رواية “حبس قارة”* هي الرواية الخامسة في السجل السردي للأستاذ سعيد بنسعيد العلوي بعد رواياته: “مسك الليل” (2010)، و”الخديعة” (2011)، و”ثورة المريدين” (2016)، و”سبع ليال وثمانية أيام” (2017). ويبدو أن الروائي قد شق طريقه في مجال السرد الروائي بحكم انتظام إنتاجه فيه مع بداية العقد الثاني من هذا القرن. وبذلك يكون الأستاذ سعيد بنسعيد العلوي قد استعاد عشقه القديم للسرد الروائي الذي يقول عنه: “الحق أنني أحمل هاجس الكتابة الروائية منذ زمن بعيد… وجدتني قارئاً نهماً للرواية، فعشقي للرواية قديم في الواقع”1. ولا شك أن الكتابة السردية قد أسعفت المؤلف بعد أن مارس الكتابة الفكرية والفلسفية والتاريخية والسياسية والثقافية، وما يزال، مما أغنى ويغني سجلات لغته السردية بتلك المعارف المختلفة والمتنوعة، عند حبكها في حكايات ولغات سردية فنية متخيلة.
قد تكون رواية “حبس قارة” من الروايات التي ظهرت فيها أكثر تلك السجلات المعرفية المختلفة والمتنوعة لما سعى المؤلف إلى ترسيخ مرجعية عالمه السردي الذي يتخذ من التاريخ أو الرحلة خلفيته التي يبني عليها بعض رواياته، مثلما تجلى ذلك في روايتيه: “ثورة المريدين”، و”سبع ليال وثمانية أيام”. ولكنه في رواية “حبس قارة” حاول أن يوسع خلفيات سرده ليجمع بين التاريخ وفن الرسم والسياسة، مما جعله ينوع محكيات سرده التي تمثلت في المحكي الرحلي، والمحكي الذاتي، والمحكي التاريخي والمحكي السياسي، والمحكي الاستقصائي، ومحكي المدينة. وحتى يتمكن المؤلف من تسريد كل ذلك، لجأ إلى تقنية التضمين الحكائي وتفريع الحكي، واستعمال التوازي الحكائي الذي يقوم على التناوب بين مسار حكائي وآخر. وقد وجد المؤلف في التجريب الروائي ما يسعفه على تنويع محكياته وتفريعها وتجاوز وحدة مسار الحكي.
تقوم الحكاية الإطار في رواية حبس قارة على رغبة السارد، عبد الجبار، في إنجاز بحث تاريخي في نهاية تخرجه في سلك الإجازة من شعبة التاريخ بكلية الآداب بالرباط في سبعينيات القرن العشرين. وكان مشروع بحثه يدور حول “الأسرى الأوروبيين في حبس قارة في عهد السلطان مولاي اسماعيل”؛ فحاول جمع مادة بحثه، وما يتصل بها من المخطوطات والوثائق والكتابات التاريخية. ولكن وفاة والد السارد، مولاي البشير، في أواخر السنة الجامعية، وفي موسم الامتحانات، تأجل البحث عندما عاد السارد إلى دار أهله بمكناس لحضور مراسم العزاء. ومن غرفة والد السارد، بؤرة الحكي، يتوزع السرد ويتفرع ويتشعب وإليها يعود، من خلال عرض الأثاث الموجود فيها ووصفه وصفاً مكثفاً دقيقاً، وبواقعية بصرية شفافة ترخي العنان للذاكرة القريبة والبعيدة، وللتخييل المتناسل، وفي يده حزمة من مفاتيح والده التي هي أيضاً من مفاتيح الرواية وتنوع سردها وحكاياتها، وتعدد لغاتها.
ينطلق السرد من اللوحات المعلقة على جدران غرفة الوالد، إلى جانب أشياء أخرى، وبخاصة لوحة السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام ممتطياً جواده الأدهم أمام قصره بحاضرة ملكه مكناس، وهو يستقبل بعثة ملك فرنسا لويس فيليب (1773- 1850) في مهمة دبلوماسية وسياسية سنة 1832. وهي من اللوحات المشهورة للرسام الفرنسي أوجين دولاكروا (1798- 1863)، التي خلد بها تلك الزيارة. وتكون هذه اللوحة، بشكل خاص، مع لوحات أخرى للسلطان مولاي اسماعيل وغيرها، مدعاة لحكاية أخرى موازية للأولى، هي حكاية الرسام الفرنسي أوجين دولاكروا، والبعثة الفرنسية التي يوجد ضمنها مع رئيس البعثة الكونت دومورناي وبعض الأعضاء الآخرين.
يتخذ السرد مساره بالتناوب بين حكاية السارد عبد الجبار ومشروع بحثه التاريخي حول حبس قارة، وبين حكاية رحلة دولاكروا إلى المغرب. وعن هاتين الحكايتين تتفرع سرود صغرى تؤثث مسار السرد العام في الرواية. وقد مكنت هذه التقنية السردية التضمينية التي تجمع بين الاتصال والانفصال في السرد من تتبع مسار كل حكاية في تفاصيلها وبلغات شخوصها في تنوعها وعفويتها كذلك. فوزع المؤلف فصول روايته إلى اثني عشر فصلاً، يشتمل كل فصل على مرحلة من مراحل المسارين باستثناء الفصل الأخير الذي جمع بين المسارين. تبعاً لتطور الحكاية الإطار زمنياً، زمن الحكاية، التي تحكي عن مشروع السارد حول حبس قارة وما استتبعه من أحداث، وتبعاً كذلك لتطور الحكاية المتضَمَّنة والمصاحبة للحكاية الإطار المتمثلة في تطور مسار رحلة الرسام دولاكروا إلى المغرب في الرواية ضمن البعثة الفرنسية الدبلوماسية إلى السلطان، من يناير إلى أواخر مارس من سنة 1832، حسب زمن الرواية.
