– فاتحة الطايب، الوطن- الأمة وأوروبا المسيحية في رحلة ابن بطوطة، دار الأمان، مطبعة الأمنية، الرباط، 2022.
ركّزنا تفاعلنا مع الفصل الثاني من الكتاب لطرحه بعض العناصر المثيرة للنقاش، خاصة أن من بين اهتماماتنا لدى اشتغالنا على النصوص الرحلية: قضية الألقاب.
بدءا سنوجز أفكار المؤلفة المتعلقة بالخلافة ثم نتفاعل معها. ويمكن أن نلخص أفكار المؤلفة في العناصر الآتية:
ــ نص الرحلة معبر بشكل كبير على طموحات أبي عنان.
ــ كانت السلطة المرينية تعمل جاهدة على تحقيق طموح توحيد “المغرب الكبير” إيمانا منها بالمشروع الذي بدأ في عهد المرابطين ووصل ذروته في عهد الموحدين (ص. 16).
ــ تأكيدا لتميز موقع المغرب السياسي خص ابن بطوطة في رحلته أبا الحسن علي بن سعيد (1297-1351م) بلقب أمير المؤمنين من دون سواه من ملوك الدنيا وعظمائها، كما أن ابن بطوطة فضّل خلع صفات “المولى الأعظم الإمام الأكرم أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين على أبي عنان فارس (1329-1358 م)”، وأيضا وصفه بأنه عالم الملوك وواسطة عقد الخلفاء العادلين” (ص. 29).
ــ « يحيل توظيف لقب أمير المؤمنين ذي الأبعاد الخليفية، فضلا عن صفة الإمام المقدس، في حق سلاطين المغرب في رحلة ابن بطوطة إلى قوة المغرب في علاقته بالمشرق» (ص. 30).
«بالرغم من أن الخليفة العباسي أبا العباس أحمد المستظهر بالله (1078-1118م) قد قلد يوسف بن تاشفين (1006-1106 م) الولاية، فإن السلطان المغربي الذي حمل آنذاك لقب أمير المسلمين لأول مرة في تاريخ المغرب الإسلامي، تصرف في أثناء فترة حكمه باسم “ناصر الدين” مثلما يتصرف الأباطرة، فأصبحت الأندلس ولاية مرابطية ابتداء من 1103 م. ومن منطلق نصرة الدين حمل ابنه علي بن يوسف بن تاشفين لقب أمير المسلمين، عند توليه السلطة، فلقب أمير المؤمنين بعد أن ذاع صيت قوة الإمبراطورية »(ص. 31). وأحالت المؤلفة على تعليق التازي في الجزء الأول (ص. 150، هامش 5).
ــ توظيف ابن بطوطة لآلية المقارنة لتأكيد بأن المغرب ــ بلده ــ ينصر الإسلام وخاصة في مملكة غرناطة مما جعل ابن بطوطة الممتلئ بإحساس الانتماء إلى دار الإسلام يمتلئ بإحساس انتمائه إلى البلاد الشريفة من زاوية الاعتقاد في قدرتها على استرجاع وحدة العالم الإسلامي (ص. 34-35).
ــ خلص ابن بطوطة إلى اعتبار المغرب في عهد أبي عنان القطب والمركز، أي الوطن – الأمة، مثلما يتضح من تلقيب السلطان المغربي في الرحلة بخليفة الله في الأرض (ص. 35-36).
ــ وفي هذا الإطار خصص ابن بطوطة حيزا كبيرا لذكر فضائل السلطان أبي عنان تأكيدا لأحقيته في الخلافة وقدرته على توحيد صفوف الأمة الإسلامية (ص. 40-41).
لا شك أننا متفقون على أن رحلة ابن بطوطة كما صاغها ابن جزي عكست جزءا كبيرا من طموحات أبي عنان خاصة والمرينيين عموما، وهذا ما أصبح واضحا في كثير من الدراسات التي تناولت الرحلة، بيد أننا نختلف مع المؤلفة في طبيعة ما حاولت الرحلة عكسه من خلال التركيز على صفاته كخليفة وأمير المؤمنين. والتي ترددت في بعض صفحات الرحلة؛ من بينها العبارات الآتية: «لكن الزاوية التي بناها مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين وكهف الفقراء والمساكين، خليفة الله في أرضه القائم من الجهاد بنفله وفرضه أبو عنان أيد الله أمره، وأظهره»[1]. وكذلك: «وإن بلغت الغاية من الإتقان والحسن، فكلها تقصر عن المدرسة التي عمرها مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله المجاهد في سبيل الله عالم الملوك واسطة عقد الخلفاء العادلين أبو عنان» (نفسه، ص. 132).
