الأحد , 13 أكتوبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » معالم التنظير النقدي عند محمد برادة

معالم التنظير النقدي عند محمد برادة

محمد برادة، محمد مندور وتنظير النقد العربي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2005.

 

قبل أن نخوض في صميم الموضوع، وجب علينا أولاً الوقوف عند تجربة محمد برادة، وتتبع مساره بصفته كاتباً روائياً وقاصاً ومترجماً وناقداً متتبعاً للحقل النقدي المغربي والعربي والمساهمة فيه، وذلك انطلاقاً من مجموعة من المقالات التي كان يعبر من خلالها عن إشكالات فكرية تطبع الساحة العربية عامة، والمغربية خاصة. فقد عايش فترات عصيبة مر منها المغرب؛ مرحلة ما قبل الاستقلال ومرحلة ما بعد الاستقلال. ولعل هذا التحول الذي طبع الثقافة المغربية هو ما مكنه من الدّراسة والتعمق في كنه هذه التحولات، وكان التثاقف بين الثقافة العربية والثقافة الأوروبية والمستعمِرة طاغياً. وكان برادة من المثقفين الذين حملوا هم القضية الأدبية على عاتقه.

تجسدت ملامح المشروع النقدي لبرادة خلال ستينيات القرن الماضي عندما بدأ بنشر مقالات في النقد الأدبي، من خلال “جريدة المحرر التابعة للاتحاد الاشتراكي”. فكانت هذه المقالات نابعة من قلق فكري يؤرق كاهله، و”مجلة القصة والمسرح” التي أسسها بمعية “عبد الجبار السحيمي، ومحمد العربي الخطابي، وعبد الرفيع الجوهري، ومحمد العربي المساري،”. ونشر فيها أول بيان حول الأدب المغربي الجديد بعنوان: “كلاب الحراسة وصانع القيم”.  هذا الأخير عبر فيه عن اختلاف فكر جيلين: “جيل مطمئن، ممتلئ بحقيقته، يشع رضى عما بذله في معركة التحرير، ويفيض تفاؤلاً بالناس وبالقناعة بالحياة، وجيل قلق متمزق… فقد الركيزة، وضاع وسط متاهات من الأسئلة والوقائع”[1].

لقد تحدث محمد برادة عن التحولات التي طبعت جيل الحماية الذي وقف في وجه المستعمر، وأشار إلى المنعطفات التي تواجه الجيل الجديد. وعبر عن وضع الكاتب في المغرب وعلاقته بالمجتمع.  فقد سطع اسم برادة في مجال النقد الأدبي، وفي مجال الإبداع، (القصة والرواية) وفي الترجمة، من خلال تأسيس وعي نقدي مغربي في أحضان الجامعة حين كان يشغل منصب أستاذ النقد والأدب، حيث انفتح على الدرس الأدبي وقضاياه والنظريات الغربية التي تعد المرجع الأساس في الدراسة الأدبية، وجسد الصوت القوي الذي يعبر عن مجموعة من التحولات التي كانت تتخبط فيها الثقافة العربية، انطلاقاً من هزيمة الجيوش العربية في 1967 أمام الجيش الإسرائيلي، وانعكست تلك الهزيمة العسكرية والسياسية على الأدب العربي.

لقد مثّل برادة المثقف النضالي الذي كرس حياته من أجل انجاز مشروع قائم على الثقافة والمجتمع، وبدأ أثناء دراسته في مصر، مما جعله يستوعب جيداً الرهانات الكبرى للأدب العربي المعاصر. كما أن انفتاحه على الثقافة الفرنسية جعلته أكثر استيعاباً للمناهج الغربية، مما أهله إلى إبراز مجموعة من أوجه التفاوت بين النقد العربي والنقد الأوروبي، والوقوف عند مشكل التفاعل القائم بين الدراسة الأدبية المغربية بالخصوص، والنظريات الغربية. وهذا الانفتاح جعل اسمه يبرز ضمن النقاد المغاربة الذين فطنوا إلى مسألة المنهج، وقاموا بإدخال مناهج نقدية حديثة إلى النقد المغربي والعربي، كالبنيوية التكوينية لتحليل النصوص ومقاربتها، سواء أكانت نصوصاً نقدية، أو نصوصا إبداعية كالرواية والقصة والمسرح. وهكذا رسخ برادة قيم الثقافة وأهميتها، وأعطى للأدب ميزة مختلفة عما كان عليه في السابق، باعتباره “مكونا من مكونات الخطاب الذي ينتجه المجتمع من أجل فهم الذات وتشخيص المتخيل الاجتماعي”[2]. وهذا الاهتمام جعله يلامس قضايا أدبية ويهتم بمقاربتها بمناهج النقد الانطباعي والاجتماعي، ويكتب القصة والرواية، إذ إنه حسب الأستاذ الدغمومي ينتمي إلى فئة من المثقفين الذين لهم حضور أدبي إبداعي.

