– مبارك ربيع، أحمر اسود، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت- لبنان، 2021.
“الشيء الوحيد الذي يبقى لنا أمام هذه الهزيمة المحتومة التي نسميها الحياة هو محاولة فهمها. وهذا هو سبب وجود فن الرواية.“ ميلان كونديرا، كتاب (الستار) (Le rideau)
يواصل الكاتب مبارك ربيع، مساره الإبداعي الروائي بخطى وئيدة؛ ثابتة ومتواصلة، منذ أزيد من نصف قرن، وكأني به قد استوعب جيداً الحكمة وراء المثل اليوناني القائل: “أسرعوا بتؤدة”، والذي توجه به الشاعر والكاتب الفرنسي نيقولا بوالوا (1636-1711) إلى الكُتّاب عندما صاغه في المقطوعة الشعرية التي ذكرها في قصيدته الطويلة (هناك بعض العقول…)(Il est certains esprits…) ، وهي: “اسرعوا بتؤدة، ولا تيأسوا،/ أعيدوا النظر في عملكم الفني عشرين مرة؛/ أصقلوه باستمرار وأعيدوا صقله؛/ أحياناً أضيفوا، وفي الغالب امسحوا”1.
يظهر ذلك الصقل وإعادة الصقل في الكتابة جلياً في روايته الأخيرة “أحمر أسود” (2021)، إذ خصها ببناء يقوم على استراتيجية سردية تنبني على النمو الارتدادي للأحداث؛ فكلما تقدمنا في مسار الرواية، كلما تعرفنا على ماضي حيوات شخوصها وتفاصيل عوالمها، وعلاقتها بحاضرها. كما اعتمد هذا البناء على استراتيجية التضمين والتشظي التي تقوم على مسارين سرديين كبيرين أساسيين، وعلى مسارات سردية فرعية متولدة عن ذينك المسارين. وعزز ذلك باستخدام تقنية التذكر بالرجوع إلى الوراء في حيوات الشخوص، واستحضار ألبوم الصور وبعض الأفلام، والمقالة الصحفية، ثم تقنية الحلم، الحلم في المنام واليقظة والغفوة، وتقنية الإيهام الجمالي، والتخييب المتمثل في المسارات السردية المعلقة، وملامح من السرد الاستقصائي، والثقافة الشعبية وأدب الأطفال أيضاً. بالإضافة إلى اللغة السردية التي اعتمدت على عملية تكبير المشاهد وتصغيرها من خلال الجمع بين الوصف المكثف الدقيق والوصف المركب للمشاهد والأوضاع المختلفة.
كل تلك الاستراتيجيات والتقنيات واللغات حاولت أن تساهم، بدرجات متفاوتة، في الكشف عن عوالم العلاقات الإنسانية الحميمية الدفينة وتجلياتها في السلوك الإنساني: الحياة الزوجية والأسرية وتحولاتها، والحياة الاجتماعية الخاصة التي تبحث عن وضع اعتباري لها في المجتمع. فإذا كانت “الأخلاق الوحيدة للرواية هي المعرفة؛ فإن الرواية التي لا تكشف عن أي جزء صغير غير معروف في الوجود من قبل، هي رواية عديمة الأخلاق”2، حسب تعبير ميلان كونديراMilan Kundera . ويبدو أن رواية أحمر أسود قد حاولت أن تكشف ببنائها المذكور عن جانب من تلك الأخلاق وتلك المعرفة المتمثلة في وضعية إنسانية وفكرية واجتماعية مفتوحة على المحتمل وغير المنتظر باستمرار، ومشوبة بنوع من الانفصام والإيهام من جهة، والمفارقة، أو بالأحرى الجمع بين النقيضين ambivalence من جهة أخرى.
عندما نفكك عنوان الرواية، أحمر أسود، نجده يتكون من لونين متغايرين متضادين مع أصلهما وغير منفصلين، نحوياً وتركيبياً، ويؤلفان لوناً واحداً يجمع الأحمر والأسود، أي إنه ذو بنية لغوية واحدة، مركبة ومتداخلة تشكل لوناً واحداً غير صاف. وتوحي دلالة هذا العنوان، العتبة الأولى في تلقي النص، بالوضعية المفارقة التي تهيئ انتظارات القارئ وتوجهها؛ فالأحمر، الذي يفيد اللون الأبيض كذلك في الثقافة العربية، كما أشار المؤلف إلى ذلك في العتبة التي وضعها في بداية الرواية، كُتب باللون الأسود. والأسود كُتب باللون الأحمر، الذي يفيد الأبيض، أي بلون مضاد للأبيض. وبإرجاع العنوان إلى الألوان الأصلية، بعد الاستعارات التي طالته، يصبح هكذا: أبيض أسود؛ ولكن باستعارة اللون الأسود للأحمر/ الأبيض، واستعارة اللون الأحمر للأسود. إن هذا العنوان بتركيبته النحوية، جملة خبرية، وتركيبة ألوانه وتضادها يوحي بانتظار المحتمل والمفارق والموهم في بناء الرواية. كما أن هذا العنوان يتناص تناصاً غير تام مع عنوان رواية هنري ستاندال (1783- 1842)Henri Stendhal “الأحمر والأسود” (1830) (Le rouge et le noir) ، وقد يغري بالمقارنة معها، وإن كان عالم رواية مبارك ربيع وطريقة كتابتها ودلالاتها تختلف كثيراً عن رواية ستاندال.
