الأحد , 13 أكتوبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » الرؤية الشعرية والسردية والنقدية في النصوص المغربية الحديثة

الرؤية الشعرية والسردية والنقدية في النصوص المغربية الحديثة

– أحمد زنيبر، الكتابة والرؤية، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2020.

     يدخل كتاب الكتابة والرؤية لأحمد زنيبر في دائرة اهتمام المتخصصين في دراسة الأدب المغربي في مختلف أجناسه التعبيرية والكتابية تحديدا، والباحثين في الموضوعات ذات الصلة بوجه عام. وهو وثيق الصلة بالفروع الإبداعية والنقدية حيث يضم ثلاث قراءات لأشكال الثقافة المغربية، شعرًا وسردًا ونقدًا معبّراً عنها بالعبارة والإشارة من خلال مبدعين ومفكرين يمثلون نماذج مشرقة في المشهد الثقافي المغربي، تتميز مساراتهم الإبداعية بغزارة الإنتاج وجدته ،حيث انشغلوا بقضايا المجتمع والإنسان، وراهنوا على الكتابة بوصفها تعبيرًا قادرًا على منح الذات الكاتبة قدرة على الملاحظة والتأمل وجرأة على المساءلة والاحتجاج وخلق رؤية خاصة تميّز الكاتب، مما يجعل الباحث في الثقافة المغربية يحتاج إلى الإحاطة المعرفية بالسير النصية للأشكال من أجل الإجابة عن مجموعة من أسئلتها.

اهتم الباحث في هذا الإطار باشتغال الثقافة المغربية في تمظهراتها التعبيرية محاولا تأطير تجاذباتها وتنافرها، فبدأ بدراسة الشعر وتساءل حول انتقاله من العمودي إلى الأفقي، أي من الشكل القديم إلى الأشكال المستحدثة، ثم انتقل إلى السرد وتناول انتقاله من الحكاية إلى المحكي عبر تناوله لمجموعة من الروايات والسير الذاتية المغربية مع الانتباه إلى أدبية الكتابة، وختم كتابه بقراءة ثالثة في النقد الأدبي تتوخى مقاربة الصوفي والنقدي، وتستشف الوعي النقدي في الكتابة النقدية، مع الانتباه إلى شعرية النقد الأدبي ومساءلة المنهج النقدي.

حاول الكاتب استجلاء ما يميز الأعمال الشعرية والسردية والنقدية المغربية من نبوغ فكري وفني، وتطلب منه ذلك الرجوع إلى أعمال قديمة وأخرى معاصرة تُسائل الكتاب المغاربة فيما اقترحوه من قضايا وموضوعات وفيما ابتدعوه من طرائق وتقنيات. وقد تناول هذا الثالوث الأجناسي إيمانا منه أنه بالرغم من التفاوت التعبيري الظاهر لهذه الواجهات الثلاث، إلا أنها تلتقي في جملة عناصر من بينها اللغة والمعرفة والوعي بالكتابة.

أخضع أحمد زنيبر المتن المدروس إلى المساءلة والتأويل محاولا استجلاء خصوصياته واللغة البانية له من أجل استجلاء مميزات طبيعة الخطاب ومحدّدات استراتيجيته الكتابية والرؤيوية معًا، وذلك باعتماد مناهج متعددة تتماشى وطبيعة النصوص المختارة.

  1. في ضيافة الشعر: من العمودي إلى الأفقي

اختار المؤلف في مجال الشعر نماذج مغربية متنوعة ومختلفة شكلا ومضمونًا قام بدراستها بهدف الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي طرحتها القصيدة المغربية المعاصرة منذ خمسينيات القرن الماضي إلى الآن، حيث تم الانتقال من الشكل القديم (العمودي) إلى الشكل الجديد (التفعيلي)، ومن النثري إلى الشذري، محاولا تحديد نوعية الكتابة والرؤية الفنية المتضمنة فيها، ومستحضرًا سؤال الإبداعية بما هو سؤال يبحث في بنية اللغة وفي أنواع الإيقاع وفي أشكال التحقق النصي.