لم يبرز اسم محمد برادة في النقد الأدبي ويأخذ لقب “الريادة الأدبية” فقط، بل كتب الإبداع الروائي، كذلك؛ “فإليه يعود الفضل في إدخال مادة الرواية إلى المناهج الجامعية بعدما كان ينظر إليها بصفتها وسيلة للتسلية والترفيه، ومفسدة للغة والعقل والذوق”[3]. لقد جعل برادة الرواية جزءاً لا يتجزأ من المجتمع، فهي بالنسبة إليه بمثابة كاميرا ترينا ما لا تلتقطه المقولات والمفاهيم وتسمعنا ما يهمس به الفرد المأزوم في خلوته والمحبط في يأسه. وفي موضع أخر يقول: “إن الرواية هي طريقي إلى البوح والمكاشفة واللعب، والجري وراء إشراقات التخييل. ليس غريبا، إذن، أن أجد في الرواية وسيلة للمعرفة والمتعة واكتناه ذاتي/ذواتي الغائصة أكثر فأكثر في سديم الحيرة”[4].  ولهذا تعد الرواية الصوت القوي لمحمد برادة، باعتبارها متصلة بالخطاب الأدبي، مما جعله ينفتح على مساءلة الرواية في علاقتها بالنقد. ويتجلى لنا ذلك في كتبه “أسئلة الرواية أسئلة النقد”، “فضاءات روائية” “الرواية العربية ورهان التجديد”.

يمكن القول، إن محمد برادة ساهم في تحسين وضعية النقد الأدبي عندما بدأت الترجمة تعرف طريقها إليه. ويرجع إليه الفضل في إدخال أفكار ومعارف جديدة للثقافة المغربية والعربية: “ولا شك أن الدرس النقدي العربي الحديث لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه من تنوع في المقاربات، لولا انفتاحه على الترجمة كوسيط فعال في إغناء تجربتنا النقدية والفكرية؛ فكثير من المفاهيم والترجمات أسهمت إسهاماً كبيراً في حركة النقد العربي. فيكفي أن نفتح أي كتاب في النقد الأدبي لنكشف أثر هذا التأثير وهذا الغنى والتنوع في المفاهيم والمصطلحات والطروحات”[5]، ولنجد أن الترجمة أدت دوراً فعالاً في تطور النقد العربي والمغربي، وبرادة من أوائل الكتاب الذين أدخلوا أفكارا ونظريات غربية من خلالها، فكانت ترجمته قيمة لمجموعة من النقاد.  وفي هذا السياق نستحضر ترجمته لكتاب “الرواية المغربية في القراءة والتجربة لعبد الكبير الخطيبي”، وترجمة كتبٍ أخرى لكتاب عالميين تميزوا بنظرياتهم ومواقفهم التي أغنت المشهد الفكري العالمي، مثل كتاب رولان بارت “الدرجة الصفر للكتابة”، الذي كتب له مقدمة طويلة نسبيا، عبر فيها عن مجموعة من الإشكالات التي تطبع الكتابة، وتزحزح إطارها التركيبي، سيما الكتابة التي تمس النقد الفرنسي الذي يعد حسب بارت بؤرة أساسية في التحليلات والتأملات والتصنيفات. وقدم أيضا ترجمة لكتاب “الخطاب الروائي” للمفكر الروسي ميخائيل باختين الذي ضمنه مقدمة طويلة، بيّن فيها ما يطبع الرواية من تنوع في الأصوات وتعدد في اللغات، وترجمة مجموعة من المقالات للوسيان كولدمان، مثل “المادية الجدلية وتاريخ الأدب” و”الوعي القائم والوعي الممكن”.

1- بداية تبلور مشروع محمد برادة.

أدت الجامعة دوراً أساسيا في تبلور مشروع محمد برادة النقدي الذي بدأ في مصر خلال دراسته فيها لمدة خمس سنوات، وتعمق في دراسة النقد العربي، ولاحظ التفاوت الذي طبع النقد العربي والنقد الغربي، فتعمق في البحث في دلك حتى بدت له مجموعة من الأسئلة صاغها على شكل أطروحة، وعنونها ب: “محمد مندور وتنظير النقد العربي”. ويعد هذا العمل من الدراسات الأولى الجادة التي خرجت من رحم البحث الجامعي، وأسست للنقد العربي، ونقد النقد من خلال البحث عن الأنساق المضمرة، وخوض في التحولات التي كان يتخبط فيها النقد الأدبي مند ستينيات القرن الماضي، وذلك ما صرح به حين قال: “وجدت وأنا أتأمل الوضعية النقدية في الستينيات بأن هناك إرهاصات تحول في مفهوم الأدب” (ص 5).

وللوقوف على الإرهاصات والمتغيرات في الأدب والنقد العربي، كان عليه أن ينطلق من تجربة ناقد واحد وتتبع مساره النقدي والمفاهيمي. وقد علل سبب اختياره محمد مندور بقوله في كتابه محمد مندور وتنظير النقد العربي: “يمثل حالة بارزة…تسعفني على تجلية بعض الإتباسات التي تحف مجال النقد، وتفتح في الآن نفسه الطريق أمام استحضار المسكوت عنه ومساءلته (ص 5).

والملاحظ في دراسة برادة التي تنطوي تحت لواء نقد النقد، أنه لم يقف عند هذا المصطلح، ولم يأخذ من صفحات عمله إلا القليل، لكنه قام بتشريح الأسس الإبستمولوجية ورصد الفكر النقدي المندوري وتتبع خطاباته وكتاباته وإصدار الحكم، وهذه هي ميزة ناقد النقد، حيث حاول أن يفهم الخطاب النقدي العربي ويفحص مناهله العربية القديمة والحديثة والغربية، فوجده من المتأثرين بالجرجاني وغيره، ومنفتحا على المجتمع الفرنسي، من خلال إقامته في أوروبا والبحث عن المعرفة ومعالم الحضارة الفرنسية.

