بيير سينغارافيلو وسيلفان فينير، تاريخ العالم في القرن التاسع عشر، نسق الترجمة وراجعها، محمد حبيدة، مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، الدار البيضاء، 2020.
يعتبر القرن التاسع عشر قرن الأشياء أو المستحدثات التي انخفضت سومتها في الأسواق العالمية نتيجة تحولات التجارة البعيدة المدى. ولا تظهر العولمة من خلالها كمسار غربي أحادي، إذ يبدو تأثر الغرب بباقي العالم من خلال الأشياء المادية أكثر وضوحا.
ركز الباب الثالث من كتاب تاريخ العالم في القرن التاسع عشر على مصنوعات هذا القرن، والتي كانت تعرض وتروج في المتاحف أو المخازن أو البيوت، وقد كانت قبل ذلك غريبة تماما إما عن الغرب أو الشرق أو عن العالم الجديد، قبل أن تصبح هذه المواد جزءا من التاريخ العالمي ومخازنه.
تم في الباب الثالث من الكتاب تناول القرن التاسع عشر من خلال 24 قطعة أو منتج، منها بعض السلع: الأسلاك الشائكة والفحم والبنادق والطربوش والمطاط والكرسي والساعات اليدوية والشاي والأفيون ودواء الكينين والملابس المستعملة الخ. وكان بالإمكان أن يضم هذا الباب قائمة لا حصر لها من كنوز متجر العالم المتنوع، وكل واحدة منها يمكن أن تشكل مدخلا معتبرا لكتابة تاريخ العالم. لعل أهم معيار لاختيار المنتجات والمستحدثات التي ضمها الباب الثالث كونها ظهرت أو خضعت للحركة التجارية بين مختلف مناطق العالم خلال القرن التاسع عشر، وقد كتب مقدمة هذا الباب فرانسوا كزافييه فوفيل تحت عنوان “مصنوعات القرن التاسع عشر”، ليضعنا في السياق العام، فهذه المنتوجات تكشف عن العمليات التاريخية التي أثرت على العالم بأسره، فهي تنقلها من أوروبا إلى “مقاطعات العالم” الأخرى والعكس: الهند، أمريكا الجنوبية، إفريقيا، الدولة العثمانية ومناطق أخرى. كما تسمح لنا بتحويل تركيزنا عن “حداثة” العالم الغربي وتكشف عن التنوع الكبير للكوكب، وتنبئنا عن وجود حداثات وأصوات أخرى هي في أمس الحاجة لتظافر جهود المؤرخين المختصين قصد إبرازها وإسماع كلمتها. يستطيع القارئ التجول بين الأشياء المجمعة في باب “متجر العالم”، حيث تحضر عينات يعبر بعضها عن تنوع في الابتكار، منها ما يتعلق في الأصل بمواد أولية أو منتجات لها مقصد استهلاكي أو علاجي، وتعكس مصنوعات القرن التاسع عشر المرتبطة بها العلاقة المعقدة التي ميزت العالم خلال هذه الفترة، ولا شك أنه عبر سلسلة من سير المنتوجات والأشياء يمكن الوقوف على أهمية الإنتاج الزراعي وكذا الصناعي الذي مهد الطريق للتحولات الكبرى من خلال تطوير واصطناع المواد ( المطاط، الزجاج الصناعي، الساعة، الحديد الصلب، الأدوية، المطهرات، الخ ). فبفعل تعميم ظاهرة التسليع أصبح الفرد أواخر القرن التاسع عشر يحتضن في بيته ومدينته متجر العالم. لم يكن بالإمكان إعادة تكوين المكتبة التاريخية للقرن التاسع عشر في ظل استبعاد منظور المادة المطبوعة للكثير من التراث الشفهي الإنساني المهم خارج أوروبا، لذلك كان من الضروري الاهتمام بالثقافة المادية. وقد تم اختيار استخدام عبارة جامعة للباب الثالث من طرف المشرفين على العمل، فجاء تحت عنوان “متجر العالم”، وهي مشتقة من لفظة مخزون أو مخزن العربي، وهي تعادل كلمة مستودع أو المكان الذي تعرض فيه المنتجات الجديدة، ولهذا الاختيار دلالاته ورمزيته، حيث تم استبعاد استعمال كلمة متحف ذات الدلالة النخبوية والغربية.
