Le Monde diplomatique 2015/7 (N° 736), pages 14 à 15 – Guy Scarpetta[*].
مع حلول سنة 2000، شعر أغلب كبار الروائيين برغبة في التصدي للموضوعات التاريخية.فهل لهذا التاريخ أثر على تقديم جرد للمنجزات الروائية؟ أم أن ذلك راجع إلى التحولات المستمرة للأدب نفسه الذي أخذ يكتسح ميادين جديدة؟
2- هناك علاقات معقدة بين التاريخ وفن الرواية تتراوح بين التضامن والتنافس في نفس الوقت… وإذا كانت هناك أرضية مشتركة في هذا الموضوع، فهناك بالفعل،ذلك التقابل بين رؤية المؤرخين الموضوعية، وبين ذاتية الكُتّاب من جانب آخر. ومع ذلك فلا شيء قد حسم في أمر هذه العلاقة.كما أن أكثر المؤرخين تبصراً يعلمون جيداً بأن مجالهم المعرفي، بطبيعته مفارقٌ تاريخياً،ما دام الحاضر هو الذي يحدد ويشكل دائماً،بالضرورة، تشييدنا للماضي؛ويعود الأمر بخلاف ذلك لكبار الكتاب لإنتاج آثار الحقيقة عند الضرورة حول ما يغيب عن أنظمة التمثيل والتأويل الأخرى- خصوصاً من التاريخ وسردياته الكبرى الرسمية.كما أن هناك عدداً متزايداً من المؤرخين اليوم يُقرّون بأنهم يطبقون أيضاً نوعاً معيناً من السرد، شكله غير بريء، فضلاً عن إدراج روايات في نطاق البحث، حتى وإن لم تكن في معظم الأحيان سوى سند للوثائق.[1].
3- الواقع أن الأمر يتوقف على التخصص التاريخي لبناء الوقائع، وإخضاعها لمنظور يجعلها منسجمة والحرص على مسألة المصداقية؛ في حين أن هدف الرواية سيكون بالأحرى هو استجلاءهذا الجانب من التجربة الإنسانية التي لا يمكن بلوغها بطرق أخرى، دون استبعاد حرية الخيال، وفق الأطروحة التي دافع عنها هيرمان بروخ (Hermann Broch)، والتي أخذها وطورها ميلان كونديرا(Milan Kundera) وكارلوس فوينتس (Carlos Fuentes). فلو أردنا أن نفهم شيئاً عن الحرب الإسبانية (1936- 1939)، على سبيل المثال، فإننا سنلجأ إلىمجموعة من المؤلفات التاريخيةالتي يمكنها أن تسعفناعلى ذلك؛ ولكن لو أردنا أن نفهم كيف عاشها الذين عانوها ذاتياً من الداخل، فيستحسن قراءة رواية “لمن تقرع الأجراس”…صحيح أن إرنست همنغواي (Ernest Hemingway) شارك في هذه الحرب؛ ولكنه استلهم منها رواية، ولم يكتف فقط بعلاقته البسيطة مع تجربته.
4- لفن الرواية ديناميته الخاصة، وتاريخه الفريد الذي لم يتوقف طيلة مراحل تطورهعن توسيع مجاله على حساب الأنواع أو التخصصات التي تحيط به، وأخذ يتنافس معها. كما أن هذا الفن قد استوعبأيضاًفي طوره “الحديث”،خلال النصف الأول من القرن العشرين، أشكالاً ووظائف كانت تنتمي من قبل إلى الشعر (مارسيل بروست (Marcel Proust)، وجيمس جويس (JamesJoyce)، وفيرجينيا وولف (VirginiaWoolf)، ولويس فرديناند سيلين (Louis-Ferdinand Céline))، واستوعب كذلك التفكير الفلسفي أو المقال الفكري(بروست مرة أخرى، وروبرت موسيل (RobertMusil)، وبروخ)، وأنه أعاد اكتشاف ذاته من خلال الاستجابةللتحديات التي طرحتها عليه السينما (وليام فولكنر(WilliamFaulkner)، وإرنست همنغواي). ومن ثم فإن فالفرضية التي يمكن الدفاع عنها هي أن الفن الروائي أخذ يتنافس أكثر فأكثر مع التاريخ حتى أصبح يستحوذ على مواده ليقدم بها شيئاً آخر.