لقد استطاع المؤلف من خلال المراوحة بين حكاية السارد ومشروعه العلمي، وحكاية أوجين دولاكروا داخل البعثة الفرنسية أن يقدم لنا في الرواية عوالم كل مسار وفضاءاته وشخوصه التي تتركز أساساً على فضاء مدينة طنجة ومدينة مكناس ووليلي في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، من جهة، وملامح من عالم السارد المعاصر في سبعينيات القرن العشرين. ويمكن أن نميز في هذه الرواية مسارات محكيات كبرى أساسيةـ أهمها: مسار المحكي الخاص بالسارد ومشروع بحثه حول حبس قارة، ومسار محكي الرسام دولاكروا في المغرب. بالإضافة إلى محكيات أخرى صغرى مواكبة للمسارين.
ففيما يخص مسار المحكي الخاص بالسارد ومشروع بحثه حول حبس قارة، نجد السارد، عبد الجبار، يستحضر كل ما قرأه عنه، ويتصل بمن له معرفة به مثل خاله بوبكر، أو ما قرأ عنه في المخطوطة التي وجدها في بيت والده، أو الاتصال بحارس مقبرة اليهود بمكناس، الكوخو، بإيعاز من خاله. ولكن السارد سيتخلى عن بحثه ويمارس مؤقتاً مهنة مرشد سياحي بمكناس، يعرف السياح بالمآثر العمرانية التاريخية بمدينة مكناس وبمدينة وليلي الأثرية الرومانية كذلك. ثم تقع حادثة سرقة تمثال باخوس من وليلي الأثرية، وتثار شكوك حول بعض السياح الذين كان يرافقهم السارد، غوردن سميث، ويقوم أحد مفتشي الشرطة بإجراء بحث مع السارد عبد الجبار فيما يخص اختفاء باخوس، فينتهي إلى تبرئته في الأخير. ثم يستعيد السارد مرة أخرى رغبة مواصلة بحثه للوصول إلى حبس قارة، فيعاود الاتصال بالكوخو، ولكن هذه المرة بمصاحبة دولاكروا، الذي كان قد وصل إلى مكناس مع البعثة الفرنسية ومعه صاحبه اليهودي أبراهام بنشيمول، والذي كان قد حدَّث دولاكروا عما حكاه له أجداده عن حبس قارة، بالإضافة إلى ما اطلع عليه في كتاب “رحلة الأسير موريط”، وما جاء فيه عن حبس قارة في عهد مولاي اسماعيل، فأراد بدوره أن يرى سراديب ذلك الحبس. ثم أخذ الكوخو السارد ودولاكروا وبنشيمول إلى سراديب الحبس وشاهدوا فيه الواقعي والغريب والعجيب.
أما مسار محكي الرسام دولاكروا فقد خرج بدوره من لوحات غرفة والد السارد، ولكن المؤلف اعتمد فيه على المحكي الرحلي الذي ينسجم وتماهي المؤلف مع مذكرات سفر أوجين دولاكروا إلى المغرب، والتي كانت هي خلفية هذا المحكي الرحلي ومرجعيته.
المحكي الرحلي
إذا كانت رواية حبس قارة تتميز بتقاطعات مساراتها وتعدد محكياتها، والتضمين الروائي، فإنها تتميز كذلك بالتضمين السردي، لأن السرد الروائي الإطار فيها يتضمن سرداً آخر من جنس السرد الرحلي الذي يصاحب الرواية في أغلب مراحلها ومحطاتها. ويتميز جنس الرحلة أو أدب السفر بكونه يقوم على مسار الانتقال من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى زمان، وما يصاحب ذلك الانتقال من اختلاف الفضاءات والعوالم المكونة لها، مع وصف وعرض وتأمل وتأويل ومقارنة واكتشاف ما يعترض فاعل الرحلة في مختلف محطات تنقله ذهابا وإيابا، أو ذهاباً فقط. ويتجلى السرد الرحلي في هذه الرواية في مسار أوجين دولاكروا، الذي يحكي عن رحلته من باريس إلى المغرب، دون الحديث عن رحلة رجوعه من المغرب إلى باريس، لأن الرواية اقتصرت على رحلة الذهاب دون ذكر الرجوع منها.
يفصل المحكي الرحلي في الرواية في كل مراحل الرحلة؛ من مرحلة التهييء لها، ومختلف المراحل التي عرفها مسارها من باريس إلى طولون، فالرحلة البحرية من طولون إلى طنجة، ومن طنجة إلى مكناس، نهاية الرحلة في الرواية. تلقى دولاكروا الدعوة الرسمية ليكون عضواً في البعثة السفارية التي سيرسلها الملك لويس فيليب برئاسة الكونت دومورناي إلى سلطان المغرب، مولاي عبد الرحمان بن هشام، في أوائل شهر يناير 1832 من طرف أمين سر الكونت، فرانسوا فيراي، في أواخر شهر دجنبر 1831، لما زاره في مرسمه بباريس، وكان قد سبق تقديم دولاكروا إلى الكونت دومورناي من قبل في مسرح الأوبرا بباريس، باقتراح من السيدة مارس على الكونت. وقد بررت ذلك بقولها: إنه “سيخلد الرحلة برسومه ذات جودة عالية، وهو رجل علم مولع بالأدب والتاريخ، محدث لبق لا يمل المرء من رفقته”. (الرواية، ص 33) وكانت تتكون البعثة السفارية إلى السلطان المغربي مولاي عبد الرحمان بن هشام. من الكونت دومورناي، سفير لويس فيليب ملك فرنسا إلى سلطان المغرب، وأمين سره فرانسوا فيراي، والمترجم الرسمي أنطوان دي غرانج، والرسام دولاكروا، والسيد دوغلاس، ربان السفينة “الجوهرة” التي أقلت البعثة من طولون إلى طنجة.
