شكير عكي، التفسير التاريخي: تأصيل إبستيمولوجي وتطبيق ديداكتيكي، تقديم مصطفى حسني إدريسي، ضمن سلسلة أبحاث ودراسات في ديداكتيك التاريخ، الرباط-نادية للنشر، 2021.
مقدمة
ظل البحث التاريخي بالمغرب، ولمدة طويلة، حبيس الجدار القائم بين المعرفة العالمة والتاريخ المدرسي. وبفضل تضافر جهود العديد من الباحثين والأكاديميين والمختصين من كلا الفريقين، سار الإنتاج المعرفي التاريخي ببلادنا نحو كسر هذا الجدار، وذلك بتقديم إسهامات علمية جادة تهدف إلى مد الجسور بين فضاءات البحث الجامعي ومسالك التكوين البيداغوجي والديداكتيكي. وفي هذا الإطار يأتي إسهام الدكتور شكير عكي بكتابه المعنون: “التفسير التاريخي: تأصيل إبستيمولوجي وتطبيق ديداكتيكي”، وبتقديم الدكتور مصطفى حسني إدريسي، والصادر ضمن سلسلة أبحاث ودراسات في ديداكتيك التاريخ، والمنشور من قبل نادية للنشر بالرباط في طبعته الأولى سنة 2021.
وهذا الكتاب في الأصل أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في علوم التربية، تقدم بها الباحث بكلية علوم التربية، التابعة لجامعة محمد الخامس السويسي بالرباط، تحت إشراف الأستاذ مصطفى حسني إدريسي، خلال الموسم الجامعي 2010 – 2011 في موضوع: “تعلم التفسير التاريخي: مقاربة ديداكتيكية وفق مدخل الكفايات (الجذع المشترك نموذجا)”. ويقع الكتاب، محور هذه القراءة، في 239 صفحة من الحجم المتوسط، ويتضمن ثلاثة فصول بالإضافة إلى مقدمة وخلاصة عامة.
يندرج هذا الكتاب في سلسلة من الأعمال التي تروم تقديم مساهمات ديداكتيكية جدية لتطوير وتجديد مناهج وأساليب تعليم التاريخ وتعلمه، نذكر منها على سبيل المثال: أعمال مصطفى حسني إدريسي، خديجة واهمي، محمد صهود وغيرهم. ولمزيد من تسليط الضوء على القضايا المرتبطة بمستجدات التاريخ في شقيه الإبستيمولوجي والديداكتيكي، عمل الأستاذ عكي شكير على تعميق تناول الموضوع بالتوقف عند مسألة “التفسير التاريخي”، وبتوظيف مقاربات جديدة أمّنت النظر إلى الموضوع من زوايا مختلفة، مما أسفر عن تقديم نموذج ديداكتيكي فعال لبناء التفسير التاريخي باعتباره واجهة أساسية من واجهات تعلم التفكير التاريخي.
ارتأَيْتُ وضع هذا الكتاب موضع قراءة وفق محورين؛ ففي المحور الأول نعالج التفسير التاريخي من زاوية نظرية باعتباره مقولة إبستيمولوجية وواجهة ديداكتيكية لتعلم الفكر التاريخي، في حين نتطرق في المحور الثاني للتفسير التاريخي بوصفه ممارسة بنائية ديداكتيكية.
- التفسير التاريخي مقولة إبستيمولوجية وواجهة ديداكتيكية لتعلم الفكر التاريخي
أسس الدكتور عكي شكير أطروحته في تعلم التفسير التاريخي على مناولة متعمقة في الأطر الأنطولوجية والإبستيمولوجية التي تحفّ هذه المقولة في مجمل ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد غطى الجدل حول هذه المقولة مسيرة التحولات الإسطوغرافية والمنهجية والإبستيمولوجية التي شهدتها المعرفة التاريخية، والتي أفرزت لنا حالة الخصومة أو التضاد المنهجي بين الفهم والتفسير.
توقف الباحث عند أبرز التوجهات المعرفية التي كرست نصيبا من جهودها لتجاوز هذا التعارض، وذلك بمحاولة الوقوف على طبيعة المعرفة التاريخية وحدودها، وكذلك إثارة القضايا الكبرى التي استقر عليها الخطاب التاريخي سواء في علاقته بالثالوث المفاهيمي المهيكل لهذا الخطاب أو بخطوات النهج التاريخي. وسيكون لطبيعة هذا التناول انعكاس على رؤية صاحب الكتاب للتفسير التاريخي في منحيين: الأطر المرجعية للتفسير التاريخي، والمسلكية المتّبعة في المقاربة التفسيرية للتاريخ. وبموازاة هذا الطرح الإبستيمولوجي ينتهي الكتاب إلى بلورة تصور ديداكتيكي للتفسير التاريخي قابل للأجرأة العملية في الممارسة الفصلية وفق المقاربة بالكفايات.
ينطلق هذا البحث من الدفاع عن فكرة أساسية مفادها أن “التفسير التاريخي عملية فكرية تدفع المؤرخ نحو بلوغ نظام قائم على البرهنة والاستدلال، وتنقل بالتالي حقل التاريخ من مستوى الفهم التعاطفي إلى مستوى العلمية النسبية” (ص. 63). وقد اتكأ الباحث في هذا العمل على القيام بحفر أركيولوجي في الأرضية الإبستيمولوجية للتفسير التاريخي بطرح المسائل الكبرى في حقل المعرفة التاريخية، والتي تحددت في شقين:
- الشق الإبستيمولوجي والمنهجي: بمساءلة طبيعة المعرفة التاريخية وطرائق المؤرخين في بلوغها وممارساتهم لهذه الطرائق، وحدود الموضوعية والصحة العلمية فيما يتوصلون إليه من تفسيرات تاريخية.
- الشق الأنطولوجي: يتوجه نحو تقدير درجة الواقعية في التاريخ ومساراته الكبرى والقواعد المتحكمة في التطور التاريخي.
استهل الباحث هذه الدراسة بالإقرار بأن المعرفة التاريخية صناعة، أي معرفة مبنية حسب منهج مفكّر فيه من طرف المؤرخ، وليست معرفة معطاة. وينبني على طبيعة موضوع المعرفة التاريخية خصوصية المنهج التاريخي وكيفية تكوين هذه المعرفة، مما يجعل هذه المعرفة متأرجحة بين النظرة الموضوعية للماضي والرؤية الذاتية للمؤرخ. وقد حاول المؤلف فك الالتباس الحاصل بين العديد من الثنائيات المتعارضة التي انتهى إليها البحث التاريخي، والمتمثلة في تداخل: الذاتي بالموضوعي، والتفسير بالفهم، والملاحظة بالافتراض، والأنا بالآخر والماضي بالحاضر.
وقد استحضر في هذا الصدد النقاش الإبستيمولوجي بشأن موضوعية الكتابة التاريخية، وركز بالخصوص على سؤال العلاقة بين الماضي والحاضر، حيث يمكن تقليب هذا السؤال من زاويتي النظر التاليتين:
- زاوية نظر وظيفية: تروم كشف وقائع التاريخ كما حدثت بالفعل، وقوامها الفلسفة الوضعية.
