أماكن الفكر. تأليف تِمُثي بْرِنَن. ترجمة محمد عصفور. سلسلة عالم المعرفة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عدد 492. مارس 2022.
عنوان كتاب تِمُتي بْرِنن Timothy Brennan، اسم على مسمى في تناوله المتميز لسيرة “أماكن الفكر”Places of Mind عند المفكر الفلسطيني الكبير الراحل إدورد سعيد. كتاب يبحث في أعماق أماكن ميلاد هذا الأخير وتنشئته وسيكولوجيته.. بين أرض الأصول والشتات الفلسطيني، كما يدقق في تفاصيل الأفكار التي اشتغل عليها الراحل في النقد الأدبي والفلسفة والسياسة وغيرها. ويعتبر إدورد سعيد هو مؤسس دراسات ما بعد الاستعمار.
يبحث الكتاب، بشكل مثير بشموليته وبقدر كبير من المعلومات، في سيرة حياة إدورد سعيد الذي ولد في أسرة مسيحية في القدس، وعاش بعد التهجير الإسرائيلي مرحلة من شبابه في مدينة القاهرة، قبل أن يسافر إلى أمريكا حيث سيشتهر كمفكر وأستاذ في جامعة كولومبيا بنيويورك متخصص في الدراسات المقارنة. وبعد وفاته سيدفن في لبنان.
يستعرض تمتي برنن، وهو تلميذ إدورد سعيد، هوس هذا الأخير، باللباس الأنيق وبالساعات الجميلة الغالية الثمن، ويحقق مطولا في علاقاته العائلية والعاطفية. كما يستعرض مختلف الجامعات والكليات والأساتذة الذين تتلمذ على أيديهم، قبل أن ينتقل إلى ما أنتجه الراحل من أفكار وكتب. يحلل تمثي برنن، بحس نقدي دقيق المسار الفكري لسعيد. ورغم الإعجاب والتقدير الذي يبديه تجاه أستاذه، فإنه يتوقف عند ما يسميه بعض “السلوكات السلبية” التي ميزت شخصية الراحل؛ مثل الاعتداد بالنفس، والصبيانية، والنزق، حسب وصف معارفه وأصدقائه. وهو ما يقربنا أكثر من إنسانية وبشرية سعيد، بميزاته وسلبياته، عكس كثير من كتب السيرة العربية التي تبالغ في المديح والإطراء على الشخصيات التي تكتب عنها.
اعتمد تمثي برنن على عدد كبير من المراجع ومن الوثائق، من بينها السيرة الذاتية الشهيرة لإدورد سعيد خارج المكان Out of Place، وأجرى حوارات عديدة مع أصدقاء الراحل وعائلته، وحقق حتى في سجلات مكتب التحقيقات الفدرالي FBI، حول إدورد سعيد الذي كان موضوع مراقبة سياسية خاصة بسبب أنشطته الداعمة للقضية الفلسطينية. وكان سعيد من أبرز المثقفين الذين دعموا الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قبل أن ينتقده بقوة في أعقاب توقيع اتفاقية أسلو. كما ساهم إلى جانب الشاعر محمود درويش في كتابة الخطاب الشهير لياسر عرفات أمام الأمم المتحدة في سنة 1974، إذ تنسب إليه الجملة الشهيرة والأخيرة في هذا الخطاب التي تقول: “لا تتركوا غصن الزيتون يسقط من يدي” والتي كان قد خاطب بها إسرائيل والعالم، وشكلت لحظة تاريخية في التعريف بالمطالب الفلسطينية.
استطاع سعيد، كما يقول المؤلف، أن يجعل من العلوم الإنسانية، “علوماً مقلقة لقادة الرأي في أمريكا وأوربا والشرق الأوسط”. ويضع تمثي برنن أستاذه إدورد سعيد في مصاف كبار المفكرين مثل سارتر وفوكو وليفي ستروس ونعوم تشومسكي، ويعتبر أنه قد ساهم في فضح إسرائيل وأمريكا الداعمة لها والأنظمة العربية.
من أبرز فصول هذا الكتاب، الذي يقع في 530 صفحة: “التلمذة في مدارس الصفوة”، “العميل السري”، “قبل أوسلو”، من سايغون إلى فلسطين”، وهو فصل خاص يتناول الكتاب الشهير لإدورد سعيد حول الاستشراق، و”شعبان في أرض واحدة”، “العالم الثالث يتكلم”.
تتميز الترجمة العربية لهذا الكتاب، والتي أنجزها محمد عصفور، بسلاستها وبوضوحها، مع بعض الملاحظات النادرة، مثل استعمال كلمة “شابكة” عوض “الإنترنيت” عند ترجمة Internet، رغم أن “الإنترنيت” هي الكلمة السائدة اليوم. أو استعمال “مراكش” عند الحديث عن “المغرب”، مع أنها تسمية قديمة لم تعد رائجة كما كان في السابق.