حوار مع المؤرخ ويلفريد رولمان
ويلفريد رولمان (Wilfrid J. Rollman) مؤرخ أمريكي متخصص في التاريخ العسكري لمغرب القرن التاسع عشر، وأستاذ لتاريخ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، درّس في عدة جامعات أمريكية من بينها هارفارد، ويلزلي، بوسطون، براندايس، وميشيغان. من آخر إصداراته دراسة أنجزها عن القايد ناجم لخصاصي (1867-1964). أجرى الاستجواب وترجمه من الانجليزية إلى العربية عبد الحي مودن، على إثر زيارة بتاريخ 3 أكتوبر 2019، لحصن روتمبورغ الكائن بشارع المختار الجازولي بحي المحيط بالرباط.
سؤال: أريد أن استغل فرصة قدومك للرباط هذه السنة، والزيارة التي قمنا بها لحصن روتمبورغ (Rottembourg) الذي دُشّن منذ أسبوعين بمناسبة بيينال الرباط لإجراء هذا الاستجواب. وحصن روتمبورغ واحد من إثني عشر موقعا موزّعة عبر مختلف أنحاء المدينة خُصصت لمعارض البيينال. عندما كنت زرتُ الحصن بُعيد ترميمه فكرتُ فيك لأني أعرف أنه مرتبط بموضوع أطروحتك للدكتوراه التي تحمل عنوان النظام الجديد في مجتمع إسلامي ما قبل استعماري: الإصلاح العسكري في المغرب، 1844–1904، والتي ناقشتَها في جامعة ميشغان سنة 1983.[1] سيكون هذا اللقاء مناسبة لأحاورك في أطروحتك، ولكنني سأبدأ بالسؤال عن انطباعاتك الأولى عن هذه الزيارة للحصن التي قمنا بها معا هذا الصباح رفقة زوجتك باربرة.
رولمان: حسب ما أعرف، فإن الموقع بُني من طرف المهندس الألماني روتمبورغ ومساعديه. إن الجزء العسكري منه كان مسايرا لهندسة البنايات العسكرية المخصصة للأسلحة الثقيلة للدفاع عن المناطق الساحلية. هناك جوانب في مدخل البناية التي تحتوي على زخرفة إسلامية لست متأكدا هل كانت جزءا من البناية أصلا. من المحتمل أنها كانت كذلك، لكن من الممكن أيضا أنها إضافات قام بها الفرنسيون أو غيرهم. لا أعتقد أنه كانت هناك محاولة لأسلمة هذا البناء العسكري أو تعريبه. هذه ملاحظة تبادرت لذهني ونحن نزور الموقع. لم أزر الحصن من قبل، وقد كنت مهتما لمعاينة مدى شساعاته. أعرف أنه يتكون من حامية عسكرية ومخازن. هناك سكة حديدية مرتبطة بهذا البناء، ولكني لم أر إلا جزءا منها. لاحظت أيضا سلسلة ضخمة تبدو كأنه تم انتشالها من البحر، والتي ربما استعملت لجر المدافع.
سؤال: أنت تذكر في أطروحتك أن هذا المشروع العسكري بدأ سنة 1890، في عهد الحسن الأول، أليس كذلك؟
رولمان: الحسن الأول كان هو صاحب المشروع، ولكن تنفيذه لم ينطلق إلا بعد وفاته سنة 1894، في عهد عبد العزيز، وصادف مشاكل عديدة. كانت هناك شكاوى كثيرة من النقص في المواد الأولية، ومن جودة البناء، والتي ظهر أنها كانت شكاوى مبررة، لأنه بعد الطلقة الأولى لأحد المدفعين تصدعت القاعدة الحديدية التي هُيئت لكي تحمله. وما أعرفه هو أن المدفعين لم يستعملا بعد ذلك بالمرة. ولا أعتقد أن الفرنسيين استعملوهما.
