الخميس , 14 نوفمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » نـدوات وملفـات » المؤلف، السارد، ابن بطوطة

المؤلف، السارد، ابن بطوطة

عند عتبة النص 

على أي نحو أجيز لنفسي الحديث عن مؤلف (بفتح اللام) كنت فيه الكاتب المؤلف (بكسر اللام)؟

      في النظر المألوف للعلاقة بين الكتابة والكاتب، بين النص وسارده، يبدو السؤال غريبا، إن لم نقل مستهجنا، بل ربما استوجب الاستنكار أيضا. يستدعي هذا السؤال النعوت الثلاثة (الغرابة والاستهجان والاستنكار) من جهة اتصاله بالذاتية، ذاتية الكاتب أو المؤلف وهذه الأخيرة تدخلنا في سراديب لا أحد يدري كيف يكون الخروج منها، فهي تغلفه بستار سميك يحجب عنه الرؤية ويحول بينه وبين النظر السديد والفكر المحايد. لا يملك الكاتب أن ينظر في النص الذي يمهره بتوقيعه نظرا يتوخى الفحص والتنقيب ومهما جاهد النفس في ذلك فإنه في فعله ذاك لا يخرج عن أحد حالين: حال المحاسبة السيكولوجية أو حال المحاكمة المعيارية-وربما اجتمع الأمران معا في واحدة. فأما الذي يملك حقا قدرة التساؤل عن العلاقة بين النص المكتوب وكاتبه، بين الكتابة والكاتب، فهو القارئ وليس الكاتب. نعم، تظهر في الساحة ذاتية أخرى لا سبيل الى إنكارها، هي ذاتية القارئ قارئا للنص فهو يحب ما يقرأ أو يكرهه، يشاطر الكاتب بعضا أو كلا مما يبسطه من رأي أو يعبر بواسطته عن رغبة أو حال وهو لا يكون في موقف الحياد الكامل أو اللامبالاة إلا في أحوال نادرة الوقوع. ومهما يكن من شأن العلاقة التي تقوم، بموجب النظر المألوف الى الكتابة والكاتب، فنحن نكون أمام ذاتيتين: ذاتية المؤلف، من جانب وذاتية القارئ، من جانب آخر وإذا كان كذلك فإن الكاتب يكون متمايزا عن القارئ وهذا الأخير هو بالنسبة إليه غير (كما يقول متكلمة الإسلام). بموجب النظرة المألوفة هذه فان الجواب المنطقي المقبول عن السؤال: على أي نحو أجيز لنفسي أن أتحدث عن عمل كنت فيه الكاتب؟ يكون بالضرورة نفيا. استنكار ونفي متى كنا نلتمس العمل بمعيار الموضوعية، في الدرجة الدنيا من إمكانها ومتى كنا نروم الحفاظ على المصداقية في القول والجدية فيما نقوم به من فعل.

غير أن هنالك، في مقابل ما ننعته بالنظر المألوف في العلاقة الثلاثية بين الكتابة والكاتب والقارئ، نظر مغاير هو ذاك الذي يمكننا منه درس المنهجية المعاصرة وما تعلق منها ببنية الخطاب ودلالات الكتابة والنص المكتوب. وما يقضي به هذا النظر المغاير هو أن الصلة بين الكاتب والنص المكتوب ليست على نحو ما يبدو عليه الأمر ولا العلاقة بين القارئ والكاتب تقوم على أساس الفصل والتمايز بينهما على نحو ما قد نتوهم. كل قارئ لنص مكتوب يكون، بموجب النظرة المغايرة التي نلمح اليها بالإشارة، شريكا في تأليف ما يقرأ. وفي مقابل ذلك فإن كل كاتب لنص من النصوص يغدو بدوره، بمجرد الفراغ من كتابة ما كتب، قارئا للنص، قارئ يصطف بجانب قراء آخرين فعليين وقراء آخرين غيرهم مفترضين. لا يعدو المؤلف، بالتالي، أن يكون صاحب “النسخة الأولى” من الكتابة كما يقول بورخيص -وتلك ميزة لا أحد يملك أن ينازعه فيها. وكل قراءة للنص، من قبل القارئ الفعلي أو الافتراضي، هي بالضرورة “نسخة جديدة” أو، بالأحرى، إعادة كتابة للنسخة الأولى. فإذا كان كذلك فإنني أغدو في وضع يعفيني من الإجابة بالسلب أو الإيجاب عن السؤال المطروح أعلاه لأنني، بحسباني صاحب النسخة الأولى من “سبع ليال وثمانية أيام”، أمتلك الشرعية في أن أكون قارئا للنص، قارئا يسعى إلى الحصول على مكان يصطف فيه بجانب قراء آخرين يحق لكل منهم أن ينتسب الى النص المكتوب، نص “سبع ليال…”، من جهة الكتابة والتأليف. لنقل إنني، مند الآن، أغدو قارئا للنسخة الأولى، قارئ يملك، مثل غيره من القراء، ادعاء الحق في شركة صاحب النسخة فيما مهر بتوقيعه.

