الأربعاء , 19 فبراير, 2025
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » العنف والسياسة بين الإمبراطورية والدولة القومية

العنف والسياسة بين الإمبراطورية والدولة القومية

Béatrice Hibou & Mohamed Tozy, Tisser le temps politique au Maroc : Imaginaire de l’Etat à l’âge néolibéral, Paris, Karthala, 2020.

كتاب نسج الزمن السياسي يعبر عن الشعور السائد في حقل العلوم الاجتماعية بعدم الرضى عن الأدوات والمقاربات المتداولة في معالجة النظام السياسي المغربي، بل وفي تحليل السياسة بصفة عامة. ويتميز بطموحه في طرح بدائل لهذه المقاربات، وبتقديم منافذ لتجاوز ما يمكن اعتباره ركوداً أو أزمة نظرية في فهم السياسة المغربية، وفي تعميق فهم موضوع السيطرة.  ويتميز المؤلَّف بالجرأة على تجاوز المفاهيم النظرية التي شكلت ركائز التحليل السياسي، ليس فقط للنظام السياسي المغربي، بل للسياسة عموما، ألخِّصها فيما يلي:

– تجاوز وحدات التحليل: الدولة-الأمة باعتبارها الوحدة السياسية الرئيسية؛

– تجاوز تصنيف الأنظمة السياسية إلى تقليدية، وكاريزمية، وعقلانية-شرعية؛

– تجاوز تصنيف السلطويات إلى سلطويات مُلَبرَلة (liberalisé)، وسلطويات تنافسية، وسلطويات هجينة؛

– تجاوز فكرة الانتقال الدمقراطي؛

– تجاوز التحقيبات التاريخية المتداولة للسياسة، وهي بالنسبة للمغرب: تحقيب ما قبل الاستعمار، والاستعمار، وما بعد الاستعمار؛

– تجاوز تصنيفات الفاعلين السياسيين: تقليدي/حداثي، تقدمي/محافظ، ناهيك عن يميني/يساري؛

– تجاوز التعريف الفيبيري (Weberien) المتداول الذي يركز على بُعد العنف في مفهوم الدولة.

يمكن قراءة الكتاب كجواب على مأزق تصنيفات الأنظمة السياسية التي عرفت قائمة طويلة من التفرُّعات منذ مقال خوان لينز  (Juan Linz) الصادر في منتصف السبعينيات  ن القرن العشرين الذي ابتكر مصطلح النظام السلطوي كصنف من الأنظمة السياسية متميز عن النظام الشمولي.  ثم تتالت بعده تصنيفات جديدة على غرار الأوتوقراطيات الملَبرلة، والباتريمونياليات الجديدة، والسلطويات الانتخابية، والأنظمة الهجينة، والسلطوية “المحسّنة” (upgraded authoritarianism)، إلى درجة أصبحت فيها هذه التفرُّعات عقيمة على المستوى النظري، وغير مفيدة عمليا.  وازدادت تصنيفات الأنظمة السياسية تشتتاً بعد أزمة الديمقراطية في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وظهور مفاهيم الشعبوية والديمقراطيات اللا-ليبرالية، وبعد انسداد آفاق التغيير الذي ظل يهيمن عليه اقتناع راسخ لدى العديد من المحللين بتوجه أحادي شبه حتمي لجميع الأنظمة السياسية في العالم نحو الدَّمَقْرطَة في ظل العولمة.

يغامر الكتاب بطرح منفذ جريء على المستوى النظري لتجاوز هذا المأزق، يرتكز على إعادة النظر في كل الأدوات التي ظلت متداولة في فهم السياسة الحديثة، انطلاقاً من الوحدة السياسية الرئيسية التي هي الدولة-الأمة.  ليست هذه هي الوحدة الوحيدة في الساحة، يقول الطوزي/ هيبو، بل هناك وحدة أخرى، كانت موجودة في الماضي، وبالرغم من أنها اعتُبرت من الديناصورات السياسية المنقرضة، إلا أنها لا زالت حية ترزق، بل هي في المغرب، تشتغل بكامل عنفوانها.  هذه الوحدة هي الإمبراطورية التي يضعها الكتاب في نفس مستوى الدولة-الأمة، ويعتبرهما نموذجين ذهنيين (idéaltype) ترتكز عليهما أطروحة الكتاب لتحليل المسار السياسي في زمنه الممتد، وأيضا كأداة تسمح بمقارنة نمط السيطرة في المغرب بغيره.