لقد تأثر مندور بالتحولات التي طبعت أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية، وشكلت السنوات التي قضاها هناك جزءاً من تفكيره، كما يتجلى ذلك في ثنايا الكتاب حين يقول: “لقد كانت السنوات التسع التي أمضاها في فرنسا من 1930 الى 1939، سنوات لتقليب جذوره الفكرية وللاستقرار داخل ثقافة موسوعية”(ص 4).  وجاء في قول مندور نفسه: “إن هذه السنوات هي التي كونتني عقليا وعاطفيا وإنسانيا. وباريس مدينة بالغة الخطورة، فيها الجد والصرامة، وفيها المغريات المهلكة. وقد أخذت من الاثنين بطرف، ويُخيل إلي أن تغيير لغة التفكير إلى لغة أكثر تحديدًا أو دقة، وأقل ميوعة، قد غير منهج تفكيري كله بالرغم من أن تفكيري منذ دراستي الجامعية في مصر، كان يمتاز بالدقة والوضوح والنفور من الشقشقة اللفظية أو افتعال الغموض” (ص 49).  ويتجلى لنا من خلال هذا القول أن مندور تكوّن انطلاقا من الثقافة الفرنسية، أكثر مما تعلمه من الثقافة العربية، وهذا ما جعل منه ناقداً يحرك الساحة الأدبية المصرية من جمودها ويؤثرفي  مخاضاتها.

وانطلاقا مما سبق يمكن أن نتساءل: ما هي الخلاصات التي خرج بها محمد برادة حول تنظير النقد العربي؟

يكمن مشكل النقد الأدبي في نظر برادة في عدم دراية القارئ العربي باللغة الأجنبية، وذلك ما جعل القارئ غير مطلع على الأعمال التي يمكنها أن تطور النقد، لأنها أعمال غير مترجمة؛ منها أعمال “سارتر” و”سيمون دي بوفوار”، حتى بعد عام 1970، مع دخول ترجمة كتاب “التحليل الاجتماعي للأدب” للكاتب سيد ياسين (ص 38). كما وجد أن بعض النقاد يعتبرون أزمة النقد العربي تعود إلى عدم وجود النظريات الفلسفية التي تسند المدارس النقدية كما هو الحال بالنسبة للثقافات المتقدمة. يقول في كتابه عن مندور: “يبدو لي شخصيا، رغم المقالات والأحاديث والخطب التي دُبجت بقصد توضيح أصول الأزمة التي يتخبط فيها الأدب العربي، أن الحاجة لا تزال ماسة لإعادة النظر في المسلمات والأسس التي ترتكز عليها مفاهيمنا الثقافية المسؤولة عن هذا المأزق الذي نستشعره في كل المجالات” (ص 17-18).

الظاهر، إذن، أن غاية محمد برادة تتجلى في تطوير النقد العربي والخروج به من مأزقه، والتخلص من التعميم والتقديس، لذلك كان وقوفه على ناقد واحد وتتبع مساره ما يمكنه من الوقوف على أزمة النقد العربي، ودراسته من جوانبه الاجتماعية والسياسية والثقافية والإيديولوجية، ودراسة معاركه الأدبية مع كبار النقاد، أمثال العقاد وميخائيل نعيمة. هذا كله جعله يقف على مساره من منظور نقد النقد، وبلورة منهج ومفاهيم ملائمة للأدب الحديث.

يبتغي محمد برادة من بحثه هذا ملامسة معضلات النقد العربي وتجلية نواقصه، وذلك من خلال الوقوف عند معضلة من معضلاته التي تتمثل في المنهج، الذي يتطلب من الناقد ألا يقف عند أسس المنهج الذي يتبعه في دراسة عمله ويبقى حبيس الاجترار. اجترار كتابات رائدة دون بلورتها وإعادة قراءتها، وهنا يقر بأن الناقد يجب أن يتجاوز هذه الكتابات بطريقة موضوعية، والاشتغال عليها من منظور نقد النقد؛ فهو الذي “يتيح التجاوز ويجعله ممكنا وحقيقيا” (ص 294).

يظهر، إذن، أن المشروع النقدي لمحمد برادة واشتغاله على المتن المندوري، راجع إلى ما لاحظه أثناء إقامته بالقاهرة في بعض كتابات النقاد الجامعين التي “تفتقر لتحليل طرائق التعبير، لا تعتمد على الشرح البلاغي بمعناه القديم، أو المقولات الكلاسيكية الجديدة. وقد أدركنا مدى ضحالة هذا النقد بعد إنهاء لدراستنا الجامعية في القاهرة” (ص 295-296).  فاشتغال محمد برادة على متن مندور، جعله يقف عند أسس تنظيره للنقد العربي ورؤيته .الإيديولوجية التي حددت مجموعة من القضايا الأدبية، إلا أنه بعد توغله وتحليله وبحثه العميق وقف عند مجموعة من الثغرات التي تطبع كتاباته؛ منها غياب المصطلحات والمفاهيم المتماسكة، وعدم تطور وتعمق أدواته المفهومية، حيث إن الكثير من تفسيراته وتحليلاته للأعمال والظواهر الأدبية اكتسبت طابع الارتجال أو الصدفة.