سؤال: كان الحصن جزءا من مشروع أكبر للحسن الأول لإصلاح الجيش وتنويع الأسلحة المغربية ومصادر الحصول عليها. هل يمكن أن تتحدث عن هذا الموضوع وأن تضع الحصن في سياق الإصلاحات العسكرية التي سعى الحسن الأول إلى القيام بها؟
رولمان: الحسن الأول استأنف السياسة التي بدأت قبله، لأن المغرب، كما هو الشأن بالنسبة للامبراطورية العثمانية ومصر، اقتنعوا بأنه لايمكنهم استيراد الأسلحة بدون تهيئ البنيات التي تستعمل في إطارها هذه الأسلحة. يمكنك أن تهيئ لباس العساكر حتى يبدون بمظهر الجيوش الأوربية، ويمكن أن توفر لهم أسلحة خفيفة توضع على الكتف، ولكن يتطلب أن توفر لهم أولا التداريب وأماكن الإقامة والتطبيب والأكل. الفكرة هي أنه ما بدأ كمحاولة لجلب التكنولوجيا بدون كل التقنيات المرتبطة بها انتهت إلى الفشل هنا في المغرب كما في مناطق أخرى. كان محمد علي أطلق مشروعا طموحا لإصلاح الجيش في مصر واستعان بضباط فرنسيين، ولكنه لم يلبث أن اكتشف أنه يحتاج إلى اقتصاد قوي لدعم مبادراته التي كانت تتطلب المواد الباهضة الثمن والعملة الأجنبية الضرورية لاقتنائها، ولذلك لجأ إل ىتصدير القطن كمادة محوَّلة، وليس كمادة أولى، وإلى منح الدولة احتكار هذه السلعة. ونجح في ذلك لدرجة دفعت الأوربيين للعمل على عرقلة توسعه في إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط. المخزن في المغرب بالمقابل لم يكن يطمح للتوسع ترابيا، ولكنه اكتشف بسرعة الحاجة إلى تطوير موارده التي تمكنه من تمويل إصلاحات مهما كانت متواضعة. الأمر المؤسف بالنسبة للمغرب هو أنه عجز عن أن يوفر موارد قارة تسمح له باقتناء سلع غالية الثمن كما هو الأمر بالنسبة للمدافع الساحلية بدون أن يضطر للجوء للقروض. ولذلك فإن الإصلاحات العسكرية والإصلاحات الأخرى المرتبطة بها، كتطوير الإدارة التقليدية إلى جهاز بيروقراطي محترف، أو توفير خدمات كخدمة البريد مثلا، فشلت لأنها كانت تتطلب إمكانيات أكبر مما كان يملكه المخزن. عرف المغرب في تلك الفترة سنوات جيدة وأخرى سيئة، وتمكن المخزن من أن يوسع سلطته، كما كان الأمر في عهد الحسن الأول، لكنه لم يلبث أن ضعف في عهد عبد العزيز، وهو ما يفسِّر تمرد بوحمارة وبوعمامة وغيرهما، وامتناع عدد من القبائل عن دفع الضرائب. كان الحسن الأول يسعى دائما إلى أن يجند رعايا من كل جهات البلاد التي كانت تشكل مغرب تلك الفترة، وكان ذلك بداية مؤسِّسة لتحديد موقع المغرب ولإدماج السكان الذين ينتمون إليه.
سؤال: ماذا عن اختيار روتمبورغ وألمانيا كمصدر لهذا السلاح، هل كان ذلك قرارا اتخذه المخزن انطلاقا من تصور استراتيجي يهدف لتنويع مصادر تسلحه؟
رولمان: بكل تأكيد. إن المخزن هو من اختار ألا يترك الفرنسيين يتكلفون بكل شيء. والفرنسيون ألحوا على أن يظل المشاة والفرسان وسلاح المدفعية البرية تحت سيطرتهم. الإيطاليون حصلوا على صلاحية صنع الخراطيش في مصنع الماكينة في فاس، وحصلوا أيضا على بعض المهام العلمية في تورينو وفي معامل صنع البواخر في إيطاليا، لأن المغرب كان قد اشترى منهم باخرتين حربيتين باهضتي الثمن. الإسبان اشتركوا في بعض هذه المهام لكن لم يكن لهم حضور قوي، لأنهم كانوا يواجهون صعوبات داخلية. الألمان كانوا قد بدؤوا يبرزون على الساحة الدولية، وكانوا يرغبون في الحصول على نصيبهم من هذه الصفقات، والنصيب الذي بقي هو الدفاع عن الشواطئ. ولذلك فالألمان ألحّوا على أن يوظَّف