يعرض الكتاب هذه المقاربة التي تتميز بالجِدّة وبالطموح النظري بتركيزه على حالة المغرب ومن خلال تفكيك مجهري لآليات السيطرة السياسية في الحياة اليومية، والتي يحللها في سياق زمن سياسي مفتوح لا يخضع لأي تحقيب، كما نتوقع من أي نموذج ذهني.  تقول الأطروحة إن السيطرة السياسية في المغرب تعكس نموذج الإمبراطورية التي تتميز بكونها باراديغما يرتكز على الاشتغال في إطار التنوع والاختلاف والتعددية، وعلى علاقات ترتبط بالأفراد أكثر مما ترتبط بالحدود الترابية، في الوقت الذي يعتمد فيه باراديغم(paradigme)  الدولة-الأمة على الوحدة والانسجام داخل نطاق ترابي محدود ومُحدّد.

إن كل فكرة يقدمها الكتاب، وكل مصطلح يوظّفه، يشكل رداً نقدياً على تقاليد التحليل السياسي التي راكمها علم السياسة على المستوى الدولي بصفة عامة، وعلى مستوى المغرب بصفة أخص.  يختار مصطلحات مرنة لا تحصر المعنى في مفاهيم تبدو بديهية لكنها ليست كذلك. فعوض النظام السياسي يطرح “شكل السيطرة”، ومقابل التغيير أو الانتقال يقدم “العبور” (passage)، وبدَل صنف النظام السياسي يعتمد “الوضعية” (situation).  وبهذه المصطلحات، يبقى شكل السيطرة شاملاً للأنظمة السياسية بكل أصنافها سلطوية كانت أم شمولية أو ديمقراطية. والعبور يمكن أن يكون في أي اتجاه، وبدون أن يخضع لحقب تاريخية محددة، أو لمراحل انتقال سياسي نوعي.  وتتبنى هذه المصطلحات حياداً أخلاقياً صارماً، على النمط الفيبيري، بحيث إن “شكل السيطرة” و”العبور” و”الأوضاع” لا تحمل أي حكم قيمة، وتخلو منها معايير التقدم والتأخر، أو الحداثة والتقليد، التي ظلت مركزية منذ عصر الأنوار، ويختفي فيها سُمو النظام الديمقراطي على غيره، وهي القناعة التي ظلت مهيمنة منذ نهاية الحرب الباردة على المستوى الدولي وحتى عهد دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي الذي تمرَّد على كل الأعراف التي شكلت المادة الأولية لفهم وتبرير ممارسات الديمقراطية.

يعتبر الكتابُ المغربَ نموذجاً للسيطرة الإمبراطورية بالرغم من التداخل بينها وبين السيطرة الدولتية، خاصة في السنوات الأولى للاستقلال، التي تميزت بهيمنة النموذج الدولتي، مقابل هيمنة النموذج الإمبراطوري منذ منتصف السبعينيات.  هذا التداخل يقع أيضاً في نفس الفترة التاريخية؛ ففي أواخر الخمسينات طغى على تدبير تمرد عدي أوبيهي النموذج الإمبراطوري، بينما تم القضاء على انتفاضة الريف في نفس الفترة بأدوات الدولة-الأمة.

بعد هذا التقديم المختصر لأطروحة الكتاب، سأركز فيما تبقى من هذه الورقة على قراءة الفصل المتعلق بالعنف، لاهتمامي بهذا الموضوع بشكل أخص، وكمساهمة في توضيح عناصر الأطروحة بشكل أدق، ولمساءلة مدى مساهمتها في فهم هذا الموضوع السياسي الشائك.