لقد استدعى مثل هذا البناء الروائي وتراكُبية مساراته، وتعدد لغاته، والمراوحة بين الذاكرة والحاضر، وبين الحلم والواقع، وبين سجلات ثقافية مختلفة، القيام بقراءة مفتوحة باستمرار على المحتمل وغير المنتظر، مما يتطلب قراءة احتمالية كذلك، والمساهمة مع المؤلف في تخييل مآلات محتملة وغير محتملة. أعني أن قراءة هذه الرواية قائمة على التوتر بين النص والقارئ، الذي يعبر عنه مفهوم “الاحتمال الجمالي“، الذي يخلق فيه القارئ مسافة جمالية بينه وبين النص، بخلاف “الوهم الجمالي”3، الذي يجعل القارئ ينغمس في النص ويتماهى معه ويكون سجينه. والاحتمال الجمالي غالباً ما يستجيب للكتابة الروائية المفتوحة التي تبنتها رواية أحمر أسود، لأن كثيراً من أوضاع شخوصها ومساراتها وأحداثها، تستجيب أكثر لعملية التأجيل والاحتمال في القراءة، بل وتخيل المآلات باستمرار، مما يجعل القارئ يساهم مع المؤلف في كتابة روايته الخاصة بموازاة مع رواية المؤلف.
مسارات الرواية
يحاول السرد الروائي المعاصر أن يتبنى استراتيجية المسارات من خلال انشطارها وتناوبها، أو المناولة السردية، مما يسمح للاستراتيجية السردية بالكشف عن انتشار مختلف الفاعلين في المساحة السردية للرواية من شخوص وتعدد لغاتها، وفضاءاتها وتنوع أوضاعها واختلافها، كما يسمح بإمكانية إبراز مختلف الأدوار التي تقوم بها مختلف مكونات السرد. وهذا التوزيع للسرد يسمح بانتشاريته، بقدر أو بآخر، والسماح لكل مؤثثات السرد في الرواية بالمساهمة في توسيع سِعتها الدلالية. لقد حاولت رواية أحمر أسود أن تتبنى انتشارية السرد وتوازنه، من خلال تقسيمها إلى سبعة وأربعين فصلاً، جرى فيها تناوب المسارين الأساسيين: مسار هناء ومسار عائشة، في ثلاثة وثلاثين فصلاً التي تمثل الجزء الأول من الرواية، أي قبل مقتل مهدي عراش، زوج هناء، وبداية الجزء الثاني من الرواية، بعد مقتله، الذي ينفرد فيه مسار هناء بالسرد حتى نهاية الرواية.
قامت الاستراتيجية السردية لهذه الرواية على المحكي الإطار الذي يتمثل في محكي السيدة هناء ومآلات حياتها في الرواية. ثم انشطار هذا المسار إلى مسارين أساسيين، هما: مسار السيدة هناء، والمسارات الفرعية التي تولدت عنه، مثل مسار المهدي عراش، وعش الأم، ومنصور الممون. ومسار السيدة عائشة، والمسارات الفرعية الصغرى التي تولدت عنه، مثل مسار رضوان أخ عائشة، وصاحبة صالون تزيين النساء للحفلات. لقد جعل التناوب السردي بين ذينك المسارين وفروعهما يركز على بؤرتين تتجهان خلال تطور أحداث الرواية نحو بؤرة واحدة، هي بؤرة مسار هناء، وما آلت إليه في نهاية الرواية.
مسار هناء
تظهر هناء السيدة المتزوجة في بيت عائشة الفقيرة في جلسة حميمية مع الشاب رضوان، أخ عائشة، في حي الفلاح المتواضع. تسكن هناء في فيلا كبيرة، اسمها العراشية، نسبة إلى اسم زوجها مهدي عراش الرجل الثري، في حي راق بمدينة مغربية كبيرة شاطئية. يخبرنا السارد المحايد خلال تطور أحداث الرواية عن طريق التذكر عن حياة هناء الأولى في أسرتها الفقيرة في حي شعبي، وكيف خرجت من الدراسة مبكرة في المرحلة الابتدائية، وكيف فرض عليها الزواج المرتَّب مبكراً مع ابن خالها من ذوي القربى وفشله، ثم التحاقها بالمدينة الكبيرة لتشتغل كعاملة مياومة في البيوت، حتى وصولها إلى “عش الأم”؛ وهي مؤسسة خيرية تعنى بالأطفال المتخَلّى عنهم وبالنساء المطلقات بدون سند عائلي، أو اللواتي أنجبن أطفالاً في وضعية اجتماعية صعبة.
تزوجت هناء وهي في “عش الأم” من السيد مهدي عراش الرجل الثري، الذي تَعرّف عليها لما كانت تشتغل مناولة مع الممون منصور، وانجبت طفلين، البنت ملاك والطفل علاء. كونت هناء أسرة وأصبحت تعيش في حياة الترف في قصر العراشية، معها الخادمة زهرة والخادم والسائق ابا محمد. غير أن هناء كانت تشتكي من زوجها الذي لا يستقر مع العائلة ومع أولاده، كان يتغيب كثيراً، بل كثيراً ما كان يعلق الجلسات العائلية في عز فرحها، ويفاجئ هناء وأولادهما بتركهم والالتحاق بسرعة بعمله الذي لا نعرف عنه الكثير، سوى أنه صاحب أعمال ويهتم بالسياسة. وأخذت تساور هناء الشكوك والأوهام والوساوس، مما سيؤدي بها صدفة، وهي في متجر تشتري بعض الأثواب، إلى التعرف على السيدة عائشة التي ستدخلها إلى عالمها، عالم الشعوذة وقراءة الكف/شوافة، وتستسلم لها هناء، بل ستتوطد العلاقة بينهما، وبخاصة مع أخ عائشة رضوان، الشاب الذي ربته أخته عائشة، وفقدا معاً أمهما وأباهما في صغرهما. كانت هناء تزور بانتظام خفية عائشة ورضوان في البداية في حي الفلاح الشعبي، وتكونت علاقة حميمية بين هناء ورضوان، وارتبطت هناء بعائشة التي اقنعتها بوجود غريمة لها هي التي أخذت منها زوجها مهدي عراش، حتى أصبح لا يطيل المقام معها ومع أولادهما. تكررت زيارات هناء لعائشة وابنها رضوان، وتوطدت العلاقة بينهما، بل منحت لهما داراً في حي راق نسبياً في رياض الساحل. وتبقى أسباب كرم هناء معهما غير واضحة، سوى أن عائشة تقوم بعلاجها بالشعوذة والبخور، وتقضي أوقاتاً حميمية مع رضوان.