يتمثل مسار الرحلة في السفر من باريس إلى ميناء طولون بالعربة لمدة يومين، ثم الرحلة في البحر الأبيض المتوسط من طولون إلى طنجة، دامت ثلاثة عشر يوماً وليلة، فالوصول إلى طنجة والمقام فيها لمدة خمسة أسابيع. ثم الرحلة البرية في أرض المغرب بالخيول والبغال في قافلة سلطانية مجهزة ومحروسة من طنجة إلى مكناس، تخللتها توقفات واستراحات، وإقامة مخيمات دامت أكثر من يوم واحد في كل محطة من تلك المحطات الثلاث المعلومة؛ وهي ثلاثاء ريصانة، وسيدي عيسى بلحسن، وأعتاب القصرين، قبل الوصول إلى مكناس في منتصف مارس 1832. وقد دامت رحلة هذه القافلة مدة عشرة أيام، حسب قول دولاكروا لصديقه بييري من مكناس: “افتقدت الحضور الدائم لأبراهام بجانبي، على نحو ألفته في الأيام العشرة (والليالي أيضاً) التي استغرقها السفر من طنجة”. (الرواية، ص 291)،. وقد سجل دولاكروا السارد في هذه الرحلة، من خلال رسائله إلى صديقه بييري، مشاهداته في طريق الرحلة، وتحدث عن الرسومات والتخطيطات التي رسمها على سرج فرسه، روكسي. ويذكر دولاكروا أنه عرف تجربة فريدة خلال هذه الرحلة نقلها إلى صديقه بقوله: “صار الحصان عندي مرسماً متحركاً يا بييري. أتدرك أي متعة هذه ! سنابك حوافر روكسي تدك الأرض تحتي فيما عيناي تسرح بعيداً والسبابة والإبهام يخطان على الورقة ما يغدو، ومع دهشة الفارس ومتعة الرسام، عالماً جميلاً أنا وحدي المسؤول عن إكسابه الحقيقة والمعنى”. (الرواية، ص 227)
مثل المحكي الرحلي مسار دولاكروا دون مسار السارد في الرواية، لأن المؤلف هنا قد اعتمد في خلفيته السردية على مذكرات سفر دولاكروا إلى المغرب.. ومراسلاته وكتابات أخرى عنها، مع إخضاع كل ذلك لمقتضيات التخييل ومتطلبات مسار المحكي الرحلي وقصديته في الرواية. بدا لي أن هذا المحكي الرحلي قد انكتب على طرس شفاف، يخفي المرجع التاريخي من مذكرات ومراسلات دولاكروا، ولكن لا يمحيه. ذلك أن السرد الروائي قد احتفظ هنا بالإطار العام للرحلة من بدايتها حتى وصول الرحلة إلى مكناس من حيث الإطار الزمني، ومحاولة مراعاة زمن كل مرحلة. لكن كتابة الرحلة باللغة السردية، وما يقتضيه التخييل من تمثل مغاير للشخوص والفضاءات الواقعية، تجعل التخييلي يتماهى فيها مع الواقعي، يوحي به، ولكن يبدعه في صورة سردية فنية أخرى. فالشخوص التي ذكرها المحكي الرحلي هنا معظمها واقعية، مثل فضاءاته، يمكن التأكد منها في مذكرات سفر دولاكروا إلى المغرب ومراسلاته. فما يميز المحكي الرحلي عن غيره من المحكيات الأخرى، هو واقعية زمانه وشخوصه وفضاءاته. ولكن فعل السرد يجعل المحكي الرحلي يخضع للتوسيع والتحوير والتحويل بحكم اللغة السردية التي يعتمد عليها، والمتميزة بحمولتها الثقافية ودلالاتها الفنية المختلفة الموحية، التي تكسبها شعريتها وجماليتها. ولعل ما يميز هذا المحكي الرحلي، بالإضافة إلى تسجيله لمسار الرحلة ووصفه لفضاءاته وشخوصه، هو تسجيله أيضاً بالرسوم الكثيرة التي قام بها دولاكروا خلال هذه الرحلة. ولذلك فإن هذه الرحلة نقلت إلينا في تعبيرين فنين متباينين: أحدهما بالتعبير الكتابي السردي التخييلي الفني، وثانيهما بالتعبير بواسطة الرسومات واللوحات الفنية التي تسجل الرحلة بالتركيز على مناظر مختلفة، تثبتها في لوحات خالدة.
