يبدو الحديث عن سيرة صديق، من عيار الباحث السيميائي الكبير سعيد بنْكْرادْ، أمراً لا يخلو من حرج، وذلك لسبب بسيط هو أن كاتب هذه السطور لا علاقة له بفن “سردي” من قبيل السيرة الذاتية أو المذكرات. إلا أن عذري لا علاقة له بالتخصص العلمي. لقد قرأت هذه السيرة ثلاث مرات1. أولا كمخطوطة قبل أن تستقل الطريق إلى الناشر، الصديق بسام الكردي، مدير دار “المركز الثقافي للكتاب”. وأعدت قراءتها مرتين مع باقي القراء. بعد هذا لم أتمكن من مقاومة رغبتي في الكتابة عنها. حصل ذلك لعدة اعتبارات منها أن السيرة تحكي عن تجارب مشتركة بيننا، كطلاب في الجامعة وكأساتذة في نفس الشعبة بكلية الآداب بمكناس وكهيئة تحرير مجلة علامات. ولكن الأهم من كل هذه الاعتبارات هو تقاسمنا الفكري لنظريات في اللغويات والسرديات والبلاغيات إلخ. نظريات تحاول أن توفر للموروث هواءً جديداً منعشاً، هواءً يجدد الحياة في أجناس الخطاب: السردي والشعري والإشهاري واليومي، بل والسياسي إلخ. وربما الأهم من كل هذا أننا لم نكن تقنيِّين خلصاً، رغم أن هذه استهلكت الكثير من جهدنا، بل كنا حامِلي هم وطني وإنساني. كان همُّ التقدم يسكننا. فنحن جميعا في هيئة تحرير مجلة علامات: سعيد بنْكْرادْ مدير التحرير وباقي أعضاء الهيئة المرحومين محمود ميري، وعبد العلي اليزمي. وأحمد الفوحي وكمال التومي ومحمد الولي، منحدرون من أسفل ! الهرم الاجتماعي.
“كنا فقراء، كنا نمشي صباحا إلى المدرسة ونعود مساء على الأقدام، كان الطين في أيام الشتاء يلطخ أقدامنا العارية، وكان التراب الحار في الصيف يُدميها. وكان رغيف الخبز الحافي هو زادنا اليومي، لا فواكه ولا حلويات ولا مشروبات غازية غير ما تجود به الآبار من مياه، كما هي دون معالجة أو تطهير”(ص. 23).
بل إن التحاق بنْكْرادْ بالمدرسة قد حدث صدفة، كما تحكي السيرة: “كنت ألعب على جنبات الطريق التي تمر بمحاذاة منزلنا، فمر بي مجموعة من الأطفال صحبة آبائهم، وسألت أحدهم عن وجهتهم، فأخبرني أنهم ذاهبون إلى المدرسة. فانضممت إليهم، ووقفت وحدي في الطابور، إلى أن وصل دوري، فسألني المكلف بالتسجيل عن والدي وأخبرته بموته، وسألني عن اسمي واسم والدي ووالدتي ودوَّن اسمي في السجل. وهكذا أصبحت تلميذا بالصدفة وحدها.
كانت هذه المدرسة تبعد عن منزلنا بثلاثة كيلوميترات تقريبا، وكانت تسمى “مدرسة الخُضران”. كانت عبارة عن حجرات بُنيت على عجل بعد رحيل الاستعمار وسط أشجار الليمون، كانت الساحة بلا غطاء ولا وجود لصنابير المياه ولا للمراحيض. ولا وجود لنقل مدرسي ولا مطاعم. لم يكن هناك سوى العراء. وظللنا نتردد عليها مدة سنتين. وانتقلت بعدها إلى مدرسة أخرى كانت قريبة نسبيا من منزلنا، تُسمى اليوم مدرسة “يوسف بن تاشفين” في مركز العثامنة، وكانت أجمل وأنظف، وكانت تتوفر على مطعم مدرسي. كان مديرها في السنوات الأولى للاستقلال جزائرياً كما قيل لي”(ص. 22).
هي هذه الخلفية، بل القاعدة الاجتماعية التي تؤطر فكر بنْكْرادْ، بل فكر كل تلك الثلة التي التأمت في كلية الآداب بمكناس. هذا الوفاء للجذور الاجتماعية هي التي تفسر انحياز شريحة مترامية الأطراف من النخبة المفكرة في المغرب إلى التيارات الإيديولوجية التقدمية. وبطبيعة الحال فبنْكْرادْ ليس استثناء.
وعلى الرغم من تلك القتامة التي تطبع صور بنْكْرادْ لهذا الماضي فهو لا يغفل استعادته كما يراه الآن. إنه كثيراً ما عبر عن تلذذه بصوره لذلك الماضي كما يراه اليوم. “كانت أعيننا ترى الواقع وحده، وعندما نحلم، فإننا كنا نفعل ذلك بما يمكن أن يوحي به هذا الواقع. فلم تكن هناك مساحات افتراضية يُمكن أن تقترح على العين ما لا يمكن أن يلتقطه الحس المباشر. كان كل شيء “حسيا” في حياتنا، لا وجود لوهم بصري، لا شيء كان يُعاش في فضاء من طبيعة أخرى لا تراه العين إلا بالواسطة، كانت هناك الأشجار والخضرة والضحك والوجوه الأليفة الحقيقية. ولم تكن الخرافات التي تحكيها الجدات مختلفة كثيراً عما كان يجري حولنا، كانت الفطرة جزءاً من عالمنا الريفي المنكفئ على نفسه. كانت المساحات “الافتراضية” الوحيدة الممكنة هي ما تأتي به هذه الحكايات، ولكنها كانت تُعاش في اللغة لا في الصور. فحكاياتنا لم نلتقطها من الشرائط المصورة، بل من أفواه الجدات” (ص. 35).
هذا الاحتفال بالعالم الحسي الذي يطالعنا بدون وسائط افتراضية، يعرضه بنْكْرادْ بالتعارض مع الواقع الذي نواجهه اليوم عبر ركام من الوسائط الصورية والتلفزية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي. بنْكْرادْ يتوجس كثيراً من هذه الوسائط ومن دورها الهدام. لقيامها على تقديم واقع زائف ليس هو واقعنا الحقيقي. إن لهذه الوسائط أدواراً تتمثل في خلق عالمي وهمي ننغمس فيه وننفصل به عن واقعنا الحقيقي. بنْكْرادْ يزاوج هنا بين العرض والبناء والتحليل والنقد.
ولأهمية هذا التقديم للماضي باعتباره يستقطب الاستعادة الواقعية وإعادة البناء اعتمادا على تصورات علمية، والعالم المعاصر المعيش باعتباره نقيض ذلك العالم الماضي، بصفتهما متعارضين، أولهما يبعث الاغتباط والثاني يبعث الشجن. كما تستقطب هذه الباقة الحكائية مشرط الجراح سعيد بنْكْرادْ، أجدني مصطرا لهذا الاستشهاد الطويل الذي أعتبره من أروع صفحات هذه السيرة، بل الصرخة. “لم نكن نشتري لعبا من الأسواق الممتازة، كنا نصنع لعبنا من الورق والطين والقصب ومواد طبيعية أخرى. لم نكن نعرف “بلاي ستايشون” ولا الحوت الأزرق أو الأحمر والأخضر وغير ذلك، وإنما كنا نحاكي الحياة التي سنحياها استقبالا عندما نصبح رجالا ونساء من خلال المتاح المباشر، فألعابنا كانت مستوحاة من نمط حياتنا. كان المساء يفرق بيننا ونعود إلى منازلنا. وكنا نقضي الليل كله في انتظار الصباح لكي نرى أصدقاءنا وقد ازددنا شوقا إليهم.