لقد أقر برادة، بأن اشتغاله على محمد مندور وكتاباته النقدية لا تفي بالغاية المطلوبة التي كان يبحث عنها، بقوله: “عندما نعود إلى الأصول نجد أن محمد مندور درس في السوربون في فترة معينة، كانت تطبق مناهج كوستاف لونسون، والانطباعية وما إلى ذلك، ودليل أن معظم كتب مندور التعريفية جاءت في شكل تعريفات مقتضبة وأحيانا مخلة”[6].

من هنا انطلق برادة في تحديد أوجه دراسته لمندور، وذلك من خلال اطلاعه على كتاباته ومقالاته الأدبية والمسرحية، وصياغتها من خلال مجموعة من الأسئلة تخص النقد الأدبي العربي الذي كان في حالة مضطربة، وكانت “حصيلته عجفاء”، وكذلك التفاوت الواضح بين النقد العربي والنقد الغربي، الأمر الذي جعله يتلمس جوانبه واستنطاق كتاباته ونصوصه، انطلاقا من الإشكالات التي يعاني منها النقد الأدبي الحديث.

درس محمد برادة محمد مندور انطلاقا من الحقل الثقافي في مصر 1936-1952.  فقبل اتصاله المباشر بالغرب، كانت لديه عدة معرفية وثقافة واسعة، من خلال اطلاعه على الأدب العربي القديم، ودواوين كبار الشعراء العرب، فكان من النقاد العرب الذين أولوا الاهتمام بالثقافة العربية القديمة، والاطلاع على دواوين النقاد الكبار. وهكذا حظي مندور باهتمام النقاد المعاصرين له، أمثال طه حسين، سواء كان هذا الاهتمام نقدا له أو مسايرة أفكاره النقدية.

فإلى أي حد استطاع مندور أن ينجز مشروعه في التنظير؟

انفتح محمد مندور على ثقافة الاتحاد السوفياتي والبلدان الاشتراكية عام 1956، واحتك بالسياسة المتقلبة في مصر، وهذا ما جعل منه ناقداً يتميز بمكانة متميزة، وجدير بالدراسة والاهتمام. وانطلق محمد برادة في تحديد معالم المشروع النقدي له انطلاقاً من الحقل الثقافي بمصر 1936-1952، حيث حاول دراسة هذا الحقل بعيدا عن التأويل السطحي والتقدير الظرفي. فأنجز دراسة وافية للحقل الأدبي، انطلاقا من الجيل الذي سبقه “جيل الرواد 1919”.  ويمثل هذا الجيل الذي كان يتميز بصوتين مختلفين. صوت قوي يمثله مصطفى كامل، وصوت هامس يمثله أحمد لطفي السيد، وهذه الأصوات كانت تنادي بمطلب واحد يتجلى في الوحدة الوطنية والتحرر من الاستعمار البريطاني، والحرية.

كان لجيل الرواد هواجس وطنية تتمثل في الحرية بالدرجة الأولى، وهذه الأخيرة انعكست على مجالات التعبير الأدبي: في الشعر وفي النقد الأدبي والسياسة من خلال كتابات مجموعة من النقاد كطه حسين في كتابه “في الشعر الجاهلي”، الذي أثار ضجة كبيرة وسط الساحة الأدبية، حيث صدر مرتين في صيغتين مختلفتين نسبياً.  وكان يتوجه بالدرجة الأولى إلى النخبة، ويدعو إلى حرية الفكر السياسي والثقافي.

بعد ذلك انتقل برادة إلى جيل 1936، هذا الجيل الذي تميز بالصراعات الإيديولوجية، حيث كان يسوده اضطراب بين وضعية النقاد الجامعيين، والأدباء الملتزمين، والكتاب العمومين. إضافة إلى وجود مجلات كان لها دور مهم في التعبير عن هذه الوضعية من خلال المقالات التي كانت تنشر في كل من مجلتي “الرسالة” و”الثقافة” و”الهلال” التي كان يرأسها محمد مندور.

وقف برادة عند مندور باعتباره يمثل “جيل 1936-1952″، الذي تبلورت مفاهيمه وأدت دوراً فعالا ًفي الساحة الأدبية والسياسية التي كانت تعاني صراعات إيديولوجية بين الطلبة ومواقف العمال. وكان حزب الوفد يمثل لحمة واحدة للوصول إلى حل لهذا الصراع. وكان مندور من المنتمين إلى هذا الحزب ومن المدافعين عن القضايا السياسية من خلال كتاباته التي انصبت في مجرى واحد، ألا وهو النضال من أجل العدالة الاجتماعية، وذلك من خلال قوله: “فقد كنت مدفوعاً في ذلك بنزعة إصلاحية خالصة، كانت تدعوني إلى مناصرة العدل بين المواطنين” (ص 112).

تعد السنوات التسع التي أمضاها محمد مندور في فرنسا بين 1930 و1939 بمثابة “تكوين عقلي وعاطفي وإنساني”.(ص 49)  ولا ننسى أن هذه الفترة تزامنت مع فترة المخاض الفكري الذي عاشته أوروبا، في مجالات عدة: كالشعر، من خلال الثورة التي أحدثتها أشعار “مالارميه” و”فاليري”..،  أو في الرواية، من خلال القطيعة مع الشخصيات النموذجية والمشاهد المبالغ فيها، والعودة إلى الواقع المعيش، ويتزعم هذا الاتجاه “سيلين” و”مالرو”، أو في مجال النقد، حيث كانت كتابات تصب في جانب علم النفس، مثل كتاب باشلار “حدس اللحظة”، وكتاب “سارتر” “المتخيل”.  وساهمت هذه الكتب في نشر نظريات “فرويد” في محاولته النقدية المعتمدة في علم النفس.

