الأحد , 13 أكتوبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » الجوائح بين الأمس واليوم

الجوائح بين الأمس واليوم

Michael Dols, The Black Death in the Middle East. Princeton University Press, Princeton, 1977

وُسمت الموجة الحالية من المرض المعدي فورا بالجائحة، لما شلّت معظم مرافق الحياة الاجتماعية والأنشطة الاقتصادية عبر العالم. هذا يدل على أن الذاكرة الجماعية لا تزال تكتنز آثارا وذكريات لحالات مماثلة وقعت في الماضي.وبالتالي، السؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذا الظرف هو: إلى أي حد يمكن مقارنة الموجة الحالية بالجائحات التي حدثت في الماضي؟

من بين العديد من الدراسات التي أنجزت خلال العقود الأخيرة حول جوائح الماضي، تبرز ثلاث منها، أولها كتاب فيليب زيكلر (1929-….) الموت الأسود (1970)،وثانيها لأحد رواد التاريخ العالمي ويليام ماكْنِيل (1918 – 2016)الشعوب والأوبئة (1971)،وثالثها الموت الأسود في الشرق الأوسط (1977)لمايْكل دُولز(1989 – 1942) 1. هذا الأخير هو الذي يهمنا في هذه القراءة، لكونه يركز على أحداث همَّت مجتمعات جنوب وشرق المتوسط، إذ أن عبارة “الشرق الأوسط” التي اختارها كعنوان، واستعملها بشكل واسع، إذ ضمت كل مناطق جنوب وشرق المتوسط، من الأندلس إلى الأناضول. والواقع أن الذي حظي باهتمام المؤلف هو المجال الذي شكل فيه الإسلام دين أغلبية الساكنة. ولذلك، وفَّر مرجعية عامة للتعامل مع واقع المرض المعدي والموت السريع لأعداد كبيرة منها، وما بدا للناس آنذاك على أنه انهيار كل ما شيده الإنسان. ويبدو هدف المؤلف واضحا في طريقة هندسة دراسته تسلسل فصولها، حيث ينطلق من معطيات حول موجات وباء الطاعون في الماضي، لينتقل بالتدريج إلى مقارنات بين التصورات التي سادت في أوروبا المسيحية والمجال الإسلامي، والتي أدت إلى ردود فعل متباينة في مواجهة تحدٍّ واحد…

رام دُولز، على طريقة مدارس تاريخية حديثة، إلى معالجة الموضوع بشكل شمولي، حيث تناول ظاهرة الأوبئة من كل الأوجه الممكنة، إلى حد دفع أحد المؤرخين المعاصرين، وهو ريتشارد بُوليِيتْ، إلى اعتبار أن دُولز لم يترك أي جانب دون أن يعالجه بطريقة منهجية، وأنه بذلك “قتل الموضوع”، وجعل من الممكن نقل النقاش إلى مستويات أخرى، أي طرح أسئلة جديدة فيما يخص تأويل ما حدث في الماضي2.

ينطلق المؤلف من الكتابات التي خلفها معاصرون لتلك الموجات، سواء من داخل مجتمعات المسلمين أو من خارجها، بما في ذلك ملاحظات دوَّنها مسافرون أوروبيون، وقارن بين مختلف التقارير والملاحظات المتوفرة، مما مكنه من ضبط العديد من المعطيات، بداية بتاريخ مختلف الموجات والمراحل التي قطعتها. وقد تمكن بذلك من تحديد النواحي التي انطلقت منها تلك الموجات وظروف انطلاقها، ثم الطرق والمسارات التي تدرجت فيها. لقد توصل إلى أن منبع كل تلك الموجات كان في آسيا الوسطى، حيث وجدت أنواع من الجرذان البرية التي تنقل العدوى، كما أمكنه تأكيد ملاحظات قدمها معاصرون لتلك الموجات، ركزت على تزامن كوارث طبيعية مثل الزلازل أو الفيضانات مع انطلاق موجات العدوى، ووجد لذلك أسبابا وتعليلات مقبولة علميا، حيث إن ما كان يحدث آنذاك أخرج تلك الجرذان من مكامنها وجعلها تقترب من الإنسان أكثر من المعتاد، مما تسبب في انتقال الحشرات الحاملة للجرثوم إلى البشر، وبعد ذلك، في تفشي العدوى من الشرق إلى الغرب”مثل جيش يستحيل صده”.