5- من المؤكدأن فن الرواية قد احتفظ على الدوام بروابط معينة مع التاريخ؛ فـ”الرواية التاريخية”، منولتر سكوت (Walter Scott) وإلى جوستاف فلوبير (Gustave Flaubert)، لم تكن سوى شكل خاص من هذه العلاقة التي تدعي الواقعية والوهم. ذلك هو الحال نفسه بالنسبة لطريقة الحلم بالتاريخ، أو عندما يتم عرضه ببعد أسطوري، كما يلاحظ ذلك لدى العديد من روائيي أمريكا اللاتينية لسنوات الستينيات إلى الثمانينيات من القرن العشرين، مثل (أليخوكاربنتيير(AlejoCarpentier)، وفوينتس)، وماريو فارغاسيوسا (Mario Vargas Llosa))، وهناك مسألة أخرى لا بد من الإشارة إليها؛ فكتابٌ مثل “أرض نوسترا”لفوينتس، يمثل الذروة في هذا الفن الموسوم بتغيير المظهر.[2] لكن منذ ما يقرب من خمس عشرة سنة – يمكن أن يشكل هنا عام 2000 عتبة رمزية-، يبدو أن هناك شيئاً ما بدأ في الظهور: خلخلةٌ أو تعديل الحدود بين الأدب والتاريخ، وإعادة عميقة لتحديد مجالات تفاعلهما. فهذا الامتداد للميدان الروائي نحو التاريخ، الذي ظهر خلال سنوات التسعينيات، قد اتخذ أهمية خاصة منذ أن انخرط في العملية كل روائيي هذه المرحلة تقريباً، واتخذت هذه العملية أشكالاً عدة.
6- ترفض بعض الروايات، وفق المبدأ الذي أيّده كونديرا، أن تجعل التاريخ موضوعاً لها، لكنها تستدعي بالأحرى بعض الظروف التاريخية التي تستطيع كشف سلوك بشري اعتبر لحد الآن سلوكاً سيئاً.- وقد كان ذلك نهج جوستاف فلوبير(GustaveFlaubert) من قبل في التربية العاطفية (1869)، حين وظف وقائع ثورية، ترجع لعام 1948. ومن هنا، فإن استدعاء ميلان كونديرا، مثلاً،في بعض رواياته السابقة، من قبيل:”كتاب الضحك أو النسيان”، أو “كائن لا تحتمل خفته” (غاليمار،1979، و1984)، لسياق تاريخي هو (“ربيع براغ”: اجتياح القوات السوفياتية لتشيكوسلوفاكيا، وما ترتّب عن ذلك من قمع)، قد سمح له بالكشف عن بعض مفارقات الذاتية البشرية وغموضها.
7- وبطريقة مماثلة، استطاعت الخلفية التاريخية في الرواية الكبيرة،لفيلب روث (Philip Roth) “الوصمة البشرية” (غاليمار، 2002)،[3]وهي حرب فيتنام، من خلال الصدمات التي خلفتها، تسليط الضوء على جزء كامل من المشهد الإيديولوجي الأمريكي المعاصر، وما ترتب عنه من تعصب وعنف مورس باسم «الصحيح سياسياً»، وويلات التزمت الجديد، والضمير الصالح الذي يطمس ذلك النزوع الدائم إلى المحاكمة. وبالطريقة نفسها وظف أورهان باموك (OrhanPamuk)، في رواية “ثلج”[4]، ولو تلميحاً، حقيقة تاريخية قديمة، هي تَـحَلُّل الحركة الشيوعية في تركيا التي تسلط الضوء على هذا التأرجح المفزع بعض الشيء، لشخصيات الزمن الراهن بين الحركة العلمانية المستبدة “الكمالية”،[5]وبين حركة التطرف الإسلامي. لكن عنف الصراعات الإيديولوجية يتراجع هنا بفعل الظواهر غير العقلانية،وأنواع من التردد،حيث تنتهي بتشويش الحدود بين الواقع وتمثلاته.