المحكي الذاتي:
المحكي الذاتي هو الذي يجمع بين السيرة الشخصية وعلاقتها بالميثاق السيرذاتي الذي نجد بعض ملامحه في المحكي الذاتي للسارد الذي يتراوح ميثاقه السيرذاتي بين الواقعي والمتخيل، مع وجود بعض الملامح التي تساعد على ربط بعض أحداث الرواية بحياة المؤلف الواقعية. ومع ذلك، فالرواية في قصدها الفني لا ترمي إلى التركيز على التسريد الذاتي، ما عدا ما رشح منها من ملامح تدل على ذلك.. وقد نربط بهذا المحكي الذاتي المحكي العائلي الذي تمثل في اهتمام السارد بأصوله دون فروعه، وأصول عائلته أحياناً. مع عدم إهمال عالم الوالد واهتماماته وعلاقاته مع رجال العلم والفقه، والفن كذلك، مثلما تعرفنا على كثير من مراحل دراسة السارد وأساتذته وأصدقائه، مما جعل المحكي العائلي يعزز جوانب من الميثاق السيرذاتي. أما الميثاق السيرذاتي في محكي الرسام دولاكروا، فيبدو أكثر وضوحاً، لأنه يستمده من بالمذكرات الشخصية والرسائل التي اعتمد عليها، والتي يتحدث فيها بضمير المتكلم الواقعي. كما نجد تركيزاً آخر على المحكي العائلي الخاص بدولاكروا في حديث السارد نقلاً عن الدفتر-المخطوطة التي وقعها فالنتان كزافيي (الرواية، ص 107)، وحديث هذا الأخير عن دولاكروا في مكناس وعلاقته بالمغنية سيلفانا حاييم، ابنة شقيقة ميمونة المغنية، وما ترتب عن تلك العلاقة العابرة من نسل يرتبط بدولاكروا، كما تخيله السارد.
المحكي التاريخي:
المحكي التاريخي هو الذي وقعت في إطاره الزمني أحداث الرواية، إذ وقعت أحداث هذه الرواية في فترة من حكم سلطان المغرب مولاي عبد الرحمان بن هشام (1822-1859)، وبعثة ملك فرنسا لويس فيليب (1830-1848) سنة 1832 إلى هذا السلطان المغربي. وبعد استعمار فرنسا القريب للجزائر سنة 1830، ومبايعة الجزائريين للأمير عبد القادر سنة 1832 ليقود الجهاد ضد فرنسا. والمحكي التاريخي الذي ركزت عليه الرواية أيضاً، هو حدث زيارة دولاكروا ضمن البعثة الدبلوماسية الفرنسية، والمذكرات والرسائل والكتب التاريخية التي أشار إليها، مثل كتاب “رحلة الأسير موريط”، وكتاب “إتحاف أعلام الناس بجمال حاضرة مكناس”، لعبد الرحمان بن زيدان. “ومذكرات أوجين دولاكروا إل المغرب”. وكذلك ما نتج عن تلك الزيارة من آثار تاريخية في العلاقة بين المغرب وفرنسا، ,وآثارها التاريخية أيضاً على الرسام دولاكروا، وبفن الرسم، وبخاصة الاتجاه الرومانسي، في فرنسا وأوروبا. بالإضافة إلى دلالة حبس قارة التاريخية، والأسرى الأوروبيين في عهد السلطان مولاي اسماعيل، وما كشف عنه السرد من سراديب الحبس من مخلفات وآثار لها دلالتها التاريخية.
المحكي السياسي:
المحكي السياسي في الرواية هو المرتبط تحديداً بجانب من مفهوم السياسية المتعلق بالعلاقات الدولية؛ علاقة دولة فرنسا بدولة المغرب في مرحلة من تاريخ فرنسا السياسي الاستعماري، فترة سنواتها الأولى لاحتلالها للجزائر (1830-1832) وبخاصة سنة 1832، وعلاقة المغرب بالجزائر، وبخاصة الغرب الجزائري، منطقة وهران وتلمسان، وما كان يعرف أثناء الحكم التركي بـ”بيلك وهران”، الذي يقع في “بيلك الغرب”2. وعلاقة السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام بالأمير عبد القادر الجزائري في مراحله الأولى لمواجهته للاستعمار الفرنسي. واستنجاد قبائل الغرب الجزائري بالسلطان مولاي عبد الرحمان ومبايعتهم له لحمايتهم والدفاع عنهم ضد الاحتلال الفرنسي.
كيف تعاملت الرواية مع هذا الحدث السياسي؟ يمكن تبين البعد السياسي في الرواية داخل المحكي الرحلي لدولاكروا الذي كان عضواً في بعثة دومورناي الفرنسية الى السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام. وفي اللوحة الفنية التي رسمها دولاكروا للسلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام. يقول السارد في الرواية عن أمر البعثة الفرنسية إلى المغرب:: “وقرار إيفاد مبعوث إلى ملك المغرب في ظل كل هذه الأحداث التي تعرفها فرنسا، وما تشهده منها، ولا سيما منذ الاستيلاء على الجزائر، قرار الملك، واختيار شخص مقرب من السفارة، يحمل أبعاداً سياسية ورمزية شتى”. (الرواية، ص 32)
كانت البعثة الفرنسية قد جاءت في مهمة دبلوماسية وسياسية تتمثل في طلب فرنسا من السلطان المغربي عدم التدخل فيما تقوم به في الجزائر، وتطلب من السلطان أن يبقى على الحياد. ولكن البعثة بقيت خمسة أسابيع في طنجة تنتظر إذن السلطان لها بالقدوم إلى مكناس لمقابلته. وتشير الرواية إلى أسباب ذلك التأخير، وتضارب الآراء حول ذلك. يقول السارد:: “كان الناس يتنافسون في توهم الأسباب التي استوجبت تأخر البريد بخبر إيجابي، غير أن الآراء المتضاربة، لم تكن في العمق، تخرج عن فكرتين؛ فكرة تقضي بأنه لا داعي لتحميل الأشياء أكثر مما في إمكانها احتماله، في حين أن سبب التأخر في التوصل بالإذن في السفر يرجع إلى كون السفارة الفرنسية قد تزامنت – لسوء تقدير من قبل وزارة الخارجية في باريس – مع مقدم شهر رمضان، وشهر رمضان في المغرب، يجعل من غير المقبول “أن يكون هناك مكان أو استقبال لغير المسلمين“… وهذا ما يتهامس به دعاة هذا الرأي الأول. أما الفكرة الثانية، فهي تعزو التأخر في تلقي الإذن بالذهاب إلى مكناس لأسباب بعيدة عديدة معاً؛ منها أن الحاضرة السلطانية تعرف في هذه الأيام وجود وفود قدمت من تلمسان وبجاية وغيرها، وحيث إن لتلك الوفود صلات مباشرة ما بما يحدث في الجزائر منذ أن تم احتلال مدينة الجزائر من قبل القوات الفرنسية، بعد أن أحكمت سيطرتها على مدينة وهران، فإنه من غير الجائز، دبلوماسياً أن تلتقي السفارة الفرنسية مع أحد تلك الوفود الجزائرية … والذين يتهامسون بأن ملك فرنسا يتوخى من خلال السفارة التي بعث بها إلى السلطان المغربي، استرداد قطع بحرية ثلاث أغار عليها المحاربون الجزائريون وهربوا بها إلى المرافئ المغربية – فضلاً عن دواع أخرى، ليس أقلها أهمية ضمان حياد سلطان المغرب في حرب فرنسا مع الثائر الجزائري الأمير عبد القادر”. (الرواية، ص 155- 156).