وقد تمكن المؤلف كذلك بواسطة تحريات مدققة، من تحديد طريق انتقال الوباء ليصيب في آن واحد مجتمعات تقع في جنوب المتوسط وشماله.ويلاحظ في هذا السياق، وجود ثلاث طرق أساسية تربط بين آسيا الوسطى (منغوليا) والمناطق المجاورة للمتوسط. هناك طريق بحرية من موانئ الصين الشرقية إلى البحر الأحمر مرورا بالمحيط الهندي، وهي ما سماها بالطريق الجنوبية. وهناك طريق شمالية تتَّبِعها قوافل التجار،وتمر عبر مناطق آسيا إلى شبه جزيرة القرم، التي كانت تشكل آنذاك أهم محطة لوصول قوافل التجارة القادمة من الشرق، والتي كانت تنطلق منها سفن من البندقية وجنوة تعرج على موانئ المتوسط. وبين الجنوبية والشمالية، توجد طريق أخرى، تتكون من جزء بحري وجزء بري، حيث كانت السفن توصل حمولتها إلى موانئ في جنوب العراق الحالي، لتتكفل قوافلٌ برية بإيصال الحمولات إلى مناطق المتوسط.وتوصل المؤلف إلى أن كل موجات الوباء كانت تمر عبر الطريق الشمالية، وأن التجارة البحرية في الحوض المتوسط آنذاك كانت المسؤول الأساسي عن “توزيع” الوباء عبر موانئ هذا الحوض، في جنوبه وشماله.

يخصص المؤلف تحاليل مفصلة حول الآثار التي كانت تخلفها كل واحدة من تلك الموجات، والتي جعلت من كل منها منعطفا أساسيا، يفوق في أهميته كل الأحداث والتطورات السياسية والعسكرية. فكل موجة كانت تتسبب في تراجع هام لأعداد الساكنة، وتدمير لما تمت مراكمته خلال أجيال من صنائع وأثار وأموال، وجيوش وممالك. ومعنى ذلك أن أهم صانع للحدث آنذاك لم يكن لا النظام السياسي ولا الحدث العسكري، بل مخلفات الوباء.

يخلص المؤلف في نهاية استعراضه لمخلفات موجات الوباء إلى مواجهة أسئلة ملحة وشديدة التعقيد في آن واحد، حيث أن الانكماش الذي مسَّ أعداد الساكنة وكل الأنشطة الاقتصادية ومظاهر الحضارة صاحبه جهل مطبق بأسباب المرض والوسائل الكفيلة بالحد من انتشاره أو التخفيف من آثاره. لذلك، لجأت كل المجتمعات التي طالها الوباء، بشكل كثيف، لممارسات سحرية ولنظريات مستقاة من التراث الديني. إلا أن ذلك لم يتم بنفس الطريقة في المجتمعات الإسلامية جنوب المتوسط والمجتمعات المسيحية في أوروبا الغربية.

بالنسبة للمسلمين، لم تكن الجوائح غريبة عنهم، بل شكلت منذ انطلاق مجموعاتهم ظواهر تعود بانتظام وتترك دائما آثارا واضحة في تشكيلة الهيئات الحاكمة وتوزيع الموارد. وحسب فقهاء ذلك العصر، فقد ضمت الشريعة الإسلامية مقتضيات وترتيبات مستقاة من أحاديث نسبت للنبي، أساسها ثلاثة مبادئ:

  1. إذا ظهر الوباء في منطقة ما، يتعين على المسلم إذا وُجد داخلها ألا يغادرها، وإذا وُجد خارجها ألا يدخل إليها.
  2. يجب اعتبار الوباء رحمة من الله وشهادة بالنسبة للمؤمنين، وعقابا للكافرين والمنافقين.
  3. لا يمكن القبول بنظريات العدوى (انتقال الوباء من فرد لآخر) ولا اعتباره نتيجة تعرض الفرد لتأثير ما، بل إنه نتيجة للإرادة الإلهية لا غير.