وجعلت الرحلة عموما صفات أبي عنان تفوق غيرها مما لحكام الأرض: «ثم سافرت عن تازي، فوصلت يوم الجمعة في أواخر شهر شعبان المكرم من عام خمسين وسبعمائة إلى حضرة فاس، فمثلت بين يدي مولانا الأعظم، الإمام الأكرم، أمير المؤمنين، المتوكل على رب العالمين، أبي عنان، وصل الله علوه، وكبت عدوه. فأنستني هيبته هيبة سلطان العراق، وحسنه حسن ملك الهند، وحسن أخلاقه حسن خلق ملك اليمن، وشجاعته شجاعة ملك الترك، وحلمه حلم ملك الروم، وديانته ديانة ملك تركستان، وعلمه علم ملك الجاوة.» (نفسه، ج. 2، ص. 758)، بل لقد اعتبر أحد الحكام السبعة العظام، حين قال: «اسمه محمد أوزبك خان، ومعنى خان عندهم السلطان. وهذا السلطان عظيم المملكة شديد القوة كبير الشأن رفيع المكان. قاهر لأعداء الله أهل قسطنطينية العظمى، (…) وهو أحد الملوك السبعة الذين هم كبراء الدنيا وعظماؤها وهم مولانا أمير المؤمنين ظل الله في أرضه، إمام الطائفة المنصورة الذين لا يزالون ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة، أيد الله أمره وأعز نصره، وسلطان مصر والشام، وسلطان العراق، والسلطان أوزبك هذا، وسلطان بلاد تركستان وما وراء النهر، وسلطان الهند، وسلطان الصين» (نفسه، ج. 1، ص. 367).
نتساءل إلى أي حد فعلا تعكس تلك الصفات رغبة في حكم المغرب والمشرق؟
لا بد أن نلاحظ بدءا أن المرينيين استعملوا لقب “أمير المسلمين” قبل أبي عنان، ما يثير لدى الباحث سؤالين: لماذا افتقد المرينيون الجرأة على اتخاذ لقب آخر كلقب “أمير المؤمنين” أو “المهدي”؟ والسؤال الثاني: أليس في اتخاذ ذلك اللقب (أي أمير المسلمين) محاكاة ما للمرابطين؟
من المعلوم أن المرابطين اقتصروا على ذلك اللقب، على عكس ما ذهبت إليه الباحثة مسايرة للأستاذ عبد الهادي التازي؛ الذي ذكر في أحد هوامش تحقيقه للرحلة: «هذا وقد علق البروفسور جيب [Gibb] على نعت (الخليفة) الذي أضفاه ابن جزي على السلطان أبي عنان… بأن عددا من الأمراء انتحلوا لقب الخليفة بعد اختفاء الخلافة في بغداد عام 656 ه/ 1258 م. ويضيف إلى هذا أن أبا عنان هو الأول الذي تغلب على اللقب في عائلته. ونعتقد أن هذا الكلام يحتاج إلى تحرير أكثر دقة فنحن نعلم أن المغاربة لا يجدون كثير فرق في اللقب بالخليفة أو أمير المؤمنين أو أمير المسلمين، وقد وجدنا أن الأمير عليا بن يوسف بن تاشفين (ت 537 ه = 1427م) لقب بالخليفة وبأمير المؤمنين والمسلمين»[2]. ومن أجل التوسع أكثر فيما ذكره التازي ــ وهو مخالف لما هو معلوم عند الباحثين في التاريخ ــ كان علي الرجوع لما ذكره بشيء من التفصيل في كتابه عن التاريخ الدبلوماسي؛ فمما قال هناك: «ومن ثمت نرى بعضهم يجهد نفسه في البحث عن الفرق بين لقب “أمير المسلمين” الذي قنع ملوك المرابطين بالتحلية به من لدن الخليفة المستظهر، وبين “أمير المؤمنين” الذي اتخذه ملوك الموحدين شعارا لهم»[3]. مؤكدا على «أن المرابطين والموحدين وكذا بنو مرين… كانوا لا يشعرون بكبير فرق بين هذه الألقاب، ويدلنا على ذلك ما نجده من وثائق ومستندات معاصرة، فقد ورد في المعيار استفتاء “أمير المؤمنين” علي ابن يوسف بن تاشفين لفقهاء غرناطة حول الأملاك