- زاوية نظر بنائية: ترى أن الماضي بناء بواسطة المؤرخ انطلاقا من بقايا هذا الماضي في الحاضر.
ويرتبط النقاش السابق بشكل وثيق بسؤال التاريخ بوصفه سيرورة، وموقع الإنسان في هذه السيرورة، ويقود بالتالي إلى طرح فكرة التقدم في التاريخ. ويترتب على هذا السؤال الأخذ بعين الاعتبار فاعلية الإنسان في التاريخ، وبالتالي جر الحديث نحو معالجة قضية الحرية والضرورة في التاريخ، وما تستدعيه من الكشف على درجة حضور الوعي التاريخي أو غيابه.
كما سلط الضوء على مسألة العلاقة بين التاريخ والذاكرة، إذ أظهر أنه على الرغم من الاعتراف بالذاكرة بوصفها حاملة للتاريخ، فلابد من إخضاع هذه الذاكرة للحس النقدي، وينجم عن هذا الأمر القول بنسبية المعرفة التاريخية. وتقتضي الذاكرة من ناحية أخرى العمل على كيفية التوفيق بين صرامة النقد المنهجي في التعاطي معها والسماح بالفهم التعاطفي لحاملي هذه الذاكرة. وتوقف عند التساؤل عن حدود الكتابة التاريخية: هل هي كتابة ترتقي إلى العلمية أم مجرد منتج أدبي؟
للإجابة عن هذا التساؤل، عاد الباحث إلى التعارض القائم بين النظرة الوضعية للتاريخ والنظرة التأويلية، وإلى امتداد هذا التعارض إلى مقولة التفسير التاريخي في مسار بحث العلم التاريخي عن هويته العلمية. وخصص حيزا مهما من النقاش لتناول الثنائية الكلاسيكية في التفسير التاريخي، حيث ظل التجاذب القائم محتدا بين اعتبار التاريخ يقوم على الفهم وبين رؤية التاريخ بكونه بحثا عن الأسباب والعلل. وعرج الباحث على هذه الثنائية في اختراقها لأعمال العديد من المؤرخين وفلاسفة التاريخ ومنظري العلوم الإنسانية (هامبل، وليام دراي، كولينغوود، كارل بوبر)، وركز على لحظة بول ريكور بالأساس، حيث استند إلى الجهد الذي بذله ريكور في هيرمينوطيقا العلوم الإنسانية لتجاوز حالة الخصومة المنهجية بين الفهم والتفسير. واستعار الباحث من ريكور مفهوما مفتاحا لحل هذا الإشكال، ويتمثل في مفهوم “اللحمة السردية”، حيث يمتزج الفهم بالتفسير ضمن قالب توليفي واحد، وتتواشج المشاهد التفسيرية ضمن رؤية تفسيرية منسجمة.
توصل الباحث من عرضه الإبستيمولوجي إلى تبني نوع من الإبستيمولوجيا المختلطة، والتي تشكل مزيجا من الموضوعية والذاتية، ومن التفسير والفهم. إذ يرى أن للتفسير التاريخي خصوصية، تجعل منه في الآن ذاته: “بحث (ا) عن الأسباب، وبحث ((ا) عن المعنى”، (ص. 23) وبذلك يتم تجاوز الثنائية الكلاسيكية، ويصح القول بأن “التاريخ علم يفسِّر لتحقيق الفهم”، (ص. 23) كما تتأكد الصلات الوثيقة بين الذاتية والموضوعية، أو ما يعتبره ريكور: “ذاتية متضمنة في الموضوعية العلمية المرتقبة”[1]. وتدفعنا الإبستيمولوجيا المختلطة إلى تبرير من نوع آخر على مستوى الأنطولوجيا العلمية، حيث يظهر أن جذور المشكلة تتجاوز إطار النقاش المنهجي بين التفسير والفهم، وتتطلب استحضار الخاصية الأنطولوجية للموضوع التاريخي، وذلك بالتساؤل عن العناصر التأسيسية لهذا الموضوع وكيفية ترابطها، وخصوصا ما يرتبط بثنائيات: الكل والجزء، الفرد والمجتمع، الفعل والبنية…إلخ. فالمشكلة بطبيعة الحال أنطولوجية وليست إبستيمولوجية وحسب، تهتم بالسؤال عن الأشياء المعطاة قبلا في العالم، ومنها بطبيعة الحال عوالم الماضي. ولهذا يمكن أن تتساءل الأنطولوجيا التاريخية: هل يمكن أن تكون الأبنية الكبرى مثل الثورة والرأسمالية وغيرها أشياء تدخل في الأنطولوجيا بوصفها أمورا حقيقية؟ أم يمكن النظر إلى هذه المقولات بطريقة إسمانية محضة تسهل علينا تلخيص المسارات المعقدة للفعل الاجتماعي وتعداد الشخصيات الاجتماعية في زمان ومكان مُحددين؟ ومن ناحية أخرى ما هي العلاقات القائمة بين الأمثلة Instances والمقولات Catégories في المعرفة التاريخية، مثل العلاقة بين الثورات الفرنسية، والصينية، والروسية، ومدى اندراجها تحت المقولة العامة لـ “الثورة”؟ وإلى أي حد يمكن الحديث عن وجود أنماط اجتماعية تتكرر في التاريخ؟ أم أن لكل تشكيل تاريخي فرادته الخاصة والمتميزة؟ تعد هذه أسئلة أنطولوجية بالأساس، وتحسم الإجابات عنها طريقة فهمنا وتفسيرنا للماضي[2].
ومن جهة أخرى، فإن فتح الباب أمام تعميق التحليل في الافتراضات الكامنة في كل من التفسير والفهم، قد يسهم نسبيا في استيعاب النتائج التي يحدثها هذا النوع من الافتراضات على عملية التفسير وبالتالي على مسار الاستدلال التاريخي. وتواجه الخيارات المطروحة، باللجوء إلى منح التفسير أو الفهم الأسبقية أو اختيار مسلك الدمج بينهما، تحديات جمّة قد تؤدي للحد نسبيا من إمكانية تحليل التفاعل التبادلي والدينامي بين التفسير السببي والفهم التأويلي، كما تحدث بعض التشويش. وتوجد إمكانية لحل مشكلة الفهم والتفسير عن طريق الفصل بينهما من الناحية التحليلية إلى مستويات ماكرو-تفسيرية وميكرو-تفسيرية، لكن هذا الحل يركز على مقياس التحليل، ولا يهتم بمسألة تموقع البنية أو الفاعل في مستوى التحليل باعتبار أن هذه المسألة قد تؤثر في تحديد شكل مصدر التفسير أو الفهم. ويكمن عمق الإشكال في كيفية التمييز بينها، إذ إنه من زاوية الأنطولوجيا العلمية “لا توجد أجزاء قابلة للانفصال حتى وإن كانت قابلة للتمييز بطبيعة الحال”[3]. ويقتضي هذا التمييز الإجرائي الانشغال بإعادة التفكير في قضايا الأنطولوجيا بشكل يحافظ على الاتصال بالقضايا الإبستيمولوجية أيضا، مما يسوغ أولا مسألة التمييز بين مستويات التفسير، وثانيا تحديد آليات وممرات الانتقال بين هذه المستويات.