في هذا الإطار بحث المؤلف عن المشترك الإبداعي بين شعر الصحراء وشعر سوس من خلال قراءة متأنية في إبداع بعض الأعلام من الجهتين بهدف تسليط الضوء على مظاهر الائتلاف والاختلاف بينهما فيما أنتجه الأدباء والشعراء على حدّ سواء، فأوضح أن أغلب الدراسات والأبحاث التي اهتمت بدراسة العلاقة بين أهل سوس وأهل الصحراء تصير إلى وجود روابط اجتماعية وثقافية ودينية تمتد بينهما على مر العصور منذ العهد المرابطي إلى الآن، وساهمت أمور كثيرة في توطيد هذه العلاقة التواصلية كالتربية والتعليم والجهاد والمصاهرة والمراسلة والمساجلة والندوات والمناسبات وغيرها.

ساق المؤلف نماذج لأسر من المنطقتين كان لهما الفضل المشترك بين الجانبين في نشر العلم وتوحيد المسلمين وتبادل المعارف والخبرات، فذكر على سبيل المثال لا الحصر من الأسر الصحراوية أسرة كل من ماء العينين وآل العتيق وآل المربيه ربه وآل العروسي وغيرها من الأعلام كالشيخ بابا الصحراوي ومحمد الإمام ومحمد بابه الشنقيطي ومحمد سالم. وفي المقابل أشاد بعلماء سوس وبراعتهم في المجالات الفقهية والأدبية والعلمية.  ولم يغفل ما قدمته المدارس العلمية والروحية والاجتماعية من أجل تمتين الروابط بين المنطقتين، كالمدرسة البونعمانية والمدرسة المحمدية والمدرسة السباعية والمدرسة الإلغية والمدرسة الأسريرية بشخصياتها وشيوخها وأعلامها المرموقة كالشيخ وكاك بن زلو اللمطي والعلامة مسعود بن محمد المعدري وعبد القادر الوادنوني والطاهر السباعي والطاهر الإفراني والمختار السوسي وغيرهم. كما وضع بين يدي القارئ نماذج من قصائد مشهورة ذات قيمة تاريخية تعكس وجهًا من وجوه العلاقة بين سوس والصحراء، كالتغني بالانتماء للمنطقتين معًا سوس والصحراء أو الترحيب بالضيوف ورد التحية شعرًا، أو المساجلات بأشكالها المختلفة، والتي حظيت بعناية كبرى من قبل أدباء وشعراء المنطقتين على مرّ سنوات خلت مما خلف نصوصًا أدبية تتغنى بمواضيع مختلفة وتلقى في صيغ تعبيرية متفاوتة وتبين عمق العلاقات الأخوية القديمة التي جمعت بينهما، كما تبين أيضًا عمق الصلات الإبداعية التي ميزت نصوصهم الشعرية التي اختزلت أحيانًا عادات وتقاليد الطرق الصوفية مثلا أو بعض القيم الإنسانية المستلهمة من حياة الرسول (ص) أو غيره من الشخصيات.

لم يكتف الكاتب بذكر المساجلات الشعرية، بل أعطى أيضًا نماذج من المساجلات ذات الصيغة العلمية التي تبرز رصيد المتحاور المعرفي من خلال قدرته على المحاورة والدفاع عن الرأي، كما استحضر ما دار بين أهل الصحراء وبعض أهل سوس من رسائل متنوعة غلب عليها الأسلوب الأدبي، ووضحت المشترك الإبداعي والإنساني بينهما. كما استحضر مجموعة من المذكرات التي دخل أصحابها في حوار مع الذات والآخر، إضافة إلى بعض التآليف التي تركها بعض مبدعي الجهتين، والتي تنوعت بتنوع المجال الذي ألفت من أجله كالتاريخ والتصوف والنحو والفقه وغيره. وخلص المؤلف في هذا الباب إلى أن المشترك الإبداعي بين المنطقتين كثير لاعتبارات كثيرة تجمع أكثر مما تفرق منها العلم والتاريخ واللغة والوطن والمصير المشترك، وهو قوة داعمة لاستمرار التواصل الإنساني والتلاقح الحضاري. ولعلّ المؤلف يشير هنا إلى أهمية العلاقات الفكرية والثقافية والحضارية بين الناس ودورها في ترسيخ قيم المحبة والاعتراف بالآخر المبدع من خلال إلقاء نظرة فاحصة على المنتوج الإبداعي المشترك ووضعه في الخانة الأدبية المناسبة من أجل ذاكرة متجذرة في المستقبل.