المحبسة على بِيَع النصارى، كما ورد اسم علي بن يوسف منقوشا في قباب جامع القرويين وقد حُلي بالخليفة وبالملك وبــ”أمير المسلمين”، كذلك، هذا إلى بعض النقود المرابطية المضروبة سواء بأغمات عام 489 ه/ 1097 م أو بغيرها وهي تحمل لقب أمير المؤمنين وأحيانا “أمير المسلمين”، وفيها ما ينعت الخليفة العباسي نفسه بأمير المسلمين » (نفسه، ص. 81). والحق يقال لقد استغربنا مثل هذا الكلام من رجل كرس عملا كاملا وفي أجزاء متعددة للتاريخ الدبلوماسي؛ فقد كان حريا به أن يلتفت لأهمية الألقاب وخطورتها في العلاقات الدولية، وكما جاء عند القبلي: « الواقع أن الألقاب قد عكست بأمانة توجه كل دولة كما عكست مرجعيتها الخاصة ضمن مجموع المسلسل الذي يجمع بينها »[4]. وبالنسبة لما احتج به دفاعا عن رأيه، فالنسبة للنقود؛ فليس الأمر كذلك، إذ أن الأمر يتعلق بلقب أمير المسلمين بالنسبة للأمير المرابطي، أما لقب أمير المؤمنين فهو خاص بالخليفة العباسي عبد الله المستظهر: فـ«على الظهر [من النقود كان]، يشار إلى سلطة الخلافة العباسية بعبارة الإمام عبد الله أمير المؤمنين »[5]. كما بينت مجموعة من الدراسات[6]. أما ما ذُكِر عن بضعة قطع فضية “شاذة” وردت فيها عبارة “المؤمنين”[7]، فهي ليست واضحة، ناهيك عن أن عبارة أمير المؤمنين لم تكن توضع إلا في الدينار الذهبي كما جاء في بعض الدراسات، ولا نريد أن نبحث عن مخرج للأمر بافتراض أنها نقود مزورة ولا بأنها ربما محيت منها عبارة “ظهير أمير”؛ كي تكون العبارة كاملة: “ظهير أمير المؤمنين” بل نقول إنه لا يمكن أن تحمل هذه القطع الفضية عبارة “أمير المؤمنين” وتنسبها لعلي بن يوسف في الزمن نفسه الذي نجد نقود علي تلقبه ب”أمير المسلمين” وتقصر لقب” أمير المؤمنين” على الخليفة العباسي.
أما ما جاء في معيار الونشريسي، فهي نازلة واحدة وقع فيها تصحيف من الناسخ؛ والدليل على ذلك أن النازلة ابتدأت كالآتي: «وها هنا مسألة تتعلق بالأملاك المحبسة على بِيَع النصارى وكتب بها أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين إلى الفقيه القاضي أبي القاسم أحمد بن محمد بن ورد وغيره من فقهاء الأندلس. نص كتابه – رحمه الله – من أوله إلى سلامه: من أمير المؤمنين وناصر الدين علي بن يوسف تاشفين» (المعيار، ج. 8، ص. 56). وقد نبّه محمد الشريف عند تحقيق كتاب أجوبة ابن ورد على هذا الخطأ بمقابلة ما جاء في المعيار مع نسخ أجوبة ابن ورد: «في المعيار (8/ 56) أمير المؤمنين وهو خطأ» (أجوبة ابن ورد الأندلسي، ص. 146، هامش 2 من هوامش التحقيق). وأكثر من ذلك لقد جاء على لسان ابن ورد في النازلة قوله: «ووجب أن يكون الكل راجعا إلى بيت المسلمين، ينظر فيه أمير المسلمين بما أراه الله (…) والمسألتان اللتان كتب بهما أبو بكر إلى أمير المسلمين أدام الله له التأييد والتمكين في القوم الذين أسلموا من أهل الذمة بإشبيلية » (المعيار، ج. 8، ص. 62). ما يؤكد أن الأمر مجرد تصحيف من أحد النساخ، وبالتالي فلم تصلنا في حدود ما نعلم أية إشارة مخالفة لما درج على معرفته المؤرخون وهو أن اللقب الذي التصق بعلي بن يوسف وبغيره من المرابطين هو “أمير المسلمين”.