لا شك أن هذا الوضع الذي أوجدته هناء أو وُجدت فيه بالرغم عنها، هو وضع غير مريح، لأنه مبني على علاقات غير واضحة، بل فيها كثير من الإبهام، مما ولد صراعاً وقلقاً عند هناء تحول إلى وساوس وأوهام، ربما استغلتها عائشة لتستفيد من خدماتها وكرمها. ويكاد مسار هناء يركز على انشغالها بوضعها النفسي المقلق، والتصورات غير الواضحة التي كانت تفكر فيها. من ذلك أنها كانت تحكي عن سلوك عراش معها ومع أولادها وغيابه المتكرر عن العائلة، بل عنها وهي وحيدة في فراشهما، وبدأت تنتابها حالات نفسية من الحزن والبكاء أحياناً والاهتزاز أخرى، وكثرت أحلامها في المنام واليقظة والغفوة؛ أحلام كلها مزعجة تكشف عن وساوسها التي وجدت تفسيرها عند عائشة الشوّافة، واستسلمت لها.
وأثناء حضور هناء حفل خاص بافتتاح أحد الفنادق الفخمة بالمدينة، بإلحاح من زوجها مهدي عراش، وضرورة حضور الحفل إلى نهايته، إذا بها تتلقى مكالمات عديدة هرعت بعدها إلى بيتها لتجد الناس أمام الباب وزوجها عراش مقتولاً في سيارته. ثم يبدأ مسار هناء يتخذ اتجاهاً آخر يؤشر على الجزء الثاني من الرواية. وبعد أيام العزاء والحداد وعِدّة الأرملة، أصبحت هناء لا تطيق البقاء في العراشية، وتفكر في مغادرتها، وبخاصة أن رجال مباحث الشرطة أخذوا يترددون عليها من حين لآخر ليلقوا عليها بعض الأسئلة ويستفسرونها أحيانا حول بعض الأمور التي تخص بحثهم، أو يخبرونها بمسار البحث عن الجاني. وكان ذلك يقلقها ويزيد من رغبتها في مغادرة العراشية. وبعد أن رتبت أمورها مع الممون منصور ليبحث لها عن شقة تسكن فيها، أخذت طفليها إلى مدرسة خصوصية، مدرسة الجيل الجديد، وأسكنتهما في داخليتها المريحة، وقبل طفلاها ذلك بسهولة. وعادت هي وزهرة، خادمتها إلى مؤسسة عش الأم، مؤقتاً، التي استقبلتها فيها، مرة أخرى، بكل ترحاب الحاجة المسؤولة عن المؤسسة.
استقرت هناء في “عش الأم” مع زهرة، وازدادت وساوسها التي جمعت الآن بين حالتها المقلقة قبل مقتل زوجها، وما أضافه مقتله من وساوس وهموم أخرى كبيرة. ومع ذلك، كانت تحاول أن تتعود على الحياة في عش الأم، ثم تحضر في عيد الأم الذي أقامته مؤسسة عش الأم في حديقتها بحضور أطفال بعض المدارس، منها مدرسة الجيل الجديد التي تدرس فيها ابنتها ملاك. كان اهتمام الشرطة بالحفل بشكل ملفت للنظر، نظراً لحضور عدد من الشخصيات فيه، تحرياً للأمن والمحافظة عليه. وبعد انقضاء الحفل يلقى القبض على هناء، في مشهد درامي، وتزف فيه هناء، هذه المرة، من عش الأم في سيارة الشرطة، بعد أن زفت منها من قبل إلى بيت عراش.
تخترق مسار هناء فراغات كثيرة، ويثير أسئلة كثيرة تتعلق بالخصوص بعلاقتها مع عائشة وأخيها رضوان وكرمها معهما، بل ومقتل زوجها مهدي عراش كذلك.
مسار عائشة
عائشة من أسرة فقيرة، ماتت أمها وهي صغيرة وغاب أبوها مبكراً، وربتها جدتها لأمها، امِّي حادة، كانت أمها تسقط الأجنة حتى جاءت عائشة ثم رضوان أخوها، الذي تكفلت هي بتربيته حتى ظن الناس أنه ابنها، ودار حولها القيل والقال. ولم يكتب لها أن تكمل دراستها الابتدائية. ولما كان يُظَن أن عائشة أم ولود اختارتها امّي يجو زوجة لابنها، عون سلطة بلباس رسمي، عساها تنجب له أولاداً. ولكن، رغم تبين سوء اعتقاد اَمِّي يَجُّو والناس في عائشة لما وجدها ابنها بكراً، فإنه بعد مرور سنة ولم تنجب ولداً طلقتها لابنه. اضطرت عائشة للبحث عن العمل في المدينة كعاملة في المعامل والبيوت، حتى استقرت لفترة منظفة في محل بنت ميمونة خاص بوسائل تزيين النساء وإعدادهن لمختلف الحفلات (النـﮕافة). وتحكي هنا عائشة عما كان يروج من لغة رمزية وملغزة أحياناً بين ميمونة وبين النساء في هذا المحل، وكيف تعلمت منها كيفية قراءة الكف. وبعد أن سرحتها صاحبة المحل راحت تشتغل في الأسواق في الشعوذة وقراءة الكف. كما أنها تبنت طفلاً استلمته من باب المستشفى، وسمته حسن، واهتمت بتربيته ودراسته، وأصبح فرداً من أفراد عائلتها مع أخيها رضوان.