ألماني للقيام بهذه المهمة، وعلى أن يقتني المغرب سلاح شركة كْرُوبْ (Krupp) الألمانية. وتجاوب المغرب مع هذا العرض كوسيلة منه لخلق التوازن مع فرنسا. لقد ساعد هذا الاختيار على خلق توازن مع دول أخرى كانت مهتمة بالمغرب، وتنوعت بالتالي مصادر السلاح إلى درجة أن أسلحة الجيش المغربي أصبحت شبيهة بمتحف لأسلحة مستوردة من مصادر مختلفة، وكانت طريقة إدماج نظم السلاح المتنوعة هاتة غير فعالة لأنها كانت تتطلب الحصول على الذخيرة المناسبة لكل سلاح. طلب المغرب شراء الوينشستر (Winchester) من الولايات المتحدة، وهي البندقية التي كانت البادية المغربية قد اكتشفتها وأعجبت بها كثيرا، لأنه كان بالإمكان شحنها بعدد كبير من الرصاصات، 16 طلقة، فسماها المغاربة “الستاشية” (ذات الست عشرة طلقة) وتسابقوا على اقتنائها. كان القايد ماكْلِينْ (Caid Maclean) مسؤولا عن استيراد الوينشستر لصالح المخزن، وتكلف بعقد الصفقة لشرائها لفائدة الجيش المغربي، لكن عددا من الصناديق اختفت في طريقها من الميناء إلى المخازن، وهو الأمر الذي ما كان ليخفى على القايد المتيقظ. كان صدى شهرة هذه البندقية وصل إلى المغرب على إثر الحرب الروسية التركية سنة 1878 حيث كان العثمانيون مسلحين بالوينشستر، مما مكنهم من أن يصمدوا في وجه الروسيين. فعلا، انتهى بهم الأمر إلى أن ينهزموا لكن بعد أن أظهروا قدرة مبهرة على الصمود. المسألة الأخرى المتعلقة بالسلاح الذي يجب أن نتذكرها هي أن الأوربيين كانوا يتلكؤون في بيع أسلحة متطورة لحكومات المنطقة. كانوا يبيعونهم الخردة، فائض معدات جيوشهم، وهي الأسلحة التي أصبحت متجاوزة في أوربا. كان سوق السلاح مكتظا بالتجار الذين يبحثون عن فرص لبيع سلعهم، وازدهر التهريب في أماكن عديدة، ولذلك، ففي نهاية القرن التاسع عشر كانت بعض القبائل مسلحة بشكل أفضل من السلطة المركزية، في الشمال، بل وحتى في الجنوب، وفي كل مكان سهل للمهربين. لقد استعمل المغاربة أسلحتهم بطريقة مبهرة. فمثلا، ومنذ نهاية القرن السابع عشر، تعلم المغاربة كيف يوظفوا سلاح الموسْكيت(Musket) الهولندي ليبتكروا بنادق من صنعهم، تحولت إلى سلاح فعّال.
سؤال: هل صادفتَ أسماء مغاربة بلوروا هذه الاستراتيجيات المتعلقة بتنويع مصادر السلاح واستخدام القوى الأوربية ضد بعضها البعض، أم هل الأمر كان يتعلق بمبادرات من السلاطين أنفسهم؟
رولمان: لاأعتقد أن الأمر كان خاضعا لتنظير ما، ولكن بدون شك فإن المعلومات والأفكار كانت تنتقل عبر المراسلات التي كانت تتم بين الدول المختلفة، وكان الجميع يشعر بحساسية تجاه أي تغيير في التوازن لصالح هذا الطرف أو ذاك، وكان الكل يسعى بشكل واع لتجنب أن يصبح المغرب رهينة دولة واحدة. وبشكل أو آخر، كان المخزن يتصرف مع القوى الأجنبية كما يتصرف مع القبائل، عن طريق تشجيع الانقسامات بين الخصوم والشركاء على حد سواء، واستعمال الأطراف ضد بعضها البعض ودفعها لتنشغل ببضعها بهدف إضعافها. عندما قام الحسن الأول بحرْكاته المتعددة عبر البلاد،كما وثقها المؤرخ دانيال نوردمان (Daniel Nordman)،كان له مدفعان من مدافع الميدان، وكانت القبائل تعتبرهما مقدسين. كان السلطان يضعهما قبالة الخيمة الملكية، وعندما يلقي الناس بأنفسهم عليهما، كانوا يحصلون على الحصانة، قبل أن يشرعوا في التفاوض. إن مثل هذه المدافع، بالرغم من أنها كانت بدائية نسبيا، فإنها كانت ذات قوة مدمرة ضد الأسوار المبنية بالطوب.