أما عن الظروف التي دفعت المرينيين لمحاكاة المرابطين؛ فإن الأمر مرتبط بطبيعة بداية الحكم المريني؛ وفي هذا الإطار اضطلعت الإسطوغرافيا المرينية بدور أساس في محاولة خلع نوع من المشروعية على الحكم المريني فمما لوحظ على المؤلفين المحسوبين أو المقربين من البلاط المريني وعلى رأسهم الملزوزي حديثهم عن الدور “الإصلاحي” الذي اضطلع به المرينيون بعد “الفساد” الذي دبّ للموحدين وغرقهم في اللهو والمجون بعد معركة العقاب مشبهين إياهم بالملثمين/ المرابطين، في إطار سعيهم لإيجاد رابط بينهم وبين بلاد المغرب لإضفاء المشروعية على حكمهم لتلك البلاد[8]. في هذا الإطار برز اسم “عبد الحق” كجدّ للمرينيين، بل وردت إشارات عن تلقيب يوسف بن تاشفين بـ”عبد الحق” لدوره الإصلاحي في مواجهته لبربر برغواطة (نفسه، ص. 118). تَمّ خلع كل صفات الوَلاية على عبد الحق من قبل مؤرخي البلاط، وتمتيعه بـ”البركة”، كما لاحظ “ألفريد بل” (Alfred Bel) ووافقته على ذلك “شاتزميلر”[9]. بالإشارة إلى ما ورد في بعض نصوص الذخيرة، حيث جاء في أحدها: “وكان الأمير عبد الحق في قبائل مرين مشهورا بالتُّقى والفضل والدين، والصلاح والبركة واليقين، معروفا عندهم بالورع والعفاف”[10]. ولإيجاد موقع قدم في البلاد المغربية، في ظل غياب إشارات عن وجود المرينيين قبل “العقاب” بالمغرب تم تعويض الغياب بالحديث عن مشاركة خالد بن مَحْيُو في معركة “الأرك”، ووفاته بإقليم الزَّاب متأثرا بجروحه عقب مشاركته في الجهاد بالأندلس[11].
لنتساءل هذه المرة: ما هي الظروف التي سمحت لأبي عنان برفع السقف قليلا: والتلقُّب بأمير المؤمنين؟ لا يبدو أن الأمر مرتبط بالرغبة في التوسع نحو المشرق، فالأمر أكثر تعقيدا، ويكفي أن نلقي نظرة على تمثل مجموعة من الفاعلين لمفهوم الخلافة في هذه الفترة حتى نرى الأمور بشكل مختلف؛ فالخلافة لم تعد لها تلك الهيبة منذ أن سيطرت عليها الترك والبويهيون والسلاجقة إلى أن زال رسمها من بغداد بسبب التتار وأعادها جثة حية بيبرس في مصر… وبالرجوع لدراسة الباحثة حياة اعمامو عن “السلطة والشرعية في نظام الحكم الإسلامي المبكر”، وقد ناقشت فيها تطور مفهوم الخلافة وما اكتسبه من قداسة مع مرور الوقت، بما في ذلك ربط الخلافة بآل البيت النبوي مع العباسيين، كما أشارت إلى النقص في الشرعية الذي لازم الخلافة الأموية بالمشرق عكس العباسيين. وأبدت الملاحظة الآتية: “حري بنا في هذا السياق أن ننبه إلى اختلافات فهم العمق التيوقراطي للسلطة في أنحاء أخرى من العالم الإسلامي مثل الأمويين في الأندلس والأغالبة في إفريقية فضلا عن الأدارسة والرُّستميين وغيرهم الذين كان فهمهم لتيوقراطية السلطة أقل حدة وإيغالا في التأليه والعظمة من العباسيين والفاطميين”[12]. إذا كان هذا حال الخلافة مع العباسيين الأوائل، فإن الأمر اختلف بعد ذلك، إلى درجة أن العثمانيين وفي عز قوتهم لم تذبهم بعض رسوم الخلافة ليخلعوها على أنفسهم: فكما لاحظ توماس أرنولد الذي درس تطور الخلافة في العالم الإسلامي ف« لم يسم أحد من العثمانيين نفسه على نقوده خليفة أو إماما أو أمير المؤمنين »[13]. ولعل ابن بطوطة نفسه كان واعيا بالأمر حين قال: « وكان السلطان [سلطان الهند أيو المجاهد محمد شاه بن تغلق] قد بعث هدية إلى الخليفة بديار مصر أبي العباس، وطلب منه أن يبعث له أمر التقدمة على بلاد الهند والسند، اعتقادا منه في الخلافة فبعث إليه الخليفة أبو العباس ما طلبه مع شيخ الشيوخ بديار مصر ركن الدين. فلما قدم عليه، بالغ في إكرامه، وأعطاه عطاء جزلا. وكان يقوم له متى دخل عليه ويعظمه، ثم صرفه وأعطاه أموالا طائلة » (رحلة، ج. 2، ص. 523).
