محمد الأمين البزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1992
بعد الدراسات الرائدة للدكتور رونو، والبحث المرجعي الذي أنجزه برنار روزنبرجه وحميد التريكي حول مجاعات وأوبئة القرنين السادس عشر والسابع عشر، تأتي مساهمة جديدة لتلقي الضوء على الأزمات الديموغرافية التي عرفها المغرب خلال القرنين اللاحقين. فبعد بحثه الجامعي الأول حول المجلس الصحي الدولي بطنجة، بادر محمد الأمين البزاز بإصدار الأطروحة التي أنجزها لنيل دكتوراه الدولة. وينقسم الكتاب الجديد إلى ثلاثة أبواب. عنوان الباب الأول هو: “المغرب بين الطاعون والمجاعة والحروب الأهلية، 1721-1826″، ويتناول الثاني أوضاع المغرب “بين التسرب الأوربي والكوليرا والمجاعة، 1834-1896”. وخصص الباب الثالث، بإيجاز ملحوظ، لموضوع “ردود الفعل” إزاء تلك الكوارث.
يعرفنا البزاز بأزمات القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن التاسع عشر. نبدأ بمجاعتين: 1721-1724، و1737-1738، وطاعوني منتصف القرن. نلاحظ أن الأزمة الغذائية الأولى لا تظهر في كتب الحوليات السلطانية التي كان هاجسها الأول هو إبراز “الأمن والرفاهية” بالنسبة لعهد السلطان إسماعيل. وقد وردت أهم المعطيات حول تلك الأزمة في وثيقة يهودية معاصرة تم تدوينها في مدينة فاس. ثم تأتي المجاعة الثانية خلال مرحلة “الفترة” والاضطراب الذي أعقب العهد الإسماعيلي ودام ثلاثة عقود، وجاء الفرج بفضل الحبوب التي تم استيرادها عبر ميناءي الرباط وتطوان. وفيما يخص الوباء، دخل طاعون 1742-1744 من الحدود البرية الشرقية، وانتشر بسبب الحروب الدائرة حول العرش، ثم جاء طاعون 1747-1751 الذي قدم من جهة الجنوب.
بعد ذلك نتعرف على الأزمات التي تخللت الربع الأخير من القرن الثامن عشر. كانت “المجاعة الكبرى” خلال سنوات 1766- 1774، وقد نتجت عن ترخيص السلطان بتصدير الجبوب مقابل استيراد السلاح والعتاد. ثم جاءت مجاعة جديدة، وتلاها وضع هادئ في السنتين التاليتين، ثم عادت المجاعة خلال سنوات 1779-1882. وخلال هذه السلسلة من الشدائد، تزايدت أعمال اللصوصية وقطع الطرق ولاسيما في جوار مدينة الرباط، وتحركت أعداد من سكان الجبال نحو السهول. وفي الأطلس المتوسط، انطلقت حركة ذات نبرة مهدوية تزعمها محمد اليموري داخل قبيلة أيت يمور.
عرفت حقبة 1798-1826 سلسلة جديدة من الكوارث. فبعد انفراج دام زهاء خمسين سنة ، قدم الطاعون من الجهة الشرقية، وساهمت حرْكة السلطان سليمان في انتشار الوباء. وعرفت سنوات 1801-1816هدوءا نسبيا، ثم اندلعت أزمة غذائية جديدة في سنتي 1817-1818، وامتد مناخ الأزمة مع طاعون 1818-1820 الذي كان له تأثير كبير على الاضطرابات التي شهدتها نهاية عهد السلطان سليمان. وفي سنتي 1825-1826، عادت المجاعة من جديد، ونتجت هذه المرة عن تزامن برودة الطقس وغزارة الأمطار.