خاض الباحث بعد ذلك في علاقة مقولة التفسير التاريخي بالثالوث المفاهيمي المهيكل للخطاب التاريخي، ويمثل هذا الثالوث الأبعاد الأساسية التي لا يمكن إجراء دراسة تاريخية من دون استحضارها. وتوقف في هذا السياق عند البعد الزمني، على اعتبار هذا الأخير سمة أساسية في عمل المؤرخ، ومن جهة أخرى تقتضي العملية التفسيرية تعاملا خاصا مع الزمن “يتجاوز النظرة الخطية والعلاقة الميكانيكية بين السبب والنتيجة، نحو نظرة جدلية قائمة على زمنيات متعددة، تحضر فيها لعبة الآثار الرجعية للأسباب” (ص. 29). وبهذا الطرح، يعيد الباحث النظر في المقولات والتقسيمات الكرونولوجية الجاهزة[4]، حيث يستدعي التفسير التاريخي وفق المنظور الجديد استعمال التحقيب بغرض التفسير، وذلك بالبحث عن التمفصلات والمنعطفات ورصد التحولات والتغيرات التاريخية. ويقوم هذا الاستعمال على فكرة مرونة الزمن التاريخي وتعدديته، وقد استفاد في ذلك من التجديد الذي طال حقل الكتابة التاريخية من حيث مشكلاتها ومقارباتها وموضوعاتها.
وفيما يخص ارتباط التفسير التاريخي بالبعد المكاني، والذي يبحث في مسألة التوطين، فإن هذا البعد يحضر في عملية التفسير التاريخي على ثلاث مستويات:
أولا: باعتباره مقياسا للملاحظة تبعا لإشكالية المؤرخ والوقائع التاريخية المطلوب دراستها، فكلما تغيرت المقاييس المكانية (محليا أو وطنيا أو جهويا أو عالميا) تغيرت الدلالات التاريخية.
ثانيا: بكونه يساعد على توطين الوقائع التاريخية وموضعتها مجاليا، ويظهر هذا البعد بالخصوص عند تحويل المعطيات التاريخية إلى أشكال التعبير الكارطوغرافي، بما يسهم في إدراك التغير في التاريخ.
ثالثا: ينظر إلى المكان من زاوية التأويل، فمن خلال تحديد نوع العلاقة التي تربط الإنسان ببيئته، يعد المجال إما عاملا مفسِّرا أو متغيرا مفسَّرا، وذلك حسب مواقف المؤرخ من البعد المجالي (احتمالية وحتمية وتفاعلية). كما يقوم المكان بدور المصدر (الأرشيف)، وذلك حينما يصبح وسيلة للنقد ومعيارا لتمحيص الأخبار.
وسلط الضوء في الأخير على علاقة التفسير التاريخي بالبعد المجتمعي، وهذا الأخير يتقاطع عنده المكان الجغرافي والزمان التاريخي، ويشكل “التغير الاجتماعي” الموضوع الأساس للتاريخ باعتباره دراسة لاختلافات الفعاليات البشرية حسب الأزمنة والأمكنة. وإذا كانت غاية التفسير التاريخي تكمن في امتلاك المؤرخ شمولية في تفسير تغير المجتمعات عبر الزمن في كافة مظاهر حياة المجتمع المادية والذهنية، فإن إدراك هذه المظاهر مجتمعة يستوجب تفكيكها وتصنيفها بحسب قطاعات النشاط البشري. وهذا الفهم التجزيئي للتاريخ هو ما يساعد على الفهم الشمولي للظاهرة المجتمعية في كليتها وتشعب علاقاتها، مع استحضار ما يحكمها من علاقات تفاعلية تتطور بإيقاعات مختلفة.
بعد التطرق لعلاقة التفسير التاريخي بالأبعاد المهيكلة للخطاب التاريخي، توجه الباحث صوب تحديد موقع التفسير التاريخي ضمن النسق الفكري اللولبي لنهج المؤرخ، والعلاقات التي ينسجها مع باقي العمليات المنضوية تحت لواء هذا النهج الفكري باعتباره مقولة متمفصلة. وأبرز بتركيز شديد بعض المحاولات الإبستيمولوجية التي اشتغلت بنمذجة منهج المؤرخ، وتوقف عند محاولتين بالأساس وهما: نمذجة هنري مارو، ونمذجة مصطفى حسني إدريسي، واختار الاشتغال وفق النمذجة الأخيرة، حيث تطرق لموقع التفسير داخل النسق الفكري لنموذج حسني إدريسي. وحازت هذه النمذجة فضل الريادة على صعيد البحث الإبستيمولوجي والديداكتيكي في العالم العربي، حيث استطاعت إضفاء قدر كبير من الاتساق على عمل المؤرخ وعلى منهجية تعلم التاريخ. ومع ذلك تتطلب هذه النمذجة إعمال نوع من اليقظة المنهجية حتى لا تتحول إلى نسق فكري ومنهجي مغلق، ومما قد يؤدي لهذه النتيجة، ذلك الثقل الذي منحته هذه النمذجة للبعد الفكري (وأيضا الحسي) ضمن وظائف تعلم التاريخ، في حين لا يوازيه نفس الحيز من الاهتمام للبعد الانفعالي (الوجداني) في التعلم. وهو ما تظهر الحاجة الملحة إليه بالنسبة لمجتمعات، كمجتمعنا، مازالت تتلمس الخطوات الأولى في بناء شخصيتها الوطنية، وتثيرها بعمق قضايا الهوية والذاكرة والانتماء وغيرها. كما قد يؤدي تنزيل النهج التاريخي بإجرائيته الصارمة في الممارسة الفصلية لتعلم التاريخ إلى تفكيك النشاط الفكري للمتعلمين / ات، وذلك بتكريس شكل من المناولة المنفصلة لخطوات النهج على شكل قطائع مختلفة ومتمايزة، مما قد ينجم عنه تكوين أنماط من التفكير التجزيئي، بينما يستدعي الاستدلال التاريخي الأخذ بعين الاعتبار أبعاد التداخل والتضمن الكامنة في عمليات النهج التاريخي.
استهل الباحث تشخيصه للتفسير داخل النهج بالانطلاق من “الإشكالية”، والتي اعتبرها حافزا للبحث وضرورة منهجية لإنتاج المعنى بواسطة مختلف التفسيرات التي يسعى الباحث إلى بنائها، وارتباطا بالأسئلة المنبثقة من المشكل المطروح. ويعد التاريخ بطبيعته الإبستيمولوجية قادرا على طرح مشكلات تاريخية قيّمة ومناسبة، تمكّن من تحويل الثوابت إلى تساؤلات. ويرى عكي “أن مرحلة الأشكلة هي التي تعطي للتفسير مصداقيته في عمل المؤرخ، إذ لا تاريخ بدون إشكالية، ولا تفسير بدون أسئلة مناسبة، وفرضيات تكون في عمقها تفسيرية” (ص. 40).
أما عن علاقة التفسير بالتعريف، فتظهر على مستويين:
أولا- تشكل مرحلة التعريف في عمل المؤرخ رافدا أساسيا للتفسير التاريخي، بحيث تسمح له بتجميع عدة معطيات ومؤشرات مساعدة من خلال قراءة الوثائق وغربلتها وتحليلها نقديا ووضع الأحداث في سياقها التاريخي أفقيا وعموديا.