8- إزالة الغموض عن الرؤىا لمُجمَعِ عليها في الذاكرة الرسمية:
9- وفي مقابل ذلك، يمكن للأدب الروائي أيضاً أن يتناول التاريخ ليثير به المظاهر المهمشةبواسطة التمثلات السائدة. ومما لا دلالة له في هذا المعنى، أن روث نفسه، الذي اقتصر لمدة طويلة على العالم اليهودي الصغير في نيو جيرسي، شعر بالحاجة، حوالي سنة 2000على وجه التحديد، إلى توسيع مجال اهتمامه،ويتجه بنظرته الساخرة إلى بعض الأماكن المعتمة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وكأن فن الرواية بالنسبة له، ملزم أيضاً باستجلاء الجانب السلبي في الحلم الأمريكي العظيم.وفي لوحاتٍ تمتزج فيها العشرات من الشخصيات والأحداث، يستكشف أيضاً المرحلة المكارثية(maccarthysme) من الداخل، ويسبر أغوار الكوارث الإنسانية الناجمة عنها (تزوجت شيوعياً، 2001)؛ كما يستحضر الانحرافات الإرهابية المفضية إلى التدمير الذاتي، حيث يمكن أن تغرق بعض الفئات الشابة في سخط الصراعات المتطرفة المرتبطة بالثقافة المضادة خلال سنوات السبعينيات (الرعوي الأمريكي، 1999). لقد تمكن أيضاً، في حكاية مختلَقة مذهلة، من تخييل قصة الطيار تشارلز ليندبيرغ(Charles Lindbergh) ، الذي عُرف بتعاطفه العلني مع ألمانيا الهتليرية، والذي انتخب رئيساً للبلد بدلاً من فرانكلين ديلانو روزفلت، خلال سنوات الأربعينيات، مما ساعد على ظهور الإمكانات الفاشية للمجتمع الأمريكي؛ والتي كانت موجودة، بشكل كامن أو ظاهر في تلك المرحلة، ولم تختف بدون شك، لمجرد أننا نسيناها (المؤامرة ضد أمريكا، 2006).لاشيء في هذامن الأدب الرفيع: فروث لا يكتب رواية الأطروحة، ولا يستهدف غير خلخلة يقينيات القارئ أو أحكامه التاريخية المسبقة، من خلال إخضاع محكياته لتعددية مزعزعة لوجهات النظر.
10- يمكن أن نرصد نفس الأثر للتاريخ في رواية «في خطو السرطان”[6] (سُوي، 2002). حيث يعود غونتر غراس (Günter Grass) إلى حلقة غير معروفة من مرحلة نهاية الحرب العالمية الثانية: قصة باخرة جيوم غوستلوف (Wilhelm-Gustloff)، التي كانت تقل نحو الغرب آلاف اللاجئين الألمان، من بينهم عدد كبير من الأطفال، خلال مرحلة المعارك الأخيرة من عام1945، والتي أُغرقت بواسطة غواصة روسية(وقد خلف غرق الباخرة، عددا كبيراً من الضحايا،فاق ضحايا حادث غرق باخرة التيتانيك). ولايكتفي غراس على تسليط الضوء على هؤلاء الضحايا المهمشين، الذين أهملوا من التاريخ الرسمي لأنهم كانوا في “الجانب الخطأ”؛ ولكنه يعرّج بدون توقف على فترات زمنيةمختلفة،ويغوص في الماضي- المرحلة الهيتليرية، حيث شاركت غواصة جيوم غوستلوف التي صُمّمت على أساس أنها باخرة الرحلات البحرية للشعب، تساهم في الحملة الدعائية للنظام – ويتوغل في الحاضر: مثل اكتشاف موقعٍ على الإنترنت الذي يجمع حركة كاملة من النازيين الجدد،مزينة بسحر الانتهاك…وهي طريقة يرى بها أن الخرافة الجميلة والـمُسَكِّنة لألمانيا الراهنة المطهرة من جرائم الماضي لم تفلح في إبعاد شبح الرجوع المقلق للمكبوت. ولهذا من الصعب هنا ألا نفكر في عبارة فولكنر: «الماضي لم يمتقط، فهو لم يمض قط”.