هكذا عرف القرن الثمن عشر خمس مجاعات وأربعة طواعين، دون اعتبار الأزمات ذات البعد المحلي المحدود. وكان معدل طول الكوارث سنتين اثنتين، بل ثلاث أو أربع سنوات في بعض الحالات. وقد سجل المؤلف أنه بين مجاعة وأخرى كان الفارق الزمني يتراوح بين ثلاث عشرة وثمان وثلاثين سنة. وحين يكون المحصول الزراعي ضعيفا، فإن ذلك يؤدي إلى ارتفاع أثمنة المواد الغذائية. وحين تنضاف سنة جفاف أخرى، فإن الوضع يبلغ حد الخطورة (1824-1825). وإذا ما انضافت سنة ثالثة، فإن المغرب كان يعيش وضعا كارثيا، مثلما حصل خلال سنوات 1721-1724 و1779-1781. وكانت مضاعفات الغلاء تتفاقم بسبب بطء النقل وممارسة الاحتكار والمضاربات.
وتندرج أوبئة تلك الحقبة في سياق أوضاع حوض المتوسط. ويوضح البزاز أنها كانت طواعين حقيقية، تنشط خلال فصل الربيع على الخصوص، وتنتشر عن طريق البراغيث، ويصعب التوصل إلى إحصاء الخسائر البشرية، وتقدر هذه الأخيرة بعشرة في المائة على الأقل فيما يخص ساكنة المدن، وكانت الموت تصيب بشكل خاص الأطفال والشباب والنساء.
اهتم الباب الثاني من الكتاب بالقرن التاسع عشر، واتخذ سنة 1834 كمنطلق، وبالتالي فإن تطورات القرن الجديد حملت آثار التسرب الأوربي. وكانت البداية بسلسلة كوارث سنوات 1834-1860. فقد تعرض المغرب لهجوم الكوليرا، المسمى محليا بـ”بوكليب”، في سنتي 1834-1835. ووصل الوافد الجديد في إطار الموجات العالمية التي ظهرت في آسيا، وانتشرت بواسطة الجيوش ومواسم الحج الكبرى وتقدم الملاحة البحرية. واتخذت الهيئة القنصلية بطنجة عددا من الإجراءات الوقائية التي لم تمكن المغرب من تجنب الموجة الثانية للكوليرا، فضرب هذا الوباء مدينة فاس بقوة انطلاقا من الجهة الشرقية على الأرجح، وانتشر عبر مجموع البلاد، وتضررت الواحات والمغرب الشرقي بشكل خاص. ثم جاءت أزمة غذائية خلال سنوات 1847-1851، وبفضل الوثائق المتوفرة استطاع البزاز أن يتتبع حركة ارتفاع الأثمان في بعض المدن مثل فاس والرباط والدار البيضاء والجديدة. وبعد ذلك ضرب الكوليرا مرتين، في سنتي 1854-1855 وسنتي 1859-1860. وكان هذا الوباء أعنف من ذي قبل من حيث أعداد الوفيات، وانتشر أكثر على المستوى الجغرافي، ويبدو أنه أصاب الوسط الجبلي الذي عادة ما كان ينجو من مثل هذه الأزمات. أما الوباء الثاني فقد جاء عن طريق الجيوش الإسبانية والفرنسية التي ساهمت في حرب تطوان وحملة بني يزناسن.
ثم كانت كارثة سنوات 1867-1869 ذات الأوجه المتعددة. ففي البداية تزامن الجفاف مع هجوم الجراد. وارتفعت أثمان الحبوب بشكل استثنائي، وانهارت أثمان المواشي، وهو ما أدى إلى تزايد إيقاع الهجرة القروية والوفيات. وجاء الكوليرا من جديد، وتم إيقافه بميناء طنجة، فدخل من جديد عن طريق الجهة الشرقية، وانتشر عبر البلاد، ووصل إلى المناطق شبه الصحراوية.
