه الرأي العام الدولي إلى الإرادة الجماعية للمغاربة. كما تم الاتصال مع خريجي الثانويات أو المؤسسات البربرية، ومن بينهم جمعيات قدماء تلاميذ ثانوية أزرو. وشارك العلماء أيضا في هذه المبادرة، وفي مقدمتهم الشيخ محمد بن العربي العلوي. وأثير خلالها اسم كل من بوبكر زنيبر والمختار السوسي، ولكن لم يحتفظ باسمهما في النهاية ضمن لائحة الموقّعين. وأثير اسم آخر هو مسعود الشيكر، وهو موظف سام في المخزن منذ عدة سنوات، وكان صلة الوصل بالملك في اللحظات الاستعجالية، وحرص على أن يخرج من الظل، وبذلك كان من بين الموقعين الأكثر إثارة للانتباه على العريضة. ومن جهة أخرى تم ربط الاتصال مع باشا مراكش، ومع خصمه القائد العيادي.
كشفت المذكرات على وجود مشروعين أو ثلاثة في البداية، حرصت على إبراز الكيان المغربي باعتباره دولة ذات سيادة، معترف بها من طرف مجموع المجتمع الدولي. ثم التحريف الذي تعرّضت له معاهدة 1912 عند التطبيق. وقد خصص حّيزا واسعا في هذه المشاريع للمقاومة المسلحة ضد التغلغل الاستعماري، من سنة 1912 إلى سنة 1934. وفي الأخير تمت المصادقة على نص مختصر، ومكثّف. يغلب عليه الطابع القانوني، كما أنه أشبه بنوع من المحاكمة. وتم اختيار يوم 11 يناير 1944 لتقديم الوثيقة رسميا، من طرف السلطان نفسه، لأن هذا التاريخ كان يوافق يوم الاستقبال الأسبوعي لمستشار الحكومة الشريفة.
نقلت الشهادة أنه بمجرد افتتاح القصر، “كان وفد برئاسة أحمد بلافريج في قاعة الانتظار، كما تقرر. كل قواعد البرتوكول الصارمة تجوزت. فقام أحمد بلافريج، وقد تملكه التأثر الشديد، وسلم لجلالة الملك ملف الوثيقة. وقد استمرت المقابلة حوالي الساعة. كل موظفي المخزن كانوا في حالة اضطراب محموم”. (ص.47-48)
استقبل في نفس الصباح وفد آخر يقوده محمد الزغاري من طرف الإقامة العامة، ووفد ثالث برئاسة المهدي بن بركة من قبل قنصل إنجلترا. ووفد رابع من طرف قنصل الولايات المتحدة الامريكية بالرباط. “وقد قبل القنصلان بعد تردد، تسلم نص البيان على سبيل الاطلاع. وفي منتصف النهار كانت المرحلة الرسمية قد أنجزت كما كان متوقعا. وقد انتشر الخبر بسرعة البرق: ففي مدن الرباط ثم سلا والقنيطرة، شرع الناس في تبادل التهاني، وأصبح الحماس يغمر المشاعر” (ص.49).
انعقد خلال اليوم الموالي مجلس وزراء المخزن، أكد فيه السلطان تبنيه ودعمه للوثيقة. وعبر محمد بن العربي العلوي عن سعادته لذلك، في وقت صمت فيه الصدر الأعظم محمد المقري، بيد أن موقف الكلاوي فاجئ الكل، فقد ساير موقف السلطان. تحقق بذلك تحول جذري، وبدأت التجمعات العمومية التلقائية في كل المدن الكبرى، وأخذت الحركة تتسع يوما بعد يوم. وتقاطرت عشرات الوفود على الرباط تحمل مذكرات التأييد لعريضة المطالبة بالاستقلال.