ينطلق المؤلِّفان من فكرة مفادها أن العنف لا يشكل بُعداً مركزياً في السيطرة، وهو ما حدا بهما إلى الاستغناء عن التعريف الفيبيري الذي لا يخلو منه أي مقرَّر في العلوم السياسة، والذي يعتبر الدولة المؤسسة التي تحتكر العنف، وإلى تبنّيهما لتعريف فيبيري غير متداول للدولة، يغيب فيه العنف كمقوِّم أساسي للدولة، وتبرز بدَلَه شبكات من العلاقات يوحد بينها “إيمان الناس بالقواعد كممارسة أو كفكرة مثالية، وقبولهم الطوعي بالسيطرة المشروعة”(ص. 12). يروم اختيار هذا التعريف إلى تحويل تركيز الاهتمام في تحليل دعائم السلطة (Les fondements du pouvoir) من بُعد العنف، إلى أبعاد أخرى هي في الكتاب: تمثيلية المجتمع ونخبته في مؤسسات الدولة (الفصل الأول)، والكيفية التي تمارس بها السلطة مسؤولياتها تجاه المجتمع (الفصل الثاني).  يشكل العنف الدعامة الثالثة لمقومات السلطة، لكنه بالنسبة للمؤلفَين لا يمثل إلا دعامة إضافية، تكاد تكون هامشية. في كتاب رئيسي لهيبو حول تشريح الاستبداد[i]، لا تعتبر المؤلِّفة العنف داعماً رئيسياً للاستبداد، وفي مقال نشره الطوزي وهيبو سنة 2015 كنص مؤسس للمشروع النهائي الذي بين أيدينا اليوم بعنوان “قراءة فيبيرية لمسار الدولة في المغرب”[ii]، يغيب موضوع العنف كلية، ولم يُضَف إلا لاحقاً كبعد ثالث للسلطة، كما صرّح بذلك الطوزي شفوياً. لا أعتبر أن هذا الأمر يمثل مشكلة، بل على العكس من ذلك، إن التركيز على الطابع العنيف للأنظمة السلطوية كثيراً ما يؤدي إلى إهمال جوانب أخرى من السيطرة غير المرئية والتي تتطلب تحليلاً مدققاً، كما يعرضه هذا الكتاب.  أضيف أيضاً أن قراءة العنف عندما تعطي الأولوية لأحكام القيمة لهذا السلوك المشين، يكون ذلك على حساب الدقة التي يتطلبها التحليل ذو الطموح التنظيري.

إن إحدى النتائج الأولى التي قد تبدو غير متوقعة، والتي تبرز في معالجة العنف في إطار النموذجين الذهنيين في حالة المغرب، هي أن بنيات وخصائص الدولة-الأمة تؤهلها لتوظيف العنف بشكل أكبر من الإمبراطورية، بحكم هَوَس الدولة الأولى بترسيخ التوحيد والإدماج والانسجام، على عكس الإمبراطورية التي تتعايش بتلقائية مع تعددية الأنظمة القانونية والإثنيات والجماعات الدينية، ولا تشترط السيطرة الترابية بقدر حرصها على الحفاظ على روابطها مع الأفراد.

وهكذا، فحالات العنف المشهورة في تاريخ المغرب منذ الاستقلال تُقرأ على أنها تعكس نموذج الدولة-الأمة، مثل الصراعات الحزبية في مطلع الاستقلال، أو قمع انتفاضة الريف في نهاية الخمسينات، أو المواجهة مع المعارضة حتى منتصف السبعينات.  بعد هذا التاريخ، يقول الكتاب إن العنف لم ينته، بل اتخذ طابعا آخر، هو عنف الإمبراطورية المتمثل في “الهيبة”، والذي هو أقرب إلى العنف البنيوي على المستوى الثقافي والرمزي، رغم أنه لا يخلو بدوره من قسوة.  والنماذج التي يذكرها الكتاب في هذا الباب هي الطريقة التي عاقب بها الحسن الثاني مستشاره عبد الهادي بوطالب سنة 1996، أو فنان الكوريغرافيا زينون سنة 1980، أو استعمال مرجعيات دينية في معاقبة عبد الرحيم بوعبيد سنة 1981، أو فرض طقوس تقليدية في معاقبة الإدريسي القيطوني مدير جريدة لوبينيون وفي العفو عنه سنة 1989.