من جهة ثانية، في أدبيات المشارقة هناك عدم اعتراف بالخلافة المغربية، وظهر هذا من خلال ما قاله ابن فضل الله العمري: “وما لمغربي أن يقول كيف يُلبّس الشرق حلل الخلافة وتُعرّى منها معاطف الغرب وبها دولة الخلفاء من بني أمية وبني حمود وبني عبد المؤمن؟ فجوابه أننا لم نذكر إلا الخلافة المجمع عليها (…). إذ كل خلافة سوى المجمع عليها شذوذ”[14].
وأثناء قراءتنا لشرح ابن حجر العسقلاني (ت. 852 هـ) في كتابه “فتح الباري” لأحاديث الأحكام من صحيح البخاري صادفنا أثناء شرحه لحديث: “لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان”: «وكذلك ادعى الخلافة بنو عبيد وخطب لهم بمصر والشام والحجاز ولبعضهم بالعراق أيضا (…) وادعى الخلافة عبد المؤمن صاحب ابن تومرت وليس بقرشي وكذلك كل من جاء بعده بالمغرب إلى اليوم، والجواب عنه أما عن بني عبيد فإنهم كانوا يقولون إنهم من ذرية الحسين بن علي ولم يبايعوه إلا على هذا الوصف، والذين أثبتوا نسبتهم ليسوا بدون من نفاه، وأما سائر من ذكر ومن لم يذكر فهم من المتغلبين وحكمهم حكم البغاة فلا عبرة بهم. وقال القرطبي: هذا حديث خبر عن المشروعية أي لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقرشي مهما وجد منهم أحد »[15]. وأضاف: «ثم تسمى بالخلافة من قام بقطر من الأقطار في وقت ما فتسمى بالخلافة وليس من قريش كبني عباد وغيرهم من الأندلس، كعبد المؤمن وذريته ببلاد المغرب كلها، وهؤلاء ضاهوا الخوارج في هذا ولم يقولوا بأقوالهم ولا تمذهبوا بمذهبهم، بل كانوا من أهل السنة داعين إليها » (نفسه، ص. 127). بل حتى لقب السلطان صار عند أحدهم وهو خليل بن الشاهين الظاهري حكرا على مصر: « وخلاصة القضية أن في الحقيقة لا يطلق لفظ سلطان إلا لصاحب مصر، نصره الله، فإنه أعلى الملوك وأشرفهم لرتبة سيد الأولين والأخرين، وتشرفه من أمير المؤمنين بتفويض السلطنة له على الوجه الشرعي بعقد الأربعة أئمة»[16]. وغير خاف حكاية يعقوب المنصور الموحدي مع صلاح الدين الأيوبي: على هامش عدم استجابة يعقوب المنصور الموحدي للاستنجاد صلاح الدين الأيوبي« ولم يحصل من جهة سلطان الغرب ما التمس منه من النجدة، وبلغني أنه عز عليهم كونه لم يخاطب بأمير المؤمنين على جاري عادتهم »[17].