كان لـــــ”الانتظار” طعم خاص، كنا نتعلم أثناءه كيف نكتب الشعر والقصة ونتغنى بصفات من نحب ونعشق. لا وجود لواتساب أو فايسبوك أو غيرهما مما يمكن أن يساعدنا على استحضار صور المحبوب أو صوته. ولم تكن هناك “إيموجات” مصطنعة تحل محل الكلمات (تلك القلوب والسيوف والوجوه الضاحكة أو العابسة)، لم نكن نرسل قلوبا تتساوى فيها كل العواطف، فهذه انفعالات معلبة في صيغ تستوعب كل حالات الوجود والروابط. كانت المدرسة، بعد المنزل، جنةً وروضاً لا مثيل لهما. وكنا ننتظر يوم العودة إليها بعد عطلة الصيف بلهفة وشوق لا مثيل لهما.
كانت حياتنا سلسلة من الحكايات التي لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد. كنا نتواصل مع الناس في الشوارع والأزقة والحارات الفعلية، الوجه في مواجهة الوجه، كيفما كانت حالاته، باسما أو عابسا أو مقطبا أو بشوشا، فالأهم من ذلك كله أنه كان وجها حقيقيا. كنا نحب في الحضور ونكره في الحضور، وعندما يتمكن منا الخجل كنا نكتب الرسائل الغرامية، ومن خلالها كنا نتعلم كيف نتمكن من اللغة وكيف نبني عوالم أخرى تحمينا من الضياع. كنا نختصم ونتشاجر في الطرقات والشوارع والساحات العامة، ونمضي إلى حال سبيلنا، لنلتقي في اليوم الموالي وقد نسينا كل شيء. كانت معاركنا وخصوماتنا حقيقية، وكانت أحقادنا حقيقية أيضا، ولكنها لم تكن تترك آثاراً تتداول تفاصيلَها الجالياتُ المقيمة في الفايسبوك” (ص. ص. 35-37).
توقفت مطولا عند هذا النص لأنه يعبر بعمق عما أعتبره من الموضوعات الكبرى في هذه السيرة الفكرية المذهلة. أقصد إلى العالم الفطري الطفولي والحسي بل والعذري، والعالم المعاصر المدنس بكثرة الأقنعة والوسائط التي نرى الواقع من خلالها. أي تلك الأقنعة التي تسبب لنا الضجر الذي أبدع بنْكْرادْ في التعبير عنه وتحليله. هذه الوسائطية كثيراً ما كانت معرقلة لرؤية الأشياء في حالتها الغفل والطبيعية. بل ربما كانت الوسائط هي المتكونة من الشبكات المفاهيمية العلمية. لهذا يذهب بَاشْلَار في مستهل كتابة شعلة قنديل إلى افتتاح كتابه بالتنصل من هذه الشبكات المفاهيمية الوسائطية هي كذلك:
“إننا نريد، في هذا الكتيب، المتكون من فصول قصيرة، والمتعلق بأحلام اليقظة، والمجرد من عبء ثقل أية معرفة [علمية]، وبدون أن نسجن أنفسنا في وحدة منهج استقصاء، أن نقول ما هو الجديد الحلمي الذي يتلقاه حالم ما في تأمله شعلة منعزلة”2.
بنْكْرادْ مروض المفاهيم يحس أحياناً بضرورة الاستنجاد بالعالم الحسي المباشر والمعافى من المفاهيم التي تفلت من قبضتها أغصان وفروع مهمة من شجرة الواقع. ورغم هذا الاحتفال الممتع بالواقع الحسي والعذري الذي صد كل الأشكال الوسائطية، أو الرمزية إذا صح القول، فقد كان هناك وسيط يفرض نفسه، ألا وهو حكايات الجدات التي كانت من محظيات بنْكْرادْ في هذه السيرة. وهو لم ير في هذا الوسيط الأذى الذي رآه في الوسائط التقنية المعاصرة. لأنها كانت تصاغ لغة ولم تكن ترجمة لصور يقول بنْكْرادْ:
“كان موت جدتي عادياً، أو لم يكن مفاجئا على كل حال، فقد كانت قد تجاوزت التسعين من عمرها، ومع ذلك حزنت كثيراً لوفاتها. وما زالت لحد الآن هي موضوع حديثنا أنا وإخوتي، في زياراتي للمنطقة. لقد عاشت بالحكايات وماتت داخلها ولم تَر من الواقع سوى ما كانت تسمح به كائناتها من الإنس والجن. وربما يكون هذا من الأسباب التي جعلتني أهتم كثيراً بالسرد ولا ألتفت إلا في النادر للشعر. فأنا أحب الشعر وأحب ترديده ولكنني أتردد دائماً في تحليل قصيدة”(ص. ص. 37-38).
كانت طفولة بنْكْرادْ قاسيةً حقاً، ومع ذلك فهو يراها اليوم وكأنها احتفال لانهائي بالحياة الحسية والعذرية. هناك في هذه السيرة، إلى جانب المعالجات المفاهيمية النظرية، انثيال رومانسي، يضمخ هذه السيرة بأكملها. أقصد بذلك إلى الاحتفال بكل ما هو طبيعي. ومما يشكل جزءاً من هذه الرومانسية هذا الحضور للبصر وللبصيرة الإنسانيين. تأمل كيف يتحدث عن أساتذته الفرنسيين في الثانوي: “وكان هناك أساتذة فرنسيون أيضاً، كانوا كثراً، أغلبهم أو كلهم كانوا “متعاونين” فضلوا التدريس في المغرب على أن يلتحقوا بالخدمة العسكرية في بلادهم. كانوا يأتون بسياراتهم إلى المغرب. ويبدو أن مرتباتهم كانت محترمة، فأغلبهم كان يكتري فيلات صغيرة في السعيدية، وهي أيضاً من بقايا الاستعمار في هذه المدينة الشاطئية الساحرة التي تبعد عن بركان بخمسة وعشرين كيلومترا. وكنا نستعين بهم في قضاء الكثير من حاجاتنا، بما فيها وثائقنا الإدارية التي كانت تسلم لنا في السعيدية ( عقود الازدياد خاصة). وكنا ننتظرهم في الطريق كل صباح لكي ينقلونا معهم في سياراتهم إلى الثانوية. وسنعلم بعد ذلك، في السنة الأخيرة في الثانوية، أن أغلبهم كانوا مناضلين في الحزب الشيوعي الفرنسي. وذاك ما يفسر عطفهم علينا.
كان الكثير منهم متفانياً في التدريس. وأذكر أننا كنا ننتظر بلهفة كبيرة درس اللغة الفرنسية الذي كان يلقيه علينا مسيو لُوبُو، في السنة الخامسة ثانوي، فقد كان أكثرهم تسامحاً، وأكثرهم تشجيعاً لنا على انتقاد كل شيء، وعلى رأس ذلك الدولة الفرنسية ذاتها. بل هو الذي سيحبب إلينا الأساطير اليونانية. كان يخصص في كل حصة نصف ساعة لكي يحكي لنا أسطورة أو جزءاً منها”(ص. 47).
نلاحظ كأن بنْكْرادْ يستعرض أمامنا بعض الأنوية التي تمثل العناصر الأولية لما سيصيره في ما بعد. عاشقاً لفن الحكي. تتمثل تلك الأنوية في هذا الحضور الانشراحي للحكي سواء في حكايات الجدة، في البيت، أم في روايات الحكواتيين في الأسواق، أي في الهواء الطلق، أم في الأساطير التي تعرضها أستاذ اللغة الفرنسية في القسم، أم في شغفه بقراءة الرواية. إنه الحكي في كل مكان.
“كنت أقضي الليل كله أقرأ الروايات. وكانت والدتي تستيقظ عند الفجر لتهيئ فطور أخي قبل أن يتوجه إلى العمل في إحدى ضيعات المعمرين، ويثيرها الضوء في الغرفة التي كنت أقتسمها مع إخوتي فتصرخ بي: كُفَّ عن القراءة ونم ستستهلك الغاز الذي في الفانوس. كنا فقراء وكان لقطرة الغاز أو للشمعة قيمة كبيرة. ولكنني كنت أواصل القراءة. كنت مشدوداً إلى العوالم التي تصفها القصة التي أكون منهمكا في قراءتها. بل كنت مشدوداً إلى كل العوالم التي تصفها الكتب، كانت تلك نافذتي من أجل الإفلات من محدودية المحيط وشظف العيش. وربما كان ذلك بحثا عن حيوات أخرى تُبنى في الذاكرة اللغوية خارج إكراهات الواقع” (ص. 50).
