مصطفى حسني إدريسي، الفكر التاريخي وتعلم التاريخ، تقديم هنري مونيو، الرباط-دار أبي رقراق، 2021.
مقدمة
ننطلق في هذه القراءة من زاوية شاهدَيْن على الثمرة الأولى لهذا الكتاب. لقد عايشنا مختلف محطات بلورة التصور التطبيقي والعملي له. في البداية حينما كان يُعِد الأستاذ مصطفى حسني إدريسي أطروحته لنيل دكتوراه الدولة في علوم التربية؛ بحيث جعلتنا هذه المعايشة نتشرب مساراته وهو في بدايته، نتشربه وهو ناضج، ونتشربه ونحن من الفاعلين الأساسيين في تجريبه وتمريره لمختلف الفئات بحكم اشتغالنا بتأطير أستاذات وأساتذة مادة التاريخ والجغرافيا في تلك الفترة (بداية الألفية). ثم قطفنا هذه الثمرة بعد ذلك في صيغتها الفرنسية، أي بعد صدورها على شكل كتاب[1]. وبعدما صدرت الترجمة العربية[2]، وأصبحت في متناول جمهور عريض من الطلبة (ات) والأساتذة (ات) والمفتشين(ات)، أعدنا قراءته في صيغته العربية ونحن محملون بإرث القراءات الأولى.
اليوم وقد خرجت الترجمة العربية إلى الوجود وأصبح قراؤه، أي الكتاب، يتحكمون في الجهاز المفاهيمي الذي تنتظم فيه معالم الخطاب الديداكتيكي الذي يختص بتدريس التاريخ، فقد أصبح من اللازم القيام بقراءة تقديمية لإبراز مختلف الجوانب المعرفية والمنهجية والإبستيمولوجية والديداكتيكية للكتاب. لذا فسياق هذه القراءة هو سياق ذاتي بقدر ما هو موضوعي خاص وعام.
وسنحاول الاقتصار في هذه القراءة على بعض الجوانب التي تبدو أساسية، وهي قراءة لا تعني على كل حال، الاستغناء عن قراءة الكتاب، بل تسليط الضوء على قضايا منهجية ومعرفية تستدعي التفكير والتركيز لإيلائها الأهمية التي تستحقها. وتتألف شبكة قراءتنا لهذا الكتاب من العناصر التالية:
- أهمية الكتاب وإشكاليته ورهاناته؛
- مقاربات متداخلة ومتكاملة في إنتاج هذا الكتاب؛
- قيمة مضافة نظرية وعملية ووعي بالحدود؛
- امتدادات مرتقبة لهذا الإنتاج.
-
أهمية الكتاب وإشكاليته ورهاناته
لقد انطلق المؤلف في بناء إشكالية الكتاب من وضعية غير مُرضية، تمثلت في عدم الاتساق بين النوايا المعلنة في المنهاج والممارسات الفصلية في درس التاريخ، وكذا عدم الاتساق بين الأسس الإبستيمولوجية للفكر التاريخي وبين أشكال نقله الديداكتيكي، وأخيرا عدم الاتساق بين الممارسة الديداكتيكية ذاتها، إلى وضعية مرغوبة لتجاوز هذه العوائق.
صاغ الباحث لإشكاليته فرضية، هي التي وجهت البحث كالآتي: “إذا تأسست ممارسة ديداكتيكية للتاريخ على إضاءة تأملية إبستيمولوجية للفكر التاريخي، فإنها ستيسر تعلم هذا الفكر وستنمي موقفا إيجابيا لدى تلامذة التعليم الثانوي” (ص. 27)
ولمعالجة الإشكالية وتمحيص الفرضية المركزية، سلك طريقا ثلاثي الأبعاد؛ أولا البعد التصوري، ثانيا البعد التشخيصي، ثالثا البعد التجريبي. لذا يمكن القول إن أهمية الكتاب تكمن في تمفصل هذه الأبعاد الثلاثة:
- البعد الأول تصوري
ويتمثل في تصور نموذج ديداكتيكي؛ إذ يعلن المؤلف أنه «يروم إعداد طريقة لتدريس التاريخ باعتباره مادة للتفكير، والإسهام، من ثم، عبر “تجريب ميداني” مسبوق بــ”تأطير نظري” في علاج الحالة التي يوجد عليها تدريس هذه المادة في المغرب. وهي حالة تعتريها نواقص وعيوب كثيرة، مثلها، في ذلك، مثل حالة مواد دراسية أخرى في التعليم الثانوي»[3]. ولنقف عند كلمة “نموذج” لنتساءل عن مدلولها.