وبما أن أحمد زنيبر ينخرط في مشاريع تحقق لهم المتعة الخالصة للمنح والعطاء، فقد حلق بالقارئ من فضاء منتوج إبداعي صحراوي وسوسي إلى فضاء المديح النبوي في شعر الطيب ابن خضراء السلاوي قبل أن يعرج على الوطني والقومي في شعر محمد الحلوي في محاولة منه للإجابة عن مجموعة من الأسئلة من ضمنها: كيف عبر الشاعر المغربي عن ارتباطه الوثيق بشخصية الرسول (ص) وكيف جسّد هذه المحبة الإنسانية في إبداعه الشعري وما العناصر التي تم التنبيه إليها خلال استعراض سيرته النبوية؟ وإلى أي حدّ كان قريبًا من ذائقة شعراء القصيدة النبوية العمودية؟

هكذا استخرج مجموعة من العناصر التي تبيّن أن الشاعر يزاوج في هذا النص الديني بين السيرة النبوية بتداعياتها المختلفة وبين الحفاظ على شعرية القصيدة العمودية بكلّ متطلباتها. ويدل هذا على ارتباط الشاعر بواقعه الديني من جهة، وبمناخه الأدبي والشعري من جهة أخرى، وعلى انسجام السيري والشعري في القصيدة العمودية النبوية.

وفي سياق تنويع الأصوات الإبداعية ما بين القديم والحديث تناول أحمد زنيبر بالدراسة موضوع الوطني والقومي في شعر محمد الحلوي، على اعتبار أن الحلوي من الأصوات المغربية التي ساهمت في تطوير القصيدة الشعرية العمودية على مستوى اللغة والتركيب والبلاغة والإيقاع، إضافة إلى كونه صاحب تجربة إبداعية طويلة تمتح من مرجعيات فكرية وسياسية وحضارية مختلفة، مما جعله يطرق جل الأغراض الشعرية المتداولة في الشعر العربي، إلا أن أحمد زنيبر ركز على مقاربة موضوع أفرد له الشاعر حيزًا مهمًا في تجربته الشعرية وهو انحيازه لكل ما هو وطني وقومي بكل أبعاده الإنسانية والاجتماعية المختلفة، فأورد مجموعة من المقاطع يتغنى فيها الشاعر بوطنه، أو يندد فيها بالعدوان والتسلط والطغيان، أو يشيد بقدرة المغرب على التصدي للأعداء عبر التاريخ. وهذا دليل على أن الوطن يمثل كيانًا مستقلًا، إلا أنه شديد الارتباط بالذات الشاعرة التي لم تقتصر على حبّ الوطن في حدوده الجغرافية، بل تجاوزت ذلك إلى حبّ البلاد العربية قاطبة، وهو ما يجسد الحس القومي ويذكي فكرة القومية العربية عبر عدد من المقاطع التي واصل فيها الشاعر ما انتهجه في وطنياته، لكن في اتجاه أوسع وأشمل ليشمل الرغبة الملحة في توحيد الصفوف العربية ودعوتها إلى التآزر لمقاومة الأعداء المشتركين للعروبة والإسلام، وليتبنى القيم الوطنية والإنسانية التي تدعو إلى السلم والأمان بين الشعوب من خلال تجسيد حبّ الوطن والدفاع عنه بكل غال ونفيس.  هذه القيم هي التي تناولها الباحث في شعر حسن الأمراني الذي انتصر للشعر وركب موج التجديد دونما تفريط في الشعرية العربية القديمة، فجاءت تجربته متنوعة الرؤى والدلالات والموضوعات، لكن موضوع القيم شكل دعامة أساسية في تجربة الأمراني وأضفى على الشاعر بعدًا إنسانيًا وجماليًا حيث استطاع أن يضمّن شعره قيمًا جميلة يتمثلها عبر صور تعبيرية ومشاهد بديعة،كما استطاع أن يرسخها عبر لغة فنية تنفذ إلى ذاكرة المتلقي.  وهنا يمكن أن نشيد بدور الشاعر في ترسيخ القيم الإنسانية بين الأفراد والجماعات وفي مناهضة كل ما من شأنه أن يمس بكرامة الإنسان ويحط من قيمته الإنسانية. كما يمكن أن ننفذ إلى كنه الرؤية الشعرية لكل شاعر من خلال الموضوعات المطروقة ومن خلال العناصر الجمالية المستعملة.