يركز مسار عائشة على علاقتها ورضوان بهناء، وتتحدث هذه العلاقة عن الجلسات الحميمية مع رضوان، وبلغة غير واضحة، فيها التلميح أكثر من التصريح. وكان رضوان يشعر باهتزازات هناء من حين لآخر ويتساءل عما بها. وكانت تجد مع عائشة ما يطمئنها فتستسلم لها وتسلم لها كفها وتستمع لإرشاداتها الشعوذية عساها تُعيد إليها زوجها مهدي عراش المخطوف من طرف غريمتها. وكانت عائشة تشعر بتغير سحنة هناء، تحضر وتغيب، وأحياناً تهتز وترتعش أطرافها، فتضمها إليها وتسمعها لغتها الملغزة حتى تهدأ وتسلم لها شيئاً من البخور.
ولكي يعرض السارد تلك العلاقات المتداخلة والمتراكبة بين عالم هناء بتعقيداته وفراغاته ومآلاته، وعلاقتها بعالم عائشة ورضوان، التجأ إلى توظيف تقنية الحلم لنسج تلك العوالم وبنائها من خلال سردية هناء وسردية عائشة. ولم يكن الحلم هو التقنية الوحيدة التي استعملها المؤلف في روايته، ولكن يبدو أن الحلم قد أسعف السارد أكثر في الكشف أكثر عن قصده الفني ومضمون ذلك القصد؛ الذاتي والنفسي والاجتماعي والإنساني. والملاحظ أن السارد خص هناء بالحلم في الرواية دون غيرها من الشخوص، وهذا ما يدل على تركيز الرواية على شخصية هناء، وجعلها مركز توزيع السرد، منها يخرج وإليها يعود، مما يخل بمفهوم توازن السرد بين مخلف مكونات الرواية الذي حاولت أن تتبناه الرواية من خلال سجلاتها المختلفة وتعددها اللغوي. وسنرى من خلال عرض الحلم في الرواية وموضوعاته أهميته، وأهمية التركيز عليه وأبعاده، والذي سيعود بنا إلى نمط السرد الذي يركز على البطل أكثر.
الحلم في الرواية
تعددت أحلام هناء، سواء منها أحلام المنام أو اليقظة أو الغفوة، وهي نومة خفيفة. بدأت تنتابها هذه الأحلام لما أخذ زوجها يتغيب عنها وعن أولاده، ويتركهم فجأة في عز فرحهم العائلي. كانت تأتيها هذه الأحلام في الغالب في دارها الكبيرة، العراشية، وفي بيت عائشة مع رضوان، قبل مقتل زوجها. وكانت تتميز هذه الأحلام في هاتين الإقامتين بالشكوك والوساوس والأوهام، التي كانت ترى فيها زوجها في حضن امرأة أخرى، غريمتها، حتى تحولت إلى نوع من الهوس الذي بدأت تظهر فيه أعراضه على سلوكها وعلى سحنتها. ولما لم تكن مزودة بما يحميها فكرياً وثقافيا ونفسياً مما حصل لها، استسلمت بسهولة للسيدة عائشة المشعوذة /الشَّوَّافة، وقارئة الكف، مدعية أنها تستطيع أن تعيد إليها زوجها وتبعده عن غريمتها بما لديها من أوهام الشعوذة والبخور. بعد مقتل عراش لم تزر هناء بيت عائشة ورضوان إلا مرة واحدة، وانتابتها فيها أحلام مزعجة في جلسة حميمية خاصة مع رضوان، رأت فيها نفسها وراء القضبان. ثم انتابتها في “عش الأم” أحلام أخرى أكثر إزعاجاً ورعباً لما كانت معها زهرة في فراشها؛ رأت فيها عائشة في مصحة النزيلات والنزلاء بالسجن، وهي في غيبوبة شبه تامة. أما رضوان فقد رأته في حلمها كذلك يشير إليها بسبابته في وضع مؤلم، ثم سمعت في أعماقها هدير رعب عائشة المريضة السجينة “يشكوها بألم وأنين… منك لله… قْبَرْتِنا … دفنتنا… منك لـلــ….” (ص 314).
ومن خلال تتبع تلك الأحلام في الرواية، ونوعها، وتعددها – حوالي سبعة أحلام- نتبين أهميتها في الكشف عن عوالم الشخوص، وبخاصة هناء؛ عوالمها الباطنية والظاهرية، والعوالم التي تحيط بها. ذلك أن الحلم يلتقي مع الصورة في تمثل الظاهرة والتعبير عنها، أحياناً، بشكل أبلغ من الخطاب. وتعبر حَنّا أرندتHannah Arendt عن بلاغة الصورة عندما ترى أن “الخطاب لا يلائم كثيراً التعبير عن الظاهرة مثل الصورة، ولو أنه، حسب رأيها دائماً، هو أساس حركة الفكر. وتجد الجواب لعدم هذه الملاءمة في الاستعارة التي تربط العالم المرئي بالعالم المدرك. ولذلك نجد الاستعارة تدعم الفكر بما لها من قدرة كذلك على النفاذ إلى المعنى (التي اعتبرت أيضاً لمدة طويلة مثل المقايسة”4. ولذلك نجد الروائيين يلجؤون أحياناً إلى توظيف تقنية الحلم التي تتماهى مع الواقع بالانزياحات التي يخلقها، من خلال الرموز والإشارات والفراغات التي تفتح أمام القارئ إمكانات واحتمالات تخييلية واسعة، بل إن الرواية نوع من الحلم في حالة الوعي، أو الحلم في حالة اليقظة. ويمكن أن نتبين أهمية الحلم وأنواعه في الرواية في سبر أغوار بعض الشخوص، وبخاصة هناء، والشخوص التي تحيط بها، وأبعادها الدلالية، بعرض موضوعات تلك الأحلام وأبعادها.