 

مسائل ثلاثة يتعين علي، قارئا لنص سبع ليال وثمانية أيام، أن أحسم القول فيها وأنا أقف عند عتبة النص: المؤلف، السارد، ابن بطوطة. لا بد لي من قول في كل طرف من هذه الأطراف الثلاثة.

ليس لصاحب سبع ليال وثمانية أيام أن ينكر أن له في تأليف ما ألف شريك هو صاحب تحفة النظار في عجائب الأمصار وغرائب الأسفار. إن لم تكن الشراكة متحققة في نسج الحكاية وبسط الحوادث فهي، لا شك في ذلك، قائمة في الصور والمعاني. لا يكاد موضع في الرواية يخلو من حضور لجملة واحدة أو جمل من «تحفة النظار…)، إن لم يكن الحضور حضورا نصيا يستعيد العبارة كما هي في “التحفة”، فإنه، لا مراء في ذلك، حضور من جهة الوقائع، وإن قام صاحب سبع ليال بتحريفها. لا، ربما تعلق الأمر-أحيانا غير قليلة- بابتسار أو اجتزاء كلمات من جهتي البناء والمعنى معا وفي عبارة أخرى فان في “سبع ليال” تناص مع ” التحفة”. تناص هو من صلب “التأليف”. أليس التأليف، لغة، يفيد التوفيق وإعادة الترتيب على نحو من الأنحاء، هو النحو الذي يريده المؤلف؟ يحق لصاحب ” تحفة النظار”، ما دام الأمر كذلك، أن يزاحم صاحب “سبع ليال” في ملكية ما يحسب أنه له دون غيره. وأما من جهتي (= كاتب “سبع ليال وثمانية أيام”) فلست، منظورا الى الأمر من هذه الزاوية، أملك سوى الاكتفاء بطرح السؤال: من صاحب “النسخة الأولى” في النص موضوع النظر (سبع ليال وثمانية أيام)؟

نحن نقر إذن بالتعدد في ” تأليف” سبع ليال وثمانية أيام، فنحن نتحدث عن مؤلف هو ذاك الذي مهر الرواية بتوقيعه ونتحدث، في الآن ذاته، عن شريك له. شريك لا يعلن عن نفسه، وإنما هو يقحم في الشراكة إقحاما، وهذا الشريك هو ابن بطوطة. بيد أن هناك صعوبة في الإدراك تشوش علينا، صعوبة مصدرها هو السارد في “تحفة النظار”، والسارد في هذا المتن يدفع القارئ دفعا الى طرح أسئلة كثيرة أسئلة مقلقة ومتلاحقة. أسئلة تجعل ابن بطوطة المؤلف-الشريك في موضع الحيرة من قبل القارئ، بل إنها تثير لدى القارئ الشك والتردد فهو لا ينفك منهما.

