*Antonio Calcagno, On Political Impasse: Power, Resistance, and New forms of Selfhood, Bloomsbury Academic, London, 2022.
صدر سنة 2022 كتاب للفيلسوف الكندي أنطونيو كالكانيو Antonio Calcango بعنوان عن الرَّدْب السياسي: السلطة، والمقاومة وأشكال جديدة من الذاتية، يعالج فيه مسألة العجز عن إحداث تغيير في الأنظمة القائمة. يعترف كالكانيو بأن ظاهرة الإحساس بالعجز السياسي ظاهرة قديمة، إلا أنها منذ العقدين الأخيرين أصبحت تشكل ظاهرة جديدة مختلفة عن سابقاتها، إذ يشير بشكل خاص إلى حركة احتلال وول ستريت التي حدثت على إثر الأزمة المالية في الولايات المتحدة سنة 2008 بدون أن تخلف أثراً يذكر. يعرف كالكانيو الرَّدْب (ويعني في المعجم الطريق المسدود الذي لا منفذ له) كوضعية سياسية تتسم بإحساس بفقد الأمل في قدرة الفعل على تغيير القمع المادي والإيديولوجي للنظام المهيمن الذي يشتغل خارج الأشكال المعروفة لحكم الدولة وسيادتها.
يعتبر كالكانيو أن الردب ظل موضوعاً مهملاً في الفهم التقليدي للسلطة السياسية التي كانت تُقرأ من خلال مسارين للتغيير: الإصلاح و الثورة، وغيابهما ظل يعتبر بمثابة حالة جمود مؤقت في انتظار انتصار حاسم لأحد الفرقاء المتصارعين. فالردب السياسي يشكل تحولاً عميقاً في مفهوم السلطة والبارادغمات المرتبطة بها، لأن الردب السياسي الذي يركز فيه كالكانيو بشكل خاص على الديموقراطيات، لا يمكن اعتبار الأفراد فيه كمحكومين أو خاضعين، وهم ليسوا بحكام، بالرغم من أنهم يشاركون بشكل كامل في الحكومة والمجتمع كمواطنين من خلال الحقوق التي يضمنها لهم القانون. إن الأفراد يوجدون في الردب السياسي عندما يكونون في وضعية مختلفة عن العلاقة التقليدية للسلطة التي تسمى الحاكم والمحكوم.
إذا كان الردب السياسي وضعية سياسية جديدة، غير مسبوقة، فبدائله تحتاج إلى تجاوز المفاهيم القديمة للسلطة السياسية ولآليات التغيير. ويرى كالكانيو أنه قبل البحث عن وسائل تغيير الأنظمة السياسية، هناك الحاجة إلى الذاتية، أي، فهم الذات، الذي يمكنه أن يثمر عن إمكانيات بديلة. ذلك أن التفاعل مع الردب يستدعي الخيال الذي يخلق صوراً وتخيلات بديلة جديدة. وهذه البدائل المتخيلة تولِّد أحاسيس تدفع إلى احتمالات حقيقية للفعل. ثم إن الأحكام التي نصدرها عن هذه الاحتمالات تسمح بالتمييز بين الخيارات الممكنة.
وترتبط هذه المكونات الثلاثة للذاتية: الخيال، والأحاسيس، والأحكام عند كالكانيو بـ”الإكيوسيس”، (oikeiosis)، وهو مفهوم يعني في معجم الرواقيين الانسجام مع الذات باعتباره البعد الجوهري لوجودنا في العالم. دعا إليه النيو-رواقي Justus Lipsius في كتابه On Constancy الذي صدر في نهاية القرن السادس عشر، في غمرة حروب الثمانين سنة، وسعى فيه إلى تقديم العزاء للذين عانوا من آلام الحروب، وساهم بذلك في ظهور الرواقية الجديدة. يخصص كالكانيو اهتماماً خاصاً لهذا المفهوم ولمؤهلاته كمصدر لتفكير بديل للتفاعل مع الردب السياسي. ويرى أن الإكيوسيس لا يتحقق بشكل تلقائي، بل يتطلب البحث المتواصل عن العلاقة بين التفكير الذي يدعو للفعل وبين الذات العميقة الخازنة لهذا التفكير. بالإضافة إلى ذلك، يعتقد أن الفكر وحده ليس كافياً لكي يقدم جواباً ملموساً وخلاقاً للردب. إن هناك الحاجة إلى الخيال الذي يسمح بتوسيع آفاق إمكانات جديدة تبرز عن طريق التفكير بشكل مختلف. كما أن هناك الحاجة إلى الحكم على قيمة هذه الإمكانيات للتمييز بينها حتى نتمكن من الخيار بين ما يمكن تبنيه وما يجب التخلي عنه. وأخيراً يطرح كالكانيو بُعد المشاعر في الردب السياسي الذي لا يُختزل في القيام بعمليات حسابية، ولا في الاستنتاجات والأحكام العقلانية، بل إن الردب هو أيضاً مشاعر. ويمكن لكل من التفكير الفلسفي والأحاسيس في زمن الردب أن يؤثرا فينا، ويدفعاننا إلى التفكير بشكل مغاير، وإلى تهدئة وترويض المشاعر الناتجة عن الردب، بل وإلى خلق إمكانات سياسية جديدة.