واضح أن النموذج بصفة عامة يحيل على بناء مُؤَسس على خلفية نظرية، وله امتدادات تطبيقية وعملية، ويقدم طريقة عمل تتم فيها المراوحة بين ما هو نظري عام وما هو واقعي وميداني؛ وتمكن النواة الصلبة للنموذج من التنقل به عبر الأسلاك التعليمية والوضعيات التربوية، بالنظر للثوابت النظرية التي تتيح هذا الترحال بين الأسلاك والوضعيات. بمعنى أنه إذا كان هذا الكتاب اتخذ، كأرضية تجريبية وتنظيرية، موضوعا تاريخيا لمستوى الثانوي التأهيلي، فهو بنوع من التكييف الذي يحافظ على النواة الصلبة للنموذج من الناحية النظرية، يمكن تطبيقه حتى في الأسلاك التعليمية المختلفة. فلو لم يكن الأمر يتعلق بنموذج نظري حقيقي لما كانت إمكانية “تنقيله” بين هذه الأسلاك التعليمية. وقد هيكل هذا النموذج كالآتي:
يجسد هذا المثلث جوهر النموذج الديداكتيكي المقترح المسنود بخلفية منهجية وإبستيمولوجية متينة ومعاصرة. واقتضت قراءته التسلح بهذه الخلفية لإدراك بنيته العامة وتفاعل عناصره ووضع كل عنصر على حدة ضمن البنية العامة للفكر التاريخي الذي تجسده هذه الخطاطة.
واستند مصطفى حسني إدريسي إلى هنري إيريني ماروH. I. Marrou الذي اعتبره «هو من قدم أحسن وصف لمنهجية المؤرخ، أوضحه بمنحنى شلجمي يمتد بين مستويين:
- مستوى شخصية المؤرخ، وبالتالي مستوى ذات حاضرة، تطرح مشاكل وتضع فرضيات وتبني تركيبات.
- مستوى الواقع الموضوعي، وبالتالي مستوى موضوع ماضٍ بقيت آثاره في الحاضر.
يشكل هذان المستويان محورين لمنهجية المؤرخ: الإشكالية التي تطرح المشكل وتحدد في الزمن والمجال والمجتمع، “إذ لا تاريخ بدون مشكل”، وتضع الفرضيات، ثم نقد الوثائق أو تعريف أحداث مفهومة وملائمة وصحيحة، “إذ لا تاريخ بدون وثائق”. بين هذين المحورين يتخذ مسار الفكر التاريخي أوضاعا أخرى وسيطة: إذ يتجه اليوريستيك، أو التوثيق، من الذات (المؤرخ) إلى الموضوع (الماضي من خلال آثاره)، ويتجه التفسير والتركيب من الموضوع إلى الذات. تحتاج هذه الأوضاع الخمسة، التي يتخذها الفكر التاريخي، عند الانطلاق كما عند الوصول، إلى وضع سادس يشرف عليها جميعا؛ إنه المفهمة (صياغة أو تنظيم المفاهيم) »[4].
- البعد الثاني تشخيصي
بما أن النموذج طُبق في منهاج التاريخ بالمنظومة التربوية المغربية، فإن المؤلف لم يفته أن يستقرئ وضعية تدريس التاريخ وإشكالاته منذ السبعينيات إلى الفترة التي أنجز فيها البحث، بنوع من التركيب، من خلال رصد للتطور على مستوى التوجيهات التربوية الرسمية والكتب المدرسية، وعبر الاستعانة بتقارير التفتيش التي استغلها لكي يتعرف هذه الوضعية، وذلك حتى يتسنى له البرهنة على فعالية النموذج الديداكتيكي في تحريك منظومة تدريس التاريخ وتوجيه المنهاج نحو آفاق منهجية أكثر تطورا. لقد خبر الأستاذ مصطفى حسني إدريسي الميدان الذي بحث فيه، لقد مارس التدريس من جهة، وأعمل عينه الناقدة في هذا الميدان كباحث من جهة أخرى، كما أنه عايش مختلف التجارب الإصلاحية التي عرفها منهاج التاريخ.
