Muhsin J. al-Mussawi, Arabic poetry. Trajectories of modernity and tradition, London/ New York, Routledge, Studies in Middle Eastern Literature, 2006
يدور هذا الكتاب حول المسار الذي اتخذه الشعر العربي في مراوحته بين التقليد والحداثة، مركزاً بالأساس على لحظات التوتر والقلق التي تظهر في الشعر العربي عندما تتعرض هويته للأزمة، ودور الشعراء في مواجهة ذلك. يتوقف الكتاب طويلاً عند اللحظات الحرجة التي تجمع بين خاصيتي الزمان والمكان، أو بالأحرى الوقوف عند الفضاء المتقاطع الذي يتطلب من الشاعر أن يبرز ذاتيته التي سرعان ما تتحول في الشعر المعاصر إلى ذات جماعية أو ذات موضوعية تتجاوز الذات الخاصة إلى ما هو مشترك وعام. ولذلك حاول الكتاب أن يتقفى ظهور الشعراء في علاقتهم مع المحلي والقومي والعالمي.
ولعل أهم ما يلفت النظر في هذا الكتاب هو دقة تتبعه لمسار الشعر والشعراء بحثاً عن المواقع التي يتداخل فيها الشعري بالمكاني، وهو تداخل عرفه التقليد الشعري العربي وورثه الشعر العربي المعاصر، فبقي يتردد دائماً بين الماضي الموروث بكل ثقافته، وبين الحاضر المشبع بما قدمه الآخر الأوروبي المتنوع والمختلف في ثقافاته وتجديداته أيضاً. فالجمع بين عبق الماضي وقوته ونسقه الفكري واللغوي، وبين إغراءات الحاضر المنفتح على شتى الاحتمالات هو الذي أعطى لهذا الشعر قوته الآتية من بعيد، وغرابته التي يضفيها عليه هذا الحاضر المعقد. وهكذا حاول المؤلف أن يدرس المكونات الثقافية المركبة من ثقل الماضي وجماليته وقيمه، ومن تلوينات الحاضر وثقافته الجديدة المختلفة والمتنوعة. والشعر في النهاية يتطابق مع هدف الثقافة، ويعبر عن الثقافة العربية بشكل أعمق أكثر من أي جنس أدبي آخر. أَلَم يكن الشعر ديوان العرب دون سواه من الفنون؟
ولمعالجة هذا الإشكال الشعري المركب في تاريخيته وثقافته ومكوناته وممارساته وتقاليده، اتخذ المؤلف المنهج الموضوعاتي سبيلاً لتحقيق ذلك. فتعرض في البداية للقضايا والمفاهيم التي تخص التقليد في الشعر العربي المعاصر، وكيف تعامل الشعراء الذين ساهموا في تكوين هوية هذا الشعر مع ذلك التقليد. فبين كيف لجأ هؤلاء الشعراء إلى التقاليد القديمة، وكيف تعاملوا مع الاستراتيجيات التقليدية في مختلف تجلياتها لترسيخ نسبهم الشعري في المنظومة الشعرية العربية. وكان الهدف من تلك الاستراتيجيات هو إثبات الهوية الشعرية عن طريق فتح باب المناقشات والحوارات مع الشعراء القدماء، وكذا استحضارهم لترسيخ مكانتهم الشعرية من جهة، واستدراج القارئ بتلك المرجعيات التي لها اعتبار لدى هذا القارئ من جهة أخرى.
وهنا يتوقف المؤلف عند ما يسميه “باللحظة المكثفة القوية”، أو اللحظة المتوترة التي تعتبر في نظره صلة وصل بين الحداثة والتقليد. وهي لحظة يتولد عنها وضع مفارق؛ أو وضع يجمع بين النقيضين. وهو وضع لا يعبر عنه المصطلح التبسيطي القائل بالأصالة والمعاصرة، لأن الوضع المفارق وضع مركب نتج عنه وضع واحد، ولم ينتج عنه وضع ثنائي يتجاور فيه القديم مع الحديث. ولهذا كان هذا الوضع المفارق وضعاً معقداً ومعرضاً للارتداد والانفلات في نفس الوقت. وقد ترتب عن تلك الوضعية المكثفة والمتوترة ظهور ما يسميه المؤلف “بالأوطان النصية” التي جسدتها صور المنفى. وهي صور تشكل الجزء الأكبر من الشعر المعاصر. ويرى أن هذه الأوطان النصية جديرة بالدراسة، وتستلزم الوقوف عندها والكشف عن أبعادها. ذلك أن الشاعر يعتبر في هذه الحالة مستودعاً لتذكّر الزمن القديم، ولكنه تذكر غير مُحَمّل بالضرورة بإيديولوجية خمسينيات القرن العشرين لأنها كانت تمثل في نظر المؤلف مرحلة ساد فيها المبدأ الأسطوري الذي رسخه الشاعر الأنجلو- أمريكي ت.س. إليوت.