سؤال: من زاوية الطرف الأوربي، هل برزت أسماء نظّرت لاستراتيجيات تجاه المغرب؟
رولمان: إن أول دليل وجدته للأوربيين الذين يؤيدون الإصلاح في أي منطقة من العالم الإسلامي كان هو اللورد بالمرستون (Lord Palmerston) في المصادر البريطانية. حتى الهنود نشروا رسائل حول هذا الموضوع بالنسبة لموقف بريطانيا تجاههم في منتصف القرن التاسع عشر، وكانت بريطانيا تؤيد أيضا الإصلاحات في تركيا وتونس. كان هذا الموقف يهدف للحفاظ على الأنظمة القائمة في انتظار أن يقرر البريطانيون وبقية الأوربيين كيفية تقسيم تلك الدول فيما بينهم. لكن هذا التأييد كان محدودا. في المغرب مثلا، عندما سعى القايد ماكْلِينْ إلى تنظيم جيش ذي مصداقية، عارضت الحكومة البريطانية ذلك، لأنها لم تكن ترغب في أنه في حالة ما إذا احتاجت أن ترسل قوات إلى المغرب، أن تجد في مواجهتها خصما عنيدا. والفرنسيون حالوا دون أن تتطور في المغرب قوة قادرة على الصمود في وجههم. وكانوا في نفس الوقت كثيري الشكوى من نوعية الجنود المغاربة، وتلكئهم في القيام بالتداريب، وجهلهم بطرق المشي العسكري. لكن يمكن اعتبار ذلك شكلا من المقاومة من طرف المغاربة الذين لا يرغبون في التجند تحت إمرة الفرنسيين. كانت هذه السلوكات تمارَس إما بشكل واع، أو لأن المغاربة ما كان باستطاعتهم أن يقاوموا بشكل معلن، فكانوا يبتكرون حيلا متنوعة للتهرُّب من الخدمة العسكرية، كأن يتعمدوا جرح أنفسهم، أو يتغيبوا عن التداريب، أو يهربوا من الثكنات. وكثيرا ماكانت حالات الهروب سببها أيضا عدم حصول المجندين على رواتبهم أو على التغذية الكافية.
سؤال: كيف تعامل المخزن مع كل هذا؟
رولمان: بالنسبة للمغاربة كان الإصلاح يستند على فكرة الجهاد، لكن المخزن كان في حاجة إلى الأوربيين من أجل الحصول على القروض وعلى المواد والخبرات الضرورية للإصلاح، في الوقت الذي كانت فيه أوربا تهدد البلاد. هذا الموقف لا يخلو من تناقضات وهو يرجع إلى فترات سابقة للقرن التاسع عشر. يمكنك أن تلاحظ ذلك ابتداء من القرنين السادس والسابع عشر. فالسعديون مثلا استعانوا بالرياضيات وعلم الهندسة من خصومهم الأوربيين لأنهم كانوا يرغبون في أن يكون تصويب مدافعهم في اتجاه أعدائهم أكثر دقة. بعد ذلك، وخلال المراحل الأولى “لـلنظام الجديد” في المغرب، عمد المغاربة إلى استعارة الكتب والمراجع التقنية الأوربية عن طريق مصر والإمبراطورية العثمانية، وإلى الاستعانة في تدريب جيوشهم بالضباط من تونس، إذ أن الاعتماد على أجانب من غير المسلمين لتدريب الجيش المغربي كان يعد موضوعا حساسا لأنه كان يُخشى أن يفتح الباب لتغلغل الأوربيين في البلاد. وكان عبد القادر بن محيي الدين الجزائري يحظى بتأييد واسع في المغرب، واستاء المغاربة عندما قبل المخزن بعد هزيمته في إيسلي باستيلاء الفرنسيين على الجزائر، ووضع حدا لدعمه لعبد القادر. بل إن الوحدتين الأوليتين من المشاة اللتين أنشأتا ونُظمتا من طرف المخزن في إطار”النظام الجديد” استُعملتا ليس في مواجهة الفرنسيين في الجزائر، بل في الجزء الشرقي من البلاد ضد المغاربة الذين ظلوا مُصرّين على مواصلة دعمهم للزعيم الجزائري.
سؤال: هل تَعتبر أن هزيمة إيسلي وبعدها هزيمة تطوان شكلتا نقطة التحول التي حفزت المقاربة الجديدة للمخزن والمتعلقة بالحاجة للإصلاح وفي نفس الوقت الاعتراف بالضعف أمام الأوربيين، وبأن الأمر ليس مسألة مبدأ ومواجهة بين الكفر والجهاد، بل هي متعلقة بأولوية الحفاظ على كيانهم السياسي؟