وتلتقي المصادر التاريخية مع ما ذهبت إليه الرواية فيما يخص الوفد الجزائري إلى السلطان، بل تدقق في تركيبة هذا الوفد الذي جمع إليه، بالإضافة إلى وفد بيلك وهران، وفود من بيلك التيطري، وسط الجزائر، وبخاصة وفود من البليدة ومَلْيانَة ومدَيَّة: “وقد شارك ممثلو سكان البليدة مع بقية المدن في الوفود التي توجهت إلى المغرب لتهنئة سلطانه بعيد الفطر وتقديم الهدايا له تعبيراً عن الولاء… وكان عيد الفطر لعام 1247 هـ الذي صادف يوم 4 مارس 1832، مناسبة لممثلي سكان البليدة ومديَّة ومليانة للتوجه إلى مكناس لكي يتأكدوا بأنفسهم من مستوى الحماية التي يمكن أن يحصلوا عليها من السلطان، ولكي يطلعوه مباشرة على أحوالهم وأحوال بلادهم في أول اتصال مباشر لهم معه”3.
وهكذا يكون سبب تأخر إذن السلطان للبعثة الفرنسية بالقدوم إلى مكناس، حاضرة السلطان، حسب الرواية، هو تزامنها مع مقدم شهر رمضان الذي لا يستقبل فيه السلطان غير المسلمين، ووجود وفد من الجزائر، من غرب الجزائر، ومن وسطها كذلك، البليدة ومليانة ومدية، يطلب من السلطان مساعدته. وتشير المصادر التاريخية إلى سبب آخر متعلق بوفاة مفاجئ لأخ السلطان في ذلك الوقت. وهناك من يرى أن سبب ذلك التأخير يعود كذلك إلى إعطاء الأسبقية للوفود الجزائرية: “ويفسر هذا التأخر بحرص السلطان على إعطاء الأسبقية للقاء الوفود الجزائرية، التي تكلمنا من قبل عن قدومها لمكناس لتهنئته بعيد الفطر، حتى يعرف منها حقيقة أحوال الجزائر”4.
وتذكر المصادر التاريخية التي تعرضت للبعثة الفرنسية إلى السلطان المغربي ستة مطالب قدمها دومورناي للمفاوضين المغاربة، وهي: “مغادرة تلمسان، وإعادة ابن العامري [ممثل السلطان في الغرب الجزائري] إلى المغرب، والحياد التام في القضايا الداخلية للجزائر، وإعادة الوفد الجزائري الموجود بمكناس، إلى بلاده، والالتزام بعدم تعيين أي أجنبي كوكيل للسلطان بمدينة الجزائر، وقضايا منها استرجاع المراكب الثلاثة التي كان الجزائريون قد غنموها من الفرنسيين أثناء حصارهم للجزائر”5. وقد استجاب السلطان لمعظم المطالب الفرنسية، ولكنه بقي يواصل مساعدته للأمير عبد القادر الجزائري، مما سيدفع فرنسا إلى إيفاد بعثة أخرى إلى السلطان المغربي سنة 1936، بقيادة البارون فريدريك دي لاري.