يحاول الأستاذ مصطفى حسني إدريسي أن يربط بين تطور تدريس التاريخ والتطور السوسيولوجي للمغرب، لأنه، في نظره، «قد يساعد على فهم تطور درجة الإقبال على الفكر التاريخي، والذي لوحظ بين إصلاح 1973 وإصلاح 2002، هو مُصاحِب لسيرورة البناء الديمقراطي الذي انخرطت فيه البلاد منذ السنوات الأخيرة لحكم الحسن الثاني». ولكن الأستاذ حسني إدريسي، مع ذلك، لا يطمئن إلى هذا التطور الإصلاحي ويحذرنا من «أن يظل الفكر التاريخي ضعيف الحضور في درس التاريخ، بالرغم من إصلاح المناهج الدراسية سنة 2002. فلكي يمارس هذا الفكر في الفصل الدراسي، ينبغي مراجعة أشياء كثيرة: البرامج الدراسية، والكتب المدرسية، وشروط عمل المدرسين والتلامذة… وقبل ذلك كله، تكوين الأساتذة تكوينا أساسيا ومستمرا ينمي لديهم إدراكا واضحا للأسس الإبستيمولوجية لديداكتيك الفكر التاريخي»[5].
ج. البعد الثالث تجريبي
اقتضى هذا البعد اتباع بروتوكول تجريبي على عينة من ثلاث نيابات (سطات، آسفي، الخميسات)، من خلال استعمال الطرق الكمية والإحصائية الوصفية والاستدلالية للبرهنة على صلاحية النموذج الديداكتيكي. وانطلاقا من كل ذلك قدم اقتراحات نظرية وعملية مستخلصة من نتائج التجريب الميداني.
هكذا تتلخص أركان وقوة العمل في التمفصل بين الركن النظري والركن التشخيصي والركن التجريبي العملي والاقتراحي. لقد عنون الأستاذ مصطفى حسني إدريسي المجزوءة التي قام بإنجازها على أساس النموذج الديداكتيكي بحيث اتخذت عنوان: “مجزوءة تعلم الفكر التاريخي”، ولم يعنونها مجزوءة “تاريخ المغرب في القرن السادس عشر” مثلا، ذلك أنه لا يتعلق الأمر فقط بموضوع تاريخي له أهميته في الإسطوغرافيا المغربية، ولكن بتعلم ما هو أهم، وهو الفكر التاريخي الذي سيستثمره في هذا الموضوع بالذات وفي أي موضوع تاريخي آخر.
لقد كانت المجزوءة مبرمجة في أربع حصص، كل حصة دامت ساعتين: حصة خصصت للتقديم النظري للنموذج الديداكتيكي، وثانية للإشكالية، وثالثة للتعريف، ورابعة للتفسير، أي ثماني حصص في المجموع. وتطرح برمجة المجزوءة خلال هذه الحصص السؤال التالي: إذا أردنا أن نُدَرس التاريخ باستعمال المقاربة المجزوءاتية (المعمول بها جزئيا في التعليم الثانوي التأهيلي)، فإنه ينبغي أن نعيد النظر في المناهج، من زاوية الملاءمة بين الموضوعات والقضايا التاريخية من جهة، والحصص الزمنية المقترحة من جهة أخرى. فقد صرح الباحث في بداية المجزوءة أن “الهدف ليس هو المعلومات، بل هو الفكر التاريخي.” يكفي إذن أن ندرس تلامذتنا قضايا وموضوعات، مهما كان عدد هذه القضايا قليلا، باستثمار منهجية الفكر التاريخي عبر المقاربة المجزوءاتية، لكي نرسي معالم الفكر التاريخي عندهم بدل أن نشحنهم بدروس ووحدات كثيرة، غارقين في جزئيات المعارف والوقائع والأحداث التاريخية بدون تعلم الفكر التاريخي. فالرهان هنا لا على المعطيات والمعلومات والوقائع والأحداث التاريخية وعدد الدروس والوحدات بل على التعلم النوعي الذي يركز على المنهج. هذه هي الأهمية المنهجية للتعلم المجزوءاتي. يضاف إلى ذلك أن التعلم المجزوءاتي يتيح ما يسمى بالتعلم الذاتي، فالتلميذ هو الذي سيشتغل، في حين يقتصر دور الأستاذ على التوجيه.