ثانيا – تستدعي عملية التعريف التاريخي مجموعة من الإجراءات الفكرية والمنهجية المفيدة للمؤرخ عند مروره إلى مرحلة التفسير، ويتعلق الأمر بالانتقاء والتقييم والمسايقة التاريخية، فضلا عن الروح النقدية في قراءة وتحليل الوثائق التاريخية. وكل ذلك يتم طبعا انطلاقا من الأسئلة والفرضيات المنبثقة من الطرح الإشكالي للحدث التاريخي موضوع الدراسة.
كما أبرز الباحث علاقة التفسير التاريخي بالتركيب، حيث يسترشد المؤرخ في عملية التركيب بالإشكالية والأسئلة، ولذلك لا مفر له من ممارسة الانتقاء والتقييم، وهو الأمر الذي يبقى رهين ثقافة المؤرخ وفعاليته المهنية، وتدخل هذه الممارسة في صميم العملية التفسيرية.
ومن جهة أخرى تطرق الباحث إلى ارتباطات التفسير التاريخي بالمفهمة، على اعتبار هذا الإجراء يعكس اشتغال المؤرخ بالمفاهيم وعليها بطريقة ممتدة تخترق النهج التاريخي في مساره اللولبي، وتتضح الارتباطات بين التفسير والمفهمة على مستوى وضع المفاهيم التفسيرية. إذ ينصب الجهد الأكبر من عمل المؤرخ على إبداع أو إعادة استعمال المفاهيم، بحيث تشكل المفاهيم العدة المعرفية والمنهجية للمؤرخ في معالجة الأحداث التاريخية من منظور تجريدي يمكن الباحث من سبر عمق الوقائع التاريخية لاستكشاف طبقات المعنى الكامنة في حقب تاريخية مختلفة، كما تؤهل المؤرخ لتوليد مقولات فكرية. وينبغي للمؤرخ أن يتسلح طيلة مساره التفكيري برصيد من المفاهيم يقارب بها الواقع التاريخي المدروس، حيث يشكل التفسير التاريخي حلقة حاسمة في هذا المسار الذي ينعت بـ “النهج التاريخي”.
واختتم الباحث هذا الفصل بتناول جدلية العمل التفسيري للمؤرخين بين ذاتية المؤرخ وموضوعية العلم التاريخي، ويخوض الباحث في أشكال من التفسيرات التاريخية النابعة من ثقافة المؤرخ وخلفيته النظرية وهموم حاضره، ذلك أن المؤرخ في عمله التفسيري يجد نفسه أمام تفسيرات ممارَسة ومعمول بها. وتتمثل هذه التفسيرات في مجموعة من النظريات والأنماط التعليلية القائمة في حقل التاريخ، والتي يستحضرها المؤرخ في مقاربة الواقع التاريخي. وقدم الباحث عرضا مركزا لأهم الأنماط التعليلية السائدة في حقل الكتابة التاريخية التقليدية منها والجديدة، وهي: التفسير بالدين، والتفسير بدور العظماء والأبطال، والتفسير بالدورات التاريخية وبالمادية التاريخية وبالفلسفة. كما عرج على التفسير بالسيكولوجيا والتفسير التاريخي بالشمولية، واهتم بالخصوص بأعمال ماكس فيبر في السوسيولوجيا التاريخية باعتباره رائدا للتاريخ الشمولي والمقارن وغير الحدثي.
كانت المناولة السابقة بمثابة دليل وجه الباحث للمحاجّة بأن بلوغ الموضوعية في التفسير التاريخي محكوم بالمرور عبر ذاتية المؤرخ، حيث يبقى التفسير مؤطرا بثقل الحاضر السياسي والاجتماعي والفكري للمؤرخ، لذلك يخلُص عكي إلى “أنه لا تاريخ إلا ما يفكر فيه المؤرخ انطلاقا من إرغامات حاضره. كما أن البناءات التفسيرية التي يقوم بها في حقل الماضي تدين بالشيء الكثير لتمثلاته المتجذرة في حاضره الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والنفسي” (ص. 54).
كما أن موضوعية التفسير التاريخي تظل رهينة ما تطرحه الوثيقة من تحديات وصعوبات، تتطلب التوفر على إمكانات فكرية وتنظيمية ومادية، وكذلك تنويع الوثائق شريطة مراعاة الدقة والأهمية والقيمة في انتقاء الوثائق ارتباطا بمشكلة البحث. ويقدم الباحث أربعة أنواع من البراهين يستطيع المؤرخ باستعمالها التغلب على هذه المشاكل، وتنحصر فيما يلي: الاستدلال بالصمت، الاستدلال بالتخمين، الاستدلال بالتماثل، والاستدلال الاسترجاعي. ونبه إلى ضرورة مراعاة المزالق التي تحفّ بهذه الاستدلالات، بما يستدعي التسلح بنوع من الحذر المنهجي، وخصوصا الاستعانة بالعلوم المساعدة.
توصل الباحث في ختام هذه المعالجة الإبستيمولوجية لمقولة التفسير التاريخي إلى محاولة العمل على تجاوز التوتر الدائم الموجود بين المعالجة السببية والبحث عن المعنى في مسلكية التفسير التاريخي. ويظهِر الباحث انحيازا إلى تبني خيار الازدواجية في عملية التفسير التاريخي، حيث يتكامل التفسير الوضعاني بالقوانين السببية مع التفسير القصدي بالبحث عن المفهومية والمعنى. ويستعين الباحث في ردم هذا التعارض بمجموعة من الخطاطات / الشيمات التفسيرية التي استعارها من “ميشال بيرتولو” M. Berthelot، وهي عبارة عن مصفوفات تتضمن مختلف العمليات التي تسمح بوضع مجموعة من الأحداث والوقائع داخل نسق من المفهومية (ص. 58). ويسمح هذا الموقف المزدوج الذي تبناه عكي في مسألة التفسير التاريخي بنوع من المرونة الإبستيمولوجية والمنهجية، كما يفسح المجال لممارسة المستويات المتعددة من العمل التفسيري، بما يضمن الوصول إلى رؤية واحدة وشاملة لمستويات التفسير في تنوعها وتعقيدها. وتشكل القواعد والإجراءات التي يمارس عبرها المؤرخ عمله التفسيري نوعا من التمفصل بين الأسباب والدواعي؛ أي بين العوامل الموضوعية والمحفزات القصدية للفاعلين. وبذلك يخرج التفسير من حدة الاستقطاب الحاد بين الثنائيات العقيمة: ثنائية الفهم والتفسير، ثنائية الذاتية والموضوعية، وغيرها، ويتوصل إلى تحقيق نوع من الصلة المتبادلة بين الفهم التعاطفي والتفسير السببي.