كل قراء “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” يعلمون أن السارد في المتن المكتوب هو غير المؤلف. صاحب الرحلة والشخص الذي عاش أطوارها وخبرها بالفعل هو ابن بطوطة وأما السارد-المؤلف فشخص آخر غيره، نعرف اسمه ونعلم الصفة التي كانت له وهو يخط ما رواه أو نقله أو أملاه (فالأمر يتعلق بالأحوال الثلاثة: الرواية والنقل والإملاء). السارد في “رحلة ابن بطوطة ” هو ابن جزي الغرناطي، ولا إشكال في ذلك فالسارد-الكاتب يعلن ذلك في عبارة واضحة منذ أول الكتاب، غير أن الصفة التي كان بها   ابن جزي هذا مؤلفا   “يضم أطراف ما أملاه الشيخ أبو عبد الله(…) في تصنيف”، تستوجب الانتباه الى أمور تتولد عنها جملة قضايا وإشكالات تتصل بالسرد وحقيقة السارد. يقول ابن جزي إنه قد “صدر إليه الأمر العالي لعبد مقامهم الكريم” (الآمر هو السلطان المريني أبو عنان). وهو يضيف “ونفذت الإشارة الكريمة بأن يملي (= ابن بطوطة) ما شاهده في رحلته وما علق بحفظه من نوادر الأخبار…». ثم ابن جزي يعلن، في عبارة واضحة «ونقلت معاني كلام الشيخ أبي عبد الله بألفاظ موفية للمقاصد التي قصدها، موضحة للمعاني التي اعتمدها، وربما أوردت لفظه على وضعه فلم أخل بأصله ولا فرعه”.  وفي اعتراف يريد منه أن يكون إشهادا للناس على ما قام به وبالتالي تبرئة للذمة (كما يقال في لغة القانون) من حيث المضمون ومحتوى النص: ” ولم أتعرض لبحث عن حقيقة ذلك ولا اختبار”.

متى نظرنا، عن كثب، في دلالة “الأمر العالي” وسعينا الى تبين مغزى ” الإشارة الكريمة” فنحن نتبين في يسر أن مطلب السلطان لم يكن تدوين “رحلة شخصية”، هي الرحلة التي عاشها   ابن بطوطة باعتباره ذاتا مفردة بقدر ما كان ينشد الحكي الذي يكون المطلب الأسمى فيه هو الإمتاع، من جانب، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من الرحلة المحكي أطوارها من جانب آخر. في العملية كلها، كان الإنسان العيني، صاحب الرحلة، شخصا غير مفكر فيه ومن ثم فلا حرج في تغييبه ولا ضير في نزع صفة الذاتية عنه. هذه ملاحظة تستدعي الانتباه اليها، وهي – لا شك في ذلك – بالغة الأهمية متى تعلق الأمر بدراسة ” تحفة النظار” مستقلة عن “سبع ليال” وما يعنينا في مقامنا من النظر هو أن ندرك أننا في نص المؤلف-الشريك أمام مرجعيات ثلاث. المرجعية الأولى هي زمن الوقائع والصور كما عاشها ابن بطوطة قبل سنوات كثيرة، بدايتها الأولى ترقى الى خمس وعشرين سنة. المرجعية الثانية هي كلام ابن بطوطة وهو يسترجع من الذاكرة الصور والوقائع على النحو الذي اختزنت فيه في تلك الدائرة وعملت الأحوال النفسية وغيرها من العوامل الأخرى عملها في نحت تلك الصور وفي تخزينها في الذاكرة وكذا في ترتيبها على النحو الذي هي عليه (ذكريات تموج وتضطرب فيتغير فيها نظام الأمور في كل مرة تستدعى فيها تلك الذاكرة كلا أو بعضا). وأما المرجعية الثالثة فهي ابن جزي ” المصنف” أو ” المؤلف” الذي ” يؤلف ” بين الوقائع والصور على النحو الذي يرغب فيه ابن جزي ويعتقد أنه يقوم به وفقا لما يرسمه “الأمر العالي” وينتظر من ابن جزي أن ينجزه. وهذه ملاحظة ثانية لا يعنينا أمرها إلا من حيث صلتها المباشرة مع ابن بطوطة المؤلف-الشريك وليس ابن بطوط صاحب “تحفة النظار…”.

يبقى علينا، بعد ما عرضنا له في شأن كل من المؤلف والسارد، أن نقول شيئا بصدد ابن بطوطة.