هناك إذن حضور مهيمن للحكي. كأن آلة الحكي وتحليله قد بدأت تتبلور من المراحل الأول لحياة كاتب هذه السيرة. وكما عودنا بنْكْرادْ لا تفوته الفرصة وهو يحكي أحداثاً ماضية لأن ينشر تحليلاته للمواد المعروضة. إن الباحث لا يختفي وراء الأحداث. بل كثيرا ما نثر حول هذه المحكيات تحاليله العميقة.
“فنحن نتعلم من الكتب كل ما لا يمكن أن ندركه بشكل مباشر أو نمارسه حقيقة في الواقع، وكل ما لا نستطيع تجريبه بأنفسنا أو لا نرغب في ذلك ( لست مضطرا أن أدمن المخدرات لكي أعرف الدور التخريبي الذي تمارسه هذه الآفة على الناس، ولكن بإمكاني معرفة ذلك بدقة بواسطة رواية تُفصل القول في حياة مدمن). إننا نتعلم كيف نعشق وكيف نحترم وكيف نتجنب المآسي من خلال الكتب. إن عالم اللغة أوسع وأرحب من حقائق الوجود، فالكلمات لا تسمي العالم فقط، إنها توسع من ذاكرته” (ص. 51)
بنْكْرادْ ليس حاكياً غفلا، إنه صانع ضفائر دلالية يختلط فيها الذاتي العاطفي والواقعي التاريخي والمعرفي أو العلمي. ففي الوقت الذي يحكي تُغْرِيه الوقائع بتحليلاته العميقة. وكما يظهر من خلال النص الآتي وهو حديث عن الكتاب والحكي، يتحدث عن فائدة الحكاية، إنها توسع فضاءات واقعنا. الحكي يوفر لنا ما لا يوفره الواقع. هذه الإضافات الكثيرة واللامحدودة هي توسيع لهذه العوالم وللتجارب الحياته ولفرص التعلم والاستفادة. إن قراءة كتاب هي انفتاح لعالم جديد نراه لأول مرة، وبالتالي إتاحة فرص جديدة للتعلم. لا ينسى بنْكْرادْ وهو يحكي واجبات التحليل. الحكاية تغريه بالتعليق والتحليل.
نعم، الكلمات لا تكتفي بتسمية الأشياء في الواقع وحسب، بل توسع وتمدد هذا الواقع. نعم، نحن نعلم أن الاستعارة والحكي أو السرد من الأدوات الأساسية لاقتحام الجوانب المجهولة من الواقع، أو الجوانب التي تعجز اللغة المتداولة والمفهومية عن أدراكها. ألم يقل جِيرُومْ بْرُونِيرْ: “يعتقد الفهم العام اعتقاداً صلباً كالحديد بأن شكل القصة ليس شيئا آخر غير نافذة مفتوحة على الواقع وليس قالباً يفرض عليه شكله”3 ويؤكد بعد هذا: “إنني أريد فقط أن أقول في هذا الطور، بأن الحكي، وحتي التخييلي منه، يهب الشكل لما هو موجود في العالم الواقعي ويكسبه ضرباً من الحق في الواقعية”4.
أعتقد أن بنْكْرادْ كتب هذه السيرة الفكرية لكي يقول شيئاً لا يمكن قوله بواسطة الخطاب النظري أو المفاهيمي. صحيح أن المفاهيم حاضرة هنا بقوة ولكن الأهواء أيضا حاضرة. وأعتقد أن اللحظة التي قضاها بنْكْرادْ في الجامعة كطالب هي لحظة ذات طابع خاص. كانت الجامعة في فترة السبعينات انعكاساً لما كان يجري في العالم. حركات التحرر الصاعدة. في أمريكا اللاتينية، ظاهرة تشي غيفارا سالفَادُور أليندي في الشيلي اندحار أمركا في الفيتنام نهاية الفرانكاوية، واشتداد الصراع بين السوفيات والإمبريالية، واشتداد الصراع بين الصهيونية وحركة المقاومة الفلسطينية، وأيضا في المغرب كان الاصطفاف واضحاً: الدولة في جهة والمعارضة الديموقراطية والاشتراكية والماركسية في جهة. كانت الجامعة في أغلبها في خندق التيارات الديموقراطية عموما. وكان الصراع محتدماً بين الطرفين. في هذه الفترة كانت الجامعة وخاصة كلية الآداب مسرحاً لحركة نضالية ساخنة، كما كانت مستودعاً للأطر الشبابية التي تعتمد عليها المعارضة لانتزاع مكاسب ديموقراطية. والواقع أن الحركة الطلابية كانت من القوة بحيث إنها كانت تنتزع الكثير من المكاسب بسبب تلاحمها. بل إن البرامج الدراسية والتوجيهات البيداغوجية والتقويم الجامعي، كثيراً ما كانت تستجيب لمطالب الحركة الطلابية ومنظمتهم الاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
في هذا المناخ دخل بنْكْرادْ إلى كلية الآداب طالباً في شعبة اللغة العربية وآدابها. أعتقد التقينا لسنة واحدة في الكلية، أي في الوقت الذي كنت أغادر الكلية متأبطا شهادة الإجازة كان بنْكْرادْ قد استكمل سنته الأولى. في هذا المناخ كنا جميعاً لا نحفل إلا بالدراسات التي تنحو منحى ماركسياً. ولم نكن نرضى إلا عن الأساتذة الذين يدغدغون عواطفنا الإيديولوجية. كنا نحتفل بالدولة والثورة للينين وخطوة الى الأمام خطوتان إلى الوراء والثورة الدائمة لتروتسكي وأربع مقالات فلسفية والكتاب الأحمر لماوتسي تونغ وأصل العائلة والملكية الخاصة والدولة لفريدريك إنغلز، والبيان الشيوعي لماركس وإنغلز. وفي الأدب كان يستهوينا الأدب الحديث عموما وخاصة الثوري منه كأشعار درويش وفؤاد نجم ومظفر النواب طبعاً وكل حركة الشعر الحر في المغرب. كعبد اللطيف اللعبي والمجاطي الخ وفي الدراسات النقدية لم نكن نهتم بالتقريب إلا بالدراسات ذات التوجه الماركسي أو الواقعي من أمثال كتابات حسين مروة ومحمود أمين العالم وعبد المنعم تليمة وكتابات نبيل سليمان وبوعلي ياسين ومن الترجمات كما نهتم خاصة بكتابات إرنست فيشر وجورج لوكاش وأرنولد هاوزر الخ وللحقيقة فإن اهتمامنا بالبرامج المقررة لم تكن تفوز باهتمامنا إلا بالقدر الذي يؤهلنا للنجاح في الامتحانات. وربما قاطعنا تلك المواد التي لم تكن تشفي غليلنا الإيديولوجي.
هي هذه الحاضنة التي استقبلت بنْكْرادْ طالباً في الكلية. كان النضال اليساري الاشتراكي الماركسي وما يدور في فلكه يحتل أغلب أوقاتنا. وما عدا ذلك فقد كان ديكورا، لا غير، نستخدمه لأجل الامتحان فقط. في النهاية كان تكويننا رهيفاً. وإذا أضفنا إلى هذا طبيعة المناهج السائدة في التدريس: غلبة تاريخ الأدب والانطباعية والواقعية أو الدراسة المضمونية، أدركنا أسباب ضعف تلك الشهادات التي نحصل عليها في آخر المسار الدراسي. كان النضال ضد ما كنا نسميه النظام من مهامنا المرحلية التي لا تقبل التأجيل. كأننا كنا نتحفز لبناء دولة اشتراكية لا للدخول إلى الأقسام والتدريس. ولذلك كانت تجربتنا التدرسية بعد التخرج هشة جداً، إن لم تكن كارثية. هذا النضال كان ثمنه غالياً حتى قبل الفوز بالشهادة وشق الطريق في المدرسة المغربية. يقول بنْكْرادْ وهو يصف مرحلة اعتقاله وتعذيبه:
“واصلوا تعذيبي أياماً عديدة، كان الجلادون بدون رحمة، وقد قيل لي بعد ذلك إن بعضهم كان من مخلفات الاستعمار، وإنهم اشتغلوا في صفوف الشرطة في تلك المرحلة كجلادين. وتعفنت قدماي من شدة الضرب بالكرباج، ولم أعد قادراً على الوقوف أو المشي أو الحركة داخل الزنزانة، ولم أعد قادرا على قضاء حاجاتي الطبيعية في المرحاض. وأُصبت بحمى شديدة، وبدأت أرتجف وأهذي وأصرخ من الألم. كنت أدخل في غيبوبة لساعات ثم أستفيق، ويعاودني الألم ثم أغفو، وقد اختلط علي النهار بالليل ولم أعد أعرف كيف أفرق بينهما، وبقيت على تلك الحال أياما لا أذكر عددها.