إن الأمثلة التي يذكرها المؤلِّفان تُظهر هيمنة “الهيبة،” كحالة من العنف الإمبراطوري، والذي هو بالأساس عنف رمزي أكثر منه عنف مادي جسدي، بالرغم من أنهما لا يقللان من الآلام التي يخلفها.  وهما اعتبرا أن مقاربة “هيئة الإنصاف والمصالحة” للعنف في المغرب في فترة ما بعد الاستقلال اقتصرت على العنف المادي كما تُعرِّفه المرجعيات القانونية الدولية التي تهم الدولة-الأمة، وأنها (أي الهيئة) بإغفالها للعنف الامبراطوري أغفلت الآلام التي خلّفتها “الهيبة” خلال هذه الفترة.

لا يقتصر الفرق بين العنف الإمبراطوري وعنف الدولة-الأمة على الفاعل، منتج العنف، بل يجده الكتاب أيضا في المعنى الذي تعطيه الضحية لهذا العنف. إن تَلقي العنف الامبراطوري وتأويله يختلف من باراديغم إلى آخر.  فالعنف الإمبراطوري، يقول المؤلفان، لا يخلو مثلاً من بُعد التقديس، بينما العنف الدولتي يظل عنفاً إدارياً مادياً بالأساس: “إن الخوف من المخزن لا يشبه على الإطلاق الخوف من نظام بوليسي، إنه ينطوي أكثر على إحساس بالاصطدام بالمقدس”(ص. 239).

هذه بكل تأكيد قضايا مثيرة تدعو إلى النظر للموضوع من زوايا جديدة، أهمها تجاوز قراءة العنف كفعل منسجم يخضع لمنطق واحد.  وإحدى المساهمات الأكثر أهمية لهذا الكتاب هو تجاوزه للتحاليل السائدة التي ظلت تربط العنف بموروث المؤسسات والممارسات التقليدية السابقة للدولة-الأمة.  يقدم الكتاب بدل ذلك تحليلا مركّبا لعنف الدولة المغربية في مغرب الاستقلال يعكس تارة عناصر العنف الامبراطوري وتارة أخرى ملامح عنف الدولة-الأمة.   وهذان الشكلان، العنف التقليدي والعنف الحديث، يختلفان سواء في محتواهما، أو في درجة حدتهما، وهي مقارنة أوضحَتها دراسات عن هذا الموضوع على غرار كتاب الحداثة القاسية للكاتبة جين فرانكو.[iii]  إن العنف الحديث بالنسبة لفرانكو يسعى لخلق إنسان جديد، مستعملا في سبيل ذلك كل الوسائل لإزالة العوارض والمقاومات التي تحول دون تحقُّقه، بينما العنف التقليدي يبرر أهدافه كممارسة تسعى للحفاظ على النظام القائم والحيلولة دون تغيره، أو لإرجاع الأمور إلى وضعيتها الأصلية.  ومن هذا المنظور، يمكن التمييز بين تاريخ العنف السياسي في المغرب عن عنف أمريكا اللاتينية مثلا منذ فترات الاستعمار، الذي كان في تلك القارة أشد قسوة وفظاظة بكل المقاييس في إبادة السكان المحليين، باسم الحداثة وضروراتها.  وفي الفترة المعاصرة، عندما كانت الأنظمة العسكرية في أمريكا اللاتينية ونظام الحسن الثاني يتشابهان في محاربتها للشيوعية، اعتُبر شُيوعيو أمريكا اللاتينية حاجزاً ضد توسع الرأسمالية الحديثة، بينما اتُّهموا في المغرب بكونهم حداثيين ملحدين يطمحون لتغيير تقاليد وثقافة البلاد المتوارثة.

إن تصنيف الكتاب للعنف إلى عنف دولتي وعنف امبراطوري يعترف بالتداخل بينهما، إلا أن هذا التداخل متشابك لدرجة لا يسمح بالتمييز بينهما بشكل مقنع، خاصة وأن معرفتنا بممارسات العنف في الميدان، وفي الحياة اليومية للزنازين والسجون وساحات المواجهات العنيفة، تبقى مقتصرة على توثيق تقريبي هش.  كما أن الأجهزة التي تكلفت بممارسة العنف وجلاديها في مغرب الاستقلال هم بالأساس نتاج لمؤسسات وخبرات حديثة تم اكتسابها من تجارب دول متقدمة بما فيها الدولة الاستعمارية الأم، فرنسا.  ويشكل الجنرال أفقير الذي يعد النموذج الأبرز لجلادي سنوات الرصاص، نموذجاً لا يختلف عن أمثاله في الدكتاتوريات الحديثة.  وقراءة” الهيبة” كخاصية للعنف الامبراطوري لا تخلو من صعوبات، إذ يمكن اعتبارها شكلاً من أشكال العنف البنيوي المتداول في الحياة اليومية في الدول الوطنية أيضاً.  وهكذا إذا ما عدنا إلى حالة الفنان زينون، فإن رفض المشاريع الفنية في دول وطنية من طرف الهيئات الراعية للفنون تخلف آلاماً عميقة لدى الفنانين الذين تُرفض مشاريعهم إلى درجة تقود أحياناً إلى الكآبة بل وإلى الانتحار.