يحاول الكتاب في الفصل الأول أن يقدم المفاهيم والحركات المتعلقة بالشعر العربي، ويستعرض في نفس الوقت التصورات النظرية للشعرية المعاصرة من خلال البحث العلمي العربي والأجنبي المعاصر، موظفاً كل ذلك في تفكيك الشعرية العربية. وقد وجد المؤلف أن هذه الشعرية المعاصرة بإنجازاتها النظرية والفنية قد ساعدت على مواجهة سيطرة اللغة الجافة، وتقويض المرجعية الجامدة، والاستكانة للجمود، والرجوع إلى الوراء، ومن ثم تقوية علاقات السلطة وتجذرها. لذلك تطرق المؤلف إلى نسب الشعر ودواعي الرجوع إلى البعث الكلاسيكي وصوره القديمة، أملاً في خلق نسب شعري جديد. غير أن مثل هذا التصور، وإن كان يضع اليد على دواعي الرجوع إلى الماضي في أواخر القرن التاسع عشر بشكل خاص، فإن التغاضي عن الوضعية الشعرية في زمن النهضة ووضع العالم العربي والإنسان العربي المغلوب على أمره آنذاك، أمام الزحف الخارجي الاستعماري الأوروبي على أرضه وممتلكاته وعلى هويته وكيانه، يجعل مثل هذه الرؤية قاصرة عن إدراك مختلف دواعي الرجوع إلى الماضي. ففي الرجوع إلى الماضي في أزمنة النهضة العربية المختلفة، باختلاف ظهورها في الأقطار العربية وفي الثقافة العربية، استرجاع لقوة المواجهة واسترجاع للهوية وجعلها منغرسة في التاريخ العربي والتاريخ العربي الإسلامي.كما أن فعل الرجوع إلى الماضي هو فعل التزود بالقوة التي ضيعتها قرون الانحطاط، وكذا ربط الحاضر الضعيف بالماضي القوي. وفي الفصل الذي ناقش فيه المؤلف مسألة ” التقليد-الحداثة صلة وصل في الشعرية العربية”، بين كيف تم التقاء الشعرية العربية التقليدية بالحداثة منذ القرن التاسع عشر، وكيف تجاوب الشعراء مع حداثة ذلك الوقت. ثم ينتقل المؤلف إلى مرحلة الخمسينيات من القرن العشرين التي عرفت توظيفاً لتصورات جديدة وجودية وأسطورية وشعبية وملحمية. فناقش في هذه المرحلة استراتيجية تعامل الشعرية العربية مع الأسلاف، تعاملاً يختلف عن تعاملها معهم في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. فوجد أن التقليد بدأ يهتز هنا ويتخلخل. وبدأ يفقد بريقه، بحيث لم يعد مقدساً، مع ما له من اعتبار وتقدير. لقد أصبح التقليد هنا موضوعاً للمناقشة وقابلاً لأن يعاد فيه النظر، من حيث تفكيكه والفرز فيه بين ما هو جدير بالتقدير وما هو غير جدير بذلك.
وبعد ذلك يتعرض الكتاب إلى ظهور الشعرية العربية الحديثة التي بدأت تعرف تعدداً في الخطابات واللغات والأجناس، وطرق القول الشعري، بعيداً عن الانسجام الصارم الذي سطرته الشعرية العربية التقليدية. وهنا يتوقف المؤلف عند ظهور ما يعرف “باختراق الأجناس” transgeneric الذي اعتمدت عليه الشعرية المعاصرة. وقد حاول المؤلف أن يبرز هنا دور سلطة النص في كسب تجاوب القارئ المعاصر. كما بين هنا كيف تقاطعت الشعرية الحديثة مع الشعرية القديمة، وما نتج عن ذلك من ظهور شعرية عربية جديدة غير منقادة للشعرية القديمة.
ولما كان المؤلف يتعامل مع الشعرية الحديثة في مختلف تجلياتها، فقد تعرض لمسألة هامة في هذه الشعرية، وهي المتمثلة في التعامل مع ما يعرف “بعتبات النص”؛ مثل الإهداءات، والمقدمات، والتمهيدات، والتذييلات، وكل ما يعرف بالنصوص المصاحبة للنص الأصلي. وبين دورها في تقوية الوظيفة الشعرية وسلطتها. فهي في نظره تقوي البعد التبادلي الذي يحدث بين الشاعر الجديد والشاعر القديم. فلم يكن استدعاء الشاعر الجديد للشاعر القديم إلا من أجل البحث عن نسب نصي لشعره في مسار الشعرية العربية، أو لاكتساب الشرعية الشعرية التي لا تتم إلا بوجود ذلك الارتباط النسبي بالشعرية العربية القديمة. وقد وجد المؤلف في الفضاء النصي مكاناً لفعل ذلك الترابط والتواصل، حيث يتم الحوار النصي والتركيب النصي. وهنا نلاحظ أن المؤلف قد وجد في سلطة الشعرية العربية القديمة مكانتها الدالة التي لم يستطع الشاعر المعاصر التغاضي عنها ولا الاستغناء عنها. وللمرء أن يتساءل هنا، لِمَ التهافت على هذا النسب الشعري القديم؟ وهل لم يستطع الشاعر المعاصر أن يخلق نسبه الشعري الخاص به؟ يبدو أن المؤلف يدرك جيداً قوة النسب الشعري القديم، لا كنسب فقط، ولكن كثقافة متجذرة في الوجدان العربي.