- تعلم التفسير التاريخي بوصفه ممارسة بنائية ديداكتيكية
تأسيسا على التعدد والتعقيد الكامن في التفسير التاريخي من الناحية الإبستيمولوجية، أمكن للباحث أن يوجه العملية التفسيرية نحو القيام بدور ديداكتيكي فعال في تعلم التفكير التاريخي. فمادام أن المعرفة التاريخية حبلى بشتى أنماط التفسير، فإنه بإمكان الدرس التاريخي أن يستوعب نماذج مختلطة ومتنوعة من التفسير التاريخي. وفي هذا الصدد أولى الباحث عناية فائقة للتفسير التاريخي بوصفه لحظة من لحظات التفكير التاريخي، حيث عمل على مقاربة الموضوع في أعمال الديداكتيكيين التخصصيين، والذين راهنوا على جعل المتعلم (ة) قادرا (ة) على إنتاج معرفة تاريخية تفسيرية منبثقة من السجلات الإبستيمولوجية التي ينطوي عليها التفسير التاريخي، وذلك بعد تطويعها لعملية التنقيل الديداكتيكي وجعل المعرفة التاريخية العالمة قابلة للتعليم والتعلم. وفي هذا الصدد يبقى السؤال التالي في حاجة للمزيد من الاستقصاء، وهو: هل نُخْضِع المعرفة المدرسية لاشتراطات وثقل الإبستيمولوجي؟ أم نلائمها ونكيفها مع متطلبات البيداغوجي؟ وكيف يتأتى ذلك دون الإخلال بالطابع المعياري للمعرفة؟
يأتي الانشغال بديداكتيك التفسير التاريخي ضمن جهود الديداكتيكيين المهتمين بإدماج البعد الإبستيمولوجي ضمن أعمالهم المتعلقة بتعلم التفكير التاريخي، وهو الأمر الذي يقتضي عملية موازية من الربط بين الإبستيمولوجيا والممارسات المدرسية القائمة في حجرة الدرس التاريخي. وهو ما فرض نوعا من التفاعل بين التطورات الإبستيمولوجية للخطاب التاريخي ومشاكل الممارسة الفصلية للدرس التاريخي، واقتضى بالتالي إعادة النظر في تعليم التاريخ وتعلمه ووظائفه ورهاناته، وخصوصا مسألة تجديد المعرفة المدرسية ارتباطا بتجدد المعرفة العالمة، بما يضمن إيجاد حلول وبدائل لمشاكل الممارسة الفصلية.
اهتم الباحث بداية بمفهوم النقل الديداكتيكي في مجال تعلم التاريخ، وما يطرحه من تحديات إبستيمولوجية وبيداغوجية. ويكمن رهان النقل / التنقيل الديداكتيكي في كيفية التوصل إلى ترجمة ديداكتيكية لمنهج تفكير المؤرخ من خلال إعداد سيناريوهات مزودة بأدوات تطبيقية تحفز قدرة المتعلم (ة) على ممارسة الاستدلال التاريخي. وقد بيّن الباحث أن المعرفة التاريخية المدرسية تتضمن تركيبة متنوعة ومتشابكة من المكونات التي يصعب تحديدها بالتدقيق. وإذا كان تعقد واتساع نطاق المعرفة المدرسية معضلة بحد ذاته، فإن المشكلة الحاسمة التي تواجه البحث الديداكتيكي تتجلى في صعوبة انعتاق هذا الأخير من الاشتراطات الإبستيمولوجية للمعرفة العالمة. وهذا ما يتضح عند ترجمة متون المعرفة العالمة إلى متون ديداكتيكية، إذ مازالت المعرفة التاريخية المدرسية تعتمد منطق الوثيقة وليس منطق الدعامة، إذ تميل إلى تكريس هيمنة سلطة الوثيقة على بناء المخطط التفسيري للمعرفة المطلوب تعلمها، وذلك بادعاء الوثيقة تقديم معرفة متماسكة وخاضعة لنظام منطقي، مما يدفع بالتفسير التاريخي إلى أن تكون علاقته بمصادر المعرفة مستقرة ومتينة، وذلك بدل أن تقدم هذه المصادر مفاتيح لاختبار أنماط مختلفة من العمل التفسيري.
ومن جهة أخرى تواجه عملية النقل (وأفضل عبارة التحويل) الديداكتيكي جملة من التحديات، والتي تعد بمثابة ضوابط تخضع لها المعرفة التاريخية المدرسية. ولخصها الباحث في مجموعة من العناصر، وهي: المقررات والتعليمات الرسمية، الإرغامات المؤسسية، الارتباط بالمعرفة العلمية، التقليد المدرسي، الكتب المدرسية، تمثلات المدرس والروابط التي يقيمها مع التاريخ، الاختلافات القائمة بين المعرفة العالمة والمعرفة المدرسية سواء في الغايات وشروط الإعداد والعرض أو في اللجوء إلى الإشكالية واستعمال المفهوم أو في استعمال الوثيقة. ويبرز التفسير التاريخي خلال عملية المرور من مستوى المعرفة العالمة إلى مستوى المعرفة المدرسية، حيث ينفي الباحث وجود أي تراتبية بين المعرفتين، ويخلص إلى أن “الثانية ليست مجرد تبسيط وتسطيح للأولى، بل هي إعادة بناء لأهداف أخرى” (ص. 72). ولذلك فإنه دون اتخاذ الاحتياطات المنهجية اللازمة، قد يختزل التفسير التاريخي إلى مجرد سببية مباشرة وبسيطة بين الأحداث، ومرتبة وفق تسلسل زمني. ومن هنا تتأتى أهمية استناد التفسير التاريخي إلى تعبئة المعارف العفوية للمتعلمين / ات واستيعاب نمط التفكير القائم في الحس المشترك، بما يؤدي إلى تجسير المسافة بين الأنماط التفسيرية المألوفة في الحس المشترك والأنظمة التفسيرية المنطقية للمعرفة التاريخية.
وانسجاما مع الرهان الديداكتيكي لإنتاج معرفة تاريخية مدرسية بنائية، عمل الباحث على التعريف بجوهر المدخل البيداغوجي الذي تستند عليه المقاربة الديداكتيكية المقترحة في تعليم وتعلم التفسير التاريخي. ويتمثل هذا المدخل في المقاربة بالكفايات، والتي تعد خلاصة ما انتهت إليه التطورات البيداغوجية المعاصرة، وبناء على تصور هذه المقاربة، يرسم الباحث رؤية ديداكتيكية للدرس التاريخي البنائي. وفي هذا الصدد أنجز الباحث عرضا تركيبيا لمواصفات المقاربة بالكفايات باعتبارها التصور البيداغوجي الذي تبناه النظام التربوي المغربي إطارا مرجعيا، وركز على إبراز راهنيتها وأهميتها في تقليص الهوة القائمة بين المجتمع والمدرسة، وذلك لكون هذه المقاربة تستهدف تعلما مستداما وقابلا للتحويل في الحياة الشخصية والاجتماعية والمهنية.