وبعد ذلك كانت أزمة 1878-1883 التي كان لها وقع أعنف: سلسلة من سنوات الجفاف، ومجموعة من الأوبئة، وهي الكوليرا، والجدري، وحمى التيفوئيد. وقد اشتد مفعول الأزمة الغذائية لسنة 1878 بسبب المضاربات والانهيار النقدي. واستمرت الصعوبات خلال سنوات 1879-1883، مما وضع حدا لاستئناف النشاط الفلاحي الذي لم يدم طويلا، وهو ما فرض اللجوء إلى استيراد كميات كبيرة من الحبوب والأرز.
ثم كان الانفراج القصير لسنتي 1885-1889، وتلته كوارث سنوات 1890-1896. وجاء جفاف 1891 في سياق تصدير الحبوب إلى ألمانيا بالرغم من هزالة المحصول الزراعي. ثم تعرض المغرب للموجة العالمية الخامسة للكوليرا، انطلاقا من طنجة حيث الميناء الذي ينزل فيه الحجاج.
يظهر إذن أن أزمات القرن التاسع عشر كانت مرتبطة إلى حد كبير بالتحولات الجارية آنذاك. فقد أصابت المغرب في وضعية “اختلال التوازن الاجتماعي الاقتصادي”، حيث كان تزايد حجم المبادلات البحرية، وبداية التغلغل العقاري الأوربي، والصعوبات النقدية. وساهمت الكوارث بدورها في احتداد مختلف التحولات الناتجة عن “الانفتاح” وأشكال ردود الفعل من جانب المجتمع والدولة. فقد تزايد التفاوت الاجتماعي لصالح فئات المحميين والبورجوازية الحضرية والنخب المخزنية والدينية. ودفعت موجات الهجرة الداخلية بأعداد من الجياع نحو المدن، ولاسيما مدن الساحل الأطلنتي. وفي مستوى آخر، تولدت الأزمات عن الضغط الجبائي، وأدت بدورها إلى احتداد التوتر الاجتماعي، مثل ظواهر قطع الطرق وعداوة سكان البوادي إزاء سكان الحواضر.
لا شك أن موضوع الأزمات الديمغرافية يضع المؤرخ أمام شبكة معقدة من الأسئلة. فهو مطالب بأن يصف الظواهر المدروسة ويقيسها ويحللها. وينبغي عليه في آن واحد أن يقارب الظواهر في حد ذاتها، وفي تفاعلاتها وتأثيرها في مختلف جوانب المعيش الجماعي. والملاحظ أن البزاز نبهنا في مقدمة الكتاب إلى أن هناك فرقا بين القرنين المدروسين فيما يخص الإمكانيات الوثائقية، إذ يوفر القرن التاسع عشر رصيدا من الأرشيفات المخزنية والأوربية، على خلاف القرن السابق الذي يفرض على الباحث أن يكتفي بمعطيات وشذرات متفرقة عبر المصنفات التاريخية التي تعود لتلك الحقبة. ورغم الثراء المصدري النسبي للقرن التاسع عشر، فإن أية محاولة لانتهاج المقاربة الكمية تصطدم بغياب الحالة المدنية أو مؤسسات أخرى تسجل المعطيات الديمغرافية بشكل يتسم بالدقة والاستمرارية.
ومعنى ذلك أن يقدم لنا ثمار تحريات صعبة، خاصة وأن الكتاب يخترقه هاجس التوفيق بين وصف الأزمات الديمغرافية وبين رصد آثارها المتعددة. ورغم ذلك فإن الباب الثالث المخصص لردود الفعل يستدعي بعض الملاحظات. فقد تناول المؤلف في أحد الفصول موضوع “الإنسان والمجاعة”، وجمع فيه بعض الجوانب التي لامسها بشكل سريع، مثل طقوس الاستسقاء، ذات الصلة بالتمثلات الدينية، أو تقليد خزن الأغذية، إلى جانب عناوين مثل “تأثير الجوع على السلوك الاجتماعي”، حيث يرد الحديث عن مواضيع متفرقة مثل أكل لحوم البشر والدعارة وقطع الطرق.
