محمد بنسعيد ايت إيدر، هكذا تكلم محمد بنسعيد…، الجزء الأول، إعداد وإخراج عبد الرحمن زكري، مركز محمد بنسعيدأيتإيدر للأبحاث والدراسات،الدار البيضاء، 2018.
لم تنشأ الدولة المغربية بفعل حركات التحرر والاستقلال بإعتبار أن الأولوية لم تكن لمشروع الدولة، بل كانت الأولوية للبحث في كيفية الوصول إلى السلطة، وعند وصول النخب إلى السلطة كانت أمام أو في عمق الأزمة الفكرية والسياسية المتمثلة في مواجهة قضايا معقدة ومرتبطة ببعضها مثل القضاء على الإرث الاستعماريوبناء الدولة الوطنية، فكانت النتيجة العديد من أزمات ما بعد الاستقلال، من بينها أزمات اليسار المغربي بكل تياراته.وتحاول هذه الورقة تسليط الضوء على أحد رموز اليسار المغربي محمد بنسعيدأيتإيدر،من خلال مذكرته السياسية هكذا تكلم محمد بنسعيد …،والتي تولى كتابتها أحد رموز اليسار وقادة منظمة 23 مارس المحظورة زمن الحسن الثاني، الأستاذ عبد الرحمان زكري، والذي خص لها تقديما من عشر صفحات بين فيه دواعي وأهداف وحيثيات كتابة مثن هذه المذكرة السياسية.
والواقع أن هذه المذكرة هي امتداد لمشاريع سابقة صادرة للأستاذ محمد بنسعيد عن نفس المركز السابق، وهي على التواليصفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي (2001)ووثائق جيش التحرير في الجنوب المغربي 1956-1959 (2011)والهيئة الريفية”(2018).
من الذي يجعل من هذه المذكرة السياسية متفردة عن الوثائق السابقة، ولماذا أعطيت لها الاهمية البالغة؟ لعل الجواب يكمن في كون المذكرة تم الاحتفاء بها في مناسبات عدة وحظيت بمتابعة وإجماع وطني قل نظيره.ولدينا القليل من الباحثين في التاريخ المهتمينبهذا الصنف من الكتابات، الذي تدخل في دائرة الذاكرة، بحيث لا زلنا نبحث في علاقة التاريخ بالذاكرة في مثل هذه المتون التي تفيد التاريخ بطريقة غير مباشرة.
وقد تساءلت مدرسة الحوليات حول علاقة التاريخ بالذاكرة في أماكن الذاكرة[1]، حيث تم تأهيل السيرة الذاتية التي تعتبر إحدى الاتجاهات القوية في الإسطوغرافية الفرنسية خلال العشرين سنة الأخيرة من القرن العشرين. هذا التأكيد على العلاقة الجدلية بين الذاكرة والتاريخ لا يمكن إنكاره لوجود أسئلة إبستيمولوجية (معرفية)، من قبيل حدود الذاكرة وحدود التاريخ وأوجه الالتقاء بين المفهومين.وهذه الأسئلة وأخرى لم تغب عن المدرسة المذكورة، فالتأكيد على تاريخ الزمن الحاضر ساعد بلا شك على إحياء هذا النقاش المعرفي المرتبط بعلاقة التاريخ والذاكرة، وخاصة بين المؤرخين المعاصرين الفرنسيين.وقد تم انشاء معهد تاريخ الزمن الحاضر بفرنسا(1978) لمحالة تطويق هذا الإشكال المرتبط بعلاقة الذاكرة والتاريخ، خاصة مع إصدار سيل من المذكرات للعديد منالقادة والسياسيين الفرنسيين، واستمر بالتالي الصراع بين الذاكرة والتاريخ. يدعو هذا الصراع إلى التفكير في النشاط المثالي لبيير فيدال ناكيت في قتلة الذاكرة[2]،وإلى إعادة تنشيط النقاش حول كتابة التاريخ والسرد. وهي نقطة تبلور الانعكاسات المعرفية حول الموضوع. وفي الواقع، علاقة التاريخ بالذاكرة قضية منهجية كبيرة ووثيقة الصلة بقدرات التاريخ لإثبات ذاته. ويعتبر استقبال المؤرخ لأعمال بول ريكور بشكل خاص[3]، كشفا عن تجدد الحوار بين التاريخ والذاكرة، وبالتالي حول الكتابة التاريخية التي تعتمد على السرد والذاكرة.