رولمان: أنا متيقن من أن هاتين المعركتين أظهرتا بشكل لا يدَع مجالا للشك أن القدرة على مقاومة القوة العسكرية الأوربية أصبحت منعدمة. هذه القناعة لم تقتصر على المغرب، بل نجد حالات مماثلة لها عبر البحر المتوسط والعالم الإسلامي، والتي اكتشفت أن مرد ضعفها لا يقتصر على التخلف في نوع السلاح وتقنيات الحرب فقط، بل يعود أيضا إلى الانشقاقات والانقسامات التي تنخر بلدانها على المستوى الداخلي. تصرف المغاربة إزاء هذه الورطة بطرق مختلفة. البعض اعتقد أن قروض الأوروبيين محرّمة بشكل مطلق، وأنها تُضعِف الإسلام وتفضي إلى احتلال البلاد. وفي المقابل، دافع عدد من رجال المخزن وعلى رأسهم السلطان بعد إيسلي على الاقتراض، واعتبروه خيارا آمنا. قالوا: يمكننا أن نقترض بشكل انتقائي، وأن نوظف أكبر عدد من المسلمين لتدريب جنودنا بجانب بعض الأوربيين الذين كانوا يلحون على إشراكهم في مباشرة التداريب، ولا نعتقد أن ذلك سيؤدي إلى إضعاف الإسلام ونقائه، بل سيخدم المسلمين ودينهم. لكن ما أن بدأ ذلك الخيار يعني تدفق القروض، وإرسال المغاربة إلى الأكاديميات والمصانع الأوربية، وتدريس اللغات الأجنبية، واستيراد المعدات والتجهيزات، واستقبال مزيد من الأوربيين، حتى تبيّن أن الاقتراض الانتقائي ليس آمنا بالدرجة الذي كانت تُتصور. لم يتطلب الأمر مدة طويلة بعد إيسلي أن يتبنى دروموند هاي (John Drummond Hay) والإدارة البريطانية فكرة بالمرستون التي تعتبر أن بريطانيا في حاجة إلى جيش مغربي للحفاظ على سلطة المخزن، ولكن بدون أن يتقوى لدرجة يصبح فيها مصدرا للمتاعب بالنسبة للأوربيين. ولذلك وفّرت بريطانيا الأسلحة لماكلين وبعض المستشارين البريطانيين الآخرين، ومكّنتهم من تنظيم التداريب العسكرية، وإرسال بعض المغاربة لإنجلترا للأكاديمية العسكرية، وشراء بعض الأسلحة لتحصين الدفاع عن طنجة. إلا أن المغاربةكان عليهم أن يقبلوا مبادرات بريطانية في مجالات أخرى، لأنهم كانوا مدينين لهذه الدولة. وحتى يحافظ المغاربة على الدعم البريطاني الذي كانوا يتلقونه حتى حدود 1904، كانوا مجبرين على تقديم تنازلات. كان السيد موزس مونتيفيوري (Sir Moses Montefiori) وهو بريطاني يهودي مرموق، زار المغرب سنة 1864 بمساعدة درامندهاي، وتمكن من أن يحصل على ظهير من السلطان يتعهد بتحسين أوضاع اليهود في المغرب. أيضا ضغط البريطانيون على المغاربة لتوقيع الاتفاق التجاري لسنة 1856 والذي أجبرهم على التنازل عن قسط كبير من مداخيل الرسوم الجمركية التي كانت مصدرا رئيسا للعملات الأجنبية الضرورية لشراء السلع من الخارج بما فيها الأسلحة.
سؤال: هذه الاستراتيجية التي ارتكزت على المحافظة على الدولة التقليدية والاقتصار على الاحتفاظ لها بسلطات مقننة ومحاصَرة بدون السماح لها بأن تتحول إلى قوة حقيقية، هل كانت تقتصر على المغرب، أم أنها همّت دولا أخرى؟
رولمان: تميّز كل من المغرب وتونس بما قامتا به لدعم وتقوية عائلة حاكمة،الحسينيين في تونس والعلويين في المغرب. كلاهما شرعتا في القيام بإصلاحات متواضعة، كلاهما حاولتا الولوج للتجارة الدولية والاستفادة من سوق دولية متنامية، وحققتا بعض النجاح. الجزائر طبعا لم يكن لها ذلك، لم تكن لها حكومة مركزية، كانت لها إدارة تركية، انسحبت بمجرد أن نزل الفرنسيون في سيدي فروش شرق مدينة الجزائر وهزموا بسهولة الحامية العسكرية في العاصمة بدون مقاومة تذكر. يفسَّر ذلك بأن جل الجزائريين لم يكونوا يعبؤون بالداي المقيم في العاصمة. بالنسبة للمغاربة، من الواضح أن الداي كان مصدر إزعاج بالنسبة لهم، وكانوا يعتقدون أن الفرنسيين سيقتصرون على معاقبته عقابا بسيطا. لم يكونوا يتوقعون غزوا فرنسيا. بل إن الفرنسيين أنفسهم لم يكونوا يتوقعون