مما سبق استبعدنا أن تكون لأبي عنان طموحات التوسع في المشرق. فالأمر مرتبط بظرفية مغاربية ودولية فصّل فيها المؤرخ محمد القبلي، ــ وهي قراءة لها أهميتها ولكنها طبعا تبقى قراءة من بين قراءات أخرى؛ لذلك وجدنا القبلي يتساءل: «ما الغاية من هذه الثنائية الملغومة على وجه التدقيق؟ وما معنى التشبث بمظاهر العظمة دون القيام بأي إنجاز وازن أو تدخل حاسم بالمنطقة؟ (…) هنالك واقع المعسكرات والانتماءات القبلية. بمعنى أن أهم أنصار أبي عنان ينتمون إلى معسكر الأشياخ وعلية القوم ممن خالفوا أبا الحسن بحكم تفضيلهم الخلو إلى الراحة والتمتع بفوائد الغزو وهم قعود غير معنيين بالتعبئة المتواصلة والصراعات المتجددة التي قد تدفعهم للذوبان طبقا للمنظور الوحدوي الزناتي كما ارتآه السلطان الهالك، ويبدو أن المثل الأعلى لهذه الشريحة الاجتماعية قد تمثل في نوع من الهيمنة المربحة القائمة على تسخير الوسائط والأعوان المحليين (…) أي في النهاية بهيمنة مشفوعة بالتراجع العسكري والاكتفاء بالتمركز أساسا ببلاد المغرب الكبير، وعمليا بمجال المغرب الأقصى أو بلاد الغرب حسب التسمية السائدة يومئذ، وذلك بالإضافة إلى بلاد مغراوة وبني زيان»[18].
فمن خصائص هذه الظرفية:
ــ إن الإبقاء على الوحدة المجالية رهين بالنسبة لدرجة التحكم في الشبكات الطرقية الواصلة بين ما وراء الصحراء وأوروبا؛ أي إن مشروع الوحدة المجالية بالمغارب يظل رهينا في النهاية ببلاد الواحات، وحسب القبلي، «فالظاهر أن هؤلاء البدو قد أصبحوا مصدر إزعاج مقلق للحكم المريني ابتداء من منتصف القرن الرابع عشر للميلاد على الأخص، وذلك بسبب تفوقهم العددي وما ترتب عليه من تطاول واحتكار صعب الحد منهما من غير شك» (نفسه، ص. 202).
ــ « ازدياد الطلب على المعدن النفيس وتفاحش خصاص هذه الضفة لمادة الذهب: من هنا أتى التوتر الملاحظ في سياسة البلاط المريني: لقد كان أبو عنان موزعا بالفعل بين الحيطة والحذر وبين الاندفاع نحو التوسع بهدف مضاعفة الربح واستغلال الظرفية الماثلة وراء البوغاز، وبعبارة أخرى، فلقد كان بوده أن يغتنم الفرصة المتاحة بالشمال من جهة؛ ومن جهة أخرى، فإنه كان يعمل جاهدا على تجنب كمائن الجنوب نظرا لما سبق أن ذكر حول مقاومة الأعراب وردود الأشياخ من بني مرين (…) والنتيجة أن هذا السلطان سوف يحاول أن يتحكم في مسار التبادل بين الضفتين دون أن يبتعد عن مقر حكمه، أي الجناح الغربي لبلاد المغارب »(نفسه، ص. 202).
من هنا أهمية لقب “أمير المؤمنين”: فحسب القبلي: «وقبل كل هذا، سوف يكون على العاهل المريني أن يتحلى بلقب أمير المؤمنين، وذلك بغرض اكتساب الأهلية الخاصة الممهدة لمراقبة كل هذه المناطق بالدرجة الأولى؛ إذ هي مناطق يصعب التحكم في مختلف أطرافها الصحراوية والإفريقية بدون سند شرعي» (نفسه، ص. 203). ومما يعكس ما سبق إرسال أبي عنان لابن بطوطة إلى السودان وقلة الاهتمام بقضايا بالأندلس (نفسه، ص. 204).