وقد جسدت هذه الفترة موسوعية مندور في تكوينه الثقافي الأكاديمي، حيث درس مجموعة من الكتب العربية وحللها بالمناهج الغربية، فكان تأثره بالمناهج النقدية الفرنسية واضحا، إذ إنه أخد من “جورج ديهاميل” و”جوستاف لانسون” و”جوستاف لوبول”، فتجلى تأثره بفكرهم وافتراضاتهم المنهجية، وقد ترك هذا في خطابه النقدي عمقا نظرياً، وتبصراً في التطبيق.  ويظهر ذلك جلياً في كتابه “الأدب ومذاهبه (1956).

اتخذ محمد برادة أعمال محمد مندور لملامسة إشكاليات الخطاب النقدي العربي، حيث يقول: “من شأن هذه الدراسة ذات المنطق المحدود، أن تساعد على توضيح إمكانات وحدود نظرية نقدية موثقة الصلة بمرحلة معينة، وبتطبيقات وممارسات يمكن شرحها، ولكي تكون مثل هذه الدراسة مجدية يتحتم اختيار ناقد ذي “تمثيلية” ثقافية حتى لا تبقى المشاكل المطروحة سجينة الخصوصية والهامشية” (ص 25).  وهكذا اتضحت لنا دوافع اختيار برادة لمندور. وهنا يمكننا أن نتساءل: كيف ناقش محمد برادة التحولات التي طبعت مسار محمد مندور؟

2- مكونات النص النقدي عند برادة

كل خطاب نقدي تؤطره منطلقات إبستمولوجية، وتحكمه غايات فكرية، ومحمد برادة انطلق في تحليل كتابات محمد مندور من مساره النقدي الذي واكب ثلاثة تحولات كبرى: النقد التأثري، والنقد التحليلي، والنقد الإيديولوجي. وهنا لا بد من تقصي أهداف محمد برادة، وغايته التي جعلته يقدم على تحليل كتابات محمد مندور ويتتبع مساره النقدي.

لقد حدد محمد برادة أهدافه المعرفية من الوهلة الأولى، وبين تقاسيم دراسته لمحمد مندور، من خلال الوقوف على موقعه داخل الحقل الثقافي المصري، مع تحليل وتفسير خطابه النقدي، وسبر أغواره، وكشف نواياه وحملاته.  ويمثل محمد مندور حالة بارزة في الساحة النقدية المصرية من جانبيها الثقافي والسياسي، ويجمع بين مصدرين أساسيين: الإفادة من الثقافة العربية القديمة والتأثر بنقادها أمثال الجرجاني، والوعي بالمناهج الغربية، وبالتيارات السوفياتية، والرومانية والفرنسية الحديثة والقديمة، والواقعية والاشتراكية.

إن الحديث عن هذه التحولات التي ناقشها محمد برادة، تجعلنا نقف عند غايات الناقد في تحليل نصوص الكاتب المنقود، وتحديد رؤيته ومنهجه، والتركيز على الدلالة الاجتماعية أو التاريخية. وهنا نرى أن محمد برادة قد درس شيخ النقاد، انطلاقاً من الحقل الثقافي المصري الذي ينتمي إليه، مع التركيز على الوضعية النقدية العربية التي شكلت سؤالا مقلقا. فكانت كتابات مندور منطلقا لاكتشاف وضعية النقد العربي.

كيف ناقش محمد برادة التحولات التي شهدها مسار محمد مندور؟

وقف برادة عند -النقد التحليلي، والنقد الإيديولوجي والتنظير وقفة معمقة، حيث حلل كتاباته، وخصوماته النقدية، وأبرز وجهة نظره على مستوى النقد الإيديولوجي وأزمة النقد العربي، دون إغفال كيف نظر إلى النقد الأدبي.

  • النقد التحليلي عند محمد مندور

توقف محمد برادة في هذه الدراسة عند النقد التحليلي لمحمد مندور، وتناول كتاباته التي تميزت بإعطاء نظرة مغايرة للأدب والنقد الذي كان سائدا، مثل كتابه “في الميزان الجديد”، “والديمقراطية السياسية” و”في النقد والأدب”. فكانت هذه الكتب تعبيرا عن مرحلة النقد التحليلي، إضافة إلى مقالات عدة نشرها في مجلتي “الثقافة” التي ناقش فيها “محمد خلف الله أحمد حول النقد الأدبي من وجهة نظر علم النفس”، و”الرسالة” التي ناقش فيها “كلا من العقاد، وسيد قطب، والكرملي حول الشعر الجاهلي، والشعر المهموس” (ص 47).  وقد درس محمد برادة أعمال مندور من خلال الحقبة الزمنية التي عاد فيها مندور من أوروبا، حاملا لواء التغيير والتجديد، وكذا هجومه العنيف على الوضع السياسي الذي كان سائدا، هذا الهجوم توطد من خلال مقالاته، مثل مقالته بعنوان: “الديمقراطية السياسية”، حيث أفصح فيها عن انتقاده للسيطرة الاستعمارية” (ص 138).

