(نظرا للأهمية النقدية لقراءة الناقد العربي صبحي حديدي لكتاب الأستاذ أنور المرتجي خطاب ما بعد الكولونيالية في النقد الأدبي: تمثيلات المثقف والسلطة، والتي وضعها المؤلف مقدمة لكتابه المذكور، فإن مجلة رباط الكتب تنشرها هنا في صنف قراءات بإذن من المؤلف).
منذ منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، تصدّرت المعجم النقدي الغربي مصطلحات مثل «ما بعد الكولونيالية» Post-Coloniality، و«الأدب ما بعد الكولونيالي» Post-Colonial Literature، و«الخطاب ما بعد الكولونيالي» Post-Colonial Discourse، و«النظرية ما بعد الكولونيالية» Post-Colonial Theory، و«دراسات التابع» Subaltern Studies؛ فأصبحت هذه مرتكزات راسخة ليس في نقاش سؤال الإمبريالية والثقافة فحسب؛ بل في المراجعة النقدية الراديكالية لمشهد النظرية النقدية الغربية بأسره (الحداثة، البنيوية، ما بعد البنيوية، ما بعد الحداثة، التفكيكية، النسوية). وهكذا، اعتمد الناقد البريطاني جيروم ماكغان منجزات النقد ما بعد الكولونيالي لإعادة فتح الملفات الرومانتيكية عند شعراء مثل وليم بليك وإزرا باوند؛ ومن جانبه ساجل دونالد بيز باحثي عصر النهضة، في ضوء نصوص فرانز فانون، كما أعاد قراءتها غالبية نقاد التيارات ما بعد الكولونيالية؛ الأمريكي ريشارد روث درس مصائر ما بعد الحداثة، قياساً على معيار التجربة الاستعمارية؛ وسيمون ديورنغ تساءل: ما بعد الحداثة، أم ما بعد الكولونيالية؟
وفي عام 1991، كنتُ قد اقترحت على محمود درويش أن تكون فصلية «الكرمل» هي السبّاقة إلى تقديم هذه النظريات وتعريف القارئ العربي بها، أملاً في استدراج نقاش عربي حول أسسها الفلسفية والتاريخية والنقدية من جهة؛ وحول صلاحية عُدّتها المنهجية في دراسة وتحليل شؤوننا الأدبية والفكرية والسياسية، من جهة ثانية. الدراسة التي أعددتُها، ونُشرت في العدد 47 من «الكرمل (1993) بعنوان «الخطاب ما بعد الكولونيالي في الأدب والنظرية النقدية»، قد تكون أثارت بعض الأسئلة، والكثير من تقليب الشفاه حول تلك المصطلحات الجديدة، وحول الأسماء الآسيوية العجيبة التي بدت كأنما هبطت من حالق: هومي بابا، غاياتري شاكرافورت سبيفاك، عبد الرحمن جان محمد، إعجاز أحمد، قمقم سنغاري، عقيل بلغرامي… وحده الراحل الكبير إدوارد سعيد كان معروفاً، لأنه كان أستاذاً مؤسساً.
ولقد عرضتُ سجالات هؤلاء مع النقّاد أبناء الغرب (أو، موضوعياً، أحفاد الاستعمار القديم والإمبريالية)، التي كانت راقية متقدّمة ورفيعة، بلغ بعضها ذرى كونية (مثل نقد سعيد لمؤسسة الاستشراق وإنشاءاتها الخطابية، ونقد إعجاز أحمد لبعض التيارات الماركسية الأوروبية، وإعادة قراءة جاك دريدا عند سبيفاك…)؛ وبعضها صار منهجية أخرى رديفة، أو حتى نظيرة، تفوّقت على المنطلقات الأمّ (تأملات هومي بابا حول تناظرات الأمّة Nation والسرد Narration).