إن إشكالية الكتاب ورهاناته، انطلاقا من الأسئلة التي وجهت مساره الفكري والإنتاجي، مازالت مطروحة إلى اليوم، ومن المفيد تعميقها مع جماعة الديداكتيكيين والأكاديميين في إطار تجسير علاقات التعاون والتواصل في هذا الباب. من جملة هذه الأسئلة، نعرض ما يلي:
- بأي مفاهيم يتهيكل الخطاب التاريخي؟
- بأي خطوات وبأي مسلكية فكرية ومنهجية يتم الوصول إلى المنتج التاريخي؟
- كيف نضمن تنقيلا رزينا ورصينا للمعرفة التاريخية إلى جمهور المتعلمين(ات)؟
- كيف يمكن أن نحدث تغييرا وتحولا في التمثلات السائدة حول التاريخ نحو التمثل الإيجابي باستبعاد التمثل السائد الذي ينظر إلى التاريخ على أنه مادة للحفظ والاسترجاع؟
بهذه الأسئلة كانت للكتاب عدة رهانات:
الرهان الأول هو إحداث نقلة نوعية في فهمنا للفكر التاريخي، علما أن الفهم السائد تنتابه مجموعة من الثغرات. ولا شك أن الكتاب يشكل فرصة ومناسبة لتوضيحها وتجاوزها، وهذا هو الجهد النظري للباحث مصطفى حسني إدريسي، الذي حاول أن يلملم ويجمع ما تفرق في المراجع والمصادر، وأن يُوجِز ما هو مفصل، وييسر قراءة ما هو عسير، ويبسط ما هو معقد، في هذه المصادر والمراجع. وهذا ما نطلق عليه، في حقل الديداكتيك، بتقليص الكلفة الذهنية. هذا المجهود، مع مجهود ترجمته إلى اللغة العربية، يستحق صاحب الكتاب التنويه عليه.
الرهان الثاني هو إحداث النقلة النوعية في الدرس التاريخي من درس معلومات إلى درس منهج، من درس يهيمن عليه الأستاذ(ة) إلى درس متمركز حول المتعلم(ة)، من غلبة وظيفة شحن الأذهان إيديولوجيا إلى غلبة الوظيفة الفكرية النقدية المُؤسِّسة للوعي والمواطنة الواعية بالتغيير.
الرهان الثالث هو عبارة عن تحدٍّ رفعه المؤلف، ويتعلق الأمر بتنقيل المعرفة التاريخية إلى المتعلم (ة) دون تسطيحها، وهو تحد ساهمنا فيه مع المؤلف باعتبارنا يومئذ مفتشين ذوي معرفة بواقع الفصل الدراسي والبيئة المهنية التي يُدرَّس فيها درس التاريخ، -أي حين كانت الأطروحة تشرف على الانتهاء ويتهيأ صاحبها للتجريب- فقد كنا نسهم في إبداء الرأي فيما يخص المرحلة التاريخية الانتقالية المدروسة في المجزوءة، وهي مرحلة تمحورت حول الانتقال من الدولة الوطاسية إلى الدولة السعدية، وما أصعب المراحل الانتقالية في التاريخ بحثا أكاديميا وتدريسا؛ لأنها تحمل في ثناياها العديد من الصعوبات وإمكانية السقوط في منزلقات معرفية وعلمية وديداكتيكية.
-
مقاربات متداخلة ومتكاملة في إنتاج هذا الكتاب
إن المقاربات المعتمدة في الكتاب تنتظم في توليفة متكاملة ومتداخلة مؤَسَّسة على قاعدة نظرية صلبة. ثمة مقاربة تشخيصية لأجل الفهم والتفسير، اللذين يندرجان، في لغة البحث، ضمن ما يسمى بالبراديغم الوصفي (paradigme descriptif).