دخل الباحثون المغاربة معترك هذا النقاش في غمرة التحولات التي شهدتها المملكة في العهد الجديد،مع تأسيس هيأة الإنصاف والمصالحةوصدور العديد من المذكرات الشاهدة على فترة حالكة من تاريخ المملكة، ساعدهم في ذلك التراكم الحاصل في الدراسات الغربية عامة والفرنسية على وجه الخصوص، فهذا محمد الصغير جنجار يتحدث عن استشكال الذاكرة والتاريخ في معرض حديثه عن الكتابة والذاكرة[4]، وخط الباحث ابراهيم بوطالب دراسة حول علاقة الذاكرة بالتاريخ، وفصل في كل مفهوم على حدة من خلال المرجعيات الغربية والمغربية وخلص إلى العلاقة الجدلية بين المفهومين[5].
من المعطيات السابقة نتساءل عن حظ التاريخ الراهن المغربي من الكتابات التي تتخذ من الذاكرة موضوعا لها،ومذكرة محمدبنسعيد على وجه الخصوص.
تتضمن مذكرة محمد بنسعيدأيتإيدر في جزئها الأول، من الناحية التقنية، ست وثلاثين شهادة تاريخية مدعومة بمائة وأربع عشرة صورة، وثمان شهادات حول شخصية محمد بنسعيد، ورسالته لشباب 20 فبراير.وانتظمت هذه المذكرة التي بدأها محمد بنسعيد بالموضوعات الثابتة، “محكي الطفولة” و”العائلة”، ثم مراحل التكوين، فالمنعرجات التاريخية الكبرى التي عايشها وكان شاهدا عليها.وكل ذلك بلغة السرد المعتمد على الذاكرة أحيانا وعلى الوثائق تارة اخرى.
وتقدم مذكرة محمد بنسعيد الإجابات الممكنة حول عدد من الإشكاليات الكبرى المتعلقةبالأحداث التاريخية المفصلية التي تهم كتابة تاريخ المغرب من1955 إلى 2011.ومنها ما يتعلق بحدث إيكس-ليبان،وحكومة البكاي الأولى، وجيش التحرير، ودستور 1962،والاغتيالات السياسية المتكررة التي منها قتل عباس المسعدي والمهدي بن بركة واخرون،وأحداث يوليوز 1971 وغشت 1972. واعتبر محمد بنسعيد هذه الأحداث التي استعادتهاذاكرته من فرص المغرب الضائعة.
في سنة 1925، وبقرية تينمصورفي اشتوكةآيت باها جنوب المغرب، رزق أحد تجار الماشية بالقرية ولدا سماه أبوه محمد.وواصلت الحياة وثيرتها، يخرج الأب يبتاع الخيول من الجنوب إلى مراكش في نشاط تجاري جعل العائلة تنسج علاقات اجتماعية واقتصادية واسعة بالمنطقة[6]. كان هذا زمن الحماية الفرنسية-الإسبانيةفي المغرب.وفي سن الرابعة التحق مثل أقرانه بمسيد القرية لحفظ القران، وبعد ثلاث عشرة سنة التحق بالمدرسة الشيشاوية للتعليم العتيق لدراسة الفقه والنحو، ثم بمدرسة سيدي أبي عبد الله في نواحي سيدي إفني لاستكمال التكوين الأولي.ويظهر من هذا المسار أنه ورث تقاليد المدرسة المغربية في تكوين النخب منذ القرون الوسطى والتي عرف بها العديد من الباحثين المغاربةوالأجانب[7].