ونختم بملاحظات سريعة: ورد عند ابن بطوطة الآتي: «وكان ارتحالي في أيام أمير المؤمنين وناصر الدين المجاهد في سبيل رب العالمين (…) الإمام المقدس أبي سعيد ابن مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين (…) الإمام المقدس أبي يوسف ابن عبد الحق، جدد الله عليهم رضوانه» (رحلة، ج.1، ص. 30). وهذا على خلاف المعروف، فلم يلقب سلف أبي عنان بلقب “أمير المؤمنين” مما يعكس انخراط جزء من الرحلة في الدعاية المرينية تماما مثلما فعلت باقي الإسطوغرافيا المرينية وخلطها عند حديثها عن ألقاب المرينين[19]. ويكفي أن أبا عنان في مراسلاته الرسمية لم يدع هذا: ففي رسالة تضمنت اقتراح أبي عنان الصلح على ملك أراغون ربيع الثاني 751 ه نقرأ: «من عبد الله فارس أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين، ابن أمير المسلمين أبي الحسن، ابن أمير المسلمين المجاهد في سبيل الله رب العالمين أبي يوسف بن عبد الحق»[20]. علما أن من جاء بعد أي عنان نفسه حاول أن يزيله عنه هذا اللقب؛ ففي رسالة تحدثت عن إعادة فتح تلمسان في عهد السعيد ابن أبي عنان 10 جمادى الأولى سنة 760 ه نقرأ: «من عبد الله أبي بكر السعيد أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين، أبي عنان» (نفسه، ج. 4، ص. 103). وعلق عليها الأستاذ أحمد عزاوي قائلا: «هذه إشارة إلى تراجع السعيد عن لقب الخلافة الذي اتخذه أبو عنان وهو (أمير المؤمنين)» (نفسه، ص. 103، هامش 3).
أخيرا مما يدعم عندنا فكرة غياب أطماع “عنانية” في المشرق؛ هو طبيعة الإستوغرافيا المرينية التي حصرت اهتمامها في مجال ضيق؛ فقد عمد المؤرخون المرينيون إلى الاقتصار على التأريخ “للمغرب الأقصى”.
———————–
هوامش
[1] – شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي بن بطوطة، رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، الجزء الأول، تحقيق، علي المنتصر الكتاني، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1975، ص. 59.
[2] – شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي بن بطوطة الطنجي، رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، الجزء الأول، تحقيق، عبد الهادي التازي، أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، 1997، ص. 150، الهامش 5 من هوامش المحقق.
[3] – عبد الهادي التازي، التاريخ الدبلوماسي للمغرب من أقدم العصور إلى اليوم، المجلد 1- المقدمة، مطابع فضالة، المحمدية، 1986، ص. 81.
[4] – محمد القبلي، الدولة والولاية والمجال في المغرب الوسيط: علائق وتفاعل، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1997، ص. 108.
[5] – «وتظهر في الاستدارة من وجه الدينار المرابطي، الآية القرآنية (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (سورة آل عمران، الآية 85). وينعت الأمير بــ”أمير المسلمين”. وعلى الظهر، يشار إلى سلطة الخلافة العباسية بعبارة الإمام عبد الله أمير المؤمنين».
دانيال أو سطاش، تاريخ النقود الإسلامية وموازينها في المشرق وبلاد المغارب من البدايات إلى الآن، ترجمة، محمد معتصم، اعتنى بنشره، عمر أفا، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بالرباط، الرباط، 2011، ص. 75.
قارن مع عاطف منصور محمد رمضان، الكتابات غير القرآنية على النقود الإسلامية في المغرب والأندلس، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 2002، ص. 54-56، 58. محمد ولد داداه، مفهوم الملك في المغرب من انتصاف القرن الأول إلى انتصاف القرن السابع: دراسة في التاريخ السياسي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1977، ص. 113. حسين مؤنس، سبع وثائق جديدة عن دولة المرابطين وأيامهم في الأندلس، مكتبة الثقافة الدينية للنشر والتوزيع، [مصر]، 2000، ص. 14-15. (قطعة نقدية منذ عهد أبي بكر بن عمر سنة 451 هـ فيها الإشارة للخليفة العباسي).
[6] – محمد باقر الحسيني، «نقود المغرب والأندلس: دراسة تحليلية للكنى والألقاب»، المسكوكات: مجلة علمية تبحث في المسكوكات، العددان 12-13، 1981-1982، ص. 109.
Daniel EUSTACHE, Corpus des monnaies Almoravides, Bank Al-Maghrib, Éditions Okad, Rabat, 2017, p. 197. Hanna KASSIS, «Notas historicas sobre las monedas de los Almoravides», in, I Jarique de estudios numismáticos hispano-arabes, Institución Fernando El Católico, Zaragoza, 1988, p. 57.
[7] – حسن حافظي علوي، «جوانب من تاريخ المرابطين من خلال النقود»، المناهل، السنة الثانية والعشرون، العدد 56، شتنبر 1997، ص. 364.
EUSTACHE, Corpus, pp. 197-198.