حاول المؤلف، من خلال هذا البراديغم الوصفي، أن يلخص واقع الممارسة التدريسية، انطلاقا من الحوامل الأساسية لهذه الممارسة، بالإضافة إلى الكتاب المدرسي، واستثمر لذلك تقارير المفتشين؛ ذلك لأنه لم تتح له إمكانيات المشاهدات الميدانية فاستعاض عن ذلك بوسائط غير مباشرة، وكان من واجبنا أن قدمنا عينة من تقارير المفتشين ليقوم بتحليلها، والتي قام، انطلاقا منها، برصد ملامح الدرس التاريخي في التعليم الثانوي التأهيلي، وكيفية تدبيره داخل الحجرات الدراسية. كل هذه المعطيات كانت ضرورية لبناء رؤية تشخيصية وموضوعية على أساسها كان التدخل من أجل التطوير.
إضافة إلى ذلك فالبراديغم المعتمَد يهم البحث التدخلي، ونحن نعتبر الشق الديداكتيكي في الكتاب بمثابة بحث تدخلي من أجل تغيير نموذج قائم، وتعويضه بنموذج جديد، وهو ما يسمى بلغة البحث التجريبي بـ: “استراتيجية تجريبية”، لها بروتوكول صارم، حرص الباحث المؤلف على تطبيقها، فجمع في ذلك بين المقاربة الكيفية والمقاربة الكمية، وبذلك كانت مقاربته مزدوجة تكتسي طابع المتانة والقوة.
أما بالنسبة للسيرورة المنهجية، فهي ذات وجهين؛ الأول يرتبط بالخطوات المنهجية المتمحورة حول الإشكالية والتعريف والتفسير والتركيب، والثاني يرتبط بمنهج عام هو “الفرضي الاستنباطي”. واقتضت هذه المقاربة أولا صياغة الإشكالية التي تبنى عليها فرضيات، هذه الفرضيات تستهدف التمحيص في التعريف، وفي التفسير نقدم الجواب عن تلك الفرضيات التي تم تمحيصها.
إن المثال الذي تم اختياره لاختبار هذه الفرضيات، تمحور حول “تاريخ المغرب في بداية القرن السادس عشر”، الذي قُدِّمت بصدد إشكاليته ثلاث فرضيات: فرضية أولى حول ضعف السلطة المركزية، وفرضية ثانية حول الاحتلال الأجنبي، وفرضية ثالثة حول تنامي دور الزوايا. فضعف السلطة المركزية كحدث مثلا يقدم كفرضية وليس كواقع: ولذلك يكون الانطلاق من دراسة الوثائق أولا، ثم بعد ذلك تعريف الأحداث وتفسيرها بهدف التحقق من صحة الفرضية، وهو ما يعني أن أسلوب التعلم هنا ليس تلقينيا، إذ لا يتم التقرير بأن ثمة سلطة مركزية ضعيفة، بل تقدم المسألة على أساس أنها فرضية فقط تحتاج إلى تمحيص من أجل تأكيدها أو نفيها أو تعديلها. هذه الممارسة تدفع في اتجاه الانطلاق دائما من الأحداث والوقائع، المستخرجة من الوثائق، باعتبارها فرضيات لا حقائق ثابتة. متى نُثْبتها أو ننفيها؟ من الأكيد أن ذلك يتم عند الانتهاء من تحليل الوثائق وتعريفها وتفسيرها، وهو ما تم القيام به.