سجلت المذكرات ملاحظة بخصوص منطقة النفوذ الاسباني، مفادها أن الحركة الوطنية هناك لم تتحرك بالشكل المطلوب، لظروف الحرب والقطيعة مع باقي مناطق البلاد. وقد مرت أسابيع على تقديم البيان، قبل أن يبعث حزب الإصلاح الوطني، الذي كان يتزعمه عبد الخالق الطريس برسالة تأييد إلى الملك، بتاريخ 29 فبراير 1944.
شهدت سنة 1955، بعد فترة طويلة من الجمود حيث كانت السياسة مرتهنة ببقاء الوضع على ما هو عليه، منعطفا كبيرا في تطور تحرّر أفريقيا الشمالية. فمن مرحلة “إيكس ليبان” إلى تفاهمات “أنتسيرابي”، مرورا بحركات التمرد حاولت المذكرات استعادة جو التوترات والتقلبات، وتلمس الطريق الذي مهد لفك الأزمة المغربية-الفرنسية، التي يحتل صيف سنة 1955 لحظة قوية فيها.
كانت شهادة عبد الرحيم بوعبيد بخصوص اللحظة في الأصل كرّاسا سماه “دفاتر مناضل”، والتي حرر معظمها أثناء فترة اعتقاله بميسور عام 1981، عندما أبدى اعتراضه مع أعضاء من المكتب السياسي لحزبه على إجراء استفتاء في الصحراء المغربية. وقد فضل عدم نشرها إلا بعد وفاته. وتكشف هذه المذكرات عن ظروف إبعاد محمد بن عرفة وعودة محمد بن يوسف إلى البلاد. وبينهما طرْح فكرة مجلس العرش، كمحطة انتقالية. كما تتناول الانتفاض الشعبي يوم 20 غشت 1953، في خنيفرة وواد زم وخريبكة وأبي الجعد وأيت عمار والدار البيضاء والرباط، الذي أسقط فكرة البلاد الهادئة، وأكد التلاحم الشعبي، خاصة أمام المشاركة الواسعة للفلاحين، للمطالبة بعودة محمد بن يوسف.
كما تقدم هذه الشهادات صورة عن الاتصالات التي جرت في “إيكس ليبان” والنتائج التي أسفرت عنها، وأسباب معارضة البعض لها، وكيف زرع ذلك ارتباكا في صفوف المناضلين. ثم حيثيات الاتصال بالملك في أنتسيرابي، وملابسات وتحديات ومخاض تشكيل وهيكلة مجلس العرش.
تناول بوعبيد في مستوى آخر نشأة المقاومة المسلحة والتضامن المغاربي ما بين شتنبر وأكتوبر 1955 وأهم الاتصالات التي قادها مع مجلس المقاومة وجيش التحرير. وتحدث عن ظروف التحاق الدكتور الخطيب بها، بعد اختياره من طرف علال الفاسي ليكون عنصر اتصال في شراء الأسلحة من سويسرا وألمانيا. وكيف أدى نقص التنسيق بين قيادة الحزب وزعماء المقاومة، إلى بداية بوادر الشقاق والخلاف، خاصة مع سوء الفهم والأخبار المحرفة. وهو ما ستكون له امتدادات سيئة على الحياة السياسية في مغرب بداية الاستقلال.
تحقق الاتفاق مع الرئيس إدغار فور على عودة الملك يوم 06 نونبر 1955 في سياق سياسي جديد، حيث تم التخلي عن الطابع النهائي والثابت للعلاقات الناجمة عن معاهدة 1912. وصدر بيان: اتفاقية “لاسيل سان كلو” يوم 06 نونبر 1955، لرفع اللبس بخصوص معاهدة الحماية، السارية المفعول منذ 30 مارس 1912. وتم إلغاء هذه المعاهدة بشكل صريح، وفتحت مفاوضات كانت ترمي إلى أن يصبح المغرب دولة مستقلة، تربطه بفرنسا علاقات دائمة من الترابط المتبادل الحر.