ولمعالجة الوضع المتشنج الذي يكتسح الحقل الثقافي، اجترح محمد مندور منهجا جديدا استلهمه أثناء إقامته في أوروبا، منهجا يستطيع أن يطور الأدب ويفتح نوافذه على عوالم أخرى، مثلما قال: “منذ عودتي من أوروبا أخذت أفكر في الطريقة التي نستطيع بها أن ندخل الأدب العربي المعاصر في تيار العالمية، وذلك من حيث موضوعاته ووسائله ومناهج دراسته على حد سواء،  ولقد كنت أومن بأن المنهج الفرنسي في معالجة الأدب هو أدق المناهج وأفعلها في النفس، وأساس ذلك المنهج هو ما يسمونه بـ” تفسير النصوص”” (ص 54).  حاول محمد برادة إبراز منهج مندور وتطبيقه في مجالات نقد الشعر والرواية والمسرح، وتحليل نظرياته الإبستمولوجية، إذ إنه يريد من الأدب العربي أن يرقى إلى مستوى الأدب الغربي، حيث إن تكوينه في أوروبا جعله يحلل كتابات عربية لكبار الشعراء على ضوء المناهج التي نهل منها في فرنسا وفي دول أخرى مثل الاتحاد السوفياتي.

ولعل كتابات محمد مندور في نقد الشعر قد فرضت عليه الانطلاق من “النقد التأثري الانطباعي”، لأنه يميل إلى انطباعات الشعراء من خلال أعمالهم الأدبية، وذلك متجل في كتبه، “في الميزان الجديد” و”النقد المنهجي عند العرب”.  هذا الأخير ضمنه “قضايا أدبية كبرى ومعارك تاريخية حول التجديد في الشعر العربي القديم ونشأة علوم اللغة والبلاغة العربية”.

يعتبر مندور من المتأثرين بالنقد التأثري، حيث يعتبره نقدا يفسر ويصحح ويُقوم ويحلل مضمر العمل المنقود، ويبحث عن الأصالة الفردية للكاتب المتميز، وهذا ما دفعه إلى الاهتمام بالمرحلة التاريخية للشعراء الذين اشتغل على أعمالهم، من خلال اهتمامه بحياتهم وتوجهاتهم ومذاهبهم، وهنا نرى أنه يتبع منهجين اثنين: منهج “سانت بوف” الذي يدرس شخصية الأديب، ومنهج “تين” الذي يهتم بدراسة الأدب انطلاقا من البيئة والجنس والوسط.

وقف محمد برادة عند ثلة من الشعراء الذين اشتغل عليهم محمد مندور “كخليل مطران، والمازني، وإسماعيل صبري”، فتعمق في دراسة هؤلاء الشعراء.  ففي دراسته، مثلا، لخليل مطران قام بإيضاح منهجه والوقوف على حياته الشخصية، ومقوماته الفنية واتجاهاته.  وقد أوقعته هذه الدراسة، على حد تعبير محمد برادة، في “الرتابة والتبسيطية”.

كما وقف عند ممارسة مندور للنقد المسرحي، وارتكازه على المقارنة بين التراجيديا والدراما العالمية، حيث كانت له مجموعة من الأعمال المسرحية التطبيقية، “كمسرحيات شوقي وعزيز أباظة وتوفيق الحكيم” (ص 153)، وجمع كل هذه النظريات في كتابه “الأدب والنقد”.  ومن خلال تحليله لنظريات المسرح، انطلق في تعريفاته من أرسطو إلى بريشت، و”تطبيقه معايير أرسطية وكلاسيكية على النصوص المسرحية” (ص 155).

لقد تناول محمد برادة مرحلة “النقد التحليلي” ممحصاً ومدققاً في كل كتاباته، وذلك نابع من مقاييس جمة جعلته يهتم بالمضمون قبل كل شيء، فكان حماسه الفكري الاشتراكي، ومقالاته السياسية والنضالية وكتاباته، تتميز بنفس وصفي تحليلي، حيث التزم بأسلوب علمي محايد يهدف إلى الوصف والتحليل والتعريف والتثقيف أكثر مما يهدف إلى التوجيه.

  • النقد الإيديولوجي والتنظير

اتسمت أعمال محمد مندور بمنهج نقدي إيديولوجي، ينظر إلى مصادر الأدب، من خلاله مزاوجة الأدب بالمجتمع وبالحياة التي يعيشها الأديب. والسياق الثقافي الذي كان يحتكم إلى إيديولوجيا منقذة.  فقد اعتبر محمد مندور أن النقد الإيديولوجي يحاكي الواقع وينطلق منه، فهو “لا يكتفي بالنظر في الموضوع، بل يتجاوزه إلى المضمون، أي إلى ما يفرغه فيه الأدب أو الفنان من أفكار وأحاسيس ووجهة نظر” (ص 218).  وبهذا يتبين لنا أن المنهج الإيديولوجي يهتم بنفسية الكاتب التي تنتج أفكارا، وهذه الأفكار تنتج نصوصا بعيدة عن التصنع، وبالتالي يستقي موضوعاته من “تجربة حية معاشة بعيدا عن تجربة تاريخية بالية” (ص 218).  إنه منهج يستند إلى الاحتكام، والاستجابة لحاجيات العصر وقيمة المجتمع.

من هنا يمكن القول إن محمد برادة وقف عند “النقد الإيديولوجي والتنظير” لمحمد مندور، باعتباره يمثل جوهرا أساسيا لأعماله، ونقداً محفوفاً بالقيم الجمالية اللغوية يستلهم التجارب الشخصية للأديب وتجاربه الواقعية.