ثمة فقرة في المجزوءة التعلمية تم فيها استحضار الإطار النظري، خاصة فيما يخص البحث عن الاحتمالات التي كان من الممكن حدوثها ولكنها لم تحدث. في هذه الحالة يناقش الأستاذ مع متعلميه الفرضيات الممكنة، والتي لم تتحقق! إذ ما أكثر الفرضيات في التاريخ التي كانت ممكنة ولكنها لم تتحقق. وهي ممارسة ذهنية اشتهر بها ماكس فيبر Max Weber؛ إذ حسب هذه الممارسة الذهنية، لكي تعرف عاملا معينا هل هو حاسم أم لا، في تفسير أحداث تاريخية معينة، نقوم بحذف أحد العوامل الافتراضية من سيرورة الأحداث، وننظر إلى هذه السيرورة، هل ستستمر الأحداث بوتيرة ونسق محددين أم أنها ستتأثر بحذف العامل، وإذا بقيت الأحداث بنفس الوتيرة ولم تتأثر بحذف العامل الافتراضي فمعنى هذا أن العامل غير مُفسِّر، أما إذا تغيرت وتيرة الأحداث نظريا فالعامل مُفسِّر.
مجمل القول إن الجانب الافتراضي الاستنباطي حاضر بقوة ضمن سيرورة المنهج التاريخي، ولذلك يمكن القول إن الكتاب قد يُقرأ بالمزاوجة بين مقاربتين متكاملتين: مقاربة الفكر الفرضي الاستنباطي ثم مقاربة الفكر التاريخي.
يقدم المؤلف الوثيقة التاريخية كأساس لبناء المعرفة التاريخية، طيلة مسار المجزوءة، إذ التاريخ هو الاشتغال على الوثيقة، ثم يوجه المتعلم نحو المطلوب بعد ذلك بشكل واضح. أما المطلوب فهو عبارة عن أسئلة تبدو دقيقة وواضحة وسلسة وبسيطة ومتدرجة من ما هو بسيط إلى ما هو أكثر تعقيدا. وتُقدَّم أجوبة المتعلمين في جداول موضوعة ومحددة لهذا الغرض، أو في شكل تعابير لفظية ونصية.
-
قيمة مضافة نظرية وعملية ووعي بالحدود؛
- القيمة النظرية والعملية والتجريبية والمنهاجية
يمكن تقديم القيمة المضافة للكتاب كالآتي:
نظريا
المؤلَّف في مضمونه العام هو حفر في الأصول النظرية للفكر التاريخي وتوضيح لدلالات رصيد مفاهيمي من داخل منهج التاريخ وفلسفته وعلاقته بالعلوم الإنسانية، ناهيك عن عرض الجدالات الإبستيمولوجية والتموقف النظري منها، إذ لم يكن المؤلف يقف عند حدود عرض تلك الجدالات، وإنما يعمد إلى إبراز موقفه والدفاع عنه. كما دافع المؤلف عن التاريخ بالمفهوم والتاريخ الإشكالي، بكل الوسائل التي تؤدي إلى عقلنة الفكر التاريخي وعقلنة النظرة إلى التاريخ. وهذا ما جعل الأستاذ عبد العزيز الطاهري ينعته بــ”محامي التاريخ الإشكالي”، في قراءته للكتاب، بل لقد اعتبر الأستاذ عبد العزيز الطاهري التاريخ الإشكالي الكلمة المفتاحية التي تساعد على فهم التصور المنهاجي. إن التاريخ الإشكالي باب من أبواب تنمية الفكر النقدي لدى المتعلمين، والانفتاح على الآخر والوعي بالانتماء الهوياتي من خلال النهل من الذاكرة، بل بالقدرة على اختيار هذا الانتماء.[6]
يبدو من المهم أيضا التأكيد على أهمية الإحالات المرجعية الغنية والمتنوعة والمستجدة، فضلا عن استحضار أمثلة من النصوص الإبستيمولوجية التي نجدها داخل الكتاب على شكل مقاطع محاطة بإطار، وهي مقاطع اقتطعها المؤلف من مصادرها نظرا لأهميتها المعرفية والمنهجية والاستغناء بها عن تحليلات كثيرة. وهي طريقة تستهدف التعود على قراءة النصوص المنهجية والإبستيمولوجية وفهمها من داخل لغتها وعدم الاكتفاء بالخلاصات والتراكيب التي يقوم بها مؤلفون آخرون. على أن الاعتماد على هذه المرجعيات الأصيلة والعميقة لم يكن ترصيفا للمعلومات والأفكار بل تم ضمن معالجة نقدية وإبداعية تنم عن هضم وفهم عميقين لهذه المرجعيات، فضلا عن التقديم المبسط الذي يدخل في إطار السهل الممتنع. على سبيل المثال، فبصدد المفهمة استعرض تصنيفات مؤرخين ومنهاجيين سابقين، وانتهى بعد ذلك إلى اقتراح تصنيف خاص به أكثر هيكلة وأكثر تركيبا.