يشكل كتاب كالكانيو مساهمة جديدة، لكنها بدون شك، أكثر طموحاً على المستوى النظري في مقاربة الأزمات التي ما فتئت الديمقراطية تواجهها كفكرة وكممارسة في فترة ما بعد سقوط جدار برلين، حيث كان الاعتقاد السائد وقتها في وصول الديموقراطية إلى مرحلة الهيمنة على المستوى العالمي لتترسخ في الديمقراطيات الغربية، ولتشهد بقية البلدان عبر العالم مسلسلات الانتقال الديمقراطي. لكن هذا التصور الذي اختزله مصطلح “نهاية التاريخ” كان عمره قصيراً. فمع بداية القرن الواحد والعشرين، تراجع توماس كاروثرس (Thomas Carothers) الذي يعد من أبرز منظري الدَّمَقْرَطة، عن قناعاته بنشره سنة 2002 مقالا ًبعنوان “نهاية باراديغم الانتقال”. ولم يلبث التشاؤم من حاضر ومستقبل الديمقراطية أن امتد ليشمل الديمقراطيات التقليدية التي بدأت تشهد تنامي عدم الثقة في مؤسساتها والشك في نزاهتها، وتوظيف التكنولوجيا لنسف شروط الممارسات الديمقراطية بها، وتنامي السلطة السياسية للألغارشيات المتحكمة في دواليب سلطاتها. يضاف إلى ذلك بروز الشعبوية كتيار سياسي متعارض مع القيم المؤسِّسة للديمقراطية التقليدية. والوجه الآخر لأزمة الديمقراطية التقليدية يرتبط بعقم أشكال المعارضة والمقاومة التي ظلت تشكل طيلة تاريخ الديمقراطيات أدواتاً في يد المجتمع للحد من تحكم سلطة الدولة والنخب المهيمنة.
هذا هو السياق الفكري القاتم الذي مهد لأطروحة كالكانيو. لكن كالكانيو لا يتوقف عند أزمة الديمقراطية من خلال أعراض تبدو كتوجهات لا تمس ركائز الديمقراطية بشكل شامل، مثل “الديمقراطية غير الليبرالية”، أو “موت الديمقراطية” في بعض الدول عن طريق التلاعب بقوانين الانتخابات والاستخدام الفاسد للأموال. هذه التوصيفات لأزمة الديمقراطية تحتفظ بأملها في إصلاحات ممكنة، سواء من داخل الأنظمة السياسية، أو عن طريق تطوير أشكال المعارضة الساعية لإنقاذ الديمقراطية ومواجهة التيارات المتنافية معها. ويتبنى كالكانيو موقفاً أكثر راديكالية، لأنه لا يرى إمكانية لإصلاح الديمقراطية ولا لثورة تقدم بديلا لها. ولذلك فهو يدعو إلى التراجع عن ردود الفعل المتسرعة المؤسَّسة على باراديغمات الإصلاح والثورة المتجاوَزة بالنسبة إليه. فهو يعتبر أن التعامل مع الردب يتطلب وقفة تأمل داخلية لا ترتكز على مشروع مجتمعي، بل على مجهود ذاتي عبر الإكيوسيس. كما أنه لا يربط هذه الوقفة بتحديد زمني معين. ولذلك، فعوض قراءة فكرة كالكانيو كبرنامج سياسي، يمكن عدُّها مساهمة في مراجعة راديكالية شاملة لمفهوم السلطة السياسية في الديمقراطيات الغربية منذ العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، والتفكير انطلاقاً من ذلك في وسائل متجددة للمقاومة لا تضمن تحقيق نتائج آنية، بل تمهد لتصور بدائل غير معروفة بعد على آماد متوسطة أو بعيدة. ولذلك فإن الإكيوسيس الذي يقترحه كالكانيو هو وقفة تأمّل تقطع مع أشكال التفكير السياسي السائد، لكنه متفائل من أن الوقفة كما يصفها ستكون منتجة لسياسات أكثر فعالية.
إن مقاربة كالكانيو للردب السياسي تركز بشكل حصري على البلدان الديمقراطية، ولا تشير إلى حالة الأنظمة غير الديمقراطية، ولا نستشف منها مدى معايشة هذه الأخيرة مرحلة ما قبل الردب، حيث خيارات الثورة والإصلاح ما تزال مطروحة، أم أنها تعيش مرحلة ما قبل الردب، لكنها في نهاية الأمر تقود نحوه أو إلى حالة تماثله. كما أن الإكيوسيس الذي يعتبره كالكانيو ممارسة علمانية محضة في مجتمعات حداثية قد تجد في غيرها منابع لا تحقق الخيال الحداثي الذي توقعه كالكانيو، بل تقود إلى التأمل الذاتي المرتبط بالتقاليد، على غرار الصوفية مثلاً. ولذلك، فإن ممارسات تجربة الإكيوسيس، لا تضمن تحقق وعود كالكانيو في المجتمعات غير الديمقراطية، بل وفي غيرها أيضاً، مع التصاعد على المستوى العالمي للتيارات الداعية لحصر الإبداع والخيال والحريات.
ومع ذلك، تظل أطروحة كالكانيو في غاية الأهمية، فهي تعترف بالعجز في إحداث التغيير السياسي انطلاقا من ثقافة سياسية متوارثة، وتدعو إلى تفكير متجدد لا يتوقف على تكرار ممارسات سابقة أصبحت غير فعالة، بل على تفكيك راديكالي لمفاهيم السلطة والسياسة والمقاومة.