Eric Vuillard, L’ordre du jour, Paris, Actes Sud, 2017.
اتخذ إيريك فويلار في روايته الأخيرة، جدول الأعمال، الصادرة سنة 2017، والتي نالت جائزة غونكور الفرنسية، كموضوع مركزي دخول القوات الألمانية إلى النمسا في سنة 1938 باسم مبدأ “الأنشلوس”(Anschluss) ، أي الإلحاق المشروع. غير أن المؤلف حكى الحدث وهندس النص بطريقته الخاصة وغير المألوفة، وهي طريقة تعكس مزاوجة المؤلف بين الرواية والسينما، وتعبر عن تمثُّل معيَّن للعلاقات الممكنة بين الرواية ولتاريخ.
النازية وتدجين الرأسمال
يبدأ المحكي بالاجتماع السري الذي عقد بتاريخ 20 فبراير 1933 في قصر البرلمان بدعوة من الرئيس هرمان غورينغ (Hermann Goering) رئيس هذه المؤسسة، بحضور أدولف هيتلر بُعيد توليه منصب المستشار (رئيس الحكومة). وقد دُعي للاجتماع أربعة وعشرون من الرجال الذين كانوا يتربعون على عرش الصناعة والمال، ومن بينهم أسماء ما تزال حاضرة في الوقت الراهن، ووراء تلك الأسماء مؤسسات، ومؤسسون، وسلالات تمتد عبر عدة أجيال، وعلامات تجارية ما تزال تؤثث أسواق العالم إلى يومنا هذا، مِثل كْروبْ، وأوبل، وسِيمانس، وفارْطا، وباسْفْ، وبايْر، وتِيليفُونْكْن، وأَغْفَا.
تضمن جدول الأعمال نقطتين أساسيتيْن: النقطة الأولى هي عبارة عن تحليل سياسي إجمالي. الوضعية حرجة، والانتخابات المرتقبة حاسمة، والنشاط الاقتصادي يتطلب قدراً كبيراً من الهدوء والحزم، مما يحتم وضع حد لحالة اللاّاستقرار التي يعاني منها النظام، وإبعاد الخطر الشيوعي، وتصفية النقابات، وتمكين رئيس المقاولة ليتصرف مثل قائد الدولة داخل مقاولته. أما النقطة الثانية فهي تجمع بين البساطة والدلالة العميقة. على الحاضرين أن يمدوا الحزب بالموارد المالية التي يتطلبُها إنجاز المهام المسطرة. وبذلك تم عقد القِران بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية التي كانت في طور الإرساء. وبطبيعة الحال، لا نعثر على هذا الاجتماع في الكرونولوجيات المتداولة التي تؤرخ لتاريخ الحكم النازي الألماني.
من خلال هذا المشهد، يُحس القارئ بأسلوب قوي ومتفرد. يستعمل المؤلف جُملاً قصيرة، ووصفاً يلتقط التفاصيل المعبرة في وجوه الحاضرين وهندامهم وحركاتهم، بطريقة تُذكِّر بتقنيتي “الزُّوم” واللقطة المركَّزة gros plan المعروفتيْن في مجال اللغة السينمائية. نشعر أحياناً بأننا أمام مشهد من ابتكار فويلار (Vuillard)، لكن هذا الأخير يوضح لنا أنه اعتمد في توثيق معطياته على مذكرات شهود عيان، من بين الشخصيات التي حضرت الحدث واسترجعت تفاصيله في مرحلة لاحقة لم يعد فيها مكان لطموحاتها في مجال السياسة والحكم. وإلى جانب ذلك، عمد المؤلف إلى لغة تنحو منحى السخرية وكأن لسان حاله يقول: “ترون معي أن الواقع يكون أحياناً أقوى من التخييل”.