كل المنشغلين بكتاب “تحفة النظار” (أولئك البطوطيون من مختلف المشارب) قد درجوا في الحديث عن صاحب الرحلة الأكثر شهرة بين شخصين اثنين يضمهما مسمى واحد: ابن بطوطة المفترى عليه، وابن بطوطة المفتري. الفرية صفة تلحق برحالة المشرق والمغرب في الحالين معا: في الحال التي يكون فيها منفعلا، يصيبه الفعل، والحال النقيض التي يكون فيها هو الفاعل للفرية المقترف للفعل. ومثلما انشغل البطوطيون بأمر العلاقة بين ابن بطوطة الراوي وابن جزي السارد-الكاتب، وقفوا كثيرا عند ابن بطوطة المفتري فهم يختلفون في ذلك اختلافا كثيرا بين من يجعل الفرية صفة ملازمة له، فهي بعض من ماهيته كما يقول مناطقة العرب، وبين من يجعله مرتكبا للفرية دون إرادة منه لذلك فهم يجتهدون له في التماس الأعذار (طول المدة، الالتباس الطبيعي في ذكر الأمكنة مع غياب التوثيق، مكر الذاكرة….).

لا يجد الآخرون الذين ينسبون ابن بطوطة الى الكذب المتعمد حرجا في إطلاق الأعنة لأقلامهم في الحديث عن ذلك الكذب. فهذا أبو البركات البغدادي يذهب في إلصاق تهمة الكذب بصاحب “تحفة النظار” ذلك مذهبا بعيدا، وهؤلاء آخرون يتشككون في وصول   صاحب الرحلة إلى كل الأصقاع التي يقول إنه قد وصل إليها، وهؤلاء غيرهم يعارضون وصف ابن بطوطة لبلاد تحدث عنها فبسط القول فيها (كما هو الشأن في الصين مثلا) بالصورة الجغرافية الفعلية لتلك الأماكن ليخلصوا إلى القول إن قَدم رحالتنا لم تطأ أرض الكثير من الأصقاع التي يتحدث عنها. ثم إن روس دان، وهو كما نعلم أحد كبار المنشغلين   بابن بطوطة وبرحلته من الباحثين المعاصرين، يلاحظ أن ابن بطوطة قد “زار عددا من المدن والمناطق مرتين أو أكثر وكانت طرقه تتقاطع أو تتباين أو تتداخل ” ليستنتج أن ابن جزي كان “يرى من المفيد أن يجمع أوصاف الأماكن في سياق زيارة ابن بطوطة الأولى) … ( فكانت النتيجة أن السرد جاء منسابا ولكنه خلق مشاكل معقدة للباحث الحديث الذي يحاول أن يتبين أين ذهب ابن بطوطة ومتى” ( مغامرات ابن بطوطة- دار توبقال للنشر،2020، الصفحة 366). غير أن ابن جزي، وقد كان في “افترائه” على ابن بطوطة متواطئا في ذلك مع السلطان المريني على نحو ما رأينا ذلك)، لم يكن الوحيد في ما قام به من عمل الحذف والإضافة. يضيف روس دان ” وقد نتصور أيضا أن ابن جزي أضاف بعض المقاطع دون معرفة ابن بطوطة بذلك كما لا يمكننا استبعاد تدخل نساخ متأخرين”. كل ذلك يحمل على طرح السؤال المتعلق بعدد الساردين في “تحفة النظار” وبمعرفة أسمائهم وحيثياتهم. كما أن هذه الكثرة المعترف بها من المتدخلين وبالتالي ” الساردين” تحمل على طرح السؤال الأكثر خطورة وهو: من هو إذن صاحب ” النسخة الأولى” في ” تحفة النظار”؟. أما ما يمكن الجزم به هو أن الأمر لا يتعلق، في الحقيقة، بصاحب واحد وإنما بأصحاب، بشركاء في” تأليف ” النسخة الأولى من رحلة ابن بطوطة.

الحق أن كل ما تقدم ذكره من تنبيهات وملاحظات تفيد في البحث العلمي، وكذا السؤالان المطروحان أعلاه، أمور لا تعني الروائي في شيء ولا تنال من نظرته إلى صاحب الرحلة لا شأن للروائي بالقيمة الإخبارية للرحلة فهو لا ينشد من الرحلة أن تمكنه من الحصول على مادة معرفية ولا يعنيه في شيء أن يكون ابن بطوطة مالكا لسلطة علمية أو خلوا منها. والحق أن ابن بطوطة المفتري، عن قصد واصرار، هو الأقرب الى الروائي من ابن بطوطة المفترى عليه. ليس من شأن الروائي أن يتقصى الصدق فيما يقوله صاحب الرحلة وليس يجد غضاضة في قبول القول الكاذب، فالصدق والكذب لا يعنيانه من حيث إنهما قيمتان نقيضتان لبعضهما البعض. أليس الروائي، في نهاية الأمر، شخصا يمارس الكذب؟ ألست أُعَد، بالضرورة، في زمرة المفترين على ابن بطوطة؟ أليس اقحام الفقيه الطنجي اللواتي في كتابة ” سبع ليال…” افتراء على الرجل؟ أليست السمة الأولى للافتراء عليه هي أن أجعل منه، دون إرادة منه، شريكا في بناء عالم من الرؤى والذكريات والهواجس، عالم لا قبل له به؟

