ميمون أزيزا، الريف زمن الحماية الإسبانية (1912-1956): الاستعمار الهامشي، ترجمة محمد حاتمي وجمال حيمر، تقديم عبد المجيد بنجلون، منشورات ملتقى الطرق، الدار البيضاء، 2021، 428 ص.
تقديم :
يعتبر كتاب “الريف زمن الحماية الإسبانية” صيغة مطورة لبحث جامعي لنيل شهادة الدكتوراه تقدم به الباحث ميمون أزيزا سنة 1994 في جامعة السوربون بباريس تحت إشراف الأستاذ رونيه غاليسو (René Gallissot)، يقدم فيه المؤلف إجابة على الإشكالية المحورية التي تدور حولها الأسئلة التالية: لماذا الاستعمار الإسباني هامشي جوهرا وفعلا؟ وما التطور الذي عرفه المجتمع الريفي والتحول الطارئ الذي مس بنياته الاجتماعية خلال نصف قرن من الزمن؟
تتجلى أهمية الكتاب كما يؤكد ذلك المؤلف نفسه في تتبع حلقات المسلسل الذي ترتب عنه ظهور فئة من المأجورين الناتج عن تصادم البنيات الاجتماعية التقليدية في الريف بوجود نظام اقتصادي رأسمالي مستورد لا هم له سوى تحقيق غايات استعمارية. فقد أقر الباحث من خلال دراسته بأن المشاريع الإسبانية بالريف تم إنجازها تحت شعار العصرنة رغم أن غالبيتها كانت هامشية لم يستفد منها الريف بقدر ما كانت إرضاء لمصالح المستثمرين الإسبان الذين دعمتهم الإدارة العسكرية على حساب الأهالي.
يناقش صاحب الكتاب بعض الجوانب الايجابية للحماية الإسبانية وفوائدها القليلة، مع الإشارة إلى أن التهميش الذي مازال الريف يعاني منه حاليا راجع إلى ما ورثه مغرب الاستقلال. وأن استفادة الريف من الحضور الإسباني كانت ضئيلة بكون المنطقة حسب ما ذهب إليه الباحث، “تضررت فعليا من مضاعفات المقاومة التي امتدت من 1921 إلى 1927، ولم تستفد من مشاريع التنمية، وبعد نهاية الحماية أدارت اسبانيا ظهرها بالمرة للمنطقة”. كما يمكن إضافة التهميش الذي تعرض له الريف ثقافيا وسياسيا واقتصاديا من جراء السياسة التي نهجتها حكومات ما بعد الاستقلال.
يثير الكاتب مسألة البحث الأكاديمي وكيف أن الدراسات قد أغفلت البحث في الوجود الاستعماري الإسباني بالمغرب بالمقارنة مع نظيره الفرنسي الذي حظي باهتمام أكبر، وهو أمر يرجعه المؤلف إلى هامشية اسبانيا داخل المنظومة الاستعمارية الأوروبية.
أولا: الإنسان الريفي في كتابات الباحثين الأوروبيين خلال القرن التاسع عشر:
سعت الدراسات الكولونيالية إلى تقديم الإنسان الريفي في أسوأ الصفات كما يشير إلى ذلك المؤلف أزيزا، فقد كتب موليراس في “المغرب المجهول” ما يلي: “ينزع الريفيون إلى زج الرؤوس ببرودة، وحين يقع أوروبي في أيديهم، لا يفلت من هذه العقوبة سوى واحد من أصل عشرة”1. أما الضابط رينو (Commandant Reynaud)، فقد وصف ساكنة الريف بالقول: “يسكن الريف جنس بشري مزهو بنفسه، شرس ومتوحش، متحصن بجباله تحصنا من المتحضر” (ص. 37). وليس غريبا أن تترسخ في مخيلة الأوروبيين صورة قوم محتمين بجبالهم الوعرة، متمردين بالسليقة ورافضين منهجيا للاندماج وقبول الآخر. إنها إجمالا الصورة الموروثة عن أدبيات نهاية القرن الثامن عشر، والتي وشمت قبائل المجال المعروف “بالدول المتبربرة” (Etats barbaresques)، المأهولة بالقراصنة والذين تمرسوا على قطع الطريق واسترقاق الرجال وسبي النساء (ص. 95، نقلا عن جرمان عياش).