11- وحسب تصور قريب إلى حد ما، تسعى بعض الروايات إلى إزالة الغموض عن الرؤى التي توافق الذاكرة الرسمية. وتتمثل قمة هذا الجنس في الحصيلة التي اقترحها الكاتب الهنغاري بيتر إسترهازي (Péter Esterházy)، في رواية “إيقاع سماوي” (غاليمار، 2001)، حيث انصرف، في ألف صفحة، إلى تقفي أثر تاريخ سلالته الأرستقراطية منذ القرون الوسطى. لكنها تخضعدائماً في هذا التسلسل الثري للمحكيات، حيث تمتزج الحقائق التاريخية المعروفة بالأخبار العائلية والأساطير التي تستتبعها، لمبدأ سخرية لاذعة تحفز على التحليق عبر ومضات مُبهِجة، وأحياناً بطريقة رابليه الصريحة[7]، وكل ما بوسعه أن يجعل كل مثالية نبيلة منمّطة مناسبة لتكون كهذه الملحمة.
12- وبنفس القدر من السخرية الحاضرة في كل مكان، يسعى الجزء الأكبر من الأثر الروائي للكاتب الإسباني خوان غويتيسولو(Juan Goytisolo) إلى تقويض الأسطورة التاريخية لبلده الأم، المبنية على كذبة شاعت منذ وقت طويل عن إسبانيا المتجانسة دينياً،والمتماسكة بنقاء السلالة،حيث يُبرز عن طريق كل أشكال الحكي المستفز، الشعري والمدهش، مكوناته اليهودية والمسلمة.وبنفس الطريقة يعرض جون ماكسويل كويتزي(JohnMaxwellCoetzee) في روايته “العار” (سوي، 2001)، المسكوت عنه في الصيغةذات النية الحسنة لجنوب إفريقيا المتصالحة عن طريق إظهاره هو أيضاً، “ما لم يمض قط”: استمرار عنف مُسْتحكِم ناجم عن الميز العنصري، حتى في الآثار الخادعة للإحساس بالذنب.
13- يمكن أن نستحضر ، بشكل عام، المؤلفات التي تركز على استمرار الماضي في الحاضر،خلافاً للرؤية الداروينية والخطية. فالأعمال الروائية الكبرى الأخيرة لخورخي سيمبرون [8](Jorge Semprun) تُـخْضِع بدورها تجربة تاريخية مأساوية مشهورة جداً، المتعلقة بعالم معسكرات الاعتقال النازية، لتحليل شبه بروستي للذاكرة، يربك نظام التسلسل الزمني الصارم الخاصبتاريخ المؤرخين. ويتعلق الأمر بتسريد المعسكرات أقل من فحص الطريقة التي تتم بها معاناة تجربة مماثلة ذاتياً، وتترسّخ مع مرور الزمن، حتى تتشرب أدق الأحاسيس الداخلية لأولئك الذين عاشوها، من خلال مجموعة كاملة من الجولات الزمنية القصيرة، وعمليات بعث غير مرغوب فيها، واستخراج مفاجئ للجثث.فالموضوع المعلن، إذن،هو معسكر بوخنفالد (Buchenwald)؛ولكن الموضوع الحقيقي هو الذاكرة أكثر من التاريخ.
14- وبنفس الطريقة، تصدى غويتسولو لمسألة حصار سراييفو، في بداية سنوات التسعينيات،[9]ولم يتوان في حشدكل موارد فن السرد الحديث، لانتزاع هذا الموضوع من التمثلات التي قدمتها في الغالب بطريقة تبسيطية،ومانوية؛ مثل دمجُ المحكيات، والارتياب من مدى موضوعية ما يُروى، واعتماد روايات متعارضة لنفس الحدث،وتوظيف أزمنة متقابلة، ثم تشويش مطّرد لوضع الأصوات السردية نفسه.ويستجيب لحيرة الرواية كل العمق التاريخي لما كانت عليه يوغسلافيا قبل خراب التطهير العرقي: اختلاط الثقافات، والطوائف، والأديان. وأن ما تم تسليط الضوء عليه أيضاً، وبطريقة صريحة مفارقة تاريخياً،وعن طريق صدى زمني مشهور لتطهير عرقي آخر، هو مرحلة حروب الاسترداد في إسبانيا…
15- أدب يقاوم تدمير الوعي:
16- نجد نفس النهج في رواية “حفلة التيس”،[10]حيث لا يكتفي فارغاسيوسا بسرد تفاصيل سقوط الدكتاتور رافائيل تروخيو(Rafael Trujillo) بساندومينغو، كما يفعل المؤرّخ، ولكنه يستدعي مجموعة من العمليات (تنوعات محسوبة لوجهات النظر، وحذف، وتكسير تسلسل الأحداث.) التي تسمح له باستعراض الخلفيات السرية لمثل هذا الحدث، فضلاً عن أبعاده الحميمية، إلى حد اقتحام المشاعر والأفكار الخفية للدكتاتور نفسه. وقد يصل إلى الحد الذي يبرز فيهجانباً من الجوانب الأكثر إلغازاً في التاريخ، مثل العلاقة المبهمة التي يمكن أن تجمع بين أمة ومستبدها.