وحينما اشتدت آلامي وتعذر عليهم مواصلة تعذيبي، حملوني إلى مستوصف صغير في حي سيدي إبراهيم، وكان قريباً أيضاً من الجامعة. وعندما أدخلوني إلى غرفة التطبيب، نظرت الممرضة المكلفة بالاستعجالات إلى قدمي المتعفنتين فسألتني بدهشة عمن فعل بي كل ذلك المنكر، وأشرت إلى الضابطين، ولاذت بالصمت. فحقنتني بحقنة، وقامت بغسل رجلي بمحلول كحولي ووضعت عليهما مرهما ووضعت عليهما ضمادة كبيرة وأعطتني بعض الحبوب لأتناولها في مقر “إقامتي”. وعندما عدت إلى الزنزانة تذكروا ما قلته للممرضة، فانهالوا علي بسيل من الشتائم بدأت بديني وأصلي وانتهت بالعضو التناسلي لأمي وأختي وأهلي أجمعين”(ص. 87).
هذا النص الذي يستعرض حالة مؤلمة، يذكرنا بأدب السجون في المغرب وغير المغرب. إنها سنوات الرصاص، وما أثمرته من أدب سمي أدب السجون. في المغرب وخارج المغرب. فلنتذكر الأقدام العارية لضاهر عبد الحكيم، وثلاثية شريف حتاتة العين ذات الجفن المعدنية وجناحان للريح والهزيمة، ولكنه يدل أيضا على أمر مهم وهو أن بنْكْرادْ يعتبر الفكر له غاية عملية، وهي إسعاد الإنسانية. إن فكره نفسه يضع الإنسان دائماً في الأفق. ولذلك نراه يتمرد على السيميائيات النصية المحايثة التي تستبعد هذا الاعتبار الإنساني وتستبعد الفعل لأجل المساهمة في تغيير الفكر وبالتالي تغيير الواقع. فعلى الرغم من تبني بنْكْرادْ لأطروحة النصية الغريماسية الذاهبة إلى أن “لا خلاص للناقد خارجها” (ص. 106)، فإنه يعود لكي يؤكد بمرارة:
” فأنا لم أنس أبدا قناعاتي في السياسة والإيديولوجيا، كنت أحاول صياغة موقف جديد يتسع لهذه القناعات ولخصوصية النص في الوقت ذاته. ما يشبه سيمائيات قادرة على احتضان “الهم الإنساني” من خلال خطاب أكاديمي لا يتخلى عن صرامة العلم وإكراهاته، ولكنه لا ينسى أيضا أن موضوع المعرفة هو الإنسان ذاته ولا شيء غيره. وسيطلق الصديق إدريس جبري، سنوات بعد ذلك، على هذه المحاولة: “السيمائيات المناضلة”. لقد نبذت التحزب، ونبذت الحقائق المطلقة، ولم أعد قادراً على الانصياع لقناعات تصوغها أغلبية يصبح لزاماً على الأقلية الإيمان بها والدعوة إليها، ولكنني لم أتخل أبداً عن قيم مركزها الإنسان نفسه، كرامته وعزته وحقه في الحرية والديمقراطية والعيش الكريم”(ص. 188).
نعم، سماها الصديق ادريس جبري “السيميائيات المناضلة”، هي كذلك، إنه شكل من أشكال الفعل الذي تحتضنه السيميائيات. ليست ترفاً بل مساهمة لتفكيك ألغاز النص وفهمه والسعي من خلاله إلى تعديل كفتي الميزان بما يشرف الإنسانية ويسعدها.
وبسبب التنكيل والقمع في نهايات السبعينات وبدايات الثمانينيات فقد اختار سعيد الفرار والمنفى. كان المنفى هو باريس. هناك توقدت الشرارة التي دفعت محركات سعيد في اتجاه ولادة الباحث السيميائي الذي سيكونه بنْكْرادْ. طوى كل ما تعلمه في المغرب أو كاد. في باريس تفتحت شهوة بنكراد للمعرفة. لقد طوى صفحة ما تعلمه في كلية فاس. بل ربما مسح تلك اللوحة إذا كان هناك شيء يستحق المسح. كل ذلك رآه في باريس منتهي الصلاحية. تاريخ الأدب في صيغه التقليدية، والنقد الأدبي الواقعي وشبه الواقعي والانطباعية السائبة أصبحت كلها ذكرى. انفتحت أمام سعيد أبواب المعرفة الواسعة. كان ذلك عصر البنيوية في الأوج. وكانت باريس عاصمة عالمية على هذا الصعيد. أغلب علماء اللغة والشعرية والسيميائيات كانوا يلقون محاضراتهم هنا. غريماس وجونيت وتودوروف وكريستيفا وكورتيس الخ . كان بنْكْرادْ يداهم كل الأبواب في السوربون. انفتحت بل توقدت شهوته لأجل الكسب المعرفي. ففي باريس كأنه قذف إليها من عالم آخر غفل. هنا ابتدأ عنده كل شيء من الصفر أو كاد. بنْكْرادْ كان تواقا إلى شيئين: الحرية وانفتاح الأبواب أمامه للتعلم. كانت حياته في باريس احتفالا بل عرساً لا بداية له ولا نهاية. كانت جنة، كما رآها. أنا لا أنتظر من بنْكْرادْ أن ينظر إلى باريس بغير هاتين العينين بعدما عاش ما عاش في المغرب. كل الأبواب في الجامعة كانت فرصة متاحة للمعرفة. أحيانا يداهم أبواباً لا علاقة لها بما يتوق إليه:
“(دخلنا أنا وعبد الرفيق بوركي، ذات مرة بالخطأ إلى قاعة غاصة بالطلبة واعتقدنا أنها القاعة التي يُلقى فيها تكوين لا أتذكره كان هو غايتنا، وجلسنا مع الطلبة، وجاء الأستاذ وخاطبهم بلغة لم نفهمها، واضطررنا للبقاء جالسين لمدة ساعتين إلى أن انتهت الحصة)” (ص. 110-111).
أنتقي للقراء أجمل وصف للمناخ العلمي في السُّوربونْ، كما عرضه بنْكْرادْ في سيرته:
كان “نجوم” النقد الجديد منتشرين في كل أرجاء باريس. لم تكن الدراسات العليا تشبه ما يحدث الآن عندنا، حيث تحولت الماسترات، في شكل تراجيدي مرعب، إلى ما يشبه الكتائب أو الميليشيات، […] كنا في تلك السنوات الجميلة “ننتشر” في معاهد باريس وكلياتها بحثا عن دروس أو سيمينارات نتعلم منها ما لا يلقن لنا في وحدة البحث التي ننتمي إليها […] كانت رئاسة الجامعة توزع في بداية كل سنة جامعية كتيباً صغيراً يتضمن كل المحاضرات التي سيلقيها الأساتذة في كل الكليات والمعاهد في باريس.