وفي سنالواحد وعشرينتوجه محمد بنسعيدأيتإيدرنحو مراكش، المدينة التي شهدت تكوين النخب السياسية بحكم مكانتها التاريخية والرمزية والسياسية خلال فترة الحماية. وبفضل علاقات القرابة التي نسجها والده مع مريدي الزاوية الدرقاوية، انتقل إلى مقر الزاوية المذكورة بحي الرميلة بمساعدة المختار السوسي.واستمر في تعلم اللغة العربية والفقه والحديث وبعض العلوم العصرية كالتاريخ والجغرافية بالزاوية المذكورة.وفي المدينة تعرف على السينما وشاهد الأفلام وبدأ يقتني المجلات وخاصة مجلة العلم لسان حال حزب الاستقلال. ودفعته هذه الثقافة إلىتبني أطروحة الحزب بمساعدة القيادي الاستقلالي بالمدينة عبد القادر حسن. وهكذا التحق في سنة 1948 بالشبيبة الاستقلالية، “القطاع الطلابي”، ثم بدأ يستمع لخطابات الزعماء الوطنيين من أمثال عبد الله ابراهيم والمهدي بن بركة حول العديد من القضايا السياسية والتاريخية.وفي الخمسينات نضج فكره السياسي، وبدأ يفهم العلاقة المتوترة بين القصر والحماية وعلاقة حزب الاستقلال بالسلطان محمد بن يوسف وعلاقة الكلاويبالسلطة السياسية وعبد الحي الكتاني بالسلطة الدينية.وفي هذا الجو، الذي لم يكن طبيعيا بالمغرب، بدأ التزامه السياسي وتحركاته بين مراكش والرباط. وخلال المواجهة بين قادة الحركة الوطنية وسلطات الحماية في الخمسينياتتمت سلسلة من الاعتقالاتفي صفوف شباب المدينة الحمراء.وكان من بين الشباب المعتقل محمد بنسعيد في مارس 1952، ونفى إلى قريته ووضع تحت الإقامة الجبرية.وأسس خلايالحزب الاستقلالفي المنطقة. وفي فترة نفي السلطان محمد ابن يوسف،انظم لجيش التحرير الحديث النشأة في 2 أكتوبر 1955 بالشمال. ويعتبر من بين مؤسسيه.وتولى مناصب مهمة في هذا التنظيم كالتنسيق ومعالجة تصدع القيادة المركزية بالشمال والمشاركة في لقاء مدريد بين قيادة المقاومة وجيش التحرير وزعماء حزب الاستقلال لتقييم الأوضاع السياسية والعسكرية واستشرافالآفاق المستقبلية المطروحة أمام المغرب (ص. 83).وتحول جيش التحرير نحو الجنوب بعدما تم حله في الشمال، وذلك بأمر من الملك محمد الخامس واستجابة لنداء الموريتانيين الذين طلبوا الدعم من ملك المغرب.وفي الجنوب خاض جيش التحرير سلسلة من المعارك ضد اسبانيا وفرنسا، انهزم في بعضها وحقق انتصارات في بعضها الآخر واشتدت شوكته.وبعد ذلك بدأت تحاك حوله المؤامرات وعرف انشقاقات داخلية وتحالفات الخارجية، وانتهى الأمر بمعركة إيكوفيون/ “ايكو فيان”، وهي كلمة فرنسية قدحية تعني مشط الخيول[8]. واندحر جيش التحرير، ونجا محمد بنسعيدبأعجوبة من محاولة اغتيال حقيقية، وبعدها توقفت جميع معارك جيش التحرير،وعقد مؤتمر بوخشيبة في 12 مارس 1958، بحضور ولي العهد الحسن الثاني الذي أوصى بتأييد الخطاب الملكي الذي ألقاه محمد الخامس في محاميد الغزلان في 26 فبراير 1958، والذي وعد فيه بمواصلة كفاحه المعهود لاسترجاعالتراب المغربي الطبيعي والتاريخي والبشري. كما انعقد مؤتمر ثان في الرباط بعد سنة من المؤتمر الأول والذي نص على نفس التوصيات السابقة.