في هذا الإطار بحث الكاتب عن تداخل الذاتي والموضوعاتي في القصيدة المغربية المعاصرة، فساق مجموعة من النماذج أجاب من خلالها عن مجموعة من الأسئلة المتعلقة بما يعرفه المشهد الشعري المغربي من حركية ودينامية تظهر من خلال تنوع وتعدّد المتن المدروس وتتأرجح بين الذاتي والموضوعاتي وفق نزوع كل شاعر. الأمر الذي يقودنا إلى الحديث عن النزوع الفلسفي في تجربتي محمد السرغيني وعبد الله زريقة، على أساس أن الكتابة الشعرية رؤية قريبة من الفلسفة، فكلاهما يعبر عن تجربة الإنسان بوصفه كائنًا لغويًا مفكرًا في علاقته بالوجود وفي صلته بالموجود معًا. ولعل المطَّلع على شعر السرغيني يتبين أنه ينتصر للحداثة الشعرية ويلتزم بقضايا الوجود والإنسان باستعمال لغة مستحدثة أو لغة رؤيا مكثفة، فيجعل من العلاقة بين الفلسفة والشعر أمرًا مطلوبًا في فعل الكتابة.  وبهذا يتموضع بين الفلسفة بأسئلتها الجدلية المتلاحقة وبين القصيدة بعوالمها الوجدانية المحلقة وفق ما ينسجم مع رؤيته الشعرية.

أما المتابع لشعر عبد الله زريقة فإنه ينصت إلى خفايا الذات والكون، ويعثر على مفاهيم ومصطلحات فلسفية كثيرة تساهم في بناء المعنى الذي يتقصده شعريا، إذ تعد الكتابة الشعرية لديه بمنزعها الفلسفي معبرًا من سؤال الذات في بعدها الفردي إلى رؤية العالم في بعدها الكوني.

هكذا يمكن أن نستنتج أن القصائد المدروسة مرتبطة بالذات والمعرفة والكون، وكل شاعر يقرأ ذاته ومجتمعه وفق رؤية فنية خاصة به. وإذا كان لكل شاعر ذات تلهمه، فإن لكل مدينة ذات تحتفي بها وبالأمكنة التي تنصهر داخلها، إذ تحضر اللغة كأداة للتعبير عن كل ما يؤثت فضاءها الجغرافي والرمزي في آن. ويظهر ذلك من خلال نماذج شعرية ساقها المؤلف لكل من محمد عزيز الحصيني وأحمد العمراوي وحسن نجمي ومحمد الأشعري وعبد الرفيع جواهري، حيث حضرت مدينة الرباط بشكل ملفت في قصائدهم، وأوضح أحمد زنيبر خصوصية هذا الحضور والتقط مدى تمثل الشعراء لهذه المدينة كفضاء سكنوه أو عبروه. لقد تنوعت صور الرباط كمدينة تاريخية وكعاصمة سياسية تستمد حضورها من سلطتها ومن طابعها الإداري والمؤسساتي من خلال تنوع نظرة الشعراء إليها وتباين رؤاهم التخييلية إزاءها، فساهموا في إثراء ذاكرتها ومنحها أفقًا أوسع يتجاوز الواقع إلى المتخيل. ومن هنا يمكن أن نقف عند أهمية الاحتفاء بالأمكنة داخل المتن الشعري ودورها في خدمة الذات الشاعرة وفي خدمة التاريخ والقصيدة.

نستنتج من قراءة هذا المؤلف أن المتن الشعري المغربي المعاصر يمتاز بالتنوع والتعدد وأن شعراءه على اختلاف مشاربهم ومرجعياتهم يمتحون من واقعهم الإنساني، مع حفاظهم على الوعي الجمالي بغية تحقيق التميز والفرادة والإضافة والمغايرة، وأن القصيدة المغربية لا تتوقف عن النبض جيلا بعد جيل مادام الشعر تجديدًا للحياة وتطويرًا للفكر وانتصارًا لقيم الجمال.