غير أنّ مقداراً هائلاً من الابتذال، وكذلك أنساق التسطيح والابتسار والاختزال والتشويه، شاب تلك النظريات حين انقلبت إلى “موضة”؛ بالنظر إلى مغريات كثيرة اكتنفت تطبيقها، سواء لدى أبناء ثقافات الأطراف والمستعمرات السابقة، أو أيضاً لدى أبناء الإمبراطوريات الاستعمارية السابقة والإمبريالية اللاحقة، ولم تكن تلك الحال علامة على المفارقة بقدر التكامل الجدلي. لكنّ تسعة أعشار المسؤولية عن هذه الحال لا تقع على عاتق روّاد النظريات الأوائل، ولا حتى على السواد الأعظم من تلامذتهم كما أجازف بالقول، بل على بعض الجامعات وبعض مراكز البحث وبعض دور النشر الأنغلو-سكسونية (البارزة الطليعية، مع ذلك!)؛ التي ركبت الموجة، فصعدت بالنظريات أو هبطت بها أو سكنت معها… كما هي طبائع الأمواج!
والحال أن العقدَين المنصرمَين شهدا تحوّل هذه النظريات إلى بضاعة رائجة سريعة التسويق، فقُدّر لنا أن نتابع حركة زاخرة أقرب إلى الانفجار في الأبحاث والتطبيقات والدراسات والمعاجم التي تسلّط الأضواء على مبادئ النظريات ما بعد الكولونيالية، وتقتبس ممثّليها في أنطولوجيات تصدر عن مطابع أعرق الجامعات، وتقرّر تدريسها في مناهج واسعة مثل «الدراسات الثقافية» و«النظرية الأدبية» و«الأدب المقارن». ولم يكن في وسع الذين آمنوا، مبكّرين، بأهمية هذه النظريات سوى أن يبتهجوا بالتحوّل الدراماتيكي، إذْ ما أبعد اليوم عن الأمس القريب. كذلك لم يكن في وسعهم إلا أن يَحْذروا ويُحذّروا من عواقب هذا الانفجار، في الآن ذاته. فمن الجلي أنّ قسطاً غير قليل من اهتداء المؤسسات الأكاديمية المحافظة إلى هذه المصطلحات تحديداً، إنْ هو إلاّ محاولة التفاف بارعة تتيح الهرب والتهرّب من مصطلحات أخرى تزعج وتقضّ المضاجع: «الاستعمار الجديد»، «الإمبريالية»، «المقاومة الثقافية».
وينبغي للأمر بأسره ألا يحجب مسألتين مترابطتَيْن: المحاذير الفلسفية والتاريخية والاصطلاحية التي اكتنفت هذه النظريات، منذ البدء؛ ومحاذير التلقّف السريع لها قبل، أو من دون، نقدها في العمق، وتفصيل معضلاتها الداخلية الموروثة التي قد تطمسها «الجاذبية» الظاهرية لنظريات جذّابة بالفعل. وخير لنا ألا نكرّر المساقات ذاتها التي قادتنا إلى النظريات الوجودية أو الألسنية أو البنيوية أو التفكيكية: إمّا أن تصلنا متأخرة مبتسَرة، أو أن نصل إليها متأخّرين مبتسِرين.
***
كتاب أنور المرتجي سوف يحتلّ سريعاً موقعاً متميزاً تماماً، مبكراً بقدر ما هو عميق وشامل وسجالي، في نطاق الدراسات العربية النادرة التي لا تستأنس بمنجزات النقد ما بعد الكولونيالي فحسب؛ بل تُحسن تطويع تعقيداتها النظرية والاصطلاحية على سبيل استخدامها والاشتغال عليها وبها في آن معاً، فضلاً عن تصويب الكثير من مظاهر الشطط والاختزال والتبسيط في الميادين التي بات النطاق ما بعد الكولونيالي ضحية لها، كما يتوجب القول.
وثمة هنا استراتيجية بحثية مركبة شاء أنور المرتجي أن تكون ناظماً مركزياً في الكتاب، ليس البتة يسيراً في التطبيق والاقتفاء، إذْ إنّ مشقته عالية ومحاذيره وفيرة، لكنّ مثوباته في المقابل أكثر علوّاً وأوفر نفعاً. وما هو استراتيجي هنا يجمع، ببراعة منهجية وتبصّر ثاقب وجسارة أخلاقية، بين عرض النظريات ما بعد الكولونيالية ورصد ما لها وما عليها من جانب أوّل؛ ثمّ، من جانب ثانٍ، وضع تنويعاتها ومواقع اشتغالاتها على محكّ الحياة الفعلية والممارسة المجرَّبة، بما يعيد تكريم عبارة فلاديمير إيليتش لينين الشهيرة: النظرية رمادية اللون، وشجرة الحياة خضراء إلى الأبد.