ثم إن اعتبار “الهيبة” عنفاً بشكل مجرد، يخفي الفوارق المتباينة في مظاهرها.  هل “الهيبة” فعل واحد، أم هي درجات؟  هل القسوة الشديدة هي بمثابة “الهيبة”؟ هل جحيم تزممارت يضاهي تعنيف زينون؟ إن البحث عن إجابات لمثل هذه الأسئلة هي التي قادت إلى ابتكار قاموس المصطلحات في تعريف العنف على المستوى الدولي وتصنيفه كالإبادة، والجرائم ضد الإنسانية، والانتهاكات الجسيمة، في الوقت الذي تبقى فيه “الهيبة” وما تخلفها من نتائج كما يعرضها الكتاب، مفهوماً فضفاضاً قابلاً لتأويلات متضاربة.

لقد قدمت هيبو في خاتمة مؤلَّفها عن التشريح السياسي للسيطرة نقاشاً مفيداً حول التشابه بين الأنظمة الاستبدادية والأنظمة الديمقراطية، وأبرزت مقاربتُها المتميزة في نفس الوقت الفوارق بين هذه الأنظمة.  ولربما كانت هناك حاجة إلى التذكير بهذا الموضوع في صفحات هذا الكتاب الجديد، بل وإلى تحيينه على ضوء تصاعد الشعبويات والديمقراطيات اللا-ليبرالية منذ 2011، تاريخ صدور ذلك الكتاب الذي أتأسف لكونه لم يحظ بالانتباه الذي يستحقه.

تأويل العنف كـ”هيبة” من خلال منطق الإمبراطورية وربطه بالمقدس، كما يطرح الكتاب، لا نجده في شهادات ضحاياه، ولا في التعابير الفنية حوله، كالسينما والرواية والشعر أو الفنون التشكيلية.  قد يكون تفسير ذلك هو أن فناني المغرب تأثروا بأشكال التعبير المعولمة حول آلام العنف السياسي الحديث.  لكننا لا نجد أثراً يذكر للمقدس لدى الضحايا العاديين أيضاً.  فعلى سبيل المثال، عائشة أوحرفو، أخت فاظمة أوحرفو التي توفيت ضحية أحداث 1973 في الأطلس المتوسط، في شهادة جد مؤثرة في جلسات الاستماع العمومية التي نظمتها “هيئة الإنصاف والمصالحة” سنة 2005، تعتبر مقتل أختها ظلماً متنافياً مع قوانين الطبيعة، وفي ترجمة تقريبية لشهادتها التي قدمتها بالأمازيغية، تقول بنبرة مستنكرة لا تعبِّر عن أي اصطدام بالمقدس: لا أحد له الحق في وضع حد لعمر الإنسان.