كما أجمع هؤلاء وغيرهم من الباحثين على كون الريف منطقة معزولة بسبب وعورة المسالك والتنقل، ويوجز جاك لادري دو لاشاريير (Jaque Ladreit de Lacharrière) هذا العائق بقوله: “من بين جهات المغرب الأكثر إنغلاقا أمام التسرب الأوروبي العصري، تميز الريف بمقاومة فريدة”2.
إلى حدود سنة 1928، ظلت كل المونوغرافيات الأوروبية المنجزة حول المجتمع الريفي وصفية وتعميمية لا تحوي سوى معلومات قليلة وغير دقيقة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية لأهل الريف، ولم يتم إنتاج أبحاث علمية دقيقة إلا بعد الاحتلال الكامل فقد أنشأ الإسبان مؤسسات علمية عديدة وضعت نصب أعينها دراسة المجتمع الريفي بغرض تنمية الوجود التجاري الإسباني في المغرب (ص. 39). ومن أهم هذه المؤسسات جمعية المهندسين المدنيين (Asociacion de ingenieros Civiles)، والجمعية الملكية الإسبانية للجغرافيا، واللجنة العليا للتاريخ والجغرافيا في المغرب (Comision Superior de Historia y Geografia de Marruecos)، ومعهد مولاي المهدي للدراسات المغربية، ومعهد فرانكو للبحث الإسباني-العربي بتطوان، ومعهد الدراسات الإفريقية بمدريد.
ساهمت هذه المؤسسات العلمية في إنتاج المعرفة الدقيقة بأهم الخصائص الاجتماعية والانتروبولوجية والجغرافية للريف ومنطقة الشمال خلال العقد الثالث من القرن العشرين، كما تعززت بدراسات وأبحاث واجتهادات موظفي مصلحة المراقبة والضباط الأفريقانيين أمثال رفائيل روذا خمينيث (Rafael de Roda Jimenez)، إيمليو بلانكو إثاكا (Emilio Blanco Izaga)، وطوماس غارسيا فيغيراس (Tomas Garcia Figueras).
جاءت دراسة أزيزا لتسد النقص الذي تركته الدراسات السابقة حول الاستعمار الإسباني بالريف، والتي ركزت أساسا على الجوانب السياسية والعسكرية والإدارية. وترتقي هذه الدراسة إلى مستوى عمل تركيبي جعل من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية محورا أساسيا في عمله. ولفهم طبيعة الاستعمار الإسباني خصص المؤلف حيزا مهما لدراسة طبيعة الرأسمالية الإسبانية ومقارنتها بالرأسمالية الفرنسية، ليبرز الاختلافات الجوهرية بين النظامين الاستعماريين. فبينما تمتعت فرنسا بامتياز يتمثل في بسط سيطرتها على جزء واحد متجانس نسبيا مكنها من وضع سياسة استعمارية في ظروف أفضل مع سن تشريعات منسجمة موحدة، كان من نصيب اسبانيا مناطق فقيرة ومتباعدة ومعزولة، مما فرض عليها انتهاج سياسات متنوعة مع ابتداع قوانين متباينة، زادت من متاعبها، خصوصا وأنها كانت تحتل ثلاثة أنواع من المناطق بالمغرب كما أوردها المؤلف، وهي:
منطقة النفوذ: وهي قسمان، المنطقة الخليفية في شمال المغرب، ومنطقة طرفاية في جنوبه.
مناطق “السيادة”: يضع الباحث كلمة السيادة بين مزدوجتين، وهي الثغور والجزر التي كانت تحتلها إسبانيا في المغرب قبل عهد الحماية.
المستعمرات: وتشمل المنطقة التي تمتد أساسا من الساقية الحمراء إلى واد الذهب.