عمليا
تبدو القيمة العملية للكتاب في كونه يُمَكِّن الممارسين من المفاهيم الإجرائية القابلة للاستعمال في كل محاولات النقل الديداكتيكي، فهناك ترسانة مفاهيمية إجرائية: كرونولوجيا، التحقيب، المدة، مفهوم المجتمع، المكان، الخ. أضف إلى ذلك التشريح الديداكتيكي لخطوات النهج التاريخي (التعريف، التفسير، التركيب). وثمة أيضا مقولات منهجية في لغتنا البيداغوجية تعتبر بمثابة كفايات نوعية ((compétences spécifiques، ومن خلالها يمكن أن نشتق مصفوفات للتعلم التاريخي Matrices d’apprentissage de l’historique وكلها مشروحة بلغة ديداكتيكية، وهذه قيمة أخرى، لأن المؤلف، وهو يكتب، يحمل هاجسا ديداكتيكيا؛
بحثيا وتجريبيا
ثمة حضور للرؤية البحثية التجريبية، والمعالجة الإحصائية، والطريقة المميزة في قراءة النتائج وتأويلها من خلال الانفتاح على مصادر أخرى. لقد سلك الأستاذ حسني إدريسي بروتوكولا تجريبيا صارما للتثبت من فرضياته، كما أنه بنى استنتاجاته على دراسة إحصائية لم يقتصر فيها على الإحصاء الوصفي بل استعان بالإحصاء الاستدلالي للكشف عن الدلالات الإحصائية للفروق بين المجموعتين التجريبية والضابطة حتى يتمكن من إثبات أهمية ودور النموذج الديداكتيكي في إحداث التغيير المطلوب فكريا عند التلاميذ.
بيداغوجيا
تتمثل الأهمية البيداغوجية في محاولة أجرأة التعلم الذاتي، لأن المصوغة المقترحة تدفع في اتجاه أن المتعلم(ة) هو الذي يُنجِز، وأن مهمتنا باعتبارنا ممارسين هي التيسير والترشيد والتوجيه وتوفير شروط الإنجاز (conditions de réalisation( على عدة مستويات: الوثائق، التعليمات، الهندسة والترتيب والتدرج؛ ذلك أنه إذا أردنا للمتعلم(ة) أن ينخرط في التعلم الذاتي فلا بد من توفير تلك الشروط وما يتصل بها من إجراءات منهجية مُيَسِّرة للتعلم. لقد كانت استفادتنا من هذا المنتوج في بدايته كبيرة وهي استفادة متواصلة مع انتشار تجربة الكتاب إلى فاعلين متعددين ومتنوعين.
منهاجياCurriculaire
يكتسي المنتوج قيمة أخرى في هذا الباب، فإذا كانت أطروحة الباحث امحمد زكور في مادة الجغرافيا تشكل مصدرا أساسيا في حقل التأليف هذا، على الرغم من أنها بقيت مرقونة في مكتبة كلية علوم التربية ولم تنشر، فإن أطروحة مصطفى حسني قد شكلت نبراسا في مادة التاريخ، من خلال وضع مخططات الدروس وفق خطوات المنهج التاريخي ومفاهيمه المهيكلة وأسسه الوثائقية.
- وعي بالحدود
من سمات الباحث الرصين أن يعترف بحدود عمله، والباحث مصطفى حسني إدريسي في هذا المقام خصص لذلك الصفحتين: 311 و312، فذكر جملة من الحدود يمكن عرضها على النحو التالي:
في الشق التشخيصي: لم يقم بتشخيص معمق للكتب المدرسية، خاصة الكتب الأولى من الجيل الجديد، كما اكتفى بفحص غير مباشر للممارسة التدريسية، ولم يعتمد استبيانا لرصد آراء الأساتذة (ات) والمتعلمين(ات).