وفي ذات السياق توقفت المذكرات بتفصيل عند الاجتماع الاستثنائي للجنة التنفيذية لحزب الاستقلال بمدريد ليلة 16 نونبر، قصد رفع اللبس عن عدد من القضايا وتقريب وجهات النظر خاصة بين علال الفاسي وأحمد بلافريج، عقب التوترات التي أعقبت لقاءات إيكس ليبان.
انتقلت بعدها مباشرة إلى بداية الستينيات وحدث إعفاء حكومة عبد الله إبراهيم، في مايو 1960. وتناولت ضغوطات البورجوازية المنتسبة إلى حزب الاستقلال، التي ثارت ثائرتها ضد الإجراءات المطبقة على مستوى الصناعة والتجارة الخارجية والعملة والقرض. ورددت نفس الانتقادات التي كانت تبلورها الصحافة الفرنسية على طول أعمدتها. بالمقابل كانت خيارات الحكومة بالنسبة للطبقات الشعبية وجزء من البورجوازية المتوسطة، تبشر فعلا بمستقبل أفضل، وبذلك اندلع صراع طبقي حقيقي. وكان حزب الاستقلال، تورد الشهادة، يجد ويجتهد في صحافته وتصريحاته من أجل نفي هذا الصراع الطبقي، مع الدفع بأن الأمر لا يعدو أن يكون شعارا مستوردا من الخارج ومناهضا لمبادئ الإسلام.
ونقل عبد الرحيم بوعبيد رواية إعفاء الحكومة، بعد عشاء خاص جمعه مع ولي العهد الأمير مولاي الحسن، الذي عرض عليه تولي منصب وزير الخارجية. عبّر بوعبيد عن تفاجئه بعمق من أن الرئيس المستقبلي للمجلس الحكومي هو ولي العهد نفسه. تأكد قرار الإعفاء رسميا يوم 26 ماي مع تغيير بالمقارنة مع الخطة الأصلية، إذ إن بعض الشخصيات من بين المؤهلين للوزارات، من أمثال عبد الكريم بن جلون، ألحوا على الملك كي يتولى هو نفسه رئاسة المجلس الحكومي، على أن يكون ولي العهد نائب الرئيس فقط. وقد كان عبد الرحيم بوعبيد أول من استدعي إلى لقاء الملك، الذي، يقول بوعبيد: “بدا محرجا أو مكدر البال نوعا ما، يكاد يكون مستسلما. أخبرني جلالته أنه على علم بمجريات اللقاء مع الأمير مولاي الحسن، وباقتضاب شديد عبرت له عن عميق أسفي لعدم قبول العرض الذي عرض علي” (ص. 207). وفي ذات الإطار كتب أن “المحزن هو رؤية قادة حزب الاستقلال يتخلون عن أي موقف ينم عن الحد الأدنى من الكرامة أمام سيد اللعبة الجديد ممثّلا في اكديرة (ص. 210).
نصبت الحكومة الجديدة يوم 26 ماي 1960، وقررت تنظيم الانتخابات الجماعية والبلدية يوم 29 ماي، بعد أن تم تهييئ كل شيء من طرف إدريس المحمدي، بتعاون مع المساعدين التقنيين الفرنسيين، إبّان الحكومة السابقة، بغير علمها وفي غفلة منها تورد المذكرات. فقد أنجز التقطيع الانتخابي من طرف المصالح المركزية والمحلية لوزارة الداخلية انطلاقا من الاعتبارات الإثنية في غالب الأحيان. وهيئت اللوائح الانتخابية من طرف العمال ومرؤوسيهم، من دون أية مراقبة. وعليه خلصت الشهادة إلى أن وزارة الداخلية استعادت روح، بل حتى نص إصلاح الحماية لسنة 1951. فلم يعد للرؤساء والمستشارين الجماعيين، كما للجماعات الإدارية سوى الدور الباهت كهيئات استشارية. وتحول القائد إلى ضابط للشؤون الأهلية، بصلاحياته و”مخازنيّته” ونياشينه ذاتها.