والحق أن الرواية لم تتوقف كثيراً عند تفاصيل بعثة دومورناي، ما عدا حفل الاستقبال الضخم الذي خصصه لها السلطان والحفاوة التي خص بها ضيوفه. ومن دلالات تلك الحفاوة الفريدة تلك السهرة الغنائية التي أقامها لهم وغنت فيها المغنية اليهودية المغربية ميمونة التي استقدمها السلطان من الصويرة، وبنت أختها سيلفانا التي استقدمت من فاس. وكذلك تقديم الهدايا التي أرسلها ملك فرنسا لسلطان المغرب مع البعثة الفرنسية، وهدايا السلطان لملك فرنسا وللبعثة، ولدولاكروا بخاصة، الذي أهدى له السلطان فرساً عربياً أصيلاً: “يعلم المهتمون أن السلطان قد أهدى الرسام العظيم فرساً عربياً أصيلاً – ولا شك أن دولاكروا، ذلك الرجل الذي افتتن بالفرس افتتاناً شديداً، كان شغوفاً بالفروسية، قد سُرَّ بالهدية سروراً عظيماً. دعني أقول إن الهدية كانت أحد أسباب السعادة التي غمرته في إقامته المكناسية، وحملته على الحديث عن الفرس المغربي بعد العودة إلى فرنسا”. (الرواية، ص 114)
وتشير الرواية إلى هذا الجانب الاحتفالي بقول السارد: “إن مولاي عبد الرحمان السلطان قد خص الوفد الفرنسي بمكرمة لم تكن لأحد قبل رجال السفارة من أعضاء البعثات الدبلوماسية من مختلف الأجناس؛ ذلك أنه فتح لهم أبواب قصره، ومكنهم من التفرج على غرف القصر وحدائقه، وما يزخر به من نفائس من أجناس الطير والحيوانات المختلفة، الأليفة والمفترسة، غير أني أقف عند جانب آخر من جوانب تكريم الكونت دومورناي ورفقته (دولاكروا من جملتهم- أذكر هذا للتذكير – وإن بدا التذكير بهذا الأمر سخيفاً). يكتفي المؤرخون بذكره ذكراً عابراً: أمر السلطان بإحياء سهرة موسيقية خاصة، فريدة، سهرة تحييها فرقة يستقدمها السلطان، بين الفينة والأخرى، من مدينة الصويرة-جنوب المغرب … سيلفانا حاييم، ابنة شقيق ميمونة المغنية صاحبة الجوقة، تحضر من مدينة فاس في كل المرات التي يأمر فيها السلطان باستجلاب المغنية اليهودية الشهيرة من الصويرة مسقط رأسها ومقر إقامتها.” (الرواية، ص 114- 115)
كان الاهتمام في الرواية بالمشاهد الاحتفالية التي أحاطت استقبال السلطان للبعثة الفرنسية، التي جاءت في مهمة سياسية ودبلوماسية. هل هي دبلوماسية الاحتفال الشعبي الذي يخفي المضمون السياسي المتمثل في المطالب الفرنسية من السلطان المذكورة؟ ركزت الرواية على المظهر دون الجوهر السياسي، لأن السارد الذي تكلف بالرواية بعرض هذا البعد السياسي في الرواية، هو الفنان الرسام دولاكروا، لم يكن يهمه الدور السياسي للبعثة التي جاء معها، بقدر ما كان يهمه أن يسجل مظاهر تلك البعثة وما تلتقطه عيناه من مشاهد مثيرة، بشرية أو طبيعية أو احتفالية. يقول دولاكروا: “أمس كان يوم استقبال السفارة من قبل السلطان. لست، بطبيعة الحال، في حاجة إلى أن أحدثك عما كان يخالج نفوس أعضاء البعثة من مشاعر الفرح والرضا عن النفس لبلوغ الرحلة الغاية الرمزية المتوخاة، أما الأهداف الفعلية؛ أي تلك التي لا تجلي حقيقة أمرها المفاوضات التي دخل فيها السفير الفرنسي مع من انتدبهم السلطان المغربي لمحاورته، فالشأن فيها آخر، أو قل، في صدق وصراحة معاً، إن الشأن فيها لا يعنيني. ربما كنت أستمع منذ وصولي إلى طنجة حتى اليوم، إلى بعض ما يتحدث به السفير من كلمات مقتضبة، أو ما توحي به إشارة من يده، أو تقطيبة من حاجبه، أو ابتسامة ترتسم على شفتيه، غير أنني أقرر، في الأحوال كلها، أن الأمر في العمق لا يعنيني، أو تحديداً لا يعنيني كثيراً، فليست المعرفة أو عدمها مما له علاقة بالموضوع مما يكدر صفوي، أو يذهب النوم عن عيني”. (الرواية، ص 285)
وقد نجد في لوحته التي رسمها للسلطان مولاي عبد الرحمان وهو خارج من قصره لاستقبال البعثة الفرنسية أمام قصره بمكناس ملامح سياسية تكشف عن جانب خفي لتلك البعثة. وهو أنه لما تم استقبال السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام للبعثة الفرنسية في 22 مارس 1832، بعد أسبوع من وصولها من طنجة إلى مكناس، كان دولاكروا قد وضع صور البعثة الأوروبية في تخطيطات لوحته للسلطان عبد الرحمان بن هشام، ولكنه حذفها في الصورة النهائية التي وضعها في باريس سنة 1845. فلماذا حذف صور الأوروبيين من اللوحة النهائية؟ يرى بعض محللي6 لوحة دولاكروا للسلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام وهو يستقبل بعثة دومورناي أمام قصره في مكناس أن هناك عدة احتمالات لحذف صور الأوروبيين من اللوحة في صورتها النهائية سنة 1845، منها: أولاً، أنه قد يكون دولاكروا قد رأى أن وجود تلك الصور ستقلل من الناحية الجمالية بالجو الاستشراقي الأخاذ للمغرب، والذي بقي إلى ذلك الوقت في نظر معظم الأوروبيين خفياً وملتبساً بالأسرار. ثانياً، ربما حذف ذلك دولا كروا، لما وضعها بعد ثلاث عشرة سنة، أي سنة 1845، لأنه لم يرد أن يثير في نفوس الفرنسيين فشل تلك البعثة إلى السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام، إذ بقي يساعد الجزائر وعبد القادر الجزائري، ولم يبق في الحياد الذي كانت تطلبه منه فرنسا في ذلك الوقت، إلى أن حسمت فرنسا الأمر في معركة إيسلي سنة 1844، التي انهزم فيها ابنه محمد، وعرضت فرنسا خيمته التي غنمتها أمام الفرنسيين في باريس. ويمكن تفسير موقف دولاكروا لما حذف أعضاء البعثة الفرنسية من لوحة السلطان مولاي عبد الرحمان في صورتها النهائية بتخل العاطفة الوطنية في قراره الذي يحمل بعداً سياسياً يراعي الشعور القومي لمواطنيه الفرنسيين.