لم تكن الدروس عندنا مجرد كم معرفي يُلقى في المدرجات، كانت فرصتنا ووسيلتنا لكي نتعلم من خلالها كيف ننتمي إلى الحياة، […]
كانت جوليا كريستيفا تُعطي دروسها في باريس7، في المقاطعة الخامسة من باريس( جوسيو باريس 7)، وكان على الطلبة لكي يفوزوا بمقعد في المدرج الذي كانت تُلقي فيه محاضراتها أن يرابطوا أمامه في الواحدة والنصف زوالا، أي قبل بدء المحاضرة بنصف ساعة. كانت في تلك السنة تُقدم محاضرات في ما أطلقت عليه “تمفصلات الخطاب العاشق”. كانت تتحدث عن العشق في كل ثقافات الدنيا: في الفلسفة اليونانية وفي المسيحية والإسلام واليهودية والبوذية وغيرها. كانت متمكنة من علمها، وكانت رشيقة وجميلة وأنيقة تتحدث بعفوية وطلاقة، كانت تطير بنا إلى عوالم فيها السحر والخيال وكل “مدن النحاس” التي حدثتنا عنها كتب “اقرأ” لأحمد بوكماخ. وكنت كثيراً ما أتيه في تلك العوالم وأغيب عن الدرس والمدرج وعن الدنيا بأكملها.
وكان جيرار جونيت وكلود بريموند يلقيان دروسهما في معهد كان يسمى آنذاك “المدرسة التطبيقية للدراسات العليا” ستصبح لاحقا “مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية”، […] وهو المعهد ذاته الذي شغل فيه كريماص منصب “مدير الدراسات في القسم الرابع”. وفيه أيضا كان رولان بارث يُلقي دروسه قبل أن يُعين في كوليج دو فرانس، […]
لم يكن بارث أستاذاً رسمياً في هذا المعهد، ولم يكن كذلك في أي جامعة في واقع الأمر، فقد ظل، رغم صيته وشهرته التي فاقت كل الحدود، بعيداً عن أسوار الجامعة ومدرجاتها. فالمؤسسات الوحيدة التي احتضنته كانت كلها “مؤسسات هامشية”، بتعبيره هو، إذ لم تكن تُسلم الشواهد ولم تكن لها سلطة تربوية عدا سلطة العلم ذاته […] ويُقال إن أحد العمداء في المغرب، هو جعفر الكتاني أغلب الظن، أقاله من التدريس في كلية الآداب، جامعة محمد الخامس، بعد السنة التي قضاها فيها في الموسم الدراسي 1969-1970، لأنه لم يكن حاصلا على شهادة الدكتوراه !!!!
وقد يكون ذاك هو السبب في كونه نظر دائما إلى التيارات النقدية الكبرى نظرة شك وريبة، فلم يُصنف ضمن تيار بعينه، عدا الانتماء الكبير إلى ميدان السيميولوجيا. لذلك عُرف بتنقله من حقل إلى آخر، داخل هذا الميدان، مجددا في كل واحد منها. وإليه تُنسب الدراسات الأولى في ميدان سميائيات الأنساق البصرية. وذاك أيضاً ما يفسر وصفه لكتابيه “مبادئ السيميولوجيا” و”نسق الموضة” باعتبارهما “هذيانا علميا” تنقصه المتعة، كما عبر دائماً عن ذلك. لقد مارس ما كان يسميه “العلم” في هذين الكتابين، وهو ما لم يكن يتلاءم مع مزاجه الفكري. لقد ظل يدعو إلى ما سماه “سيميائيات تدميرية”. لذلك كانت تستهويه الرغبة دائماً في “تحويل المعرفة إلى فرجة”.
وهو أيضا المعهد الذي كنا نتابع فيه وحدة من وحدات الدرس مع المرحوم الأستاذ دانييل ريغ، وهو يهودي مغربي كان يجيد العربية وله عليها فضل كبير، يكفي أن أشير إلى أنه هو مؤلف قاموس “السبيل”، الصادر عن لاروس، وهو قاموس عربي -فرنسي بذل فيه جهدا كبيرا من أجل وضع جسور بين العربية والفرنسية، وعبر ذلك الربط بين ثقافتيهما.
هؤلاء جميعا وغيرهم كانوا يزينون الفضاء الثقافي لباريس في سنوات الثمانينات، وكان الطلبة يتبادلون أخبارهم كما يتبادل المراهقون أخبار النجوم. كان هناك تنافس شديد بين هؤلاء، كانوا يقترحون، كل بطريقته وتصوره، سبلا تقود إلى فهم النص، أي إلى فهم الحياة. لقد كان المجتمع يُفرز أسئلة خاصة بالحياة والموت وشروط العيش ومواجهة السلطة، وكانت تأتيه الأجوبة من كل التخصصات، من السوسيولوجيا والأنتروبولوجيا واللسانيات والسميائيات والتحليل النفسي” (ص. 110-114).
أعتقد أن هذه أجمل الصفحات في وصف المناخ العلمي في السُّورْبونْ حيث تكون الباحث السيمبائي بنْكْرادْ. طبعا هو يحكي بكثير من الإعجاب المستحق. لعل النص الآتي يكمل الصورة ويلونها:
“كانت حياتنا الجامعية في باريس مليئة بالمفاجآت في المعرفة والعلم وفي الحياة أيضاً. لقد كانت السنوات التي قضيتها في هذه المدينة هي الأساس الذي سأبني عليه كل اختياراتي المعرفية والوجودية اللاحقة. لقد تخلصت من التأويل الإيديولوجي، ومن الرؤية السياسية الأحادية. وتبنيت رؤية حضارية لا تقيس الوجود بالربح والخسارة، بل بالرقي في السلوك والمزيد من الإنسية في حياتنا. لذلك كانت التجربة الإنسانية كما تُبنى في كل ما ينتجه الإنسان هو منطلقي الأساس” (ص. 176).
هي هذه بشكل مركز سمات المناخ الباريسي في السوربون حيت تكون باحثنا بنكراد. وهو حينما يعرج وهو يسوق هذه الحكايات على ما آلت إليه الجامعة المغربية يعبر عن حسرته الأليمة لما آلت إليه الأمور. يقول بنكراد: “فالجامعة عبارة عن جزر منفصلة عن بعضها البعض. إنها تبلور وتضع للتداول برامج لا علاقة لها بالمتاح الحضاري في مجتمعاتنا ولا بممكنات ثقافتنا ولغتنا وتاريخنا. إن الذين يدبرون ملفات التعليم عندنا مشدودون إلى فضاء حضاري آخر لا علاقة له بهموم الأمة وبممكناتها. إنهم مهووسون باستيراد النماذج الجاهزة في كل الميادين، بما فيها اللغة، فهم يعتزمون الآن استيراد اللغات الأكثر مردودية في السوق على حساب لغة وطنية هي التي صنعت جزءا كبيرا من تراث هذه الأمة.
قد تقدم النماذج المستوردة في بعض الميادين حلولا لمشاكل تقنية، ولكنها لن تُسهم أبدا في تنشئة اجتماعية سليمة تؤدي إلى خلق مواطن يتصالح مع نفسه ومع دولته […] لقد أصبح الفضاء الجامعي عقيماً لا ينتج قيما ولا يسهم في التصدي للرديء منها.
بل إن جزءاً كبيراً من وسائل الإعلام يُصر الآن على نشر ثقافة تزدري المعرفة الأكاديمية وتتهكم من القضايا التي تناقشها […]. يعود ذلك في جزء هام منه إلى أن الدولة لا تستند إلى ثوابت هي ما يُسند النسيج الاجتماعي وهو ما يوجه سلوك الأفراد. فالمربي لا يفصل بين قناعاته، وهي ملك له وحق من حقوقه، وبين ثوابت هي التي يجب أن تحكم السياسة والأخلاق والبيداغوجيا التعليمية والقيم مجتمعة. لم تعد الحقيقة مودعة في الكتب والموسوعات، إنها منتشرة الآن في الشبكات الاجتماعية حيث لا وجود لمصفاة تكون في رعاية المجموعة العلمية وحمايتها.