ثانيا: التواجد الإسباني بالمغرب بين جدلية الاستعمار ونظام الحماية:
حسم المؤلف ميمون أزيزا في دراسته الخلاف الذي ساد بين الباحثين في شأن الاستعمار الإسباني بالمغربي، فمعلوم أن المغرب وقع معاهدة الحماية مع فرنسا بفاس في 30 مارس 1912، إلا أن مناطق النفوذ بالمغرب تم تقسيمها بين قوتين استعماريتين، بعدما ساد الصراع بين القوى الإمبريالية الكبرى خاصة بريطانيا وألمانيا وفرنسا، ليتم حسم ذلك الصراع بعد سلسلة من المؤتمرات السرية والاتفاقيات الودية. يركز المؤرخ أزيزا في هذا الصدد على المعاهدة الإسبانية الفرنسية 27 نونبر 1912 بمدريد بشأن تحديد مناطق النفوذ بين الدولتين والتدقيق في طبيعة العلاقات بين الأجهزة والمؤسسات الاستعمارية التابعة لكل من فرنسا واسبانيا بالمغرب. فقد نص البند الأول من معاهدة الحماية على أن الجمهورية الفرنسية ستتفاوض مع الدولة الإسبانية بخصوص مصالح الأخيرة بالمغرب. كما أن الاتفاق الودي لسنة 1904 ألزم فرنسا بقبول اسبانيا كشريك استعماري في المغرب مع التنازل لها عن مناطق معينة لممارسة سيطرتها ونفوذها.
رغم تأكيد هذه الاتفاقيات على ضرورة إشراك اسبانيا في احتلال المغرب إلا أن الأوساط الفرنسية وبعض المسؤولين ألحوا على إبعاد اسبانيا من المغرب ومحاولة الانفراد به، وفي هذا الإطار كتب جون فيري: “يجب التخلص من الإسبان رغم كونهم حلفاء وغير لطفاء، يجب إعطاؤهم منطقة مغربية يقاتلون من أجلها ويصرفون عليها الأموال الكثيرة دون أن يحصلوا على نتائج تذكر، يمكن اعتبار ذلك وسيلة وحيدة لإلهائهم وصرف أنظارهم عما يخصنا من قضايا”.
يركز المؤلف في محور آخر خاص بوضعية مدينتي سبتة ومليلية زمن الحماية على إبراز وضعية المدينتين والتغيير الحاصل عقب توقيع معاهدة الحماية، فبعدما كانتا مجرد حصنين معزولين وسط مجال معاد لهما لمدة قرون، أصبحتا زمن الحماية مركزين اقتصاديين مهمين. فرغم “إعلانهما مدن السيادة (Plazas de Soberania) بعد سنة 1912 لتمييزهما عن مناطق الحماية، تحولتا إلى المناطق الخاضعة لسلطة المندوب السامي، كما أصبحت تسري عليهما مقتضيات الظهائر التي يصدرها الخليفة السلطاني”.
وفي حديثه عن أدوار مليلية وطنجة في سياق تحولات الريف، فصل المؤلف بشكل دقيق في أوضاع مدينة مليلية اجتماعيا واقتصاديا وتطورها العمراني والديمغرافي، كما عزز متن الكتاب بصور نفيسة بمثابة لوحات فنية تؤرخ لأهم المحطات التاريخية والمكونات العمرانية لمدينة مليلية وبعض الأسواق التاريخية الخاصة بالمغاربة ومركز شحن الحديد المستخرج من مناجم الريف بويكسان سنة 1930 ليخلص إلى الدور الفعال للمدينة في تغيير أنماط حياة الريفيين.
أما بالنسبة لدور طنجة في تحولات الريف فقد تمكن المؤلف من تتبع مسار علاقة طنجة بمحيطها بالشمال. بالإضافة إلى ذلك، أثار المؤلف الصراع الفرنسي الإسباني حول المدينة، فقد أورد في هذا الصدد آراء ومطالب الزعماء السياسيين الإسبان، منهم زعيم الحزب المحافظ أنطونيو ماورا، الذي ألقى خطابا سنة 1915 بالمسرح الملكي بمدريد بمناسبة لقاء حزبي، جاء فيه: “أشدد على قناعة لن أتزحزح عنها، وهي أن طنجة لا يمكن أن تكون غير اسبانية .. إن الواقع يؤكد معطى بديهيا بالنسبة لي: لا يمكن لاسبانيا أن تؤدي مهمتها في منطقة نفوذها وطنجة تحت نظام دولي مفروض..” (ص. 33).
ثالثا: الوجود الاستعماري والهجرة بالريف
من القضايا الهامة التي نالت حقها من الدراسة في مؤلف أزيزا، قضية هجرة الريفيين نحو الجزائر، فقد ذكر أنه انطلاقا من مليلية توافد على وهران 20.000 ريفي أواخر القرن التاسع عشر للاشتغال في مزارع المعمرين الفرنسيين. وهي تجربة وشمت الذاكرة الجماعية بشكل كبير، إذ ما تزال الأشعار الشعبية (إزران) تذكر بمعاناة المهاجرين. وقد أورد المؤلف مقالا نشرته جريدة تلغرام الريف يوم 9 ماي 1909 بعنوان:”الأرياف إلى وهران”، ثم مقالا ثانيا بنفس الجريدة عدد 12 من نفس السنة موسوما ب: “المروك يقطع الشعوب الهايلة إلى وهران”.