موضوعات الأحلام
تتميز رواية أحمر أسود بتوظيفها للحلم في مسارات شخوصها ونمو سردها، إلى جانب تقنيات سردية أخرى. ويبدو أن تقنية الحلم كانت من أهم حوافز السرد في الرواية، وساهمت في توزيع السرد وتطور الأحداث في الرواية، كما كان لها دور هام في الكشف عن مظاهر تعقد الشخوص التي كانت تجر معها أحداث الرواية وتبني نسيجها الدلالي وصياغة المعنى. ولربما أسعف الحلم السارد أكثر ليغوص في أعماق شخوصه، وبخاصة هناء، الشخصية التي كانت تعبر أكثر عن الاجتمال الجمالي الذي تعبر عنه الرواية. وسأقتصر هنا على عرض الموضوعات الثلاثة الأساسية التي دارت حولها أحلام الرواية، وهي: أ- الفراغ العاطفي لدى شخوصها، وبخاصة هناء. ب- عنف الشعور بالذنب. ج- البحث عن مصالحة الذات بواقعها.
أ- الفراغ العاطفي
كان حلم هناء الأول حلم يقظة، وهي في فراشها مع زوجها مهدي عراش في العراشية. كانت تستحضر فيه مشهداً حميمياً استعارياً موحياً يدل على مقدار ما تحتاجه هناء من حنان وحب، أكثر مما هي في حاجة إلى خبز وماء وحِلِيّ: “تحتاج إلى تغذية معنوية، لا لمجرد خبز وماء وحلي، تحتاج إلى سلسبيل العواطف تنساب مشفوعة بعبارات تحبب وتقرب، تحتاج إلى مَسحةِ كَفِّ حنانٍ على وجنتيها، إلى رقيقِ لثمٍ رفيقٍ بولَهٍ وعشقٍ…احتاجت دائماً وتحتاج إلى ذلك وغيره من أنيس رفقة وعشرة؛ نعم، لكنه يعترف بغنة صدق تخنق صوته، إنه مقصِّر مقصِّر، وكان دائماً مقصراً في هذه الأمور.” (ص 104). ولما تستفيق من غفوتها تجد نفسها وحيدة في غرفتها: “اوه… لا شيء. لا شيء حولها لا شيء معها، لا شيء أبداً… هي هنا، هنا وحدها في غرفتها، يهزها ارتعاد، كلها ارتعاش، يعمها ارتعاب، لا شيء حولها إلا الجدران محيطة بها ، وأثاث غرفة نومها مألوف مألوف، وصدى قهقهة معربدة يتناهى في سمعها متباعداً متجاوزاً صداه في الغياب.” (ص 106).
كما كان حلم يقظة هناء آخر يعبر بدوره عن عاطفة الأمومة الناقصة والمؤجلة وهي تتصور ابنتها ملاك عروساً مع عريسها، ولكنه فرح مشوب بالعنف والنفور، أو عاطفة منخورة. يتجلى ذلك في الحلم التالي: “ويبرز العريس؛ عجيب ما ترى هناء بأم عينيها، ينبثق وكأنما شردت لحظة، لتجده منتصباً، هو العريس كأنما انبثق من زجاج المرآة، يقف بممشوق قامة وأنيق هندام، بمواجهة عروسه الهيفاء، يداه على كتفيها، يتملاها في قشيب فستان ولطف زينة وتمام إشراق، ليبحر بنظرة ولهى في سماء عينيها، ليغيبا في قبلة عميقة… بعد لأي… يفيق العروسان من غيبوبة قبلتهما، يلتفان بآلية وتؤدة من خلف الزجاج الثخين الفاصل، يوجهان نظرة حياد إلى ملامح هناء الطافحة بِشراً وإشراقاً بهما، لهما… يتبادلان فيما بينهما نظرة تساؤل، ثم يعودان بنظرة حياد وبتمام آلية وهدوء، إلى ملامح هناء…” (ص178- 179).
ب – الغيرة على حياتها الزوجية
هناء ترى مشهداً غريباً وهي في بيت عائشة قرب رضوان، وترى بكل وضوح زوجها عراش مع غريمتها في فراش يجمعهما تصف تفاصيله بدقة: “عجيب وغريب كل ما يجري في غاية وضوحه: أليست أمام غريمتها عشيقة زوجها؟ أليست أمام زوجها مهدي عراش وهو في أحضان حوائيته الأفعوانية؟ كيف تغيب عنها في مثل هذه اللحظات، نيران الجوف المكتوي طوال انتظارات الليالي المديدة المتلاحقة، كيف تمحي من مشاعرها فراغات الغياب الطويلة بلا عد ولا حد، وهي هي المتقلبة على فراش نافر مهجور؟ (ص 216–217).
ثم يواصل السارد في الحلم وصف عراش مع غريمة هناء في مشهد حميمي دقيق يجمع بين دقة التصوير وتقريب الصورة شيئاً فشيئاً حتى أثارت انتباه عائشة التي كانت نائمة معها بحركة يدها المرفوعة إلى السماء.
“وهكذا… عجيب والمشهد بكل ما فيه وحوله، يبدو مقترباً أدنى ما يكون من موقف هناء، حتى ليبدو الجسدان واضحين بتفاصيل تقاطيعهما تحت الغطاء الخفيف، وكل شيء يدنو بأناة، يدنو ويدنو حتى ليصبح بمستطاع هناء، إن شاءت، أن ترفع الغطاء عنهما؛ فعلاً ترفع يدها بمهل، تتحرك يدها إلى أعلى ما تستطيع، ليمكنها بكامل قوتها، أن تنزل بحد ما في يدها، بمضاء السكين كالسيف الطويل، يخترق الجسدين معاً في التحامهما الدائم…
– بنتي مالك؟
مبهورة عائشة، تتأرجح علبة الكعك بين يديها، وهي تُفاجأ بكالح سحنة هناء، وحركة يدها المرفوعة في الهواء؛ تنحي عائشة جانباً ما بين يديها، في شبه رمية على السداري، متسائلة عن الحال… لا شيء… لا شيء…
هناء في شيء من غياب وحضور، مستندة إلى صدر عائشة، لا شيء، لا شيء… مهتزة الكيان مرتعشة الأطراف، لا تدري هناء ما حل بها واين كانت، في يقظة أم في حلم….” (ص 219- 220).