 

  العالم قبل الكلمات

” ينبغي (حين الاقبال على كتابة الرواية) أن ننشئ العالم أولا ثم تأتي الكلمات بعد ذلك من تلقاء نفسها، تقريبا”. كذلك يقول أمبرتو إيكو ويكرر القول. نعم، لابد للرواية من عالم تسكنه، ولا بد للروائي من إنشاء ذلك العالم إنشاء. فما عالم “سبع ليال وثمانية أيام” إذن؟

عالمها هو عالم ابن بطوطة متخيلا ومعيشا. عالم “سبع ليال وثمانية أيام” هو عالم ابن بطوطة في صورتيه (المفتري والمفترى عليه) معا. عالم تتداخل فيه عوالم عدة، منها الحقيقي ومنها المتوهم، وتتقاطع الحقب والأزمنة لكن القاعدة، الأساس، تلك التي يكون منها المنطلق واليها الرجوع هي طنجة. علم ابن بطوطة أن مؤتمرا ضخما سيعقد في مسقط رأسه تخليدا للذكرى المائوية السابعة لميلاده. مؤتمر سينتظم فيه عقد مجموعة من الباحثين، اشتهر البعض منهم بانشغاله الطويل بتحفة النظار وبصاحبها فكانت له فيه دراسات وأبحاث قدمت في ملتقيات علمية في مناطق متنائية من العالم. والتزم بالحضور طلبة باحثون يشكل ابن بطوطة بعضا أو كلا من اهتمامهم العلمي. هو ذا ابن بطوطة، إثر مغادرته لميناء المدينة، يرتقي الدرج الذي يفضي إلى قلب المدينة. دهشة عارمة خامرته ومفاجأة عظيمة صادفته: يملأ بصره الشخص الذي صرف دهرا في البحث عنه. دلشاد أو القلب الفارح الدي استخلصه من محنة عظيمة سقط فيها وعرف أهوالا ومحنا امتدت ليالي سبع وأياما ثمانية فني فيها جسده وتعبت روحه حتى مثل أمامه دلشاد من عدم فأطعمه وسقاه وحمله فوق ظهره وغاب عن الوعي حتى إذا استرجع وعيه لم يجد صاحبه ولكنه ألفى نفسه قويا معافى. لم تعد الأهوال تتهدده                                                                                                    وقد سار على درب النجاة. كان أحد الأقطاب الصوفية الذين يؤثثون تحفة النظار قد نبأ ابن بطوطة أنه سيقع في ورطة وأن دلشاد (= القلب الفارح) هو الذي سيخلصه منها- وذلك ما كان بالفعل. هل كان من المفروض أن يحضر لدى ابن بطوطة ليخلصه في كل مرة يقع فيها في محنة من المحن؟ هل القلب الفارح-دلشاد هو المخلص المنقذ؟  ذلك ما لم يكن له به علم، وذلك كان هو الأمل الذي ظل يراوده عمره كله. غير أن ابن بطوطة إد يلاحق دلشاد ويتوسل إليه ليجيبه لا يعبأ به وإنما هو ينطق بكلام غريب في كل مرة يلقاه في هذا الموضع أو ذاك من طنجة. ينطق ولكن المتحدث يكون هو المجدوب سيدي عبد الرحمن، وتلك مسألة أخرى وخيبة أولى سيمنى بها ابن بطوطة في مسقط رأسه، ستتوالى بعده الخيبات وستحفر الحسرة في النفس أخاديد بعيدة الغور.