خلص الكاتب إلى أن كل من درس المجال والإنسان في منطقة الريف لابد له من دراسة ظاهرة الهجرة بالمنطقة وهو الرأي الذي تقاسمه مع رايمون بوصار كما جاء في دراسته حول الموضوع نفسه: “من الصعب دراسة تاريخ الريف وحاضره ومستقبله وطبائع أهله دون التركيز على الهجرة كمعطى بنيوي عابر للمناطق والأجيال”3.
في فصل خاص ب”التسرب الاقتصادي الكولونيالي: حصيلة الاستعمار الإسباني في المغرب” أشار أزيزا إلى قضية الاستغلال الاقتصادي، “فقد عمدت إدارة الحماية الإسبانية إلى نزع الملكيات من أصحابها، ومهد ذلك على المدى المتوسط لنشوء بروليتاريا هجينة” (ص. 101). ويضيف في نفس الموضوع عند حديثه عن الهجرات الأولى للباحثين عن الشغل: “لقد قصد الباحثون عن العمل وظروف عيش أفضل أول الأمر الجزائر ثم في وقت لاحق مدن المنطقة الفرنسية، خاصة فاس ومكناس.. فالوجهة الأولى سابقة للحماية، فقط سرع الاحتلال العسكري والاستغلال الكولونيالي من وتيرتها”.
ولرصد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية باسبانيا وتأثيرها على التدخل العسكري بالريف تمكن المؤلف من تفكيك البنى الاقتصادية والاجتماعية في اسبانيا خلال النصف الثاني من القرن 19 والنصف الأول من القرن 20 ومقارنة ذلك بنظيرتها الفرنسية، فبين الاختلاف الكبير بينهما “فلسفة وطبيعة وتطبيقا”. فقد كانت اسبانيا منهكة بسبب ما ضاع منها في كوبا والفلبين وبورتوريكو، وبالتالي “افتقدت للطاقات المالية التي وفرتها فرنسا لنفسها في منطقة نفوذها. وكانت شبه الجزيرة الأيبيرية نفسها تشكو من معيقات داخلية جعلت مشاريعها الاستعمارية بالريف محدودة في كل شيء”، وهو نفس المعطى الذي ذهبت إليه المؤرخة ماريا روسا ذي ماذارياغا في مداخلة تحت عنوان “الامبريالية الإسبانية بالمغرب”، خلال لقاء نظمته المؤسسة الأوروبية العربية ببرشلونة يوم 16 غشت 2012.
وفي هذا الصدد شخص أحد مدراء مؤسسة إنعاش الشغل الوطني (أكبر تجمع صناعي في اسبانيا في بداية القرن 20) الوضع قائلا: “معاملنا صغيرة ليس فقط مقارنة مع التي في الخارج، بل وحتى مع يجب أن تكون عليه بالنظر لمتطلبات السوق الداخلية، ولا ينظم تجارتنا أي قانون أو عرف، فهي تتطور في أجواء تطبعها الفوضى ولا نتوفر على بنك وطني، وكل ما نملكه هو في يد الأجانب”4. يرجع أزيزا ضعف الوجود الاقتصادي الإسباني وهامشيته إلى الأسباب الرئيسية التالية:
– ضعف تطور الرأسمال الإسباني وارتباطه بالرأسمال الأجنبي.
– غياب قاعدة صلبة ومتكاملة العناصر لها القدرة على الاستثمار وجني الثمار وتنمية المصالح الاقتصادية.