ومنذ حكومة البكاي الأولى،تهيأ محمد بنسعيدللانتقال من أسلوب المقاومة إلى أسلوب السياسة، فكان شاهدا على ميلاد قوة سياسية في 25 يناير 1959، ومساهما في ميلاد حزب سياسي جديد هو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية،الذي شغل الساحة السياسية المغربية طيلة الستينات والسبعينات بمقارعته “النبيلة” للمستحيل[9].واعطيت الفرصة لحكومة عبد الله إبراهيم،فسارعت في وضع برامج تنموية واعدة في البلاد،أهمها التصميم الخماسي.وتحركت حكومة الظل بزعامة ولي العهد آنذاك، وزج بالتجربة في غَيَابَة الْجُبِّ، واعتقل بعدها عبد الرحمان اليوسفي والفقيه البصريوآخرون بتهمة المس بسيادة ومقدسات البلاد بعد صدور مقال يوضع تجاوزات السلطة.وتحركت مظاهرات ضد الاعتقال في صفوف المقاومين، واعتقل أزيد من ثلاثين مقاوما، كان منهم محمد بنسعيد الذي اقتيد من بويزاكارنإلى الدار البيضاء حيث قضى شهرين في السجن وتعرض لتعذيب بتهمة محاولة اغتيال ولي العهد. وعند خروجه، واصل نضاله السياسي مع حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
وبعد وفاة الملك محمد الخامس في 26 فبراير 1961 بأسبوعين، تقدم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمذكرة إلى الديوان الملكي بهدف التوجه بالبلاد نحو بناء مجتمع مغربي مسؤول في ظل نظام ديمقراطي قائم على المؤسسات. ورد الحسن الثاني بمسودة دستور جديد أبعدت بعض القوى السياسية من صياغته. ووضع للتصويت في دجنبر 1962، فقاطعه الاتحاد، وكان رد فعل النظام نسج خيوط مؤامرة يوليوز 1963 أي تهمة “قلب النظام”، وزج بأغلب قيادات الحزب في السجون، وحصلت العديد من الاغتيالات.وبعدها اختارت بعض فصائل الحزب عملا مسلحا ضد النظام (ص201)، ودخلتالبلاد في مسلسل من العنف والعنف المضاد[10]، وحظر العمل السياسي وشهدت البلاد “أبشع” الجرائم والاعتقالات. وحكم على بنسعيد غيابيا بالإعدام، وكانآنذاكفي الجزائر، حيث واصل عمله السياسي، خاصة بعد انضمام الفقيه البصريوآخرون له، واستمر “النضال” ضد النظام.وخلال الخمس سنوات التي قضاها في الجزائر، بدأت مراجعات الطريقة التي كان يسلكها بنسعيد، وتبين أن العنف لم يمثل حلا، بل أدخل البلاد في سلسلة من المواجهات الدامية والاعتقالاتوالإعدامات.ودخل في خلاف مع الفقيه البصري حول أطروحة العنف، وغادر الجزائر في اتجاه فرنسا 1967 (ص. 206-216).
دخل محمد بنسعيد فرنسا تحت اسم مستعار هو “خالد عبد الله”، ودخل لمصحة نفسية بعد أزمة لحقت به، ودرس التاريخ والجغرافية في جامعة فانسين في ضواحي باريس، وحصل على الإجازة.وبدأ العمل السياسي المنظم، “اليسار الجذري”، الذي جمع ثلة من السياسيين المعارضين للنظام في المغرب، والذين تبنوا أطروحة “النضال من أجل الديموقراطية من داخل المؤسسات”، وأسسوا مجلة أنفاس التي أصبحت لسان حال “23مارس” و”إلى الأمام”. وسرعان ما توقفت هذه التجربة بعد صراع بين التنظيمين، ووقع الاختيار على جريدة 23مارس، التي صدرت بين سنتي 1973 و1979، ثم حلت محلها تجربة جريدة أنوالالتي صدر العدد الأول منها في باريس في نونبر 1979.وكانت هذه الجريدة فاتحة عهد جديد لرفقاء محمد بنسعيد، واستطاعت في ظرف وجيز أن تجد لها مكانة مرموقة في أوساط المثقفين المغاربة.وأعقب ذلك رجوع محمد بنسعيدأيتإيدر من فرنسا إلى المغرب في 8 مارس 1981، بمعية ثلة من السياسيين، منهم رشيد سكيرج والعربي مفضال ومحمد المريني ومحمد الحبيب طالب وابراهيم ياسين وحصلت هذه الجماعة على الشرعية السياسية، حيثأسسوا بعد سنتين منظمة العمل الديمقراطي الشعبي،ودخل محمد بنسعيد معترك انتخابات 1984، ومثل المنظمة في مجلس النواب، وطرح قضايا ساخنة في البرلمان، منها ملف المعتقلين.وعلى الرغم من أن الحياة البرلمانية كانت تتميز بالميوعة،لتدخل وزارة الداخلية والديوان الملكي وأحزاب الإدارة والبرلمانيين الرحل في الساحة السياسية،فقد ساهم محمد بنسعيدفي تشكيل الكتلة الديموقراطية في ماي 1992(ص. 281)، التي تكونت منأحزابالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والاستقلال والتقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي والاتحاد الوطني للقوات الشعبية.وكان القصد منها توحيد الجهود من أجل تحقيق مطلب الإصلاح،والاصلاح الدستوري بالأساس. واستطاعت الكتلة انتزاع بعض المكتسبات، وأهمها دستور 1996، لكنها تصدعت بسبب صفقة التناوب التوافقي بين النظام وحزب الاتحادالاشتراكي.