قد يكون هذا المشهد الذي عبر عنه الحلم بتلك الصورة أبلغ من أي خطاب وصفي مباشر، بما تتيحه استعارة هذه الصورة من استمالة القارئ وتمكينه من فتح المجال لاستحضار تخيل احتمالاته ومساءلة انتظاراته.
ج- عنف الشعور بالذنب
تفيق هناء من غفوتها وقد رأت صورة الكبيرة أم رضوان في حلقة تتحدث عن اختطاف ابنها رضوان، الموجود الآن في “الغياهب المدلهمة، وراء القضبان يعاني غصباً وظلماً” (ص 196). وتكاد بنظراتها إلى هناء تخطفها وتطير بكيانها: “خاطفة ناشلة، يد تطير بكيان هناء، كوزن ريشة في الهواء، تطرحها خارج حلقة الرعب في أمن وأمان… لمن اليد الرحيمة تلك؟ لا تتبين هناء وهي ما تزال تشهق أنفاسها خارج دائرة الخطر، إلا شبح الحاجة، مولياً ظهره منصرفاً مبتعداً عنها، يسير غير ملتفت في اتجاهه، يخطر قاصداً في سعيه، بغاية طمأنينة وثبات…
تنادي هناء بملء ما تملك، تشهق بندائها المبحوح المكتوم وراء الكيان النافر المتنائي… الحاجـّ… الحا… تفيق من غفوتها مخنوقة مختنقةـ تفك رقبتها من قبضة يديها الماسكتين…” (ص 197-198),
وتستحضر هناء في حلمها كذلك مشاهد سينمائية عن الصحراء والعنف الذي يمارس فيها على العبيد. وللتعبير عن ذلك يقوم السارد بتوظيف صورة مستقاة من السينما التي اختزنتها ذاكرة هناء: “وها هي ذي طلائع قوافل تبدو على البعد، متقاطره وحداتها كعقد حبات متوالية، لا يمكن تبين مكوناتها على بعد المسافة…الآن تتبين الأمور شيئاً فشيئاً بقدر ما تتدانى، لتبدأ الصورة في الاتضاح… القافلة كما تنبئ مكوناتها، هي لجمع من تجار عبيد أو مستعبِدين؛ لا يمكن افتراض أنهم أسرى حرب مع آسريهم… تزداد القافلة اقتراباً وهناء تطلعاً، لا يُصدَّق ما يجري وما ترى العين من مشهد: عقد حبات ما يبدو أو وحداتها، إنما هي فعلاً ذوات بشرية مشدودة الرقاب بحبال، بعضها وراء بعض…” (ص 212-213).
تمعن هناء النظر في مشهد قافلة العبيد، وتتابع سير القافلة في الصحراء، فترى رأي العين كيف يلقى بالأطفال في حر الصحراء أمام الأم ولا تستطيع فعل أي شيء، سوى أن تنهال عليها السياط: “وهذا شيء آخر…رباه….حبتان بشريتان، وحدتان صغيرتان، طفلان مأسوران ينال منهما الإجهاد، يتساقطان أرضاً، أمهما المقرونة إليهما بحبل القافلة الرابط تحاول ما تحاول لإنهاضهما، لتنال بالسوط والعصي الطويلة، بينما يتم الإسراع بقطع الحبل على الحبتين البشريتين الصغيرتين، والقافلة تسير والأم الكليمة تلتفت تجاههما، والسياط تنال منها عند كل التفاتة، حتى تنأى والقافلة عن موقعها…غريب… غريب ما ترى العين غريب ما يحدث… ” (ص 214).
يعبر هذا المشهد التصويري السينمائي عما تعانيه هناء في دواخلها من عنف، ووقع ما تشعر به من ألم وأسى يسكنها، فتسقطه على تلك المشاهد السينمائية المأساوية.
د- المصالحة غير البريئة
بعد رجوع هناء وزهرة إلى “عش الأم” بعد مقتل زوج هناء، رأت هناء حلماً يدور حول لعبة الأطفال وخصامهم وتصالحهم في الأخير: “تراهم أمامها في أوج مرح ونشاط في لعبتهم الجماعية، يتسابقون يتبادلون ويتخاطفون بالأقدام تارات، وبالأيدي تارات أخرى، كرة متبادلة بينهم… سحر الألوان، بهاؤها اللماع، ذاك ما يخطف لب هناء في متابعتها لكرة الأطفال المتقاذفة بينهم، هبائية كريشة مسيرة بذاتها في الفضاء” (ص 297).
“ما أروعهم فتياناً وفتيات، في سحر خصام ووئام، وقد داووا جراح بعضهم، وعادوا تتقاذفهم كرتهم الأخاذة، بجانب ألوانها الساطعة، الفاقعة، هبائية متطايرة متباطئة في الفضاء كريشة في مهب الريح بلا ريح، … لا هي في هذا الاتجاه، بل في ذاك الآخر… من الأسعد منهن أو منهم؟… ومن هو الأشقى، من؟” (ص 298).
“تتبين هناء، بكامل وضوح، أن التفاهم والتصالح لم يكن عشوائياً، بل ولا كان بريئاً كل البراءة…
تستفيق مهوشة مبللة بالعرق، بجانبها زهرة تهدهدها، تهدئ من روعها وقد تركت سريرها المجاور في حجرة إقامتها الضيقة المشتركة بالعش؛ حلماً كان، مفزعاً كان… تناولها زهرة كوب ماء، لا عليها… خير إن شاء الله… خير… “ (ص 298-300).