2.في ضيافة السرد: من الحكاية إلى المحكي

قدم أحمد زنيبر قراءة لمجموعة من الروايات المغربية ركز فيها على العناوين كعتبات خارجية دالة وأوضح علاقتها بالمضامين. استهلها برواية “السيل” لأحمد التوفيق، تناول فيها المنزع الدلالي بدءا من العنوان لما له من دلالات قصدية ورمزية معًا في بناء الحكاية ولما يثيره من أسئلة وقضايا متعددة وجودية بين الحدث والشخصية أو الشخصيات، والتي لخصها في ثلاثة أسئلة جوهرية تتمثل في سؤال القدر بين القبول والرفض، وسؤال الذات بين الخير والشر، ثم سؤال المصير بين الحياة والموت. أما المنزع الجمالي فاعتنى به الكاتب من خلال تركيزه على الجانب التعبيري الذي يستقي عالمه من اللغة والخيال، فأسند لغة الرواية إلى تقنية الاسترجاع التي ترتكز على حضور الذاكرة والحلم، فاستعمل الوصف مجالا لعرض الصور والألقاب والنعوت وتعقب الأماكن والمواقع، ونظرًا لثقافته الواسعة فقد أفاد الروائي من معارف ومجالات عدة تخللت عوالم الحكاية عبر لغة إيحائية رمزية أحيانا وتقريرية مباشرة أحيانا أخرى مما أسهم في تعميق الرؤية العامة المشكلة لأطروحة الرواية.

وفي رواية “أبنية الفراغ” لمحمد عز الدين التازي تناول أحمد زنيبر الواقعي والمتخيل في الرواية على أساس أن أحداثها توحي بالكتابة السيرية بمفهومها العام، حيث النهل من الذاتي والجمعي ومن المسموع والمرئي لذوات تعاني من قلق الوجود وقلق التحول الذي يشهده المجتمع بشكل مباغت، مما يدل على توتر واضطراب الذات الكاتبة لغة وتخييلا مما يوضح أن الكاتب يشتغل وفق رؤية تعي تمام الوعي أن فعل الكتابة مدخل أساس لنقد الذات والمجتمع اعتقادًا وسلوكًا وممارسة. وتندرج رواية “الحواميم” لعبد الإله بن عرفة في نفس سياق الكتابة السيرية التي تجمع بين السيرة والتاريخ والحكي والشهادة وتسائل حوار الأديان والحضارات، وارتباط الذات والهوية.  وهو نفس السؤال الذي تناوله الكاتب في رواية “أن أكون” لوفاء مليح، والتي تعد سيرة روائية غيرية تعنى بالهوية كمدخل مهيمن على الأحداث وتوثق للحظة إنسانية عبر ما تتيحه من إمكانيات للتواصل وما تقترحه من انزياحات للتخييل. وكغيرها من الروايات السيرية تحيي رواية وفاء مليح الذاكرة وتعيد الاعتبار لمرحلة زمنية عاشتها المرأة المغربية في سبعينيات القرن 20.

يواصل أحمد زنيبر سبر أغوار الرواية المغربية من خلال تناوله للثابت والمتحول في رواية  “إمارة البئر” لمحمد سالم الشرقاوي عبر تتبعه لأحد المكونات السردية، وهو مكون الشخصية الذي يساهم في مقاربة موضوعات وتقنيات الرواية. بحث أحمد زنيبر عن وظيفة هذا المكون الجمالية داخل الحكاية وكيف يساهم عمليا في تجسيد ثنائية الثابت والمتغير. وكدأبه في قراءة الروايات السابقة ارتكز زنيبر على عتبة العنوان “إمارة البئر” انطلاقا من مشكل الماء الذي يشكل مكونًا أساسيًا في أدب الصحراء لأنه يشكّل سرّ الكون والوجود. وهنا يمكن أن يطرح السؤال حول علاقة الإبداع بالواقع، أي سؤال الوعي بالكتابة. ومن تم تناول أحمد زنيبر أدبية الكتابة في رحلات “أرخبيل الذاكرة” لعبد الرحيم المودن، وحدد مفهوم الرحلة كفن أدبي تلتقي فيه كل الألوان التعبيرية التي تحقق الإبداع والإمتاع. وقد تضمنت الرحلة في “أرخبيل الذاكرة” رؤية سردية عنيت بالتفاصيل والجزئيات وأغنت المتن الرحلي.