ترتبط المقاربة بالكفايات بالبراديغم البيداغوجي القائم على بناء المعرفة وتحويلها بدلا من تلقين المعرفة والإخبار بها، ويتضمن البراديغم البنائي التفكير في المعرفة والتأمل فيها بهدف فهمها وإعادة ترتيبها وربطها بغيرها لتكوين معرفة منتجة وقابلة للتحويل. وتتجلى أهمية المقاربة بالكفايات في فرض تغيير جذري في أدوار الفاعلين التربويين، وعلى الخصوص تعزيز موقع المتعلم (ة) ودوره (ا) في العملية التعليمية التعلمية، حيث توفر الأسس لتجاوز الوضع السلبي للمتعلم (ة) نحو أداء دور فاعل ومشارك في بناء المعرفة. ولهذا اشتغل الباحث على رصد أبرز التصورات التي تطرقت لموضوع التعلم، والتي صبّت في بلورة المقاربة بالكفايات. وتتجلى هذه التصورات في مجموعة من المنظورات الجديدة للتعلم، وأجملها في المنظور المعرفي، والمنظور البنائي ثم المنظور السوسيو-بنائي. وقد توصل الباحث إلى أن المقاربة بالكفايات تستدمج مختلف البيداغوجيات النشيطة الكفيلة بتجسيد هذه المنظورات. كما خصص الباحث فقرة لتحديد المفاهيم الرئيسة التي تغذي التصور المؤسس للنموذج البيداغوجي المتبنى في هذا الكتاب، وذلك في مسعى لإزالة الالتباس والغموض المطروح عند استعمال هذه المفاهيم في الخطابات والممارسات البيداغوجية والديداكتيكية، وتتمثل هذه المفاهيم فيما يلي: الكفاية، القدرة، المهارة، والوضعية المشكلة. ويمكن اعتبار هذه المفاهيم بمثابة إطار مرجعي لأجرأة المقاربة بالكفايات، كما أنها تتماشى مع المدخل البنائي والمفهومي للمعرفة التاريخية. وأبرز الباحث من جهة أخرى بعض رهانات المنهاج التربوي المؤسس على الكفايات، إذ إن هذه الأخيرة تتميز بخاصيات النمو والاغتناء والتطوير انطلاقا مما يكتسبه المتعلم (ة).
اتجه الباحث في مستوى آخر إلى معالجة الامتدادات الديداكتيكية لمدخل الكفايات في مجال تعلم التاريخ، حيث ركز على أطروحتين أساسيتين في هذا المجال، وهما: أطروحة التعقيد La Complexité المرتبطة بأعمال إدغار موران في خطاب المنهج، والتي تسمح بتقديم قيمة مضافة ونوعية للتعلم، إذ توفر هيكلا وبنية للاكتشاف المعرفي، وبذلك تشكل خلفية نظرية أساسية لتعلم التفسير التاريخي. أما الأطروحة الثانية فهي “الوضعية المشكلة”، والتي تتمثل في مجموعة من المواقف المركبة والمعقدة التي يمر بها المتعلمون / ات في معالجة مشكلة تاريخية محددة، تدفع بهم إلى الانخراط في مهام فكرية ومعرفية معقدة تتطلب تعبئة معارف ومهارات وقيم مختلفة لحل الوضعيات المطروحة.
أفرد الباحث المبحث الثالث من الفصل الثاني للكشف عن الأبعاد الكبرى التي يعالج بها الديداكتيك التخصصي موضوع التفسير التاريخي، سواء في شقه النظري التأملي أو في شقه الميداني التطبيقي. وينصب هذا المبحث على وضع التفسير التاريخي في السياق المدرسي، ويتوجه بالضبط نحو التمرن على إعمال التفسير التاريخي في الممارسة الفصلية. وقبل الخوض في حيثيات الممارسة، يلقي الباحث نظرة على الأدبيات الديداكتيكية ذات المنحى التأملي من حيث تعاطيها مع التفسير التاريخي، ويستنطق في هذا المسعى الكتابة التاريخية المدرسية كما تظهر في المناهج والبرامج والكتب المدرسية، وكذلك في تمثلات المدرس (ة) والتلميذ (ة). وخصص حيزا لبعض المناولات الديداكتيكية التطبيقية سواء التي تنتمي إلى السياق المغربي أو التي تطورت في سياقات أجنبية، وتوقف في هذا الصدد عند أعمال مصطفى حسني إدريسي (2005)، والبشير تامر (2004 – 2005)، والباحثة الفرنسية نيكول لوتيي (N. Lautier 1997)، والباحثة تويتو ﮔـيون نيكول (Tutiaux – Guillon 1998) والباحثة اليونانية كافورا (Cavoura 1994)، والباحث السويسري ديديي كاريو (Cariou 2003).
وقد استخلص الباحث من عرض هذه الدراسات الديداكتيكية وتحليلاتها أنها تتقاطع في فكرة أساسية مفادها “أن التفسير التاريخي مطلب إبستيمولوجي وديداكتيكي ذو أولوية قصوى في تعلم المعنى والمفهومية التاريخية، شريطة أن يتم تدريب المتعلم (ة) في القسم على التفسير بالعوامل وبالمقاصد وبالسببية المعقدة والمتعددة والمفتوحة، وبالممكنات والفرص التي كانت متاحة أمام الفاعلين، وبالزمنيات المتعددة وبالارتدادات الزمنية، وبالمسافة النقدية إزاء الخلفيات الإيديولوجية للمؤرخين” (ص. 109). كما عمل الباحث على تنزيل طرحه الديداكتيكي إلى ميدان الممارسة عبر الاشتغال بورشات تحاول تجسيد المقولات الفرعية للتفسير التاريخي من خلال اقتراح مسالك لتعلم التفسير. وعدّد منها الباحث أربع مسالك استهدفت تصريف التفسير التاريخي عبر السيناريوهات التالية، وهي: 1) فهم حوافز الفاعلين ومقاصدهم، 2) التفسير بالأسباب المتعددة، 3) المقارنة بين تأويلات تاريخية مختلفة، 4) التفسير بزمنيات متعددة. وشكلت هذه الورشات تمرينا للمعاينة التشخيصية بهدف رصد الصعوبات واقتراح التدخلات الملائمة.
واختتم الباحث هذا الفصل بمعاينة حضور المقولة التفسيرية في خطاب مناهج وبرامج التاريخ المدرسي، وقد وضّح أن منطوقات نصوص وثائق المنهاج تعد بمثابة “قفزة نوعية في خطاب منهاج التاريخ المدرسي بالمغرب، لكونها تعكس الخلاصات الإبستيمولوجية للتاريخ الجديد؛ فنحن أمام منطوقات متقدمة ومنفتحة على السجل العلمي للتاريخ وامتداداته الديداكتيكية” (ص. 120). لكن من ناحية أخرى تظل هذه المنطوقات المصرح بها حبيسة النوايا، ولم تهتد بعد إلى طرق عملية للتنزيل والتفعيل في الميدان. كما سعى الباحث إلى ملامسة منطوق الكفاية التفسيرية على مستوى النص الرسمي للتوجيهات التربوية، وذلك باعتبارها أداة أساسية للتصريف البيداغوجي والديداكتيكي. وقد خلص الباحث إلى وجود حاجة للمزيد من الاجتهاد والتفكير في بلورة نص مرجعي يرتقي إلى المطالب المتجددة في حقل التفسير التاريخي، وأيضا وجوب خلق ذهنية مهنية كفيلة بتفعيل منطق الكفاية التفسيرية في التعلم التاريخي.