وبعد دستور 1996، تصدعت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي بدورها وعرفت الانشقاقات.وأطلقتفي المؤتمر الرابع المنعقدبالمحمدية في سنة 2000، مبادرة لتوحيد تنظيمات اليسار الجذري. وتوحدت في 2002 أربعة فصائل هيمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي والحركة من أجل الديمقراطيةوحركة الديمقراطيين المستقلين والفعاليات اليسارية المستقلة وبعض المنتمين لـ 23 مارس.وتمالمؤتمر التأسيسي لحزب اليسار الاشتراكي الموحد في 2002 (ص 304). وبعد المؤتمر الوطني الثاني المنعقد ببوزنيقة في سنة 2007، أخذ الحزب اسمه الحالي، أي الحزب الاشتراكي الموحد، الذي قاطع التصويت على دستور وانتخابات 2011.
الكتاب مسؤولية وواجب، ذلك ما يستشعره قارئ أولى الصفحات. ومن مقاصده الكبرى رد الاعتبار لفترة مفصلية قبيل الإستقلال وبعده. هل هو مذكرة سياسية تحاكي أدب المعاناة؟ أم ادب المحاكمة؟ أعتقد أنه جمع بينهما، ومال في أغلب المحطاتإلى المحاكمة، أي محاكمة النظاموالمؤسسات والأشخاص بل والذات.
هكذا حكم على لحظة إيكس-ليبان، واعتبرها من أعظم فرص المغرب الثمينة لانتزاع الاستقلال الكامل وبناء دولة المؤسسات (ص 163)، وعاب على حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال عدم توحيد الصفوف للانقضاض على هذه الفرصة (ص 164-165).وجاءت حكومة البكاي التي أجهزت بصفة نهائية على هذه الفرصة التي ضيعت التحرر والاستقلال (ص 168-169).
وحكم على تجربة جيش التحرير في الشمال والجنوب، حيث قدم تفاصيل دقيقة عن تنظيماته ومعاركه وحسم في بعض المغالطات التاريخية.ومنها حقيقة علاقة المحجوبي أحرضان بجيش التحرير(ص. 89)،واعتبار معركة إيكوفيون خيانة داخلية وخارجية (ص 122) انهت فصول مغامرة هذا الجيش الذي جرد من سلاحه وحيكت المؤامرات ضد قيادته، علمابأنه لعب دورا محوريا في تشكيل نواة تنظيم مغاربي ينطلق من الصحراء[11]. وبالتالي ضاعت هنا أيضا فرصة تاريخية خرى لا تعوض (ص 140).
كما حكم على التجربة السياسية المغربية بعد دستور 1962، حيث عوض أن تبقى الملكية مؤسسة للتحكيم ترعى التعدد السياسي بمعناهاالصحيح، راحت تستفرد بالحكم وتقصي القوى الوطنية الحية. وجاء أول دستور ليكرس حكم الفرد ويضع السلطات كلها في يد الملك (ص. 192). وراجع مواقفه من العنف السياسي ضد النظام، واعتبره من دون أفق استراتيجي.وتأسف على تجربة التناوب التوافقي، واعتبره تناوبا مزيفا،إذ بالرغم من بعض الإيجابياتتخللته الأخطاء القاتلة التي ستدفع الأحزاب السياسية ثمنه غاليا فيما بعد،فكان من الفرص المهدورةبالرغم من دوره الإيجابي في انتقال السلطة بسلاسة من الحسن الثاني إلى محمد السادس (ص 293).