[8] _ MAYA SHATZMILLER, L’Historiographie mérinide : Ibn Khaldūn et ses contemporains, éd. J. Brill, Leiden, 1982, p. 117.
قارن بـ: « من المعلوم أن اللقب الملوكي الذي تبناه المرينيون ليس إلا صيغة معدلة للقب الذي أن أطلقه الخليفة العباسي على أمراء الدولة المرابطية في نهاية القرن الخامس للهجرة أو الحادي عشر للميلاد (…) قبل أن يخطوا خطوة أخرى نحو الاستقلال إيديولوجيا عن عقيدة الخلافة المؤسسة للحكم الحفصي، وذلك بواسطة الانتماء علنا للمذهب السني السائد آنئذ لدى أهل المغرب والأندلس » ـ محمد القبلي، المجتمع والحكم والدين بالمغرب في نهاية “العصر الوسيط”، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2017، ص. 176، هامش 1.
[9]_ مايا شاتزميلر، “إسلام البادية وإسلام المدينة: العامل الديني على عهد المرينيين”، ترجمة، عبد العزيز بل الفايدة ومحمد الغرايب، ضمن، محمد الغرايب وآخرون (تنسيق)، السلطة والفقهاء والمجتمع في تاريخ المغرب، الائتلاف والاختلاف: أعمال تكريمية مهداة للأستاذ أحمد عزاوي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية القنيطرة، مطابع الرباط نت، الرباط، 2013، ص. 151.
_ ALFRED BEL, «Les Premiers émirs mérinides et l’islam», in, Mélanges de géographie et d’orientalisme offerts à E. F. Gautier, Arrault et Cle, Maîtres Imprimeurs, Tours, 1937, p. 37.
[10] _ علي ابن أبي زرع؟، الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، 1972، ص. 30.
[11] _ محمد صدقي، موقع الشرف في التجارب السياسية والمذهبية لدول عصر الوسيط (من 317هـ / 929م إلى 759هـ / 1358م)، الجزء 2، رسالة لنيل دكتوراه الدولة في التاريخ، جامعة أبي شعيب الدكالي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية الجديدة، السنة الجامعية 2016 – 2017، ص. 356. (مرقونة).
[12] – حياة اعمامو، السلطة والشرعية في نظام الحكم الإسلامي المبكر، ضمن، الصادق بوبكر (تقديم)، السلطة وهاجس الشرعية في الثقافة الإسلامية، [كتاب جماعي من تأليف، حياة اعمامو، لطفي عيسى، ومنصف التايب]، تقديم، الصادق بوبكر، دار أمل للنشر والتوزيع، صفاقس، 2005، ص. 34.
[13] – توماس أرنولد، الخلافة: تاريخ الحضارة الإسلامية حتى آخر العهد العثماني، ترجمة، محمد شكري العزاوي وغانم النقاش، دار الوراق للنشر، بيروت – لندن – بغداد، 2016، ص. 124.
[14] – أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري، في الإنصاف بين المشرق والمغرب: قطعة من “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”، تحقيق، زينب طاهر ساق الله، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2004، ص. 163.
[15] – أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، الجزء 13، تحقيق، محب الدين الخطيب، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه، محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة السلفية، القاهرة، ط. الثالثة، 1407هـ، ص. 126.
[16] – خليل بن شاهين الظاهري (ت. 873 هـ)، زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك، تحقيق، عمر عبد السلام تدمري، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت، 2011، ص. 169.
[17] – أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي الشافعي (ت. 665 هـ)، مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، تحرير، محمد بن حسن بن عقيل موسى الشريف، دار ابن كثير، دمشق – بيروت، 2007، ص. 320.
[18] – محمد القبلي، المجتمع والحكم والدين بالمغرب في نهاية “العصر الوسيط”، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2017، ص. 195-196.
[19] – Ahmed KHANEBOUBI, Les Premiers sultans mérinides 1269-1331: Histoire politique et sociale, L’Harmatan, Paris, 1987, p. 98.
[20] – أحمد عزاوي، الغرب الإسلامي (خلال القرنين 7 و8 هـ)،دراسة وتحليل لرسائله، الجزء 3- الفعالية المرينية في الغرب الإسلامي (731-759 ه/ 1331-1358 م)، مطبعة الرباط نيت، الرباط، 2007، ص. 294.