هل يمكن لهناء أن تتصالح مع وضعها المأزوم مع زوجها؟ يبدو أن المشهد المذكور يعمق أكثر وضعها النفسي، ولا يسمح بقبول منطق لعبة الأطفال التي تنتهي بانتهاء لعبتهم. فلعبتها، واقعها، لا يمكن أن ينتهي بتلك البراءة الطفولية، لأن هناء ليست بريئة، ولا زوجها عراش كذلك. ولذلك فالشعور بالذنب هنا شعور عنيف، تؤججه علاقتها بعائشة ورضوان غير البريئة وغير الواضحة، بل والترتيبات غير البريئة التي رتبتها مع كل من عائشة ورضوان، كما عبرت عنها في حلمها الأخير الذي رأت فيه نفسها داخلة إلى السجن لتزور في مصحته عائشة قائلة: “ويلاه…نأمات عائشة المريضة هدير رعب في الأعماق، يهز الأطراف، يسري سريان الدم في كل كيان، يشكوها بألم وأنين…منك لله… قْبَرتِنا… دفنتِنا…منك للــ…
ترمي عنها الغطاء منتفضة من فراش نومها…ويلاه…تحملق هناء في الظلام والسكون الشامل من حولها، تحدق في الظلمة والفراغ وصمت الجدران، تشعل النور لتطفئه وكيان زهرة يتململ بقربها في الفراش المجاور” (ص 314).
كان التركيز على أحلام هناء في الرواية لما لشخصية هناء من حضور قوي في الرواية من البداية إلى النهاية، وكانت الشخوص الأخرى، رغم أهميتها، تدور في فلك هناء, ولهذا خص السارد هناء بالأحلام، ولم يخص بها أي شخص من شخوصها، لأن بؤرة الرواية ومركز ثقلها ألقاه السارد على هناء ليعبر بها عن نموذج بشري معاصر، في علاقاته بالحياة المعاصرة المعقدة، نفسيا واجتماعياً وماديا. هل هي رواية الشخصية البطلة؟ يمكن القول إنها رواية جعلت من شخصية هناء بؤرة تتجمع فيها أوضاع إنسانية متداخلة ومتراكبة ومعقدة، قد يساعد سرد نموذجها روائياً على تبين مسارات حياة تلك النماذج، في نموها وتطورها ودخولها معترك الحياة، ولكنها تخلق معها أوضاعاً إنسانية أخرى تسودها التبعية الاجتماعية والمادية المتداخلة، بل وتنتج عنفاً إنسانياً يؤدي إلى ارتكاب الجريمة. ولذلك فالرواية، من خلال سردية الأحلام، تحيلنا على الرواية خارج سردية الأحلام كذلك. هناك إذن في الرواية تداخل الحلم مع اليقظة، الخيال والواقع، ولكن في إطار تخييلي عام يجمعهما، سوى أن استراتيجية السارد خلقت هذا التنوع السردي لعرض وكشف التداخل بين الوعي والمتخيل، بين الحلم واليقظة.
القارئ في الرواية
لقد تبين أن الاستراتيجية السردية المتبعة في هذه الرواية تترك القارئ لا يرتاح بسهولة إلى استنتاجاته، ولا إلى المضامين التي يستجمعها خلال مسار الأحداث والكتابة في الرواية. ذلك أن السجلات المختلفة المعتمدة في الرواية، بتنوع صيغها وأنواعها، واللجوء إلى لغة الترميز والتلميح والحلم، بما تحمله من تأويلات مختلفة، تترك القارئ يُفَعِّل احتمالاته في كثير من المواقف في الرواية، ولا يرتاح إليها، مثل علاقة هناء بعائشة ورضوان، وحالة الاستقصاء في جريمة القتل، والمواقف المتضاربة حول مؤسسة “عش الأم”.
ففي علاقة هناء بعائشة ورضوان، هناك الكثير من المسكوت عنه لم يتم سرده في الرواية، ولم يتم تبريره كذلك على مستوى منطق السرد، مما يجعل السارد يترك فراغات انبناء السرد الذي يؤدي إلى تكون معنى ومعرفة تنسجم ومسار السرد. يشعر القارئ بسخاء هناء مع عائشة ورضوان، ويرتب استنتاج دواعي ذلك السخاء، فلا يجده إلا في حلم هناء وهي في زيارتها لعائشة في مصحة السجن. هل كان الحلم هروباً من الحقيقة المؤلمة لعلاقة هناء بعائشة ورضوان؟ أم كان السارد يحرص على تعقيد الحبكة وترك القارئ يمشي في الرواية بدون نهاية، حتى أصبح قارئاً مشاء باستمرار؟
وفيما يخص السرد الاستقصائي في الرواية، الخاص بمقتل عراش زوج هناء، فإن السرد هنا كان مقتصداً جداً، وكان تلميحياً أكثر في مسألة تتطلب سرد بعض المؤشرات المادية التي توحي بتورط هناء في مقتل عراش. فالسرد الاستقصائي هنا بقي كذلك مقتصدا جداً، وترك فراغات كبيرة، قد لا تسمح بلملمة المعنى وتكوين معرفة عن مجريات البحث في الجريمة، وتُشعر القارئ بالاطمئنان بإمساكه لحبكة الرواية. وربما جاءت النهاية مفاجئة، وموحية في نفس الوقت. ولكنها تترك السرد مفتوحا تجعل انتظارات القارئ تتسم بعدم الاطمئنان والتخييب أحياناً.