ولتقديم إضاءات جديدة في الموضوع، انفتح الباحث على تجارب الآخرين فيما يخص حضور المقولة التفسيرية في مناهج وبرامج التاريخ المدرسي، مركزا بالأساس على حالات بريطانيا وكندا وبلجيكا والولايات المتحدة الأمريكية، وتوقف بشكل أعمق عند حالة فرنسا، والتي اعتبرها نموذجا متقدما في تناول المقولة التفسيرية بدرس التاريخ. يمكن أن يستفاد منها مدى أهمية تضافر جهود المؤرخين الأكاديميين والديداكتيكيين التخصصيين في كتابة مناهج وبرامج التاريخ المدرسي، وذلك من أجل تحقيق الإصلاح النوعي المنشود للدرس التاريخي بالمدرسة المغربية.
بعد التأسيس النظري والمفاهيمي للتفسير التاريخي في الواجهات الإبستيمولوجية والسيكو-بيداغوجية والديداكتيكية، خصص الباحث الفصل الثالث والأخير للتطبيق العملي، والذي اعتبره محاولة ديداكتيكية في البناء والتطبيق في القسم. ويعد هذا الفصل زبدة هذا الكتاب، إذ يقدم ملامح خطة تعلمية تكوينية تتوخى إكساب المتعلم (ة) القدرة على المعالجة التفسيرية المنتظمة والممنهجة للحدث التاريخي، وفق إطار إجرائي يفضي به إلى بناء معرفة تاريخية ذات معنى (ص. 133). وتتطلب محاولات ديداكتيكية تروم تنزيل مشاريع إبستيمولوجية كبرى بحجم التفسير التاريخي توفر أرضية صلبة من شروط وخصائص الملاءمة Pertinence بشقيها الإبستيمولوجي والديداكتيكي، يكون بإمكانها تحويل المعرفة العالمة إلى معرفة قابلة للتعلم. وهو ما يتمثل في إخضاع الهياكل الإبستيمولوجية للمعارف لجملة من القيود الإنتاجية Contraintes de fabrication تجعل منها معرفة مختلفة ومباينة للمعرفة العالمة.
ويمثل هذا البناء الديداكتيكي نتاجا مباشرا وواضحا لخلاصات وافتراضات الإطار النظري في الواجهات الثلاث السالفة الذكر، وبالإحالة إلى النموذج الذي ابتكره مصطفى حسني إدريسي، اجتهد صاحب الكتاب في رسم خطاطة للتفسير التاريخي، مانحا مقولة التفسير مركز القلب داخل المثلث المهيكل للخطاب التاريخي في نموذج إدريسي، بحيث تنتظم مختلف المحطات الفكرية في خدمة المشروع التفسيري في التاريخ. وتشكل خطاطة النهج التاريخي المرتكز المرجعي الأول للبناء الديداكتيكي المقترح من قبل الباحث، والذي اتخذ صيغة مجزوءة تكوينية لفائدة المتعلم (ة) تتمحور حول كفاية التفسير التاريخي، وهذا المرتكز ذو طبيعة إبستيمولوجية. أما المرتكز الثاني فاتخذ صيغة سيكو-بيداغوجية، ويستمد روحه من مختلف المنظورات والمقاربات المتعلقة بنمو وتنمية الفكر التاريخي عامة (السوسيو-بنائية، المقاربة بالكفاية – أطروحة التعقيد). فيما يتخذ المرتكز الثالث سمة ديداكتيكية، اختار لها الباحث مقاربة مبنية على استراتيجية التدريس الاستقصائي، والتي تعتمد على الوضعية المشكلة مدخلا لأجرأة التصور البنائي للتعلمات المنتظرة. وبحسب الباحث، تسعف الوضعية المشكلة في تخطيط المرجعية الديداكتيكية المقترحة ضمن باراديغم التعلم البنائي، بما يسهم في تنمية استقلالية المتعلم (ة) وانخراطه (ا) في سيرورة بناء التعلمات وهيكلتها، وتشجيعه (ا) على البحث المستمر من خلال وضعيات التحويل.
وقد أعاد الباحث صياغة الوضعية المشكلة ضمن هذا النموذج عبر اقتراح مسار مركب لسيرورة التعلم يغطي أربع مراحل أساسية، وهي: مرحلة إطلاق التعلم، مرحلة بناء التعلمات، مرحلة الهيكلة والتي تتوج بترصيد التعلمات وتنظيمها في أوعية مناسبة، ثم مرحلة التحويل في نهاية المسار الاستقصائي. ولم يكتف الباحث بهذه المرتكزات ذات الطابع النظري التأملي، بل عمد إلى اختبار إمكانية تنزيل هذا النموذج إلى الميدان، وهو يعد بمثابة المرتكز الرابع ذي الصيغة الميدانية، ويتوخى منه قياس مدى قابلية هذا النموذج للإنجاز. وقدم الباحث أيضا هندسة ديداكتيكية لمسار التعلم التفسيري في التاريخ، اختصرها في ثلاث لحظات كبرى، وهي: طرح إشكال تاريخي، المعالجة التفسيرية للحدث / المشكل، تركيب الجواب التفسيري للحدث المقدم.
وفر الباحث لهذا المقترح الميداني الإطار الإجرائي، وهذا الأخير يوضح الطرائق والخطوات التي يستلزمها التنفيذ، حيث قام بتوصيف هذا النموذج من حيث الكفايات والقدرات وأهداف التعلم والمضمون المعرفي، وكذلك من حيث الموارد والدعامات الديداكتيكية، وسيرورات التدبير الديداكتيكي لأنشطة التعلم والتقويم التكويني. وقد استعان الباحث بعرض هذا التوصيف الديداكتيكي بمجموعة كبيرة من الأدوات الغرافيكية (جداول، بطائق، مصفوفات…)، كما زود المتعلم (ة) المفترض (ة) بعدة منهجية ووثائقية تعينه في إنجاز الأنشطة والتمارين المقترحة داخل الفصول الدراسية، وهي عبارة عن وضعيات يكون المتعلمون / ات أمام مقاطع تفسيرية من صميم الدرس التاريخي. وقد أعد الباحث لهذا التدخل الديداكتيكي لتعلم التفسير في الدرس التاريخي بالمرحلة الثانوية التأهيلية تركيبة من الدلائل والبطائق التوصيفية الموجهة لكل من الأستاذ (ة) والمتعلم (ة).
انتهى الباحث بعرض خطة التجريب الميداني سواء من بروتوكول التطبيق أو نتائجه الميدانية، وخلص إلى أن النموذج المقترح للاشتغال بمجزوءة تعلم التفسير التاريخي أثبت جدواه؛ حيث رصد تطور أداء المتعلمين / ات وفق صنافة المراقي التي انتظم وفقها هذا الاختبار، وذلك على الرغم من تسجيل بعض الفروق ذات الدلالة الإحصائية. وعلى العموم، فقد تمكن الباحث من تأكيد فرضيات بحثه، وهو ما من شأنه أن يزكي الخلاصة الأساسية التي انتهى إليها الباحث، وهي أن هذا النموذج قادر على “تمكين المتعلم من أن يحقق مكاسب مفاهيمية ومنهجية تجعله قادرا على تفسير الحدث التاريخي واستخلاص دلالته” (ص. 225). وفي الخلاصة العامة، أعاد الباحث التأكيد على الهدف الأساسي من هذه المساهمة، والمتمثل في إعداد أدوات ونمذجات ديداكتيكية ملائمة لتيسير التحصيل المنهجي في الدرس القائم على التفسير التاريخي. ويظل هذا الهدف بمثابة تحد حقيقي مطروح على الديداكتيكيين التخصصيين، ينتظر أن يلج باب الفصل الدراسي لإحداث التحول المطلوب في الدرس التاريخي.