وينتهي هذا الجزء الأول بالأحداث السياسية الكبرى التي طبعت فترة 1960-1961، والتي شكلت منعطفا حاسما في الحياة السياسية المغربية. وكان اللافت ترحيب معظم الصحف الفرنسية بمجيء الحسن الثاني، وهو التحول الذي بدا غريبا نوعا ما حسب الشهادة، فقد “كان الحكام الفرنسيون وفرنسيو المغرب يحسون بتأنيب ضمير حيال محمد الخامس، ضحية الخلع والإبعاد في غشت 1953… كانت وفاته، رغم كونها مؤسفة، تفتح عهدا جديدا في العلاقات الفرنسية المغربية. وأصبح ابنه غير المحبوب من قبل، “رجلا جديدا”، أكثر تحررا في ارتباطاته بحركة التحرر الوطني. على مستوى المفاهيم الاقتصادية، كان مؤيدا للرأسمالية الليبرالية… سيشعر الاستعمار بطمأنينة أكثر”. (ص227).
وذيّل هذا الجزء بمجموعة من الوثائق، بلغت 34 وثيقة، اقتبست من مراجع مختلفة كالصحافة الأجنبية خاصة “لوموند” ، أو وطنية خاصة العلم والتحرير. وتضمنت معطيات عن سياق نفي محمد بن يوسف وحيثيات لقاءات إيكس ليبان، وصولا إلى عودته والأحداث السياسية اللاحقة حتى وفاته سنة 1961.
أما الجزء الثاني فكان عبارة عن إعادة نشر الافتتاحيات التي سبق نشرها في جريدة الاستقلال، والتي كتبها المؤلف عن فترة 1951-1952. أي ما بين العدد الأول الصادر في 12 أكتوبر 1951 حتى العدد 55 الصادر يوم 06 دجنبر 1952.
يبدو من خلال ما سبق أن ذاكرة عبد الرحيم
بوعبيد قد استحضرت لحظات حاسمة من تاريخ المغرب خلال القرن العشرين مكنتنا من
الاقتراب من حيثيات تشكّل منعطفات عديدة خلال المرحلة، ومنحتنا صورة دقيقة عن
وقائع مثيرة عاشها بوعبيد فاعلا ومشاركا. غير أنه كان استحضارا انتقائيا من خلال
التركيز على أحداث بعينها وإغفال أخرى كانت بدورها حاسمة خلال المرحلة. فقد ركز
الشاهد على حدث تقديم وثيقة المطالبة الاستقلال سنة 1944، وبعدها انتقل مباشرة إلى
ملابسات “إيكس ليبان” صيف 1955، وما جرى بين اللحظتين عقد من الأحداث المثيرة
سكت عنها الشاهد! وهي نفس الملاحظة فيما بعد حيث انتقل مباشرة إلى سنة 1960 ليكشف
عن ظروف إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، ومعلوم أن ما بين استقلال المغرب سنة 1956
وإقالة حكومة عبد الله إبراهيم جملة من الأحداث الحاسمة.
يظهر التقارب جليا في هذه التجربة بين الذاكرة
والتاريخ، باعتبارهما استحضار للماضي عن طريق الكتابة، لكن الاختلاف بينهما بيّن
في طريقة هذا الاستحضار وطبيعة الكتابة. فالكاتب قال ما شاء هو، بعد أن أتقن
القول، بيد أنه كان انتقائيا فصّل حينا وسكت أحيانا. وهو ما لا يُسمح به للمؤرخ
الذي عليه أن يبحث ويؤول قبل أن يكتب وبدلائل ملموسة.
[1] بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة: جورج زيناتي (ليبيا: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2009)، 567.
[2] عبد الأحد السبتي، التاريخ والذاكرة، أوراش في تاريخ المغرب (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012)، 213-214.
[3] عبد العزيز الطاهري، الذاكرة والتاريخ خلال الفترة الاستعمارية (1912-1956) (الرباط: دار أبي رقراق، 2017)، 139.