غدت الكثير من المواد ذات الطابع المحلي مألوفة في كل البقاع خلال القرن التاسع عشر، فالعالم عمليا كان مكتشفا ومرئيا لأول مرة في التاريخ الإنساني، ولم يعد هناك أي شبر غير معلوم، فنجحت التجارة الاستعمارية في تعميم السلع وبيعها لملايين الناس، مع ارتباط الشركات الكبرى بها، والتي سعت لتطوير طرق جديدة قصد تسويقها، وما نشأ عن ذلك من تزايد القلق اتجاه عدالة التجارة العالمية، كما أنه من خلال هذه المنتجات طفت إلى السطح قضايا من قبيل ظاهرة تشغيل الأطفال والعبودية والعمالة القسرية والانتهاكات الفظيعة والهجرات العابرة للقارات. ومن خلالها نقف على عالم متناقض ومقسوم بين العمل اليدوي المنخفض الأجور والتصنيع الآلي، وبين العمال الجياع في افريقيا وامريكا الجنوبية والهند والمستهلكين المرفهين في الغرب.
تجمع الأشياء المختلفة المشارب بين ثقافات متنوعة: غرب وجنوب وشرق العالم، مما يحتم علينا العودة إلى الماضي والتدقيق المتزايد بشأن تاريخ وأصالة المنشأ، فقد غذَّت هذه المواد الكثير من الأساطير والأوهام المتعلقة بتلك الأراضي والأماكن، فقد حيكت روايات وقصص ترتبط أحيانا بالدين والتمثلات وبفكرة الأصل المقدس لها (الفردوس)، فيصبح الحديث عن هذه المواد جزءا من التاريخ العالمي لما تقدمه من وجهات نظر مختلفة ومتناقضة أحيانا.
ثم إن التجارة العالمية في مصنوعات القرن التاسع عشر أسست لأول عصر عالمي ولبداية العولمة الاقتصادية، حيث كانت الأحداث التي تقع في إحدى مناطق العالم تؤثر إلى حد بعيد على الشعوب والأحداث في قارة أخرى بعيدة، وعلى سبيل المثال فقد زار سنة 1821 عالم نبات فرنسي يُدعى جوميل حديقة بالقاهرة، وهناك اكتشف نبتة القطن، وحين أخطر محمد علي بالأمر أدرك هذا الأخير سريعا أهميتها، ولذلك أجبر القرويين المصريين على زراعتها تحت طائلة الحكم بالإعدام في حالة الرفض، وبعد ثلاثين سنة من تسويقه اندلعت حرب الانفصال في أمريكا التي تعتبر المصدر الأول المزود لمصانع النسيج الإنجليزية، فكان القطن المصري على أهبة الاستعداد للحلول محله، والاستفادة من تضاعف أسعاره أربع مرات، وقد استمرت هذه الطفرة تقريبا خمس سنوات، إذ عادت الأسعار لمستوياتها مع صمت آخر مدفع في الحرب الأهلية الأمريكية. ويمكن تلخيص الأحداث السابقة في عبارة مكثفة بالقول: إنه اجتمع “مستبد” ألباني متنور (محمد علي)، مع بذرة حيوية، ودلتا تنبع من وسط إفريقيا (النيل)، وعالم نبات فرنسي (جوميل)، ونزاع داخلي في أمريكا (الحرب الأهلية)، وصناعة نسيج صاعدة في مانشستر لتعطينا تحولات كونية، فمن لا يزال يعتقد أن العولمة هي حقيقة جديدة؟
لقد ساهمت التجارة في تعزيز التعرف على العالم، وهي معرفة نتج عنها تقدم شاسع في رسم الخرائط والعلوم والإبحار والوعي الأساسي بالتقاء الثقافات. كما أنها تسببت في إشعال نار المنافسات بين الأمم والدول والشركات لتحقيق الثروة وجني الأرباح، وساهمت في تحسين الظروف الاقتصادية لبعض البلدان وألحقت في نفس الوقت الضرر بكثير من الشعوب والثقافات، وكانت لها في أحيان كثيرة نتائج كارثية على البيئة والصحة العالمية.