المحكي الفني:
يتمثل هذا المحكي الفني في مسار دولاكروا الذي تتبعه السارد في تفاصيله متخذاً خلفيته ومرجعيته من مذكرات دولاكروا التي بنى عليها المؤلف هذا المسار الفني. كان دولاكروا يسجل رحلته في رسوماته وتخطيطاته ولوحاته وكتاباته خلال رحلته إلى المغرب مع البعثة الفرنسية. ومنذ أن وصل إلى طنجة، أصابته دهشة المكان والفضاء والناس، دهشة منتجة كما يقول عنها، وليس الغرابة التي تشعر بالحزن والغربة. هذه الدهشة الخلاقة جعلته يرسم كل ما تلتقطه عيناه، وينقلها إلى تصاميم لوحات وتخطيطات ستظهر بعد رحلته في ألبوم كبير يتجاوز ثمانين رسماً ولوحة وتخطيطاً. لقد رسم صوراً شخصية للمرأة اليهودية المغربية في طنجة، وصوراً شخصية لبعض أعيان المدينة في طنجة ومكناس، ولوحات أخرى مثل لوحة لعبة البارود، الفانتازيا، وغيرها. ولكن أهم تلك اللوحات هي لوحة السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام على فرسه الأدهم أمام قصره بمكناس وهو يستقبل البعثة الفرنسية، والتي توجد محفوظة في متحف الأُغسطينيين بمدينة تولوز بفرنسا. وتعتبر رحلة دولاكروا إلى المغرب وما نتج عنها من لوحات فنية نقطة تحول جذرية في حياته الفنية، بحيث اعتبر دولاكروا بعد رحلته إلى المغرب غيره قبلها. كما كان لها تأثير على تاريخ فن الرسم في أوروبا، لأن رسوماته في المغرب هي التي وضعت أسس الاتجاه الرومانسي في فن الرسم في أوروبا في القرن التاسع عشر.
المحكي الاستقصائي:
لما بدأ السارد عبد الجبار يشتغل مؤقتاً مرشداً سياحياً في مكناس، وبدأ يتنقل عبر آثار مكناس مع السياح الأجانب، وترك دراسته الجامعية، في مرحلة من مراحل مساره في الرواية، حدثَ حدثٌ هز عالم السياحة في المغرب، وهو سرقة تمثال باخوس، إله الخمر عند الرومان الذي يقابل ديونيزوس عند اليونان، والذي كان يستقبل السياح والزوار في مدخل مدينة وليلي الأثرية الرومانية، المعروفة بـ”فوليبيليس”. وقد أثيرت شبهات كثيرة حول السائح السويسري الذي كان يرافقه عبد الجبار في جولته إلى مدينة مولاي ادريس زرهون، والقرى المحيطة بها، والذي غاب في الفترة التي سرق فيها هذا التمثال، فخضع عبد الحبار للاستفسار من طرف مفتش الشرطة، الذي تبين براءته وطمأنه، ولكن التمثال لم يظهر له أثر. ولكن المؤلف أظهره في نهاية الرواية من خلال تخييل فني ختم به روايته، لأنه كان منذ بداية مساره يبحث ويستقصي في عمله في بحث حبس قارة. وقد أشار إلى حدث سرقة هذا التمثال من قبل الروائي محمد الأشعري في روايته “القوس والفراشة” (2010)، والروائي محمد أمنصور في روايته “دموع باخوس” (2010). وهناك كذلك استقصاء البحث عن أصل اللوحة واللوحات التي وجدها السارد في غرفة والده. غير أن هذا الاستقصاء في البحث هنا في الرواية ليس من قبيل ما نجده في الرواية البوليسية التي تبحث عن الحقيقة المادية المثبتة بالأدلة المادية وغيرها، ولكنه استقصاء فني يسمح للتخييل بخلق تصورات وفضاءات لا تركز على السرقة بقدر ما تركز على الصيغ السردية والعوالم المتخيلة التي تفصح عن هواجس السارد التي تجعله يتنقل بالقارئ في فضاءات مكناس ووليلي ونواحيها، وينقل الاهتمام الوطني والإعلامي بهذا الحدث. وهذا النوع من الاستقصاء يخلق نوعاً من متعة التأمل في علاقة بعض الأحداث بالذات وتفاعلها معها.
محكي المدينة:
يركز هذا المحكي أساساً على فضاءات بعينها، أهمها فضاء البحر والباخرة من فرنسا إلى طنجة، وفضاء مدينة طنجة وضاحيتها، وفضاء الطريق بين طنجة ومكناس، وفضاء مدينة مكناس، ثم فضاء مدينة وليلي الأثرية، ومدينة مولاي ادريس زرهون والقرى المجاورة لها. ركز دولاكروا على مدينة طنجة التي كشفت له عن دهشته التي جعلته يدخل في حلم لا يريد أن ينتهي. نقل لنا طرقاتها الضيقة وبعض مقاهيها التي كان يجلس فيها مع أهل البلد ويلاحظ حياتهم وسلوكهم، ثم ينقل كل ذلك في رسوماته وتخطيطاته التي ستصبح لوحات فنية. ويعبر في كل ذلك عن دهشته، وليس عن غرابته، دهشة غيرت أفق انتظاراته عن المغرب وعن أهله. أما وصفه للطريق من طنجة إلى مكناس فيشكل في حد ذاته رحلة داخل الرحلة الكبرى، نقل كل ذلك في مراسلاته الحميمية إلى صديقه بييري بكل تفاصيلها الدقيقة. أما وصفه لفضاء مكناس فقد اهتم بفضاء قصور السلطان وعمارتها، وحفل الاستقبال الذي خصه السلطان للبعثة التي كان ضمنها، ونقل ذلك في لوحة مشهورة، وكذلك تعرضه لحبس قارة لما دخله مع آخرين كما وصف مدينة مكناس القديمة في تشعبات دروبها ونوع الحياة العامة فيها كذلك.