ويبدو أن محمد برادة عند وقوفه على نظرية شيخ النقاد من خلال النقد الإيديولوجي، انطلق من تنظيره لأزمة النقد العربي، سواء تعلق الأمر بأزمة النقد أو الشعر، وهنا ميَّز محمد برادة بين مستويين اثنين:

1- المستوى المباشر: اتسم بطابع الخصومات الجدلية التي خاضها مندور مع ثلة من النقاد المعاصرين، واعتبرها الممهد الأساس لتطور النقد، فكانت هذه الخصومات مع نقاد كبار من طراز عباس محمود العقاد ومحمد خلف الله ورشاد رشدي. وتتميز كتابات محمد مندور بالدقة في التعامل مع النصوص وشخصياتها، فقد أكد على أن مهمة الناقد تقتضي الوقوف عند الأصالة التي تميز كل كاتب على حدة، والنظر في قيمه الجمالية، الشيء الذي لم يتلمسه في كتابات هؤلاء النقاد وجعله يدخل في خصومات كبيرة.

ولعل خصومته مع أحد عمالقة الفكر العربي “عباس محمود العقاد”، تجلت في رفضه للمنهج الذي اشتغل به في موضوع أبي العلاء المعري، على اعتبار أنه لا يفي بالغاية ولم يتلمس جوانب نصه، ويبدو أن خصومات مندور مع النقاد اكتسحت الساحة النقدية وأفرزت مجموعة من القيم الجمالية التي أعطت للأدب والنقد إضافة نوعية، وحاولت أن تخرج النقد من أزمته وتطوره، فكانت هذه الخصومات التي اجتاحت حياة مندور الفكرية نابعة من تشبعه بالثقافة الاشتراكية التي تعرف عليها أثناء إقامة في العالم الاشتراكي.

2- المستوى الآجل: يتجلى في بناء نظرية حول النقد والأدب، وهنا كان محمد مندور من النقاد الذين طوروا النقد والأدب، عن طريق ثقافته الجامعية واحتكاكه بالثقافة الغربية، فكان هدفه فتح الثقافة العربية على تيارات عالمية تجعل من الأدب والنقد نظيرا للآداب الأخرى، حيث انطلق من صلب أزمة النقد وعاد إلى كتابات القدامى مما جعله يلامس عدم فهم وتمثل كتاب “فن الشعر” لأرسطو فهما دقيقا.

ويرجع محمد مندور أزمة النقد العربي إلى عدم تمثله للفلسفة ويقول: “إن عيب النقد الحالي كله… راجع بالأساس إلى عدم وجود فلسفة كأساس وفرشة خلفية، لن يستقيم النقد التطبيقي، ولن يستطيع إرساءه على أساس قيم ومناهج كبيرة” (ص 188).  ولفهم صلب أزمة النقد والأدب وقف محمد برادة عند التحولات التي شهدها الحقل الثقافي المنطوي تحت لواء “النقد الإيديولوجي والتنظير”، منطلقا من الإيديولوجيات الفاعلة في الحقل الإيديولوجي بمصر بعد عام 1952، والتي نتجت عنها اتجاهات أساسية توجه الحقل الاجتماعي، كإيديولوجية وأدلجة، وإيديولوجية ليبرالية- قسرية، وإيديولوجية وطنية إصلاحية، وإيديولوجية طوباوية.

لقد وضح محمد برادة الإيديولوجية التي سادت الحقل المصري بعد عام 1952. مع موضعة محمد مندور داخل نسيج التحولات التي عرفها الحقل الثقافي الإيديولوجي، معتمدا على منهجه النقدي، وحرص على عرض تصورات أزمة النقد العربي، فدرسه دراسة متسلسلة وفق مساره الغني، بدءا من التأثيرية الانطباعية، إلى التحليلية صوب الايديولوجيا، وهذا التسلسل في التحولات استمده برادة من “استجواب أدلى به لأحد النقاد وقسم فيه مساره النقدي إلى ثلاث مراحل” (ص 32).  إلا أنه لاحظ وجود خلل في إيديولوجيا مندور، إذ إنه لم يحدد معالمه بالدقة المتناهية، وبالتالي يفتقد إلى وظيفته النقدية من خلال “انفلات الخيوط الرابطة بين مختلف المراحل التي مر بها مشروعه النقدي” (ص 238).   ويرجع محمد برادة سبب هذا الانفلات وعدم الدقة، إلى أن محمد مندور لم يقف عند مفهوم إيديولوجيا وقفة معمقة، فلم يوضح ملامح المصطلح وماذا يقصد به؟، مما جعله مغرقا في التعميم.

لقد وضع برادة، أيديولوجية محمد مندور في دائرة إشكالية، إذ إنه لم يُحط بمصطلح إيديولوجيا، فقط واكتفى بصوغ مبادئ منهج النقد الإيديولوجي، وعوض أن يكون نقد المنهج الأيديولوجي “أداة لنقد الأيديولوجيات المتجابهة، أصبح عنده وسيلة لبث شعارات عهد جديد، والدفاع عن الأدب الواقعي المتفائل الملائم لمرحلة البناء الاشتراكي”.  وانتهى برادة إلى ملامسة نظريات محمد مندور واستخلاص رؤيته الاجتماعية والسياسية المنشودة إلى حدود عام 1952، حيث لاحظ أنه مشدود إلى موضوعات تطرحها الحياة اليومية، ومجابهة الحكومة وفضح سيطرة الرأسماليين المصريين.