وبما أن السفر جزء من الرحلة، فقد تناول أحمد زنيبر أيضًا تقاطعات السرد في يوميات “القاهرة كما عشتها” لرشيد يحياوي، هذه اليوميات جمعت القصة والسيرة والتأريخ وأوضحت رؤية متعددة الأبعاد التقطت بعين رائية يقظة توسلت باللغة والذاكرة من أجل صياغة نص محكي منفتح على خطابات وأنواع سردية مختلفة، مما يوضح أننا في حضرة حوار فني بين الأجناس، وسفر أدبي يسائل المكان ويكشف علاقة الذات بالأنا والآخر من خلال تدوين ما تراه العين أو تسترجعه الذاكرة، كما حدث في يوميات “أن تفكر في فلسطين” لعبد الله صديق، الذي جعل من زيارته لفلسطين حدثا بارزًا منحه حياة جديدة عبر التدوين والكتابة عن الذات وعلاقتها بالآخر، وهو الموضوع الذي تناوله زنيبر في سيرة “إلى أن يموت الشاعر” لمصطفى الشليح الذي قدم في هذه التجربة السيرية صورة مشرقة عن التعايش الحاصل بين الشعر والنثر، ونموذجًا حيًا عن أشكال الحوار بين الذات والآخر.

لم يكتف زنيبر بالخوض في دهاليز القصيدة والرواية والسيرة الذاتية فقط، بل تناول بالقراءة والتحليل بناء الشخصية في التجربة القصصية القصيرة لمحمد غرناط الذي يعد واحدًا من الذين طوروا التجربة القصصية منذ سبعينيات القرن 20. وقد ركز زنيبر على  مكون الشخصية بدل المكونات السردية الأخرى، من قبيل المكان والزمان والحدث واللغة، نظرا لوظيفته السردية ولما يقوم به من أدوار تساهم في خلق الجسور الممكنة بين الحدث كما هو في الواقع، وبين الصياغة السردية التي تمثل إعادة التفكير في الواقع. هكذا يقترب الكاتب من ذاته كلما اقترب أكثر من شخوصه، كما يقترب من تجربته كلما سرد تجارب الآخرين.

3.في ضيافة النقد من النص إلى الخطاب

قدم أحمد زنيبر قراءات متنوعة في كتب نقدية مختلفة المشارب استهلها بقراءة عنونها بالصوفي والنقدي في كتاب “الصوفية في الشعر المغربي المعاصر” لمحمد بنعمارة، وأوضح كيف أن الشاعر اعتنق التصوف مذهبًا إبداعيًا وكيف استوقفته مفاهيم الموت في الكتابة والاحتراق بنار الشعر المقدسة، ومزج المضمون الشعري بدم الشاعر خلال تناوله بالدراسة والتحليل لإنتاجات الشعراء المغاربة المعاصرين من معاني العرفانية الصوفية. ويرى أحمد زنيبر أن الطرح المعرفي والمنهجي لمحمد بنعمارة في هذا الكتاب يعيد من جديد طرح سؤال اللغة والقراءة، ويرسم حدود العلاقة بين الصوفي والنقدي، ذلك أن المتن الصوفي في حاجة ماسّة إلى ناقد يسبر أغواره وفق آليات نقدية حديثة تراعي التحولات الشعرية التي عرفها التاريخ الأدبي منذ البدايات إلى اليوم.

وقف زنيبر أيضًا عند الوعي النقدي في كتاب “أيتام سومر في شعرية حسب الشيخ جعفر” لبنعيسى بوحمالة، وهو كتاب يتناول بعض العوالم الشعرية بالعراق خلال ستينيات القرن 20 ويسائل درجة الإبداعية فيما قدمه الشعراء المحدثون من إضافات نوعية ساهمت في تطوير القصيدة العربية. وقد كان لتجربة الشاعر حسب الشيخ جعفر النصيب الأوفر لكونه يمثل تجربة استثنائية في الشعرية العربية المعاصرة بالنظر لما أعطاها من جماليات خارقة في البناء الشعري معجمًا وتركيبًا وإيقاعًا ودلالة، بلورها بنعيسى بوحمالة الذي يتميز بوعي نقدي في تدبير الموضوع وترتيب الأفكار وتنويع طرائق التحليل.