ويخصص المؤلف فصلاً كاملاً لشعرية المنفى، كتراكم للمنفي، والمتسكع، والمطرود، أو ما سمي ” بمعذب الحداثة”. وهنا يتوقف المؤلف عند أهمية التذكر في مواجهة النسيان الذي نجده في الشعرية الحداثية. ذلك أن المنفي هو جُماع لأزمنة والأمكنة التي تحول أصحابها، بتعبير محمود درويش في ديوانه “ذاكرة للنسيان”. فروح الحداثة هو التذكر لمقاومة النسيان والتدمير…
وقد تعرض المؤلف هنا إلى بعث المنفى، وتماهيات الشعرية الحديثة مع الغرباء والمنفيين، سواء مع غرباء الماضي أو مع منفيي الحاضر. فدرس هنا نصوصاً شعرية مهمة تجلت فيها تلك اللحظة المكثفة عندما يستحضر الشاعر المعاصر تجربة المنفى في الشعرية العربية القديمة والحديثة. وقد تحولت بعض النصوص الشعرية الخاصة بالمنفى إلى أوطان نصية تعوض الأوطان المفقودة أو المهجورة قسراً أو طوعاًً؛ مثل قصائد محمود درويش، ومظفر النواب، وسعدي يوسف، وغيرهم. ويمكن اعتبار هذا الفصل أيضاً، من الفصول الهامة والجديدة في البحث الشعري العربيّ، لأن مفهوم الأوطان النصية هو وليد الانجازات العلمية المعاصرة في الدراسات الأجنبية التي أدرك المؤلف أهميتها؛ نظرياً وعملياً، بحكم تعامله مع الآداب الأجنبية إلى جانب الآداب العربية، قديمها وحديثها. وهنا يعيد المؤلف الاعتبار للشاعر العراقي، عبد الوهاب البياتي، الذي اعتبره، إلى جانب محمود درويش، من الشعراء العرب المعاصرين الذين تنقلوا بين التقليد والحداثة بصورة مرهفة. كما اعتبر البياتي أحد أهم من استعمل التقليد العربي والثقافات الأجنبية الأخرى بشكل واضح، إذ كانت له تجربة فنية عميقة مع الأشكال الشعرية الجديدة المختلفة. ولذلك خصص له حيزاً كبيراً في دراسته.
لقد استدعى الحديث عن البياتي الحديث عن اهتمام الشعرية العربية الحديثة بالتجربة الشعرية الإنسانية الأخرى، وبخاصة تجربة الشاعر ت. س. إليوت، وأثر هذا الشاعر في الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، فحاول المؤلف أن يبرز تميز تجربة الشاعر العراقي البياتي مع إليوت، وعدم سقوطه في تقليدية فجة له. ولما كانت للبياتي تجربة غنية مع الشعرية الأجنبية، فإن المؤلف قد وجده يختصر تجربة اللقاء بين الشعرية العربية المعاصرة وبين شعرية القدماء والمعاصرين من الشعراء العرب والشعراء الأوروبيين وغيرهم.
ويتعرض المؤلف في الأخير إلى “شعرية الانحراف والتقلب”. وفيها يحلل ظهور وسقوط الشعرية، من حيث ظهور الأساليب واختفاؤها، وكذلك ظهور الأجناس الشعرية الجديدة المختلفة. وهنا استعرض ما عرفته التجربة الشعرية العربية الكلاسيكية، من خلال أبحاث أجنبية رائدة في هذا الباب. ومن أهم ما تعرض له هنا هو ما عرفه تاريخ الشعر العربي القديم من الانتقال من “شعرية الولاء” إلى ” شعرية التوسط”، ومدى تجاور هاتين الشعريتين، وكذا محاولة تغلب الأولى على الثانية.
كتاب الشعر العربي لمحسن الموسوي في النهاية، هو بحث جاد ومتنوع، استفاد فيه صاحبه من تجربته الغنية مع تاريخ الشعر العربي القديم والحديث، وكذا ما يتمتع به هذا الباحث الأكاديمي من تجربة غنية مع الآداب الأجنبية ألأوروبية، والأنجلو- أمريكية بالخصوص. فالكتاب يقدم للقارئ والباحث العربي خلاصة تجارب البحث الأجنبي الجاد في الدراسات الشعرية المعاصرة والشعرية العربية بشكل عام. ولهذا جاء الكتاب غنياً بالتصورات النظرية الجديدة المعاصرة التي تساهم في تطوير الدراسات الشعرية العربية، وتطوير طرق ومناهج البحث فيها.