ويمكن أن نشير إلى أن دراسة محمد برادة لمحمد مندور جعلته يقف عند بعض المفاهيم المهمة، مثل مفهوم المثاقفة، والتي أفرد لها فصلا خاصا عنونه بـ: “مندور والمثاقفة أو المرحلة التأثيرية”، وكذا مفهوم “اللاوعي الثقافي”، وهذا الأخير لم يأخذ حيزا كبيرا من دراسته، لكنه وقف عنده وأشار إلى كيفية تطبيقه على كتابات مندور، ومفهوم “الرؤية للعالم”، حيث كانت كتابات مندور مرتبطة بالوضع السياسي والثقافي الذي شهدته مصر عام 1952، وثورة الضباط الأحرار، وشكل هذا المفهوم جانبا مهما في دراسته، حيث إن مندور في كتاباته عبر عن رؤية جماعية غاضبة عن الأوضاع التي تخبط فيها المجتمع المصري. ليختم بمفهوم المثقف العضوي من خلال دراسة وضعية محمد مندور داخل النسيج السياسي والاجتماعي الذي ينتمي إليه “1936-1952″، وصرح بذلك عند قوله: “فإن أنطونيو كرامشي يقدم لنا مفاتيح تسعفنا على تحديد وضعية مندور، وذلك في التصنيف الذي طبقه على المثقفين بعيدا عن الخانات الضيقة التي وجدت قبله” (ص 107).

وهنا يمكن القول إن محمد مندور ودفاعه عن الوضع السائد ومجابهة الحكومة وفضح خباياها، جعل من الباشوات الملاك يعرضون عليه رشوة لإسكاته بعدما ضاقوا ذرعا بانتقاداته النفاذة، فكان انتماؤه لحزب الوفد مدعما أساسا لنضالاته السياسية والثقافية، وتأسيس ما يسمى بإيديولوجية القومية الإصلاحية.  ولنقل إن الخطاب النقدي الإيديولوجي لمحمد مندور ظل محكوما بالسياقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للحقل الثقافي المصري بعد 1952، فكانت مقالاته النضالية تنطلق من موضوعات الحياة اليومية، وكشف خبايا الحكومة، وعدم خضوعه لها، ونبذ الاستبداد الاستعماري. وهكذا اعتبر برادة أن كتابات محمد مندور بمثابة رفض للرؤية الليبرالية التي كانت سائدة، ورسم ملامح لإيديولوجية القومية الإصلاحية.

وصفوة القول إن محمد برادة قرأ المشروع النقدي لشيخ النقاد، ودرسه دراسة ًنقديةً فاحصة أطلق عليها “مندور من منظور نقد النقد”، حاول من خلالها أن يؤصل لصلب إشكالات النقد العربي، وكيفية التنظير له، وإخراجه من الرتابة والتجاوز والركود، لفهم إشكالات النقد العربي وكيف يمكن تقويمه وتصحيحه والوقوف عند منطلقاته وفحص ممارساته النقدية، كما تعد دراسته من الدراسات الأولى التي اعتمدت على منهج واضح ومصرح به، من خلال ارتكازه على منهج “البنيوية التكوينية كما بلورها لوكاتش، وكولدمان، وبير بورديو”(ص 28). وسعت إلى تأصيله في النقد العربي المعاصر، وهذه ميزة تحتسب لمحمد برادة على غرار غيره من النقاد الذين يشتغلون بنقد النقد، بحيث إنهم لا يعيرون أي اهتمام لمسألة المنهج “إنهم ينطلقون من شعور خفي بالتعالي يجعلهم يعتقدون تلقائيا بأن دراستهم في غنى عن التقيد بأي منهج، ما دامت مادة موضوعهم هي النصوص النقدية التطبيقية الصادرة في أساسها عن مناهج معينة”[7].

——————————-

هوامش

1- محمد برادة، “كلاب الحراسة وصانع القيم”، مجلة القصة والمسرح، العدد 1/1964، ص 1..

2- محمد برادة، أسئلة الرواية أسئلة النقد، الرابطة، الطبعة الأولى/1996. ص 7.

3- جماعة من الباحثين، البحث عن الذات بين جيلين، تنسيق محمد الداهي، مقال لجابر عصفور بعنوان: “أخي محمد برادة”. ص 6.

4- نبيل منصر، “محمد برادة: الرواية هي طريقي إلى البوح والمكاشفة واللعب”، حوار مع الدكتور محمد برادة.  2009 الرابط:

com.almassae.http:www.maghress

5-  محمد عدناني، إدريس الخضراوي في: حوار مع الباحث سعيد يقطين، مجلة البلاغة والنقد الأدبي، العدد الثاني/ 2014/2015، ص 211..

6- زهور العزوزي، حوار مع محمد برادة، علينا أن نبحث عن منهج نقدي يضيء الأنواع الجديدة من الكتابة، جريدة الاتحاد الاشتراكي، بتاريخ 05/03/2021.

7- حميد الحميداني، سحر الموضوع: عن النقد الموضوعاتي في الرواية والشعر، مطبعة أنفو-برانت، فاس، الطبعة الثانية/2014.ص7.

- زهور العزوزي

طالبة باحثة، كلية الآداب، الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.