في الشق التصوري البيداغوجي: لم يتطرق لنظريات التعلم السوسيو-بنائية وقتئذ باعتبارها تعكس قفزة نوعية في مجال نظريات التعلم. فضلا عن ذلك، لم يمنح حيزا للعلاقة بين اللغة والفكر في التاريخ، باعتباره قضية تحتاج إلى حيز بحثي أخر لإيلائها حقها من الاهتمام.
- امتدادات مرتقبة لهذا الإنتاج
يعتبر الوعي بالحدود بحد ذاته فرصة سانحة لفتح مسالك جديدة للبحث. وبناء عليه، يمكن التفكير في قضايا كبرى للنحت فيها، من خلال تشجيع الطلبة الباحثين أكثر، لخوض غمار تجارب بحثية من قبيل:[7]
– الأشكلة في التاريخ؛
السؤال الديداكتيكي؛
المعرفة المبنية؛
تمثلات ومواصفات أستاذ مواد الاجتماعيات؛
مواصفات مفتش مواد الاجتماعيات؛
مواصفات مؤلف منهاج التاريخ؛
ديداكتيكية النهج الفكري للتاريخ على قاعدة المفاهيم المهيكلة للخطاب التاريخي؛
ديداكتيكية الدعامات التاريخية في تخطيط التعلم وتدبيره وتقويمه؛
ديداكتيكية الكتاب المدرسي تصورا وإنتاجا واستعمالا؛
مقاربات قابلة للتوظيف في تعلم التاريخ: المقاربة التعاطفية أنموذجاEmpathie ؛
درس التاريخ وكفاية الأداء اللغوي الكتابي؛
البحث في المنهاج؛
البحث في الممارسات والتمثلات؛
البحث في العمليات الفكرية الأساسية في الدرس التاريخي…
خلاصات
مجمل القول إن مرجعيات الكتاب هي مرجعيات صعبة القراءة، فقراءتها وتبسيطها من طرف الباحث هي في حد ذاتها جهد كبير معتبر. أما هيكلته فينتظم فيها الجانب النظري في “المثلث”، الذي جَسَّد به خطوات الفكر التاريخي. ضمن المثلث يمكن التساؤل: لماذا تحتل الإشكالية وسط المثلث؟ لماذا جاءت الوثائق أسفل المثلث؟ ما وضع المفهمة …؟ هذه كلها قضايا ينبغي أن تُشرح وتُوضح لكي يتم استيعابها من طرف من يطبق هذا النموذج الديداكتيكي. زد على ذلك متانة التعبير، ذلك أن الأستاذ حسني إدريسي، يتحرى الدقة في التعبير، بحيث إن الجملة التي يكتبها يفكر في كلماتها كل كلمة على حدة، وفي معناها ودلالتها.
وختاما، يمكن القول إن قراءة هذا الكتاب مفيدة لكل دارس ومدرس للتاريخ وللبحث التاريخي؛ فهو ليس محاولة ديداكتيكية في تدريس التاريخ فحسب، بل هو طريقة في تعليم كيفية البحث، إذ يجمع بين التدريس والبحث فضلا عن كونه طريقة في التعلم الذاتي.
كل هذه المسالك للتفكير والبحث فتح شهيتها هذا الكتاب الذي يعتبر ثمرة جهد، يستحق صاحبه كل التنويه والتقدير والإجلال.
——————————
[1]Mostafa Hassani Idrissi, Pensée historienne et apprentissage de l’histoire, L’Harmattan, 2005.
[2] مصطفى حسني إدريسي، الفكر التاريخي وتعلم التاريخ، دار ابي رقراق، الرباط، 2021.
[3]الفكر التاريخي وتعلم التاريخ، ص. 11
[4]الفكر التاريخي وتعلم التاريخ، ص. 145-168
[5]الفكر التاريخي وتعلم التاريخ، ص. 186-187
[6] عبد العزيز الطاهري، “الأسس الإبستيمولوجية والديدكتيكية لتجديد درس التاريخ في المغرب. قراءة غي كتاب تعلم التاريخ“، أسطور، العدد 15، يناير 2022، ص. 224.
[7] استعراض هذه المشاريع البحثية تم بناء على معايشتنا لحاجات الميدان فيما يخص واقع تدريس المادة وتعلمها.