لكن يبدو أن الإشكال الأكبر في التمييز بين العنفين ينطلق من قراءة أحادية للعنف الدولتي الحداثي باعتباره يعكس ما سمّته حنا أرنت الشر العادي (la banalité du mal)، أي عنفاً بيروقراطياً ينفِّذ فيه الجلادون تعاليم الرؤساء بشكل ميكانيكي.  العنف الإمبراطوري بالمقابل لا تحدده مساطير مضبوطة، بل تتداخل فيه الحسابات المتنوعة المرتبطة بالعلاقات بين الأفراد، إلى درجة يصبح فيها سلوكاً متقلباً بل ومتناقضاً وقابلاً لأن يتحول من القسوة إلى العفو المفاجئ أو العكس.  لكن الانتقادات الكثيرة لفكرة الشر العادي، والتي لا تزال تتكاثر إلى اليوم، تبرز أن عنف الدولة-الأمة، في أوضح وأخطر تجلياته في حالة ألمانيا النازية، لم يخضع لمسطرة بيروقراطية عقلانية، بقدر ما عكَس مشاعر الرفض المطلق للآخر عندما يتحول هذا الآخر إلى عدو مطلق.  وهذه المسألة ليست نتاجاً لحسابات الدولة-الأمة فحسب، بل هي أيضاً مرتبطة بمشاعر الكراهية والغضب والانتقام، نجدها في العنف الدولتي كما نجدها في العنف الإمبراطوري، وهي مقاربة يمكن أن توظَّف لإعادة قراءة العنف الإمبراطوري المغربي سواء في المعتقلات السرية (وعلى رأسها تزممارت)، أو في معاقبة المعارضين، أو في تدبير الاحتجاجات.

إن الكتاب الذي اشتهر بطرح مفهوم الإمبراطورية مجدداً للنقاش النظري في بداية القرن الواحد والعشرين هو الإمبراطورية الصادر سنة 2000 لمؤلفيه مايكل هارت وأنتونيو نيكري اللذان اعتبرا أن الإمبراطورية على مستوى العالم المعولم تعلن نهاية الدولة-الأمة.  لكن الأمر بالنسبة لكتاب الطوزي/ هيبُو يتعلق بإمبراطوريات متعددة، رغم أننا نبقى عاجزين عن معرفة ما هي باستثناء حالة المغرب، وهل هي بعد “البْريكْسِيت”(Brexit)  وأزمات الاتحاد الأوربي والعودة القوية للقوميات الوطنية، في طريقها للانقراض أم للتزايد، وهل سياسات دول مثل الصين وروسيا وتركيا وسعيها لإعادة النظر في حدودها الترابية مؤشر على توجه إمبراطوري أم دولتي؟

إن الحياد القيمي الفيبيري الصارم لا يمنع من أن السياسة، كما يعرفها كارل شميت، تظل في نهاية الأمر صراعا بين أعداء وأصدقاء. وهؤلاء لا تبرز هوياتهم في البارديغم الإمبراطوري المغربي كما يطرحه الكتاب.  إن حياد فيبير لم يلغ كون تصنيفاته المثالية كانت تحمل معاني ومواقف لا تخلو من محتوى قيمي. أين يمكن أن نعثر على هذه المواقف عند الطوزي/ هيبو؟  ربما في كون بروز الفرد الحديث المُتشبث بالدفاع عن استقلاليته في قلب الإمبراطورية المغربية يخلق وضعية سياسية جديدة واعدة، وهو التوجه الذي لا يخفي المؤلفان تعاطفهما معه، مقابل التعصب الأعمى للمحافظين الإسلاميين الذين يبرزون في خاتمة الفصل المخصص للعنف، باعتبارهم يمثلون العدو السياسي للمرحلة.  هل الأمر كذلك؟

لقد رفض المؤلفان استعمال مصطلح المخزن لأنه عن حق غارق في المحلية، لا يسمح بالقيام بمقارنات بين المغرب وغيره من الأنظمة.  إن مصطلح الإمبراطورية يسعى ليحرر فهم السياسة المغربية من هذا المأزق النظري، لكننا بعد انتهائنا من قراءة الكتاب نجد أنفسنا في حاجة ماسة إلى نماذج أخرى للإمبراطوريات.   هذه النماذج ضرورية لتساعد ليس فقط على تعميق التنظير للنظام المغربي وتصور مستقبله، بل أيضاً على اكتشاف الديناميات المجهرية التي تساهم في مقاومته، والتي لا نملك في شأنها إلا معرفة ضبابية مترددة.

 

[i]بياتريس هيبو، التشريح السياسي للسيطرة، بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2017.

[ii] Béatrice Hibou & Mohamed Tozy, « Une lecture wébérienne de la trajectoire de l’Etat au Maroc », Sociétés politiques comparées, 37, sept.-déc. 2015, pp. 1-22.

[iii]Jean Franco, Cruel Modernity, Durham: Duke University Press, 2013.

 

- عبد الحي مودن

باحث في العلوم السياسية

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.