17- وهناك أخيراً روايات أخرى تقدم بشكل صريح،كترقيع وتجميع لوثائق تاريخية خام:أرشيفات، ومقالات صحفية، ورسائل، وشهادات، حيث يُـختَزل تدخل السارد في متوالياتٍموجزة ومحدودة،كهمزة وصل بينعناصر هذه المادة الجاهزة. ومن ثم،فما هو النموذج الأصلي لهذا النوع؟ إنها رواية هانس ماغنوس إنتزنسبيرغر(Hans Magnus Enzensberger) التي خصصها منذ أربعين سنة للزعيم الفوضوي الإسباني بوينافين تورا دوروتي [11] (BuenaventuraDurruti) :فهي تقوم على تجاور بسيط لوجهات النظر القديمة والجديدة، واستبعاد لكل انسجام استذكاري، وكل ادعاء لـ”حقيقة موضوعية” نهائية، والاحتفاظ على أسرار الشخصية، وعدم طمس الشكوك المرتبطة بالوقائع نفسها (موت دوروتي على سبيل المثال)، وترك كل حكم معلقاً حتى يقرر فيه القارئ.
18- وحسب المبدأ نفسه،أبدع إنتزنس بيرغر مؤخراً «رواية وثائقية» جديدة ومدهشة، بعنوان “هامرشتاين أو التعنت”(غاليمار، 2010)، تمحورت حول شخصية غير معروفة في ألمانيا خلال سنوات الثلاثينيات والأربعينيات: البارون كورت فون هامرشتاين(Kurt von Hammerstein) رئيس أركان جيش الرايخ، الذي حضّر تدريجياً، رغم مواقفه السياسية اليمينية بشكل لا لبس فيه، للانفصال عن أدولف هتلر والتنكر له، حتى ولو كان ذلك يعني العزل أو التضحية بحياته المهنية.لذا فالرواية هي إعادة تشكيل للمتشظي، من خلال فسيفساء من الشهادات لشخصية مركبة وغامضة في أحيان كثيرة ومتناقضة، والتي تواطأت مع بعض الضباط السامين في الجيش الأحمر، والذين اشتغل أبناؤهم سراً مع النظام الستاليني. وقد شُيّد هذا العمل أساساً على مقابلة ومعارضة الوثائق غير الخيالية، لذلك يمثل هذا المؤلَّف استكشافاً بارعاً لمنطقة رمادية في التاريخ، لا تتطابق،هنا أيضاً، إلا قليلاً، مع الرواية الرسمية الكبرى.
19-بالطبع توجد اليوم روايات أخرى عديدة تعالج المواضيع التاريخية، سواء لدى كتاب كبار، مثل (جون روو (Jean Rouaud)، وليدي سالفاير (LydieSalvayre)، وغيرهم.)، أوفي سجلٍّ من الروايات التي يغلب عليها الجانب التجاري(غزارة «قصص السير الذاتية»). ولكن إذا اخترنا هناأن نمنح الأولوية لأولئك الذين يستجيبون للشرط الضروري لإبداع أو تجديد الأشكال، فإن ذلك ليس لأسباب جمالية فقط. فلذلك يبدو من المستحيل، لو كنا نريد الاكتفاء بإطالة أمد النسق القديم للرواية التاريخية الذي وضع في القرن التاسع عشر، أن نقول شيئا آخر غير الذي يسمح لنا بقوله وإنتاج شيئ آخر غير “الرواية المتخيلة” المسالمة.