الغزو. ولكن الأمر تغير بعد أن وصلوا إلى هناك في سياق تقلبات السياسة الفرنسية آنذاك، حيث إن الحكومة الفرنسية سقطت خلال بضعة أيام أو أسابيع بعد بداية الغزو. لقد كان الغزو استعراضا كبيرا، كان فرجة، إذ كان بالإمكان شراء تذكرة في باخرة لمشاهدة العرض. لم يكن أحد يتوقع أن يتعلق الأمر بحملة بهذا الحجم. كان الجميع يظن أن العملية العسكرية الفرنسية ستكون مشابهة لما قام به اللورد البريطاني إكسموت(Exmouth) سنة 1816 الذي لم يدم قصفه لمدينة الجزائر أكثر من يوم واحد. بدا الأمر في بداية الحملة الفرنسية كاستعراض للألعاب النارية. لكن الفرنسيين لم يلبثوا أن أنزلوا قواتهم، وهزموا الحامية العثمانية بسرعة، وزحفوا على مدينة الجزائر وألحقوا بها أضرارا بالغة، وقطّعوها تقطيعا، وهو موضوع نتوفر بشأنه على دراسات عديدة. بالمقابل، تراجع العثمانيون وسحبوا إدارتهم وجيوشهم بما فيها قوات الإنكشارية. ما كان يُعتَقد في البداية أنه ليس إلا استعراضا لقوة الفرنسيين، وسعيهم لإذلال السلطة العثمانية، وإجبارها على دفع بعض التعويضات، تحول إلى مغامرة عسكرية طويلة الأمد. ولم يلبث أن اكتشف المغاربة، والتونسيون أيضا، أن الأمر كان أعظم بكثير مما كانوا يتوقعون. في سنة 1832كان عبد القادر يعبئ أتباعه في وسط وغرب الجزائر، ويطلب المساعدة من دول إسلامية وعلى رأسها المغرب الذي استجاب بإرسال قوات إلى تلمسان ونواحيها، واستمر هذا الدعم حتى هزيمة إيسلي. لم تكن إيسلي معركة برية فحسب، إذ أن الفرنسيون فتحوا جبهة بحرية بعد أن قاموا بقصف طنجة والصويرة. لقد كانت الدول الإسلامية، وخاصة في شمال إفريقيا، عُرضة لكل الأخطار من الجهة البحرية. ومنذ انهيار نشاط القرصنة بعد 1818، فقدَ المغرب سلاحه البحري، وظلت دفاعاته الساحلية تقتصر على تقنيات متجاوزة تعود إلى القرن الثامن عشر. إن المدافع الصغيرة المعروضة في حصن روتمبورغ تعتبر نموذجا لما كان متوفرا في المغرب إلى حين قدوم المدفعيْن الألمانييْن، وتُظهر أن المغاربة لم يكونوا محصنين على الإطلاق من الجهة البحرية. ولهذا أتصور أنهم كانوا متحمسين جدا للحصول على أحدث الأسلحة الساحلية من ألمانيا. الكل كان يعرف أن الألمان يصنعون أسلحة ذات جودة عالية، وأنهم لا يبيعون خرداوات.
سؤال: كون أن المدافع تعطلت …
رولمان: كلا، المدافع كانت صالحة، لكن القاعدة الحاملة التي كانت تنزل عليها تصدعت.
سؤال: لكن المشروع نفسه لم ينجح. هل تعتقد أنه لو أن الحاملة لم تتصدع، وقذائف المدافع أُطلقت، كان سيكون لذلك تأثير على القوة العسكرية المغربية؟
رولمان: ربما. إن المدفعين قويان وكبيران بالقدر الذي يشكل خطرا جديا على البواخر العسكرية، والقوى الأوربية لم تكن تتردد في استعمال دبلوماسية مدافع البواخر العسكرية عندما تعتبر أن ذلك يخدم أهدافها. لكننا نتحدث عن مدفعين اثنين فقط، وفي الرباط وحدها، والتي كانت وقتها مدينة صغيرة، إذ لم تكن بعدُ عاصمة. لكن الرباط كانت لها تجارة نشيطة ونامية، وكانت المدافع ستحمي نهر أبي رقراق. وبالرغم من أن مصبه لم يكن صالحا لملاحة البواخر الكبرى عابرة المحيطات، لكن هذه البواخر كان باستطاعتها اللجوء إلى خدمات المراكب الصغيرة لنقل حمولاتها عبر النهر من البحر حيث تبقى راسية، بعيدة عن الرواسب التي تعرقل ملاحتها. لقد كان هذا موقعا ثمينا يستحق الدفاع عنه، وكان من مصلحة المغرب أن يحميه هو والسواحل المجاورة له.
سؤال: هل نعرف الأسباب من وراء اختيار هذا الموقع دون غيره، كطنجة مثلا؟
رولمان: ما كان البريطانيون ليسمحوا بأي مدفع ثقيل قادر على إصابة جبل طارق ليحط بطنجة.