بين التهديد والغزو
بعد المشهد الأول الذي وضع أسس التحالف بين الحزب النازي وكبار رجال الصناعة والمال على المستوى الداخلي، انتقل فويلار إلى عملية الإلحاق التي انطلق بها التوسع الخارجي وكانت الشرارة التي أدت إلى الحرب العالمية. وقد توفق المؤلف عند سلسلة من اللحظات التي انتقاها وفق معاييره الخاصة على غرار المشهد الأول، وهي سلسلة امتدت من نوفمبر 1937 إلى شهر مارس من السنة الموالية.
بدأ الحكم النازي بجس نبض الدول الأوروبية الديمقراطية، فدعا غورينغ رئيس مجلس الوزراء البريطاني اللورد هالِيفاكْس (Lord Halifax)، للقيام بزيارة مجاملة، وكانت فرصة اللقاء بهيتلر، فلمح المسؤول البريطاني إلى أن حكومة صاحبة الجلالة لا تعتبر أن المطامح الألمانية تجاه النمسا وجزء من تشيكوسلوفاكيا مسألة لاتفتقد للمشروعية على شرط أن تتم الأمور في جو من السلم والتوافق.وبعد الزيارة كتب هاليفاكس إلى أحد أصدقائه: “القومية والعنصرية هما قوتان مؤثرتان، غير أني لا أعتبرهما شاذتان أو لا أخلاقيتان” (ص. 32).
ثم استعرض المؤلف سلسلة من الخطوات التي مرت بها عملية تطويع شوشنيغ (Kurt vonSchuschnigg) رئيس الوزراء النمساوي. وكانت الانطلاقة بزيارة سرية قام بها المسؤول النمساوي وهو متنكر في زي رياضة التزحلق على الثلج. زاوج هيتلر منذ البداية بين التمويه بالصيغة القانونية، في شكل اتفاقية ترخص بترويج للإيديولوجيا النازية بالنمسا، وإطلاق سراح المعتقلين النازيين بمن فيهم المتهمين بالإجرام، وتعيين أطر نازية في مناصب عليا داخل الحكومة من بينها وزارة الدفاع … وفي آن واحد تمنع الاتفاقية الدولة الألمانية من التدخل في الشؤون الداخلية للنمسا !)).
طال موقف التردد والأخذ والرد، وزادت حدة التهديد من جانب هيتلر تدريجياً. وبعد أن احتمى شوشنيغ (Kurt Schuschnigg) بالدستور النمساوي الذي ينص على أن التعيينات من صلاحيات رئيس الجمهورية، وجد نفسه يستعطف هذا الأخير كي يعين النازي سايس –إنكارت (Arthur Seyss-Inquart) وزيراً للداخلية. ومع ذلك حاول شوشينغ أن يسترجع قدراً من الكرامة، فأعلن أمام البرلمان أن النمسا ستظل مستقلة وأن التنازلات لن تذهب إلى أبعد من ذلك.ثم طرح مشروع استفتاء حول استقلال البلاد. وازداد التوتر حيث نزل رجال الحزب النازي النمساوي إلى الشارع دون أن تتدخل قوات الأمن، لأن وزير الداخلية الجديد ينتمي إلى حزب المتظاهرين.
وصف فويلار يوم 11 مارس 1938 بـ”اليوم الطويل”، لأنه عرف المجاذبات الأخيرة بين الطرفين، بين مطالب هيتلر وإصرار الحكام النمساويين على استخدام أوراق جديدة لتجنب فقدان السيادة الوطنية.
يضع هيتلر رئيس الوزراء النمساوي أمام الاختيار بين سحب مشروع الاستفتاء ودخول الجيش الألماني. يعلن شوشنيغ عن إلغاء الاستفتاء، فيطالب هيتلر باستقالة شوشنيغ وتعيين الوزير النازي سايْس – إنكارْت مكانه. ثم تحدث المفاجأة، حيث استسلم شوشنيغ، فرفض رئيس الجمهورية قبول استقالته، ثم رضخ أمام ضغط هيتلر، لكنه خلق مفاجأة جديدة، إذ أعلن أنه وافق على استقالة شوشنيغ، ولم يوافق على تعويضه بوزير الداخلية.