20-إن هذا التحول في العلاقات بين التاريخ وفن الرواية يفتح بلا شك بعداً آخر لهذه الرواية؛ويتعلق الأمر بالكتابة ضد النسيان، أو ضد فقدان الذاكرة الممنهج. كما لو كان الهم أيضاً، بالنسبة لبعض كبار الكتاب اليوم، منذ تميّز مجالهم، هو مقاومة التدمير الهائل والممنهج للوعي التاريخي،المدفوع من طرف النظام السائد اليوم، أي الدكتاتورية الملتحمة بسياسات الفرجة والسوق- وهو ما أسماه جيدوبور(Guy Debord) منذ ثلاثين سنة خلت، انتصار «الحاضر الأبدي».
هوامش:س
[*]جاي سكاربيتا (Guy Scarpetta) روائي وناقد فني فرنسي. ولد سنة 1946. اشتغل أستاذاً محاضراً في جامعة رانس بالشمال الشرقي الفرنسي. نُشِر له عام 1972، حوار تحت عنوان: “مواقف”، كان أجراه مع كلٍ من جاك دريدا وجون لويس هوديين. أصدر سكاربيتا العديد من الدراسات والأعمال النقدية من قبيل: -بريشت أو الجندي الميت (1979)؛ -دَنَس (1985)؛ -الرابع عشر من يوليوز (1989)؛ -عصر الرواية الذهبي (1996). وراويتين: -لاغيمار (2008)؛ – غويدو (2014). (المترجم). [1]خصص لوسيان فيبر(Lucien Febvre) سنة1942، دراسة مركزية لرابلي، تحت عنوان: (مشكلةاللاتدين خلال القرن السادس عشر الميلادي. عقيدة رابلي). إلا إن معظم المؤرخين كان لهم نزوع نحو عدم اعتبار الروايات وثائق تاريخية، بإمكانها أن تسلط الضوء على تاريخ الذهنيات. [2] Lire « Carlos Fuentes, la subversion baroque », Le Monde diplomatique, juillet 2013. [3]صدرت في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2000، تحت عنوان (The HumanStain). نقلتها إلى اللغة العربية، المترجمة المصرية فاطمة ناعوت سنة 2011 (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، وأعيد نشرها عام 2018 (دار المدى). (المترجم). [4]نقلها إلى اللغة العربية، المترجم عبد القادر اللي سنة 2007 (منشورات الجمل). (المترجم). [5] نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك (1881- 1938)، مؤسس تركيا الحديثة. (المترجم). [6]نقلها إلى العربية بنفس العنوان، المترجم كاميران حوج، منشورات دار الجمل (2006).(المترجم) [7]نسبة إلى فرانسوا رابلي (François Rabelais) (1494- 1553) المعروف في أعماله الأدبية، بعوالمه المفرطة في الكرنفالية الساخرة، كما رصدها ميخائيل باختين (Mikhaïl Bakhtine)، سنة 1940 في أطروحته الموسومة بـ “أعمال فرانسوا رابلي والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة.” تُرجم العمل إلى اللغة العربية، سنة 2015 من طرف المترجم المغربي شكير نصر الدين، ضمن “منشورات الجمل”. (المترجم).[8] Jorge Semprun, L’Ecriture ou la vie et Le Mort qu’il faut, Gallimard, Paris, respectivement 1994 et 2001.
[9] Juan Goytisolo, Etat de siège, Fayard, Paris, 1999.
[10] Mario Vargas Llosa, La Fête au bouc, Gallimard, 2002. Lire « La dictature dans les têtes », Le Monde diplomatique, mai 2002.
– تُرجمت هذه الرواية إلى العربية، تحت عنوان: “حفلة التيس”، من طرف المترجم الفلسطيني صالح علماني. دار المدى (2000). (المترجم).
[11] Hans Magnus Enzensberger, Le Bref Eté de l’anarchie, Gallimard, 1975. Egalement: Requiem pour une femme romantique et Hammerstein ou l’Intransigeance. Une histoire allemande, Gallimard, respectivement 1995 et 2010.