سؤال: وهل هذه المدافع كانت قادرة على ذلك؟
رولمان: كان باستطاعتها أن تهدد البواخر في المضيق. ولذلك فموافقة بريطانيا عليها كانت مستبعدة بالمرة. التجارة كانت محصورة في الصويرة، ولكن في تسعينيات القرن التاسع عشر، أصبحت التجارة نشيطة في كل المناطق الساحلية، بما فيها أﮔادير. فقد أرسل الألمان باخرة حربية إلى أﮔادير، ولم تكن هذه المدينة تتوفر إلا على مدافع من مخلفات القرن السادس عشر. كانت أسلحة بدائية ومعطوبة لم تكُن لترغب في استعمالها خشية على سلامتك، بغض النظر عن قدرتها على أن تبلغ أهدافها. إلا أن الأوربيين كانوا يتعمدون المبالغة في تضخيم القدرات العسكرية للأنظمة الإسلامية، ويوظفون ذلك للحصول على تمويلات من برلماناتهم، بهدف توسيع الجيش والقيام بمشاريع تخدم مصالحهم. قاموا بذلك بالنسبة للهند وللامبراطورية العثمانية. في الجزائر كانت هناك حرب حقيقية استمرت حتى سبعينيات القرن التاسع عشر، وحتى بعد ذلك لم تتوقف الاشتباكات، بل ظلت تندلع بين الفينة والأخرى. ولكن الجزائر أصبحت جزءا من فرنسا وكانت ميزانيات وزاراتها مختلفة. بالنسبة للمغرب كانت الميزانية تابعة لوزارة الخارجية الفرنسية، ووزارة الدفاع كانت تدعم المستشارين العسكريين وتبعثهم إلى وزارة الخارجية. ولهذا فإن كل الوثائق المغربية انتهى بها الأمر إلى أرشيف مدينة نانت، لأن المحمية المغربية كانت تابعة إداريا لوزارة الخارجية الفرنسية. كان الأمر مختلفا في الجزائر، حيث كان هناك ممثلون في الغرف البرلمانية، وكانت للجزائر ميزانيتها الخاصة بها.
سؤال: لم يكن المدفعان الاثنان يشكلان أي تهديد للبواخر الأوربية، وكان المغرب يتوفر آنذاك على ساحل شاسع غير محمي، هل معنى ذلك أن دور هذين المدفعين كان رمزيا بالأساس، ولم يكن يشكل إعلانا عن تحول ذي أهمية في الاستراتيجية العسكرية للمغرب؟
رولمان: أوافقك على هذا الرأي. كان تأثيرهما رمزيا. عندما تنظر إليهما تحس بأنهما يجسّدان القوة. ولكنهما كانا يمثلان محاولة من طرف المغاربة لإرضاء الألمان، ومنحهم دورا في التدريب العسكري في المغرب، وهو ما كان يؤكد عليه القيصر الألماني. لا أعتقد أن المغاربة كانوا سيرفضون مدافع أخرى مثل هذين المدفعين، ولكن ذلك ما كان ليتحقق إذ لم تكن لديهم الإمكانيات المالية لاقتنائها. في سنة 1911 تراكمت على المغاربة ديون كثيرة، ولم يكن أي أحد يرغب في منحهم قروضا إضافية، ولو حصلوا على قروض جديدة، فإن الفرنسيين كانوا يتوقعون أن تزداد سيطرتهم على الاقتصاد، وكان هذا الأمر يطبّق على بقية بلدان البحر المتوسط. في الوقت الذي تكون الدولة مدينة، تكون هناك لجنة تتكون من الدول الدائنة لمراقبة الميزانية، وتتحول إلى وزارة المالية الفعلية، تحدد أولويات دفع مستحقات الديون الخارجية قبل الحاجيات المحلية. كان هذا الأمر ينطبق على المغرب أيضا.
سؤال: إن مصير مشروع روتمبورغ يفسَّر بالسياقين الوطني والدولي، لكن فشله عمليا يعود إلى أن القاعدة التي وضع عليها المدفع والتي كانت من صنع المغاربة لم تكن ثابتة بالشكل المطلوب؟
رولمان: هذا هو فهمي للمسألة. ولم يقم المغاربة بأي مجهود لإصلاح العطب. ومباشرة بعد ذلك، تقلص دور الألمان، إذ ابتداءا من 1905 و 1906 أصبحت ألمانيا تركز على قضايا أخرى، وعلى تشييد أسطولها، ولم أقرأ عن أية محاولة بذلتها شركة كروب لبيع مدافع ساحلية.