آنذاك قرر هيتلر أن يتخلص من عبء الاحترام الشكلي للقانون الدولي. أوحى لسايْس- إينكارت وزير الداخلية النمساوي بأن يطلب من ألمانيا أن تتدخل في بلاده. تأخر وصول البرقية، فقرر هيتلر عملية الاقتحام العسكري. وفي منتصف الليل، أعلن الرئيس النمساوي قبوله تعيين الوزير النازي على رأس الحكومة.وكان يوم 12 مارس هو يوم دخول القوات الألمانية إلى التراب النمساوي، وشاءت الصدفة أن تتعثر الحملة لأن تراكم الثلوج تسبب في عطب الدبابات، مما تطلب استبدالها بطريقة استعجالية.
هكذا انتهى مسلسل يستعصي على التصديق، وهو أقرب إلى مناخ المأساة/ الملهاة، ويقوم على توتر بين رغبة الطرف الأقوى في تصوير الاحتلال على أنه يوافق الشرعية الدستورية والدولية، وبين مماطلة يائسة من جانب الطرف الأضعف لتجنب الاحتلال باسم مقتضيات الدستور.
الحدث والامتدادات
بعد أن انتهى المؤلف من سرد هذه الأطوار، غادر المحكي الخطي، بطريقة تُسلط مزيداً من الضوء على الحدث في حيثياته وتداعياته. ينقلنا فويلار على سبيل المثال إلى المحكمة الدولية الشهيرة التي انعقدت في أواخر سنة 1945 بمدينة نورانبيرغ الألمانية من خلال أرشيف محاضرها. من بين الجالسين في قفص الاتهام، نلتقي بغورينغ، صاحب مبادرة الاجتماع السري الذي حضرناه في بداية الكتاب، وإلى جانبه الوزير النمساوي النازي سايْس-إنكارْتْ الذي أنكر ما نُسب إليه جملة وتفصيلًا، وريبِنْطرُوبْ (Joachim von Ribbentrop) الذي عمل سفيراً لألمانيا في أنجلترا ثم وزيراً للخارجية في الحكومة النازية. واللافت في هذا المشهد، هو قراءة مقتطفات من سجل المكالمات الهاتفية المُؤرشفة التي نجت من القصف الجوي خلال الحرب العالمية، وقد تبادلها غورينغ مع الوزيرين الحاضرَين قبل غزو النمسا. تحدث غورينغ مع ريبنْطرُوب فيقول إن ألمانيا تتدخل في النمسا بطلب من وزيرها الأول بسبب لاشعبية حكومة شوشنيغ، وتحدث مع سايس-إنكارت بلهجة الآمر الذي يحتقر مخاطبه، ويسأل عن مستجدات الوضع بدقة، ويُملي على الوزير النمساوي جدول الأعمال لما ينبغي أن ينفذه من إجراءات، ولاسيما تحضير الحكومة الجديدة، ومن بين أعضائها أحد أقرباء غورينغ.
ثم نعود إلى فيينا قبيل الغزو الألماني، حيث كثُر الانتحار داخل الساكنة اليهودية إلى درجة أن السلطات أقدمت على منْع نشر هذا النوع من الأخبار. ويحكي فويلار، نقلاً عن شهادة والتر بنيامين، أن اليهود حُرموا من استهلاك الغاز المنزلي. ولتأويل ذلك القرار، شاع أن الغاز كان وسيلة اليهود المفضلة للانتحار، وكان ذلك مصدر خسارة بالنسبة لشركة التوزيع. نحن بين الواقع والنكتة، ويعلق فويلار: “حين تصل الدعابة إلى مثل هذه الدرجة من السوداوية، فمعناه أنها تعبر عن الحقيقة”.