كما يظهر جليا، فإن هذه المبادئ تجعل من الوباء نتيجة لمشيئة الله بالمعنى العام لهذه العبارة، كما تحتم على المسلم أن يقبل المشيئة الإلهية، وألا يقوم بأي محاولة للتهرب من آثارها. إلا أنه، رغم رجوع غالبية أهل العلم إلى نظريات مأخوذة من التراث الإغريقي، والتي أرجعت أسباب الوباء إلى فساد الهواء، لم يغب عن العديد منهم أن الوباء مرض معد، وأن وقعه يكون أشد في الأوساط الحضرية التي تزدحم فيها الساكنة وتقل فيها إمكانيات النظافة ووسائل الوقاية. يذكر المؤلف أنه في الغرب الإسلامي، انتبه العديد إلى خاصيات الوباء وما يمكن أن يرتبط به، منهم ابن خلدون وابن الخطيب وآخرون، لكن البعض منهم مثل ابن خاتمة، لم يجرؤوا على مواجهة أحكام الشريعة، لذلك لم يهربوا من المناطق التي ظهر فيها الوباء، فعاشوا أوضاعا صعبة، ووجدوا أنفسهم أمام تناقضات صارخة بين الواقع وتأويلات الفقهاء.

يتخذ المؤلف العديد من الاحتياطات فيما يتعلق بالاستنتاجات، خاصة بالنسبة لمواقف عموم الناس في أوساط المسلمين وفي السياقات المسيحية، وذلك لتفادي نظرة ثقافوية تجعل من الإسلام والمسيحية منظومتين مبنيتين على تصورات مختلفة للواقع، على اعتبار أن الأولى تقبَّلت الواقع واستسلمت له، بينما عبَّرت الثانية على إرادة الخروج من الدائرة المفرغة وتوخِّي أسباب عملية لمواجهة الوباء. لذلك خصص دُولز حيزا واسعا لذكر أوجه الشبه العديدة بين ردود الفعل في السياقين، انطلاقا من تفشي تأويلات وممارسات سحرية، والقبول بنظريات لا أساس لها في مجال التجربة. كما استحضر ما قاله مارشال هودجسون فيما يخص المقارنة بين تديُّن المسلمين وتديُّن المسيحيين في مقال حاول من خلاله النفاذ إلى ما يجعل كل حالة تنتج عالما من المعاني الفريدة والمتميزة3. إلا أن الواقع كان يفرض نفسه، حيث إن نفوذ علماء الدين على المجتمع وتصوراته كان كبيرا،في وقت كانوا يجهلون فيه ما يخص الطبيعة والأشياء المحيطة بهم.

إذا عدنا إلى السؤال الذي طرحناه في البداية يمكن تقديم ثلاث ملاحظات:

أولا: لا يمكن أن نقارن بين موجة المرض المعدي اليوم وجوائح الماضي: وباء الطاعون كان يحصد آلاف الأرواح ويُخلي فضاءات عريضة في البلاد ويعصف بمدن ودول ومنظومات كاملة. كانت الجوائح تأتي على الأخضر واليابس، وكانت تمنع تراكم إنجازات البشر، وبالتالي، كان أثرها محدِّدا أساسيا للتطور الاجتماعي.

أما اليوم، فهناك عاملان اثنان لم يوجد لهما مثيل في المجتمعات البشرية قبل القرن الثامن عشر،غيَّرا الوضع بشكل جذري. أولهما، العلم الحديث والبحث العلمي اللذان خلصا البشرية من “الموت الأسود” الذي لاحق المجتمعات طيلة قرون عديدة كما رأينا، والثقة في إمكانية التوصل إلى حل، أو الاعتقاد السائد بإمكانية التغلب على “عدو” أفرزته الطبيعة.وثانيهما، الدولة الحديثة التي تتوفر على موارد ووسائل هامة تمكنها من الحفاظ على التكافل الاجتماعي.

———————————-

الهوامش:

[1] Philip Ziegler, The Black Death (1970); William McNeill, Plagues and Peoples (1971); Michael Dols (1977), The Black Death in the Middle East.

[2] Bulliet, Richard (1978). The Black Death in the Middle East. Michael W. Dols. Speculum 53 (4):803-804.

[3] Marshall Hodgson, « A Comparison of Islam and Christianity as Framework for Religious Life”, in Diogenes, n° 32 (1960)

- عبده الفيلالي الأنصاري

مدير سابق لمعهد الدراسات حول حضارات المسلمين / لندن

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.