خاتمة وخلاصات
استهدف هذا البحث أن يفتح بوابة جديدة للمساهمة في تطوير الدرس التاريخي المغربي على مستوى المنحى التفسيري، حيث قدم رؤية متقدمة للعلاقة التي ينبغي أن تربط التجديدات الإبستيمولوجية للمعرفة التاريخية بتطبيقاتها الديداكتيكية، ساعيا إلى توجيه بوصلة النقاش البيداغوجي والديداكتيكي نحو ما يفيد الدرس التاريخي القائم اليوم بالفصول الدراسية ويبث فيه الحيوية والفعالية. ويركز على جعل الدرس التاريخي مادة بنائية ينخرط المتعلم (ة) في بناء تعلماته (ا) التاريخية انخراطا فعليا وعمليا، بدل الاكتفاء بوضع المتلقي السلبي، أو الانخداع بوهم البيداغوجيا النشيطة.
وكان إسهام هذا الكتاب منصبا على التفكير في بلورة طرح أو تصور ديداكتيكي مؤسس على أرضية نظرية وتطبيقية متينة يربط بين التطورات الإبستيمولوجية للمعرفة التاريخية ومحصلات الاتجاهات السيكو-بيداغوجية في صلاتها بالمقاربات والطرائق الديداكتيكية المستجدة في حقل التاريخ المدرسي. وتتضح القيمة المضافة لهذا البحث في مجموعة من النقاط الرئيسية، والتي يمكن اعتبارها بمثابة خارطة طريق بما قد يستفاد من فوائد ومنافع لهذا العمل تظهر على المستويات التالية:
- على مستوى إشراك الأكاديميين والديداكتيكيين في تطوير التاريخ المدرسي ولمَ لا الجامعي، حيث إن درس التاريخ سواء بالمدرسة أو الجامعة في حاجة ماسة إلى لمسة الديداكتيك التخصصي المفتوح على المستجدات الإبستيمولوجية، وذلك بهدف الخروج بهذا الدرس من النفق السردي الوصفي إلى رحاب التاريخ الإشكالي التفسيري. ويقتضي هذا الأفق المنشود العمل أولا على تغيير الذهنية المهنية للممارسين بالمدرسة وبالجامعة نحو تفعيل وظيفية الدرس التاريخي والارتقاء النوعي ببناءاته التفسيرية.
- التوازن الرفيع بين النظري والتطبيقي في هذا البحث، حيث يوازي الباحث بين الحفر الإبستيمولوجي في عملية التفسير باعتبارها مقولة منهجية وخطوة أساس في منهج المؤرخ، وبين الأجرأة الديداكتيكية الفعالة عبر وضعية تعلم مؤشكلة من تاريخ المغرب الحديث.
- يقدم لنا تناول الباحث لمقولة التفسير التاريخي فتحا إبستيمولوجيا ومنهجيا وديداكتيكيا، يتوخى فهم كيفية بناء المعرفة التاريخية، ويمنح الناشئة فرصا عديدة للمشاركة البناءة في الحوار والنقد وتكوين الآراء والمواقف. وهذا ما يستدعي من تعليم التاريخ وتعلمه أن يستهدف تمكين الناشئة من استيعاب الشروط والخلفيات التي تصاغ بها الخطابات التاريخية، حيث سيكون من المفيد لهذه الخطابات أن تسهم في تكوين فاعلين اجتماعيين بحس نقدي ومسؤول.
- يعكس هذا العمل خبرة الباحث في ميدان اشتغاله، والذي يتوفر على المؤهلات العلمية الكفيلة باستيعاب الموضوع في الواجهات المختلفة للبحث: الإبستيمولوجية والسيكو-بيداغوجية والديداكتيكية. ولا أدل على ذلك من تميز مسار تكوينه الأكاديمي والعلمي، وثراء مشاركاته وإسهاماته العلمية والعملية في ميدان البحث الديداكتيكي وفي مجال التأليف المدرسي. كما أن البيبليوغرافيا التي وظفها الباحث في هذا الكتاب تنم عن سعة إطلاع على كثير من الأدبيات التي قاربت الموضوع من شتى الزوايا، وعلى متابعة حثيثة لما كتب عنه وخاصة باللغات الأجنبية.
ومن جهة أخرى، لم يبق هذا العمل حبيس الأطر النظرية، بل خط لنفسه مسالك تطبيقية من خلال إطلاق الباحث، وهو أستاذ مكوِّن بالعديد من مؤسسات التعليم العالي وتكوين الأطر (مركز تكوين مفتشي التعليم، المدرسة العليا للأساتذة، كلية علوم التربية)، لورشات تكوينية في ديداكتيك التاريخ، تحولت إلى فضاءات للحوار وتبادل الأفكار وتقاسم التجارب مع الطلبة والمفتشين والمدرسين والأساتذة الباحثين في شتى تخصصات المواد الاجتماعية وديداكتيكيتها. وكان لهذا التراكم المهني والانفتاح العلمي أثره البارز على جودة هذا العمل وإخراجه بهذه الصيغة المتميزة، والتي اتخذت شكل اقتراح نموذج ديداكتيكي تم بنائه أولا على الرؤية الإبستيمولوجية، وثانيا على الرؤية الديداكتيكية قبل أن يتم إخضاعه للتجريب.
ونأمل من هذه القراءة أن توفي هذا العمل حقه من الرصد والمتابعة لما فيه من قيمة مضافة للبحث الإبستيمولوجي والديداكتيكي في بلادنا، كما نتوخى أن يجد فيه المهتمون أفكارا وموادا يمكن أن يطوروها لفتح آفاق جديدة للموضوع. ونرجو ألا يقتصر استخدام خلاصات هذا البحث ونتائجه على حقل ديداكتيك التاريخ، وأن تنفتح مساهمته على باقي التخصصات المدرسية والجامعية المحسوبة على حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية.
———————————
[1]Ricœur Paul, « Objectivité et subjectivité en histoire », dans : Histoire et Vérité, 3éme éd. Augm. Paris-Seuil, 1967. (Esprit), p. 28.
[2]Hacking Ian, The Social Construction of What?, Cambridge, Harvard University Press, 1999.
[3] ماريو بونجى، المادة والعقل: بحث فلسفي، ترجمة وتقديم صلاح إسماعيل، القاهرة، المركز القومي للترجمة، ط. 1، 2019، ص. 346.
[4]يراجع: حبيدة محمد، “مفهوم ما قبل الاستعمار: من أجل تحقيب جديد”، ضمن: بؤس التاريخ مراجعات ومقاربات، الرباط: دار الأمان، الطبعة الثانية، 2016، ص. 19–31.