وختاما، هكذا تكلم محمد بنسعيد مذكرة سياسية شخصية أصبحتملكا للقراء، وشهادة على مرحلة حاسمة في تاريخ المغرب.ويمكن للباحث في غياب الأرشيفات الرسمية اعتمادها لكتابة تاريخ مرحلة، بماأن التاريخ يبين لنا بوضوح أن تجربة المناضل والمثقف قد تتحول إلى مصدر إبداع وإلى تعميق للوعي ونكران للذات، وهو ما نلمسه في هذه المذكرة السياسية. ذلك أن صاحبها ينتمي إلى صنف من النخب لها من الوعي ومن الثقافة ومن الرأسمال الرمزي ما يؤهلها لكتابة تاريخ المغرب الراهن.
[1]فرانسوا دوس، التاريخ المفتت: من الحوليات إلى التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطاهر المنصوري، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص. 21-22.
[2]Pierre Vidal-Naquet, Les assassins de la mémoire, Paris,Maspéro, 1981.
[3]Paul Ricœur, La Mémoire, l’Histoire, l’Oubli, Paris,Editions Seuil, 2000.
محمد الصغير جنجار، “الكتابة والذاكرة”، مقدمات، العدد 35، صيف 2006، ص. 42.[4]
[5]ابراهيم بوطالب، تاريخ المغرب الحديث والمعاصر: دراسات وبحوث، ج،3، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2014، ص. 939-959.
[6] مارسيل موس، بحث في الهبة: شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة، ترجمة المولدي الأحمر، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2011.
انظر على سبيل المثال لا الحصر:[7]
Jacques Berque,Ulémas, fondateurs, insurgés du Maghreb : XVIIe siècle, Collection hommes et sociétés,Paris,Sindbad, 1982 ; Jacques Berque,Al Youssi : Problèmes de la culture marocaine au XVIIe siècle, Rabat, Centre Tarik Ibn Zyad, 2001 ;VincentCrapanzano, Tuhami: Portrait of a Moroccan, University of Chicago Press, 1980.
ديل أفايكلمان، المعرفة والسلطة في المغرب: صور من حياة مثقف من البادية في القرن العشرين، ترجمة محمد أعفيف، الرباط، مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث، 2000؛كيفن دواير، حوارات مغربية بين المؤلف كيفن دواير والفقير محمد الشرادي، مقاربة نقدية للأنثروبولوجيا، ترجمة محمدنجمي الروداني ومحمد حبيدة، مراجعة محمد المنصور والمختار النواري، الدار البيضاء، دار النجاح الجديدة، 2008؛ دومينيك أورفوا، ابن رشد طموحات مثقف مسلم، ترجمة محمد البحري، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2011.
[8] حسن أوريد، “الوحدة المغاربية هي الحل”،القدس العربي، العدد 9482،13مارس 2019، ص. 22.
[9]لحسن العسبيوالصافي الناصري، أقصى اليسار في المغرب: مقارعة نبيلة للمستحيل، بيروت/الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2002.
[10] عبد الله العروي، مفهوم الدولة، بيروت/الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2001، ص.129؛عبد الحي المودن، “العنف السياسي في مغرب الإستقلال”، ندوة من الحماية إلى الإستقلال: إشكالية الزمن الراهن، تنسيق محمد كنبيب، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 133، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 2006، ص. 47-56؛عبد الحي المودن، “مسارات البحث الأكاديمي حول الاحتجاج في المغرب”، ضمن كتاب تقاطعات التاريخ والأنثروبولوجيا والدراسات الأدبية أعمال مهداة إلى عبد الأحد السبتي،تنسيقعبد الرحمان المودن وأحمد بوحسن ولطفي بوشنتوف، الرباط، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، 2018، ص.175-197؛ لطفي بوشنتوف، “ذاكرة العدالة: يوميات قاض مغربي من الزمن الراهن”، ضمن كتاب تقاطعات التاريخ والأنثروبولوجيا والدراسات الأدبية أعمال مهداة إلى عبد الأحد السبتي،تنسيقعبد الرحمان المودن وأحمد بوحسن ولطفي بوشنتوف، الرباط، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، 2018، ص. 199-218.
أوريد، الوحدة المغاربية، ص. 22.[11]