هذا دون الحديث عن المحسوبية في تولي المناصب ومحاربة الكفاءات والحط من شأن البحث العملي. هناك قوة جمود رهيبة تنشر سلطانها الآن في أغلب الفضاءات الجامعية وتقف في وجه كل محاولة للتغيير. ولن يطول بنا الزمن حتى يُشترط على الأستاذ في مباراة التوظيف توقيع التزام يعلن فيه ولاءه للعميد وحاشيته، وأن لا يفكر في البحث العلمي ما دام أستاذا في الجامعة ( فُصل واحد وعشرون أستاذا من الجامعات الأردنية مؤخرا (2019)، لأنهم أخلوا بقانون العمل في الجامعة ولم ينجزوا أي بحث لمدة خمس سنوات، لو طُبق هذا المبدأ في المغرب لأصبحت الجامعة خاوية على عروشها).
النجاح […] عندنا ليس مرتبطا بتفان في العمل ولا بإشعاع معرفي ولا باجتهاد، إنه مشروط في المقام الأول بالولاء والصمت. فهذه هي الأجواء السائدة الآن في أغلب الجامعات المغربية وفي الكثير من المؤسسات الأخرى. بل إنها الأجواء السائدة في الكثير من المؤسسات الحزبية والنقابية وغيرها” (ص. ص. 115-117).
ويقول وهو يتحدث بحسرة عن أحوال البحث العلمي في جامعاتنا:
“كنت أستاذا زائرا في كلية الآداب في صفاقس، وزائرا في المعهد العالي للفنون والحرف في المدينة نفسها. وبعد ذلك كنت أستاذاً زائراً في المعهد العالي للفنون والحرف في تونس العاصمة، باب سعدون. كنت ألقي محاضرات في السميائيات، وفي أكثر الحالات كنت ألقي دروسا في سميائيات الصورة، خاصة في معاهد الفنون. كان الطلبة في الغالب من الماستر أو من الذين يحضرون الدكتوراه. وكانوا يتابعون هذه المحاضرات باهتمام كبير. وما أثار انتباهي في الجامعة التونسية هو الانضباط واحترام الحرم الجامعي، فالدخول إلى الأقسام له توقيت مضبوط، ولا وجود لمسيرات داخل الكلية تُجبر الطلبة على مغادرة الأقسام، بمناسبة أو غير مناسبة.
أدركت في زياراتي المتتالية لتونس أن هناك فرقاً كبيراً بين نظامنا التعليمي وبين نظامهم على مستويات عدة. فالترقية عندنا مثلا ظلت لسنوات طويلة مرتبطة بالأقدمية، على الرغم من أن جزءاً هاماً من الراتب الذي يحصل عليه الأستاذ هو مقابل الأبحاث التي يقوم بها. أما في تونس، فلا وجود لشيء اسمه الأقدمية. فلكي يترقى الأستاذ الجامعي عليه أن يقدم ملفاً علمياً حقيقياً، لا مكان فيه لمهام أخرى غير مهمة البحث والتدريس، فهم هناك لا يعترفون بالنقاط التي يمكن أن يحصل عليها الأستاذ نظير عضويته في مجلس الكلية أو مجلس الجامعة، أو بالانتماء إلى النقابة أو القيام بمهام “السانديك” في العمارة والعلاقة مع قائد المقاطعة أو أي شيء آخر (ما يسمى الانفتاح عندنا)” (ص. ص. 249-250).
هذان عالمان. أعتقد لا سبيل إلى مقارنتهما. أن أحدهما مشدود إلى المستقبل والآخر مشدود إلى الواقع القائم الفاسد. الذي لا يتطلع إلى المساهمة بإضافة شيء إلى الحضارة الإنسانية وإنما هو مصمم العزم وبكل الوسائل على الدوران في الحلقة المرغة. والمراوحة في المكان. إن ثمن ذلك هو تبديد الثروة ليس لأجل إنجاز تقني ما أو حضاري أو اجتماعي، وإنفاقها في ما يجعل الناس يعملون لأجل المراوحة في المكان. هذا بالضبط ما يدينه بنكراد. إنه ليس تقنياً، بل هو حامل لفكر عملي يتطلع إلى الأفق ويعمل لأجل أن نساهم بشيء ما يشرفنا أمام الأجداد الذي ننمي إرثهم وأمام الأغيار لأننا ننهض كأنداد لهم وليس متسولين على أبوابهم. بنكراد مشبع بفلسفة عملية. وكما يقول إرنستو غْرَاسِي: “إن المجتمع الإنساني ليس أبداً «est» وأنما هو دائما “صيرورةdevenir “5. هذه الصيرورة هي التي يدفع بنكراد الفكر في اتجاهها. لهذا السبب انتقل في السيميائيات من النصية إلى التأويلية المنفتحة على العالم الإنساني.
ولهذا أيضاً فإننا نقرأ لبنكراد صفحات رائعة في نقد وسائل التواصل الاجتماعي وفي أدوارها الهدامة.
لا أريد أن أخوض في تفاصيل هو أعرف بها أكثر مني. ما يهمني هو تقويمه لدورها التخريبي. وربما شغله هذا الجانب السلبي عن الحديث عن أدوارها الإيجابية، فهي ليست كلها شراً. يقول بنكراد:
“لقد علمتنا الرقمية الجديدة كيف نبيع أنفسنا، بل دفعتنا إلى تسليم كل شيء في حياتنا مقابل متعة عارضة في فضاء وهمي. كل شيء يمكن أن يتحقق عن بعد: التعليم والحب والصداقات والجنس وأشياء أخرى أجهلها. إنه الاستسلام الكلي للنظام القائم بكل قيمه: وقد كان إيريك شميدت، وهو المدير التنفيذي لغوغل، يقول: “إذا كنتم لا تقومون بأفعال منافية للقانون، فلماذا تخافون أن نعرف عنكم كل شيء”. لم يعد هناك مكان لشيء اسمه “الحياة الخاصة”، فهذا الفضاء أصبح “حالة شاذة”.
وتلك هي الحالة التي تمثلها مجموع الصور التي يلتقطها الناس في كل مكان بواسطة هواتفهم المحمولة، فهذه صور لا تقوم سوى باستنساخ لحظات عابرة في العين وفي الوجود. إنها استعادة محايدة لجزئية من فضاء ممتد إلى ما لا نهاية، ما يشكل المعادل البصري لشيء يُرى في مادياته وحدها. فلا يشكل اليوم موت شخص ما حدثا، ذلك أن الحدث الحقيقي هو التسابق إلى الإعلان عن هذا الموت في الشبكات التواصلية. سيشعر الكثيرون بالوحشة والغربة في عالم بلا “ويفي”. لم يعد الناس يتعرفون على أنفسهم في وقائع الحياة الفعلية، فهذه وقائع ناقصة تشكو من غياب الوهم. لقد أدمنوا العيش في ظلمات الافتراضي.
في مارس 2017 كنت عائدا إلى الرباط من مراكش بعد أن شاركت في ندوة في كلية الآداب. وعندما اقتربنا من مدينة برشيد صرخ أحد الركاب، وكنا في الدرجة الأولى، وأشار إلى شخص بجانبه كان يحتضر. وبعد دقائق معدودات لفظ الرجل أنفاسه الأخيرة، بسكتة قلبية في ما يبدو. كان طبيبا في السادسة والأربعين من عمره، كما عرفنا بعد ذلك. وكثر اللغط والصراخ. ضمن هذا المشهد المأساوي كله سيثيرني موقف طفل صغير كان برفقة أمه، ولم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره. فعندما تأكد الناس من موت الرجل وانفضوا من حوله، طلب هذا الطفل من أمه مده بالهاتف لكي يلتقط للميت صورة، وقال لها ” خليني أماما نزوميه” ( دعيني يا أمي ألتقط صورة قريبة له). هو ذا السلوك الجديد الذي بدأ ينتشر اليوم بين أطفالنا وبين كبارنا أيضاً. إننا لا نفكر في طبيعة ما نرى أو من نرى، بل نفكر فقط في التقاط صورة له سنعممها بعد ذلك في الشبكات الاجتماعية.