وفي مكان آخر، يؤكد المؤلف “الوظيفة الاجتماعية للمخزن في أوقات المجاعات”. وهنا دخل البزاز في سجال قوي اللهجة ضد صورة الدولة المغربية التقليدية في أدبيات الحقبة الاستعمارية، غير أن هذا السجال يؤدي أحيانا إلى مواجهة الاختزال الاستعماري باختزال مضاد. يشير البزاز مثلا إلى مراقبة الأسواق، وتحديد الأسعار ومكافحة الاحتكار، بل يذهب إلى حد الحديث عن “مساعدة العالم القروي على النهوض”. لكن هناك أسئلة من قبيل: كيف كانت الفعالية الحقيقية لمؤسسة الحسبة؟ وما هي دلالة المسافة البنيوية التي سجلها المؤلف بين الإجراءات المعلنة وبين “صعوبات التطبيق” داخل نفس الجهاز الحاكم؟
وفيما يخص الفصل الذي خصصه المؤلف لأدب الطواعين و”الكَرَنْتِينَة”، ينبغي تسجيل بعض الملاحظات. فبالنسبة للموضوع الأول، نحن أمام جنس خاص، تناول البزاز أهم ملامحه بإيجاز، حيث عرف ببعض النماذج التي تعبر عن الموقفين السائدين تجاه الوباء. أما الموضوع الثاني، فهو يرد في الواقع في مؤلفات ذات اهتمامات أوسع. ويلفت انتباهنا تشدد الفقهاء في رفض “الكرنتينة”، وهو ما ينعكس، على المستوى المخزني، في غياب المسألة الصحية في برامج الإصلاحات التي خططها السلطانان محمد بن عبد الرحمان والحسن الأول. غير أن الأدبيات المتعلقة بالأوبئة تدل المؤرخين على موضوع بكر لم يحظ بعد بالاهتمام، وهو متخيل الأزمات الديمغرافية. وتحضر معطيات هذا الموضوع بشكل غير مباشر، وبشكل مباشر في بعض الحالات، عبر كتب الأخبار وأدب المناقب، وهو ما يساعد على فهم أفضل لخطاب هذه المصادر في تناولها لأخبار الأزمات.
وفي مستوى آخر، يذكر البزاز في خلاصة كتابه بالدور التاريخي الذي لعبته الأوبئة والمجاعات كعامل جمود وتخلف. ويقارن بين الانهيار الديمغرافي الذي عاشه المغرب مع “الطاعون الأسود”، وبين التجربة الأوربية حيث استفاد نمو الرأسمالية من مكافحة الأوبئة وتراجع موجات المجاعات ابتداء من القرن الثامن عشر. إنها مقارنة تستحق أن تعمق أكثر. ما هي خصوصيات “النظام القديم” للديموغرافيا المغربية؟ ومن جانب آخر، يجدر التذكير بأن “الطاعون الأسود” لمنتصف القرن الرابع عشر لم يعرقل مسلسل التحولات التي كانت جارية في أوربا آنذاك. هناك عدة أسئلة يمكن أن تكون منطلقا لفرضيات جديدة لا تكتفي بتسجيل إيقاع تكرار الأزمات الديموغرافية.
وعلى العموم، فكتاب محمد الأمين البزاز يعد مساهمة هامة في ملف تاريخي ينتظر منه أن يعرف تراكما في الأعمال وتعددا في المقاربات.
ملحوظة: سبق نشر هذه القراءة ضمن كتابي الماضي المتعدد. قراءات ومحاورات تاريخية، الدار البيضاء، توبقال، 2015. ويمكن أخذ فكرة ملموسة حول تنامي الاهتمام بموضوع الجوائح في وسط المؤرخين المغاربة بعد صدور كتاب البزاز، انظر: بوبكر بوهادي / بوجمعة رويان (تنسيق)، المجاعات والأوبئة في تاريخ المغرب، الجديدة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة / الجمعية المغربية للبحث التاريخي، 2004.