ونجد أن أحد منظري الاستيطان الفلاحي بالريف وهو روذا خمينيث قد ركز على المجال وجعله في صلب العملية الاستعمارية، فقد صرح بالقول: “الاستيطان والفلاحة في المنطقة يكمل أحدهما الآخر، فهما وجهان لعملة واحدة” (ص. 114). أما المندوب السامي فرانسيسكو كوميث خوردانا فقد أكد على أهمية الأشغال العمومية في تثبيت الاستعمار بالمنطقة، إذ يقول: “أعتبر بأن من الأهمية بمكان تطور الأشغال العمومية كوسيلة لتسهيل الاستيطان والتجارة والصناعة، وكذلك كوسيلة لحل المشكل الاجتماعي المرتبط بالبطالة، وذلك بتشغيل اليد العاملة .. وتمثل وسيلة لاستقطاب الأهالي للعمل جنبا إلى جنب مع الإسبان، مما يسمح بتدجينهم”.
بالرغم من كون دراسة ميمون أزيزا موسومة ب: “الريف زمن الحماية الإسبانية”، وتصريحه في بداية الكتاب بالتعريف الذي سيعتمده للريف بالقول: “يعني الجغرافيون في الغالب بالريف كل المجال الممتد من طنجة غربا إلى وادي ملوية شرقا، وهو إجمالا التحديد المعتمد في هذه الدراسة”(ص. 30)، إلا انه خصص الجزء الأهم من دراسته لمنطقة الريف الشرقي، وهو ما لمسناه في متن الكتاب من خلال تحليل دقيق لهذا المجال، خاصة على مستوى المصادر التي اعتمدها والاقتباسات التي أوردها والتي تعزز هذا المنحى. وقد يرجع هذا إلى الإنتماء الجغرافي للكاتب وقربه من هذه القبائل وإلمامه الواسع بتفاصيل ثقافتها ومجالها الجغرافي.
فمن خلال تتبع فقرات الكتاب خاصة المحور الخاص ب”المجتمع الريفي في مواجهة الاستعمار 1928-1942″، نلاحظ بأن المعطيات حول الريف الشرقي ومنطقة جبالة في موضوع الاستيطان الزراعي مثلا غزيرة بالمقارنة مع المعطيات حول مدينة الحسيمة وباقي الحواضر المشكلة للريف. فنجد في الصفحة 126 مثلا معطيات مهمة حول توزيع مساحة التعاونيات الزراعية في الريف الشرقي سنة 1930 بكل من زايو وسلوان، كبدانة ودريوش وسهل الكارب.
رابعا: التعاون الإسباني الفرنسي بالمغرب:
بعد تحييد ألمانيا حتى يتسنى لفرنسا احتلال المغرب عسكريا وتوقيع اتفاقية 4 نونبر 1911، وتجسيدا للتعاون بين فرنسا واسبانيا، نصت الاتفاقية الفرنسية الإسبانية في 27 نونبر 1912 على تفويض الأشغال الخاصة بخط الجزء الغربي الخاص بالسكة الحديدية الرابط بين طنجة وفاس إلى شركة مشتركة 60 بالمائة من رأسمالها فرنسي و40 بالمائة للرأسمال الإسباني. كما ستتوالى تحالفات أخرى توجت بالاتفاق حول الإنزال العسكري المشترك بسواحل الحسيمة 8 شتنبر 1925 واستعمال الغازات السامة للقضاء على المقاومة الريفية.
من المفارقات العجيبة ونحن نتتبع مسلسل الصراع الإسباني الفرنسي بالمغرب في كتاب أزيزا، أنه بالرغم من وجود اتفاق التعاون بين الطرفين، إلا أنه في نفس الوقت كان هناك صراع محتدم حول مجموعة من القضايا. فغالبا ما نجد تبخيسا للمنجزات التي تقوم بها اسبانيا في منطقة نفوذها من طرف الفرنسيين، فقد كتب سفير فرنسا بمدريد تقريرا إثر زيارته للمنطقة الإسبانية سنة 1928 رفعه لوزارته بباريس مما جاء فيه: “من وجهة نظر اقتصادية، ما يزال الإسبان في المرحلة الأولى من التجهيز.. ويمكن الجزم بأنه لحد الآن لم ينجز شيء يستحق الذكر” (ص. 150). ونعلم أيضا أن ليوطي قد حظر كل تعاون مع اسبانيا على الصعيد العسكري وحرص على تأكيد ذلك بصفة قطعية أمام ملك اسبانيا أثناء زيارته لمدريد5. كما أنه هيأ ملفا ضخما من المآخذ ضد اسبانيا متهما إياها بتحويل منطقتهم إلى قاعدة ألمانية ضد فرنسا، وتقدم بطلب إلى حكومته بتنحية اسبانيا لتبقى فرنسا صاحبة السيادة الوحيدة بالمغرب. وفي طنجة، ارتفعت أصوات الجالية الفرنسية بها عام 1919 منادية بضم المدينة والساحل وصيغت مطالبها في عريضة وجهتها إلى وزير الحرب كلمنصو.