لقد أصبح هذا الفضاء فجأة نظاما لرقابة شاملة لا أحد يستطيع الإفلات منها. لقد تسللت عين الرقيب الإلكتروني إلى كل ما يوضع للتداول في الفضاء العمومي. وتخلى الناس طوعا لسادة “البيغ داتا” عن جزء كبير من حميميتهم وذاكرتهم مقابل اتصال مجاني يمارسون من خلاله هواياتهم في التلصص والنميمة والعبث الصبياني، وقليل من الفائدة العلمية. اختلط الإشهار بالتشهير والتلصص بالفضول، واختلطت الكثير من المعارف بالحقائق المزيفة وكل ما يصدر عن النفوس السليمة والمريضة على حد سواء. لقد تحول “النيت” إلى فضاء لعرض الكثير من الأحقاد والكراهية والقليل من الحب والمودة والتآخي.
وكنت شاهداً أيضاً على منظر شبيه بالسابق في مقبرة الشهداء بالرباط. فعندما وُضع جثمان أحد الأساتذة بجانب القبر الذي سيوارى فيه، أخرج ابنه، وكان في العشرين من عمره أو أكثر قليلا، آلته الفوتوغرافية وبدأ في التصوير. لقد تابع بالآلة عملية الدفن بدقة متناهية وبرغبة من يريد التقاط أكبر عدد ممكن من الصور لجثمان والده وهم يضعونه في القبر. وكان يُنوع من اللقطات، كان يقف فوق حجرة، وينحني على ركبتيه ويميل يميناً أو يساراً لكي يختار الزوايا. كان شبيهاً بفوتوغرافي محترف يشتعل مع وكالة إخبارية. لم يبد عليه أبداً أنه كان حزينا، كان منهمكاً في التقاط الصور فقط. كان موقفاً غريباً حقاً، فأبوه لم يكن طاعنا في السن، ومات في غفلة من الجميع، وكان المفروض أن تكون لحظة الفراق حزينة ومؤثرة، وكانت حزينة عندنا نحن أصدقاءه، ولكن الابن كان مأخوذاً بالتصوير وحده.
لقد أصبح الفضاء الافتراضي مرتعاً لرغبات وأوهام تتناسل باستمرار دون أن تقود إلى إشباع حقيقي. إننا نحيا الزمن داخله باعتباره “لحظة أبدية”، بتعبير جان بودريار، أو ما يطلق عليه “الحضورية”، وهي صفة جديدة لزمن تخلى فيه الإنسان عن المستقبل والماضي بكل الحنين والأمل فيهما، لكي ينغمس في حاضر لا أفق له سوى نفسه، ما كان يسميه فرويد ” هذيان الرغبة”. فمن ميزات الرغبة أنها مرتبطة باللحظة والحسي والآني وما يمكن أن يتحقق في الغالب بدون جهد.
لقد استولت الشبكات التواصلية الجديدة على كل شيء. وتجاوزت بذلك الوسائط الإعلامية التقليدية التي أصبحت الآن تابعة للأرصدة التي يضعها المبحرون في الفضاءات الوهمية في حساباتهم الخاصة. لم تعد العين “ترى”، كما كانت تقتضي ذلك قواعد الفرجة التقليدية، إنها الآن تتأمل ذاتها داخل “فرجة” افتراضية لا تستند إلى نظرة تُعيد بناء ما تراه، بل تلهث باستمرار وراء تمثيلات مباشرة “لانفعالات” بصرية لا ترتبط، في غالب الأحيان، بلحظة فريدة منزاحة عن دفق زمني مألوف. إنها تتشبث بالعابر في الزمن وفي الجسد المصوَّر على حد سواء. يُعجَب الناس كثيراً بأنفسهم في الافتراضي، ولكنهم قد يَنْفرون منها في حقيقة وجودهم. فما يقوله الناس في الفضاءات المظلمة لا يشبه إلا قليلا ما يفكرون فيه أو يمارسونه حقيقة في حياتهم اليومية.
لقد قبل الناس التعري أمام الآخر، وقبلوا أن ينقادوا لما تريده آليات جديدة في الرقابة تريد أن تعرف كل شيء عن المبحر. اختفى المواطن، كما اختفى التنافس السياسي وتعدد البرامج وتنوعها، فكل شيء خاضع اليوم لآلية ضبط سياسي صارم هو الذي يتحكم في الرأي العام ويوجهه. وبعد سنوات قليلة مقبلة لن يبقى للسياسة معنى، ولن يكون للانتخابات والديموقراطية أي جدوى ولن يطالب الناس بهما في جميع الأحوال. كل شيء سيتم وفق ما تريده الخواريزمات. فهي وحدها القادرة على توجيه الرأي العام خارج إيديولوجيات اليسار واليمين والعقيدة. إنها توجه الناس وفق ما تريده آلهة الرأسمال الجديد الحالمة بـــــ”مدن عائمة” لا تعترف بالديمقراطية والمواطنة، إنها تريد أن تتحكم في إنسان جديد يتحدد من خلال قدرته على استهلاك البضائع.
فعلى عكس الأجهزة القديمة التي كانت تمارس العنف والعسف للحصول على جزء مما تريد، فإن الشبكات الاجتماعية تصل اليوم إلى كل ما تريد بشكل “ناعم” و”طوعي”، لقد وضع الناس فيها حريتهم عند أقدام فاعلين رقميين يعرفون عنهم ما لا يعرفونه عن أنفسهم. ويعرف الكثير من المثقفين، أو جميعهم، هذه الحقيقة ويدركون خطورتها، ولكنهم لا يستطيعون خلاصاً من فضاء يوهمهم بالحضور الدائم في عين الآخر وذهنه، إنه وهم الشهرة، أو هو خصاص في الاعتراف. إنهم لا يمارسون في الكثير من الحالات مواطنتهم إلا داخله. وبذلك اختلط الجيد بالرديء، والضحل بالأصلي، والتافه بالعميق. لقد ” أصبحت الحقيقة مكلفة جدا” (ريجيس دوبري) يتعذر الوصول إلى جزء منها في الغالب من الأحيان” (ص. 310-315).
كلمة أخيرة عن مجلة علامات.
أشكر الأقدار التي وضعتني في سكة بنـﮕراد. بسببه انتميت إلى هيئة تحرير مجلة علامات التي يديرها. والتي كانت فكرة إنشائها من إلهام المرحوم الرفيق الجميل عبد العلي اليزمي. وكان المرحوم محمود ميري الإنسان الفريد عضواً نشيطاً ضمن الهيئة. هما شهيدا علامات، والكلمة النظيفة. من أعضائها أيضاً الرجل المؤمن حقاً والخير والعاشق للعربية الأستاذ أحمد الفوحي، ومن الأعضاء أيضا الصديق الأستاذ والباحث الرصين كمال التومي. وكذلك كاتب هذه السطور محمد الولي. اليوم تصل أعداد المجلة إلى الرقم 56 هو رقم فريد في المجلات المغربية التي لا سند لها إلا اختضان القراء الذين ظلو أوفياء لحبهم لها ما يقترب من الثلاثين سنة. وأيضا الصبر الذي تحلى به الصديق بنكراد.