عالم “سبع ليال وثمانية أيام”، عالم ابن بطوطة في رحلته الجديدة الى المغرب قادما من حيث لا أحد يدري، عالم ترسم فيه المسالك وتعين الاتجاهات سلطانان، سلطان العشق بجبروته من جانب وسلطان الحسرة وقد كان للعشق رديفا آنا وطيفا خبيثا يطل برأسه ينشد تكدير الصفو، من جانب آخر.

العشق في “تحفة النظار” أصناف وصور من التعبير كثيرة ومتنوعة، فهو عشق للنساء وسعي لامتلاكهن، وهو عشق للطعام أصنافا وألوانا، وهو عشق للفرس، وهو عشق للجاه يسعى اليه وهو تعلق دائم الاتصال بأرباب الأحوال وتقص لأخبار الأوتاد والأقطاب- فعالمه مسكون بالأولياء وهم يتبادلون التحيا والرموز عن طرقه وبسبب تنقله الدائب في أصقاع الأرض. وهو عشق اكتوى بناره فلم يبرأ منه أبدا: عشق عاشورة، تلك المحبوبة التي أحالت كل الحرائر والجواري في عينيه سقط متاع، وإد ماتت حزن ومرض لموتها ثم كره المكوث في مكان واحد ولم يعد يجد للقصور وللجميل من المساكن ما يحببها إليه. صفى كل ما كان في حوزته من أملاك وتصدق ببعض ما نال من نقود ثم أمسك بعصا التسيار يبحث عن المعشوقين اللذين لم يعد في وجدانه مكان لغيرهما: القلب الفارح (= دلشاد) وقد أفلت من بين يديه، وعاشورة مالكة القلب وقد غابت الى الأبد وانتزعت الفرح من القلب. دلشاد /القلب الفارح وعاشورة اثنان في واحد لا يطفئ النار التي تشتعل من عشقهما ولا يلطف من غلواء تلك النار سوى الماء الذي ينزل من السماء، ماء ينشده في العشق الأبدي الأصلي: عشق السفر. سفر يضرب فيه في الفيافي والقفار والصحاري، وما أكثر ما سعى في تلك الصحاري صوب الماء عدوا، يحسب السراب ماء حتى إذا بلغه لم يجد شيئا- ولكنه لا يطوح بعصا التسيار وإنما هو يمسك بها بقوة ويتوكأ عليها في إصرار- وفي النفس حسرة.

سيعرف صاحب التحفة من الحسرة في طنجة، مسقط الرأس ومهوى القلب، ألوانا غريبة عديدة. حسرة على لقاء من المعشوق دلشاد فهو قد ازداد حيرة وشوقا الى مزيد تنقل وسفر- كما أمره بذلك: “سافر تعرف الناس”. حسرة من اجتماع قوم يفتشون في تجاويف رحلته عما كان مجهولا، وهو كذلك لأنه غير موجود. ويشرحون قوله وفكره، فهم يزيفون ما يقرؤن جهلا، لأنهم لا يحسنون تهجي الحروف وفهم الكلمات، أو ادعاء وافتراء، لأنهم يتوسلون بلوغ أهداف، آه ما أشد بعدها عما كان يدور في خلد الفقيه الطنجي اللواتي. وحسرة على دين ضيعه غال متشدد يضيقون على الخلق ويغلقون من أبواب الرحمة ما جعله خالق الكون مفتوحا على مصراعيه. وحسرة أخرى على دين أفسده شيطان يبتغي من ركوب مطية الدين متوسلا بالقتل والذبح. وحسرة ثالثة على دين شوه صورته أرباب الطرائق وجعلوا منه منفذا الى مكاسب ونوال أغراض معلنة وأخرى مستترة دفينة.

ألم يكن الحري بالمجدوب/دلشاد أن يقول لابن بطوطة ” سافر تعرف نفسك” بدل قوله ” سافر تعرف الناس”؟

يجد السارد في “سبع ليال وثمانية أيام” أن الكلام قد أدرك منتهاه فهو يقفل النص بقول ابن بطوطة مناجيا نفسه “غير أني ما عرفت الخلق يا دلشاد! لعلي كلما ازددت من الخلق قربا ازددت بهم جهلا”.

- سعيد بنسعيد العلوي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية-جامعة محمد الخامس بالرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.