ويختم فويلار كتابه بمشهد يعود إلى ربيع سنة 1944، وهو حفل عشاء عائلي نظمه غُوسْطافْ كْرُوبْ (Gustave Krupp)، أحدرجال صناعة الحديد والصلب، وأحد الأربعة وعشرين الذين حضروا الاجتماع التاريخي السالف الذكر. وفجأة ينهض الرجل، ويسأل: “من هؤلاء؟”. ويتبين أنه أصيب بهلوسة جعلته يواجه جثث عشرات الآلاف من نزلاء معسكرات الاعتقال الذين وضعتهم الدولة النازية رهن إشارة كبار رجال الصناعة، فكان مصيرهم الأشغال الشاقة.
من غوبلز إلى هوليود
سوف نتوقف الآن عند موضوع صناعة الصورة الذي بلور حوله فويلار ملاحظات ثاقبة استلهمها من قراءته للأرشيفات التلفزيونية والسينمائية التي صورت اقتحام النمسا والحرب العالمية التي ترتبت عنه.
ننطلق من صورة الاستقبال الشعبي الحماسي الذي خصص لهيتلر يوم 15 مارس. يعلن الزعيم قيام”الأنشلوس” (Anschluss).كان هتاف الجمهور قوياً إلى درجة أننا نتساءل: ألسنا أمام نفس الشريط الصوتي الذي يوجد في أفلام الأخبار والدعاية التي تعود إلى تلك المرحلة. وبالتالي لا نعرف من يتكلم، ولا نستطيع أن نميز بين الحقيقة والكذب. وقد وظف الرايخ الألماني عدداً قياسياً من السينمائيين والتقنيين في مجالات الصوت والصورة، وبذلك فـ”إلى حدود دخول الروس والأمريكان في الحرب، تبقى الصورة التي تكونت لدينا حول الحرب هي الصورة التي سهر على إخراجها غُوبْلزْ (Joseph Goebbels) (وزير الدعاية النازي). تمُر مشاهد التاريخ أمام أعيننا وكأننا أمام فيلم من إنجاز جوزيف غوبلز. هو أمر خارق للعادة. لقد أصبحت أفلام الأخبار الألمانية نموذجاً للتخييل” (ص. 128-129).
وننتقل إلى “قصر اللباس بهوليود”، حيث اشتغل غُونْترسْتيرن (Gunther Stern)، وهو مثقف يهودي هاجر إلى الولايات المتحدة، واضطر لكسب قوته بمهن بسيطة، وانتهى به المطاف إلى هذه المؤسسة المختصة في إعارة الأَكْسِسْوار، وبشكل أدق أنواع الألبسة التي تتناسب مع كل أنواع الشخصيات عبر التاريخ. كل شيء هناك مُزيَّف. إنه عالم الفرجة الذي يسقط على كل حقب التاريخ. ويحكي سْتيرْن أن ألبسة النازيين كانت توجد هناك، ربما قبل أن يشن هيتلر عدداً من معاركه الكبرى، وأن سخرية الأقدار جعلته، وهو يهودي، يتولى تلميع أحذية النازيين بصفة منتظمة. كان على الألبسة المعروضة أن توهم بأنها في آن واحد حقيقية ومتقادمة، وأن تجعل التمييز بين الحقيقي والمزيَّف بمثابة الأمر المتعذر. ومن وجهة نظر هوليود صانعة الخيال الجماهيري في التاريخ المعاصر، كل التاريخ وحروبه فرجة وتجارة تُدر الربح الوفير.
وهكذا يتبين أن هناك علاقة بين اعتماد تداخل الأزمنة في هذا المحكي الذي بُني فيه التخييل على أرضية وثائقية من نوع خاص، وبين إعمال التفكير في التاريخ، وتفكيك ما يحُف بالسرديات والصور من مزالق تعود إلى استراتيجيات سُلطوية تُتقن الجمع بين العنف والتمويه والتزييف في كل المراحل التي يمر بها الحدث.