وعلى الرغم من أن الباحثين المنضوين في الهيئة كانوا يساهمون داخل المدرجات الجامعية في تطوير الدرس اللغوي والنقدي والسيميائي والبلاغي فإن غاية إنشاء مجلة بتوجُّه علامات هي توسيع دائرة الاجتهاد، كما كان من غاياتها الخروج من دائرة المقررات الجامعية وتوسيع هامش الحرية أمام الباحثين الجامعيين. ففي الجامعة يظل الجمهور هو محتويات الأقسام. كما أن الحرية مقيدة بالزمان والمكان والمقرر وبقيود الشركاء في التدريس الخ
المجلة تعني توسيع مجال الحرية. أولا أمام هيئة التحرير ولكن أيضاً بانفتاحها على المساهمين من المثقفين في كل العالم العربي، وكذلك فإن فضاء القراء يتسع لكي يشمل كل قراء العربية. وفي الحالتين يبطل القيد المكاني والزمني. ويتسع مال الحرية والابداع
ومن مكاسب المجلة أنها وضعت نفسها في خندق تجديد الدرس السيميائي، بتوطينه وجعله كائنا أليفاً وسط كل المثقفين. بطبيعة الحال فإن هذا لا يعني إطلاقا افتعال مشكلة ما مع الاتجاهات المحافظة. كانت الغاية بالأخرى التشديد على الصرامة العلمية. وإلى الآن ومع العدد 56 يمكن أن نصرح باطمئنان أن المجلة كانت مشروعاً موفقا. يقول بنكراد:
“كان هناك إحساس عند الكثيرين منا بأننا خسرنا معركة السياسة، وألا شيء من أحلامنا فيها قد تحقق، سنوات من النضال والسجن والمنفى لم تؤد إلى أي شيء، أو كان مردودها هزيلا. كان علينا إذن كسب معركة الفكر، لذلك كنا “مناضلين” في كل هذه الميادين. كان الفضاء الفكري في الجامعة موزعاً حينها على يمين ويسار وحداثة وتقليد، وأصالة ومعاصرة، كان هناك تنافس شديد بين كل هذه التيارات، ولكن كان هناك تعايش بينها أيضا. لم يكن هناك عداء بيننا، ولم نكن نكيد لبعضنا البعض كما يُفعل الآن حيث تحولت الجامعة إلى ساحة للنميمة والحقد والبغضاء، كنا نختلف في كل شيء، ولكننا كنا نقدر مجهودات كل من اجتهد، أأصاب أم لم يصب. جزء كبير من الأساتذة الآن ليسوا لا حداثيين ولا تقليديين ولا يمينيين ولا يساريين، ولا مؤمنين ولا كفاراً ولا ملحدين. هم في الخلاصة لا شيء” (ص. 186).
وقد يكون من الأهمية بمكان أن نجزم بأن هذه الأعداد 56 من المجلة هي اليوم معروضة على الشبكة. ولكل متردد على الموقع بإمكانه أن يسحب منها ما يشاء من الأعداد والمقالات، بإمكانه أن يسحبها كلها إذا شاء.
لم تُقدِم المجلة على ذلك لأجل الكسب المالي، فالذي يريد كسب المال عليه أن يختار طريقا أخرى غير إنشاء مجلة. لقد عرضناها في الشبكة لتيسير نشر المعرفة. وتقديمها مجاناً للقراء. هذا الشيء نعتز به، لأن دولا بأكملها يصل بها الشح إلى عدم عرض مجلاتها التي تتمول من أرزاق الشعب. هي تطبع بأموال الشعب وتباع للشعب بأثمان باهضة. وتنشر فيها بضائع ليست علمية دائماً. يختلط فيها العلم بالبروباغاندة المقرفة.
ما كان لعلامات أن تصمد لولا حكمة الصديق بنكراد. وتحمله الجزء الكبير من العناء. ورغم هذه التضحية الجسيمة للصديق بنكراد، فقد نسب كل الفضل إلى أصدقائه في الهيئة وخارج الهيئة. بل وهذا من مزاياه التي لا يضاهى فيها. بل نراه على امتداد سيرته يقول بكل تواضع:
“كتبت كتابي الأول: “السميائيات السردية: مدخل نظري”. وهو كتاب عرف نجاحاً كبيراً حيث صدرت منه لحد الآن ست طبعات في دور نشر مختلفة، بعلمي وبغير علمي ( ولا أعرف سر هذا النجاح). وقد حاولت في هذا الكتاب أن أقدم عرضاً عاماً عن المفاصل المركزية لنظريته الخاصة بالنص السردي في مكوناته وفي طريقة انبنائه واشتغاله. وكان ذلك سنة 1996.
لم يكن الكتاب تعليميا، أي تبسيطيا. ولم يكن أيضاً شاملا لكل ما جاءت به مدرسة باريس أيضا. حاولت أن أقدم الأسس الأولية التي قامت عليها هذه النظرية والخطاطات التي تقترحها من أجل قراءة النصوص السردية خاصة. كنت أعيد بشكل ما صياغتها في اللغة العربية وفق أمثلة مستقاة من النصوص العربية، ووفق ما تسمح به الترسانة المفهومية العربية أيضاً. فالنظرية في جميع الحالات لا تهاجر من ثقافة إلى ثقافة أخرى من خلال مفاهيمها فقط، إنها تكون منتجة عندما تستوعبها الثقافة الحاضنة في أسسها الفلسفية. وهذا ما حاولت القيام به في هذا الكتاب.
لم يكن هو كتابي الأول، لقد كان ثاني عمل أصدره في مسيرتي العلمية. فقد كانت كلية الآداب قد نشرت، تطبيقا لتوصية اللجنة التي ناقشت رسالتي لنيل دكتوراه الدولة، جزءاً بسيطاً منها سنة 1994 تحت عنوان “شخصيات النص السردي: البناء الثقافي”. وقد أُعيد هو الآخر طبعه ثلاث مرات في المغرب والأردن ومصر. وهو كتاب لا قيمة له في واقع الأمر، ولا يقدم شيئاً مهماً إلى قراء العربية ( أشرت في آخر طبعة أنني أعيد نشره بطلب من الناشر لا تلبية لحاجة علمية)” (ص. ص. 192-193)”.
ويقول عن أطروحته في الدكتوره: “وهي رسالة لا أذكر منها اليوم أي شيء”. (ص. 187)
ويقول أيضاً:
” بدا لي الأمر كأنني أبدأ مشاريعي من جديد. فقد كانت هذه العشرية الأخيرة من أخصب الفترات في حياتي، فقد ترجمت وألفت فيها الكثير من الكتب، وقرأت فيها الكثير من النصوص والوقائع الإنسانية. وبدأت أحس أن كل ما قدمته من قبل لا قيمة له قياساً بما أقوم به الآن وبما سأقوم به مستقبلا.” (ص. 270)
إلا أن هذه الطيبة الإنسانية وهذا التواضع النادر وهذا العشق للمعرفة والتصميم على أن يجعل المعرفة سعياً إلى السعادة الإنسانية، لم يفلت من أذى أحد الدمويين وهو من سلالة من يتحدثون وتحت سلهاهم السيف والنطع. خاطب ذلك “الشخص” بنكراد في رسالة إلكترونية : “لقد قرأت مقالك حول الساخن والبارد في الإشهار وأقول لك شيئاً واحداً: “لعنة الله عليك إلى يوم يبعثون”. (ص. 300).
هي هذه السيرة الفكرية للسيميائي المغربي سعيد بنكراد؛ إنها سيرة بمواصفات خاصة، هي مزيج خاص من السيرة والمذكرات وأدب السجون وتاريخ الأفكار ونقد وسائل التواصل الحديثة والتحليل السيميائي. لم أكن أتطلع هنا إلى تحليل هذا النص الفريد والمثير، بقدر ما كنت أسعى إلى تقديم ولو صورة مصغرة لهذه السيرة الجميلة. فإذا وفقت في استفزاز شهوة القارئ لأجل حثه على قراءتها فإنني سأعتبر نفسي قد أدركت الغاية. وفي النهاية أقول إن هذه السيرة لا يمكن أن تحيط بمكوناتها وبنائها وأسرارها مقالة واحدة خاصة إذا كانت بمثل هذه التي أقترحها على القراء.
———————
هوامش
1- سعيد بنكراد، وتحملني حيرتي وظنوني، سيرة التكوين، المركز الثقافي للكتاب، البيضاء-بيروت، 2021
2Gaston Bachelard, La flamme d’une chandelle, ed. puf. Paris, 1986, p. 1
3 Jerome Bruner, Pourquoi nous racontons nous les histoires, Les editions Retz, Paris, 2010, p.10.
4 Ibid, p. 12
5Ernesto Grassi, Vico y el humanismo, Ensayos sobre Vico; Heidegger y la retorica, Anthropos editorial, Barcelona, 1999. p. 42