وقد طعم أحمد زنيبر بحثه بمتن نسائي ثان، وهو كتاب “الرؤية والقناع” لثريا ماجدولين، تناول فيه شعرية النقد الأدبي من خلال محاولة ثريا ماجدولين تجديد سمات شعرية القصيدة عند الشاعر المغربي محمد الميموني بغية إبراز ملامح تجربته وموقعها في المشهد الشعري المغربي، وذلك من خلال الإنصات لنبض النصوص والكشف عن مواطن الإبداع فيها.  ونظراً لاهتمام كل من أحمد زنيبر وثريا ماجدولين بالشعر والنقد، فقد جاء الحديث عن شعرية النقد عندهما بعيدا عن الانطباعية وقريبا من الإنصات الشعري المتشبع بالمعارف والمناهج التي يتعاملان معها وفق رؤية جمالية وفنية تخضع لآليات نقدية معتمدة.

تناول أحمد زنيبر المنهج والموضوع في كتاب “الرواية المغربية من التأسيس إلى التجريب” لعبد العالي بوطيب، وهو كتاب يقدم صورة مجهرية عن تاريخ الرواية المغربية رفقة نماذج تحليلية قصد التأمل والقراءة، وقد قاربه الباحث وفق ما تقتضيه صرامة الدراسة والمنهج. فلم ينحصر دوره عند حدود القراءة السطحية للمنجز المدروس، وإنما اتسم التحليل بالهاجس المعرفي والرؤية المنهجية. خصوصًا وأن الكاتب يعد من الأقلام الأدبية المغربية التي تهتم بمجال السرد في تجلياته المختلفة والمتعددة.

ختم أحمد زنيبر كتابه بمقال حول استراتيجية القراءة في كتاب “الزرافة المشتعلة” لأحمد بوزفور، فانتقل من نقد الرواية إلى نقد القصة القصيرة لدى علم من أعلام هذا الشكل الأدبي بالمغرب، وأحد المنشغلين بمجال نقدها ومتابعة إصداراتها. هكذا أوضح أحمد زنيبر حجم الانسجام والاتساق بين حس بوزفور الإبداعي وحسه النقدي في ملامسة النص القصصي القصير عبر محطاته وتحولاته المختلفة، من جهة، وبما تضمنه من إضاءات واقتراحات دقيقة وعميقة تعنى بمستويات التلقي والتداول وتنتصر للجدة والجودة الفنيتين من جهة أخرى.

خلاصة:

إن كتاب “الكتابة والرؤية” لأحمد زنيبر، ليعد بحق عصارة تجربة عميقة ومتنوعة في النقد الأدبي، حيث تناول المؤلف مُخرجات العملية الكتابية من شعر وسرد ونقد، وتعاطى لهذه العملية بارتحالاتها التي لا تحد، على أساس أن الكتابة طريق وحيدة مليئة بالشك الذاتي. وبما أنه مبدع وكاتب، فقد أحاط بتجربة غيره مستلهما من خبرته، مما يدل على أننا أمام مادة غنية بالتجارب تتطلب منا التعامل معها بحنكة وبدقة تليق بعمق التجربة، ذلك أن أحمد زنيبر كلما انتقى متنًا دراسيًا ذا صلة بالإبداع أو النقد كلما استحضر طبيعة الرؤية التي يحسن التوسل بها أثناء المعالجة والتحليل مستندًا في ذلك إلى فعل القراءة في علاقتها بالمتعة والإنصات رغبة منه في التعامل مع النص الأدبي على أساس أنه من جهة، نسيج لغوي متعدد السمات والعلامات، ومن جهة ثانية، هو حصيلة تجارب وثقافات متنوعة، ومن جهة ثالثة هو اختيار وموقف رؤيوي من الإنسان والعالم.

- مليكة معطاوي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية/الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.