قد تكون هذه الرواية من الروايات والكتابات القليلة التي عرضت ووصفت لنا بدقة، على لسان السارد عبد الجبار، مدينة مكناس. ولما كان هذا السارد من أهل مدينة مكناس ومرشداً سياحياً فيه، فقد قدم لنا المدينة القديمة بأسماء أزقتها وساحاتها وأبوابها وأسوارها وقصورها ومعالمها التاريخية الخارجية، بل وبعض فضاءاتها الداخلية، مثل حبس قارة الذي قلما نجد له عرضاً أو وصفاً دقيقاً. كما عرفنا السارد على فضاءات قريبة من مكناس، وبخاصة وليلي الأثرية، ومدينة مولاي ادريس زرهون والقرى المحيطة بها، بحكم زياراته مع السياح إلى تلك الآثار، وبخاصة زيارته مع أحد السياح الأوروبيين إلى مدينة زرهون والقرى المجاورة لها. ويمكن أن نلحق هذه الرواية التي قدمت لنا مدينة مكناس العريقة بتفاصيل أزقتها وأهلها ومآثرها التاريخية، بالروايات المغربية التي أهتمت بالمدن بالمغربية القديمة، مثل فاس، ومراكش، وطنجة وغيرها.
جمعت هذه الرواية، إذن، بين محكيات متعددة لعبت فيها تقنية السرد التضمينية والتوازي والتناوب والتشعب على بناء مسارات سردها؛ فقدمت لنا بتركيزها على الوصف البصري الواقعي المكثف والشفاف، وعلى السرد التأملي والحواري، والسرد الاسترجاعي أحياناً، لوحات عن لوحات، تقترب من السرد السينمائي، وصوراً ومشاهد عن فضاءات داخلية وخارجية لمدينة طنجة، وفضاءات داخلية لمدينة مكناس العريقة، بأزقتها وأهلها ونمط عيشها ومآثرها العمرانية التاريخية الخارجية والداخلية، وفضاءات مدينة وليلي الأثرية، وأخرى تمثلت أساساً في وصف الرحلة في البحر والرحلة إلى مكناس. ولعل الذي مكن المؤلف من التحكم في عرض مسارات روايته في سرد غني ومكثف، هو اعتماده على مرجعيات تاريخية وفنية وسياسية، من كتب ومخطوطات وقراءات ومذكرات ورسائل، ورواية شفوية. وقد استطاع أن يقدم لنا روايته في صيغتين فنيتين متجاورتين، لكل صيغة منهما متعتها وعوالمها: صيغة الرسام دولاكروا بمشاهداته ولوحاته، وما تحمله رحلته ولوحته المشهورة عن السلطان عبد الرحمان بن هشام كذلك من دلالات سياسية عن دور البعثة الفرنسية السياسي والدبلوماسي، وما أفصح عنه من عاطفة قومية لما حذف أعضاء البعثة الفرنسية من الصورة النهائية للوحته المشهورة للسلطان عبد الرحمان بن هشام وهو يستقبل البعثة الفرنسية أمام قصره بمكناس. وصيغة السارد الذي كان يوزع السرد بينه وبين دولاكروا. فإذا كانت صيغة دولاكروا قد ركزت على المدهش والحالم والجميل في سردها، فإن السارد قد كشف لنا عن أعماق مدينة مكناس العريقة، وحياة الناس فيها وسلوك أهلها، ثم عرض مآثرها التاريخية والعمرانية، مما يجعل هذه المدينة مفتوحة أكثر لسرود مختلفة.
هوامش
*- سعيد بنسعيد العلوي، حبس قارة، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء/ المغرب، 2021.
فيما يخص تسمية السجن بحبس قارة، “اختلفت الروايات حول تسميته، وتقول بعض المصادر إن الاسم مأخوذ من لقب سجين برتغالي حصل من السلطان مولاي إسماعيل على وعد بتحريره، إذا نجح في بناء سجن يستوعب أكثر من 40 ألف سجين، بينما تشير مصادر أخرى، (وهي ضعيفة) إلى أن هذه التسمية تعود إلى عهد الحماية، وتُفيد بأن رجلاً أقرع كان يحرس السجن في تلك الفترة، وارتبط اسم السجن به بمعنى أن “قارا” هي في الأصل “أقرع””. www.independentarabia.com
1- ذكر ذلك في حوار أجراه معه الصحفي لحسن وريغ بعد صدور روايته الأولى “مسك الليل” (2010). أُنظر الموقع الإلكتروني: www.miniculture.gov.ma
2- إبراهيم ياسين، سلطة مغربية في غرب الجزائر: دراسة تاريخية: 1830-1832، مطابع الرباط نت، 2015، ص، 100-101،
3- نفسه، ص 128.
4- نفسه، ص 136.
5- نفسه، ص 136.
6- أنظر:
– Jamal Hossaini-Hilali
(Professeur de physiologie animale à l’Institut agronomique et vétérinaire Hassan II).
Maroc-Algérie : L’histoire méconnue d’un tableau de Delacroix.
https://fnh.ma/article/economie/maroc-algerie-l-histoire-meconnue-d-un-tableau-de-delacroix
– Elie Lambert, Histoire d’un tableau : l’Abd Er Rahman Sultan du Maroc de Delacroix, Collection Hespسéris, Institut des hautes études marocaines, N° XIV, 1953, p. 25-28