أما فيما يخص تسريد المواقف من مؤسسة “عش الأم”، مؤسسة رعاية النساء المطلقات، والأطفال المتخلى عنهم والنساء اللواتي أنجبن أطفالا في أوضاع خارجة عن العلاقات الزوجية الشرعية؛ فإن السارد التجأ إلى توظيف السجل الصحافي، وأورد مقالة منشورة في صحيفة، تفيد معارضتها لمثل تلك المؤسسة (ص 181-183). غير أن موقف تلك الصحيفة ورد بشكل يكاد يكون منفصلاً، بحيث لم يتم التفاعل معه في سرد الرواية. كان يعبر عن تسجيل موقف ذي توجهات دينية معارضة لمثل تلك المؤسسات الاجتماعية، ولكن وبدون تعليق؛ أي عدم إدخال ذلك الموقف في سيرورة السرد ومناقشته من طرف مواقف أخرى. وربما كانت نهاية الرواية تحمل رداً على ذلك الموقف المعارض لتلك المؤسسة، عندما حضرت السلطات العمومية بقوة في نهاية الرواية أثناء الاحتفال بعيد الأم في مؤسسة “عش الأم”، وما نتج عنه من آفاق توسيع تلك المؤسسة في المستقبل.
خلاصة
الرواية تلمح وترمز أكثر مما تصرح، بحيث كل الاستراتيجيات المتبعة في الرواية لا تجعل القارئ يرتاح إلى استنتاجاته، لأن منطق الرواية ومساراتها السردية كثيراً ما تخيب انتظاراته. وبذلك تكون الرواية مملوءة ببياضات موحية، أو فراغات قابلة للملء. ومع ذلك يبقى القارئ في مرحلة البين بين، بين الشك واليقين. وهذا ما يجعل هذه الرواية، بحكم تقنيتها السردية، والاستراتيجية المتبعة فيها، واللغة المستعملة فيها، أي: لغة تَبسط، وتعرض، وتصف غير الموصوف أحياناً، وتنتقل من سجل لغوي إلى آخر، ومن لغة الحلم إلى لغة الواقع، ومن لغة هادئة تحتها هدير نفسي لا يتوقف، ومن لغة التأمل، إلى لغة الثرثرة والاستطراد. هي لغة تجمع بين النقيضين، لغة مفارقة، تعبر عن وضعية عوالم شخوصها، مما مكن الرواية من الغوص في معاناة نوع من الإنسان المعاصر، نفسياً واجتماعياً، ومادياً أيضاً، ولكنها معاناة السعادة المادية الوهمية. ثم تعايش حالات اجتماعية متعارضة، رغم واقعيتها، ولكنها محمية بالقانون والسلطة في نفس الوقت. هو مجتمع منفصم إذن. هل الانفصام حالة عادية لا بد من التعايش معها، دون أن تؤثر في المجتمع؟
يمكن أن تكون هذه الأحلام المختلفة والمتنوعة، قبل مقتل زوج هناء وبعد مقتله، وفي أماكن محددة كما ذكرنا من قبل، موضوعاً للدراسة النفسية والتحليل النفسي، وتستخرج منها كثير من الاستنتاجات الخاصة بالتحليل النفسي التي تكشف عن خلفيات نفسية هناء، كحالة مرضية نفسية، أو في أوضاعها النفسية المعقدة مع زوجها مهدي عراش، ومع عائشة المشعوذة، ومع رضوان في علاقتها الحميمية المبهمة معه. غير أن ما أفرزته تلك الأوضاع النفسية من أبعاد اجتماعية وإنسانية وتربوية، كما كشف عنه التحليل السردي لموضوعات الأحلام في الرواية، هو مدى مساهمة تلك الأحلام، بتنوع لغاتها وموضوعاتها وإيحاءاتها، في توسيع دلالة التمزق الداخلي الذي يتركه التمزق العائلي، وما يدفع إليه ذلك التمزق من أفعال الخيانة الزوجية، ومحاولة الانتقام، ومقدار ما يصرف ويبذر من أموال من أجل ذلك بدون رقيب ولا حسيب. وبخاصة أن السيدة هناء وجدت أمامها ثروة زوجها التي لا نعرف كيف اكتسبها، ولا هي على وعي بأهمية هذا المال. همها الوحيد هو إرضاء نزواتها، ما أمكن، مثلما كان زوجها يرضي نزواته كذلك. وكانت النتيجة هي ضياع كل شيء، بل وضياع الأولاد، وضياع المستقبل.
يبدو لي في الأخير أن القارئ سيتساءل في هذه الرواية عن مدى تأثير الفراغات التي يتركها المنطق المتبع في سرد أحداثها، وعن مدى الاقتصاد في السرد في بعض مفاصل الرواية الهامة. قد تكون تلك الفراغات وذلك الاقتصاد في السرد أحايناً، وليد كثافة الأحداث في الرواية وتنوعها وتركيز مقصدية السارد في الغالب على حدث دون آخر. ولعل الإشكال الذي تطرحه هذه الرواية من حيث الكتابة الروائية، هو محاولة كتابة رواية ذات كثافة في الأحداث، وتنوع في الشخوص وتعدد في اللغات، واختلاف في المقاصد، باستراتيجية سردية لا تقوى أحياناً على استيفاء السرد وتوزيعه وحبك كل حدث بشكل يمكنه من الكشف عن مقصديته وصوغ معرفته في الرواية.
—————————————-
هوامش
1- https :www.bonjourpoesie.fr
2- Milan kundera, Le Rideau, Gallimard, 2005, p. 77 ; Katarina Melic, « Kundera : (im)moralisme du roman », Fabula/les colloques, les moralistes modernes, URL : http://www.fabula.org./colloques/document1337.php, page consultée le 26 mai 2022.
3- أنظر:
Wolf, Werner : « Illusion (Aesthetic) », in : Hühn, Peter et al. (eds.); the living handbook of narratology; Humburg: Humburg University. URL= http://www.Ihn.uni-humburg.de/article/illusion-aesthetic [view date: 28 May 2022 ]
Češka Jakub, Le roman comme déploiement symbolique du rêve: la thématique du rêve dans l’œuvre de Milan4- Kundera [The Novel as an Emblematic Developing of a Dream : On the Topic of Dream In Milan Kundera’s Work]. In : Revue des études slaves, tome 82, fascicule 3, 2011, Rêve et utopie dans la littérature tchèque (sous direction de Hana VOISINE-JECHOVA) p. 457.s