وإذْ يبدأ، صائباً تماماً، من وضع هذه النظريات في موقعها من مشهد المابعديات إجمالاً، وثمة هنا الكثير من الإشكاليات التي تكتنف سابقة مراوغة ملتبسة يمكن أن تشمل ما بعد الفوردية في صناعة السيارات الأمريكية وما بعد الحداثة في الآداب والفنون وما بعد البنيوية في الفلسفة؛ فإنّ المرتجي ينتقل إلى طائفة واسعة من الحقول التي شهدت سريان مفعول هذه الـ”ما بعد” ضمن الخطابات ما بعد الكولونيالية: الزنوجة، إدوارد سعيد، فرانز فانون، شعريات المنفى والنظرية المترحلة، الترجمة الثقافية والفضاء الثالث، انتفاضات الربيع الديمقراطية، الحركة الإسلامية و”الدولة المستحيلة”… وليس غريباً، ليس على الصعيد المنهجي وحده، بل على ركيزة خطابية أساساً، أنه يفتتح فصول الكتاب بالتوقف المتعمق عند مفكر فلسطيني علماني مثل إدوارد سعيد، ويختتمه بما لا يقلّ رصانة عند مفكر فلسطيني آخر إسلامي التوجّه مثل وائل حلاق.
وكان سعيد قد حدّد الدافع الراديكالي التحرّري لمجموعة الباحثين المشتغلين على الخطاب ما بعد الكولونيالي في الجوانب الثلاثة التالية: “الأول هو أنّ أياً من هذه الأعمال لا يزعم النيابة عن جمهور محدد أو حقيقة عليا مختلفة، ولا يربط غايته بعقلٍ أو موضوعيةٍ أو علمٍ غربي (ولا شرقي أيضاً في هذا المجال). على العكس من ذلك، إذْ نحن نلحظ هنا تعددية واضحة في أرض الدراسة، وتنوّعاً في التجارب، واختلافاً في المرجعيات. الثاني هو أنّ هذه النشاطات والجدالات تدرك أنها علمانية وهامشية ومعارضة للأنساق الأساسية الأوتوريتارية التي نبعت منها أصلاً، وهي الآن تناهضها بشدة. والثالث هو أنها سياسية وعملية، بقدر سعيها إلى إنهاء أنساق المعرفة الإخضاعية والقمعية”.
وبهذا فإنّ أنور المرتجي، في كتابه الشامل الفريد هذا، ينتسب إلى أفضل تقاليد الجهود الحميدة التي بذلها ويبذلها صفوة من النقاد والباحثين والأكاديميين الحريصين على استرداد الطاقات التحليلية والنقدية الجبارة التي تكتنزها النظريات والمناهج والتيارات ما بعد الاستعمارية، في سياق مساع متعددة الأغراض ومتنوعة التطبيقات؛ لعلّ أشدّها حيوية وظيفة أولى تستهدف جعل تلك المنجزات تسير على قدميها، بعد أن قُلبت أو مُسخت أو حتى أُفرغت من مضامينها بحيث بدت وكأنها تسير على رأسها؛ وثمّ، تالياً، وظيفة ثانية تنطوي على إعادة تفعيلها بطرق شتى يمكن أن تبدأ من الإغناء والتعميق والتجديد، ولا يصحّ أن تنتهي عند النقد البنّاء والتمحيص الصارم والتصويب على أكثر من محكّ واحد متكامل؛ وكلّ هذا تسهيلاً لوظيفة ثالثة تستهدف حُسْن مَوْضَعة الـ”ما بعد”، في الحال الجدلية اللائقة بمواقع الـ”ما قبل”.