أما داخل اسبانيا، فقد عارضت العديد من الأصوات الحرب في المغرب وطالبت بالتخلي فعليا عنه. إلا أن كونت رمانونس أعلن أمام الكورتس في يوم 21 يناير 1919 أن تواجد بلاده اسبانيا في المنطقة المغربية المواجهة لسواحلها ليس سوى ضمانة ضرورية لاستقلالها. ويظهر التشبث بأحقية اسبانيا في الريف من خلال كلام رومانونس أمام الكورتيس بالقول:”إن التخلي عن مغربنا سيكون.. النكبة الأخيرة التي قد نتجرع مرارتها”6.
خلاصة:
كتاب ميمون أزيزا هو دراسة تركيبية عن الاستغلال الاستعماري الإسباني للريف زمن الحماية وعن التغيير الذي طرأ على المجتمع الريفي، وقد عزز المؤلف دراسته هذه بوثائق مهمة غنية ورسوم بيانية تكشف عن حجم الاستغلال الاستعماري وطبيعته فضلا عن الصور والخرائط التي توضح الوسائل والتقنيات المستخدمة في تنفيذ مشاريع السياسة الاستعمارية بالريف.
سيدرك القارئ المتمعن لهذا الكتاب أهمية العمل الذي قام به المؤلف، وسيكتشف قدرته على تفكيكه لمجموعة من القضايا التاريخية التي ظلت لفترة طويلة موضوع نقاش حاد بين الباحثين، ومنها موضوع علاقة الريف بالسلطة المركزية.
كما أورد الكاتب في الدراسة التي بين أيدينا اقتباسات من مصادر متنوعة نفيسة أراد منها تحليل مواضيع بعينها، كالصراع الإسباني الفرنسي بالمغرب، إلا أنه من جهة أخرى يعزز الرأي الذي يقر بوجود فترات عرف فيها الريف نوعا من الاستقلال عن السلطة المركزية، خاصة في الفترة المعاصرة التي تمكن فيها الريف من تشكيل كيان سياسي اختلفت الدراسات حول طبيعته. لكنها تقر بأنه نظام سياسي عصري استطاع قائده وضع لبنة أساسية لنظام ديمقراطي تجاوز به السلطة المركزية آنذاك وألحق هزائم مدوية بالجيشين الإسباني والفرنسي. فقد اشتكى الإسبان من المنطقة التي فوتت لهم، وهو الأمر الذي يؤكده مقال أورد منه الكاتب مقتطفا، نشرته جريدة المستقبل الصادرة بطنجة 19 يناير 1919 ومما جاء فيه: “فوتت لنا المنطقة الأكثر شراسة و’تسيبا’ مأهولة بقبائل محاربة إلى الرمق الأخير، وهي كذلك الأفقر إلى أدنى درجة. أما المنطقة المجاورة، فتسودها السهول الشاسعة والخصبة، وتسكنها قبائل ميسورة ومنضبطة. لقد منحونا الجزء الذي اتصف على الدوام بالتمرد على السلاطين: الريف وجبالة. ويضيف آخر “لقد أخذت فرنسا اللحم ومنحوا لنا العظم”.
تعتبر دراسة ميمون أزيزا “الريف زمن الحماية الإسبانية (1912-1956) الاستعمار الهامشي” إضافة أكاديمية علمية للمكتبة الوطنية، فهي خزان من المعطيات وتطرح قضايا تاريخية ما تزال لم يسلط عليها الضوء، وتفتح آفاقا للباحثين من مختلف التخصصات والحقول المعرفية.
هوامش
- Auguste Moulièras, Le Maroc inconnu : Exploration du Rif, Imprimerie Fouque. Oran, 1895, p.132.
- Ladreit de Lacharrière, La création marocaine, Peyronnet et Cie, Paris, 1930.
- R. Bossard, un espace de migration : les travailleurs du Rif oriental, province du Nador et l’Europe, thèse de troisième cycle, Université de Montpellier, 1978, p.39.
- جرمان عياش، أصول حرب الريف، ص. 77.
- نفسه، ص. 270.
- نفسه، ص. 275.