سؤال: حمل الحصن إسما فرنسيا في فترة ما، حصن إيرفي، أليس كذلك؟
رولمان: لم تقدني أبحاثي إلى أن أبحث في هذا الموضوع، لكني اكتشفت مؤخرا أنه خلال الحرب العالمية الأولى سعى الفرنسيون إلى محو كل الإحالات الجرمانية لحصن روتمبورغ، فأطلقوا عليه اسم القبطان إيرفي (CapitaineHervé)، وهو طيار فرنسي قُتل بعد أن أسقطت طائرته في نواحي مدينة تازة في أبريل 1914، خلال الحملة الفرنسية على قبائل تلك المنطقة. وعندما جئت إلى المغرب منذ عدة سنوات، فوجئت بأن الحصن كان لا يزال يحمل إسم إيرفي، (Fort d’Hervey)، كان ذلك في الوقت الذي اتخذته مجموعة من الأسر مسكنا لها، وكان يشبه سكنا عشوائيا مصنوعا من الإسمنت.
تعقيب: فعلا لقد كانت تسكن الحصن حوالي سبع أو ثمان عائلات، وأحد العمال الذين يشتغلون في الحديقة المحيطة بالحصن كامتداد لعملية الترميم، أخبرني أنه ولد في الحصن، وأن تلك الأسر تم ترحيلها. أظن أن الحصن استرجع اليوم لأول مرة اسمه الأصلي منذ بنائه، روتمبروغ، وهو الإسم المذكور في خريطة المتاحف التي تستضيف معارض البيينال.
رولمان: إلى حين زيارتي الأخيرة هاته، لم أر من قبل إسم روتمبورغ مرتبط بهذا الحصن. هذا أمر جديد. سأكون مهتما بأن أعرف هل حضر لافتتاح المعرض ممثل عن السفارة الألمانية.[2] أتصور أن الألمان وشركة كْرُوب ستكون مستاءة من عدم دعوة من يمثلها لافتتاح الحصن في شكله الجديد. لقد كانت شركة كْرُوبْ، كما هو الأمر بالنسبة لمدفع الـﮝـلاوي، وغيره من المدافع التي باعتها لمولاي الحسن الأول، تبحث عن أسواق جديدة، خاصة لمدافع كبيرة كمدافع الحصن، لكن ونحن نتجاوز سنوات بداية القرن العشرين، صار صناّع السلاح الألمان يقتصرون على صنع أسلحة لدولتهم، وعلى المدافع المخصصة لبواخرها العسكرية. لو أن معرض السلاح في فاس مفتوح للعموم، سأكون مسرورا جدا بزيارته، لأني أعرف أنه يتوفر على أسلحة متنوعة. لقد كانت شركات أسلحة متعددة تزور المغرب، وتقدم عيّنات من سلعها للسلطان بهدف بيعها له. عدد كبير من هذه الأسلحة لم تحصل على موافقة الفرنسيين أو البريطانيين. كان مولاي عبد العزيز يتعرض للسخرية لأنه ملَك سكة حديدية عصرية، وآلات للتصوير، ولُعبا، ولكن الشركات كانت تسعى لتبيعه أسلحة أيضا. لست متأكدا من أنه كان يهتم بالبنادق والمسدسات، ولكنه بالتأكيد كان يرغب في البقاء على قيد الحياة، وكذلك كان الأمر بالنسبة لبّا احماد، ولذلك فلا شك أنهما اشتريا السلاح. ماكْلِينْ بدوره كان مهتما بالحفاظ على النظام المغربي، وهو بالتأكيد اشترى الأسلحة للوحدات العسكرية التابعة لإمرته.
تعقيب: في زيارتك المقبلة، سنحاول زيارة متحف الأسلحة في فاس إذا أمكن ذلك.
رولمان: سيكون من المفيد معرفة معروضاته. ولا شك أنه يحتوي على أسلحة من صنع المغاربة، بالإضافة إلى الأسلحة المستوردة. إن أفضل متحف للأسلحة المغربية يوجد في قصر الدوق دومال(Duc d’Aumale) في شانتيي (Chantilly) شمال باريس. الدوق دومال كان قائدا في إيسلي، وعندما انتصر الفرنسيون على عبد القادر غنموا أسلحة كثيرة، وهي أسلحة في حالة جيدة، كما عاينتُ ذلك عندما زرتُ المتحف في نهاية الستينات.
تعقيب: شكرا جزيلا، وأنا جد مسرور كون أن زيارتك هاته صادفت افتتاح الحصن.
رولمان: أنا أيضا مسرور بذلك حقا، ولم أكن أتوقع تماما أن تتاح لي هذ الفرصة الثمينة.
حوار وترجمة: عبد الحي مودن
[1]Wilfrid J. Rollman, The “New Order” in a Pre-colonial Muslim Society: Military Reform in Morocco, 1844-1904, The University of Michigan, 1983.
[2]الحصن كان يعرف ببرج لكبير. وأكد مسؤول عن معارض بيينال الرباط أن الألمان لم يتم استدعاؤهم للحضور لتدشين الحصن بعد ترميمه.