الأحد , 13 أكتوبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » دراســات » تدريس الأدب بجامعة المستقبل وجاذبية الانحدار

تدريس الأدب بجامعة المستقبل وجاذبية الانحدار

الأدب ممارسة متجذرة في الزمان والمكان والمجتمعات، وهو فعل تواصل واتصال مؤجّل، يربط الماضي بالحاضر والمستقبل، وينقل معارف معيّنة، إنه “خطاب يتوجّه إلى مخاطب تحدّده المصادفة”1. وبما أن الأدب يصوّر الفكر في حياة الإنسان، فإن مقاربته تتطلّب الأخذ بمعطيات العصر والمكان والمجتمع، أي بمختلف الحيثيات التي ترافق النصّ الأدبي، وبالتقنيات الجديدة التي يؤثر تطوّرها مباشرة في الاتّصال الأدبي، وبعلاقة الأدب بمختلف الحقول المعرفية الأخرى وبالمؤثرات الخارجية المتعدّدة. وانطلاقاً من كون الأدب مكوّناً من مكوّنات الحضارة الإنسانية منذ القديم، ويمسّ الشؤون الاجتماعية والتاريخية والفنية والفكرية، فإن الاعتناء به ظلّ، إلى حدود الآن، ضرورة ملحّة تتطلّب مجهودات كبيرة سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى المؤسّسات. فهل سيحافظ الأدب على مكانته في جامعة المستقبل في ظلّ الإكراهات الحالية والمتوقعة؟ وأين تكمن أهمّية تدريسه بها من الناحية المعرفية، والنفسية، والاجتماعية، والإنسانية؟ ثم ماهي المشاكل التي من المتوقع أن يصادفها القائمون على الشأن الأدبي بالجامعات في ظلّ التطوّرات التكنولوجية والرقمية التي غزت العالم وأصبحت تهدّد التعليم، والثقافة، والسلوك الفكري؟ وأخيرًا ماهي الحلول المقترحة؟

يعتبر الأدب مرآة المجتمع التي تعكس أفكاره وانشغالاته وتطلّعاته المستقبلية، والأديب مؤرّخ صادق وإن كان يستعمل عواطفه ورؤاه من أجل نقل تجارب الأمم والشعوب، والاطلاع على الحضارات السابقة وعلى قيمها ومرتكزاتها، وأيضاً على أفكار القدماء وأحلامهم وصراعاتهم ومشاكلهم، وذلك من خلال الاطلاع على الآثار الأدبية الخالدة وتذوّق ما فيها من جمال، وبالتالي الاستفادة من التجارب السابقة، وتجنّب العوائق التي تقف في وجه البشرية وتمنعها من العيش السعيد، على اعتبار أن الأعمال الأدبية تحيا دائماً ضمن سياق وفي حوار معه، وتحكي عن الأوضاع البشرية وتطوّراتها مثلما يحكي عنها علماء النفس وعلماء الاجتماع وغيرهم، ممّا يؤدّي إلى تنمية التفكير القائم على النقد والتحليل لدى دارسي الأدب وتوسيع آفاقهم ومداركهم وجدانياً واجتماعياً وسياسياً. ولا ينحصر الأدب على فهم اللغة وضبط استعمالاتها، وتغذية الروح والوجدان بما تحتويه اللغة من جمال الأسلوب، والصّور، والإيقاعات، والأفكار، بل يتعدّى ذلك إلى مساعدة الإنسان على ابتكار معان جديدة للحياة، واكتساب قدرة كبيرة على التواصل مع كائنات مختلفة عنه، وأحياناً انتشاله من أعماق الاكتئاب، والأمثلة على ذلك كثيرة عبر التاريخ. فقد تعافى جون ستيوارت ملّ2 من انهيار عصبي خطير بواسطة ديوان شعر لوردزورث، وجد في أبياته ما يرجعه إلى الحياة، يقول: “بدت لي منبعاّ منه أستقي الفرح الباطني، ومتع التعاطف والخيال، التي بمقدور كلّ الكائنات البشرية اقتسامها”3.  وبعد مرور مائة عام على ذلك، تحمّلت السجينة الفرنسية شارلوت دلبو متاعب السجن بفضل روايات ستاندال ومسرحيات موليير، فخلقت عالمها وأشخاصها الذين ساعدوها على الاستمرار خارج القضبان، تقول: “مخلوقات الشاعر هي أكثر حقيقة من مخلوقات اللّحم والدّم، لأنها غير قابلة للنفاد؛ لذلك هم أصدقائي، أولئك الذين بفضلهم نرتبط بالبشر الآخرين، في سلسلة الكائنات وفي سلسلة التاريخ”4.  من هنا فإن الأدب يتيح فهماً أفضل للوضع الإنساني، ويحوّل من الداخل كينونة كلّ واحد من قرّائه، غايته في ذلك تمثيل الوجود الإنساني والسعي إلى الكشف عن أشكال الحقائق الإنسانية والأبعاد المجهولة في ا لعالم التي تخلخل الإنسان وتحثه على التفكير والتأمل في الكون والوجود.

والأدب لا ينشأ من فراغ، إنه ينهل من مجموعة من الخطابات الحية التي تتقاسم معه خصائص عديدة من قبيل علم النفس والانثروبولوجيا وتاريخ الأفكار، فيعمل على تلاقي ثقافات مختلفة كثيراً، وقد يساعد الفكر على سد ثغراته، ليس بصفته وثيقة تزود الباحث بمعلومات مضبوطة، وإنما لكونه وعاء يتضمن صياغات تخييلية لاقتراحات نظرية تساعد على بناء أجهزة تحليلية وتقدم اقتراحات تفيد تطور مختلف الحقول المعرفية. ويعمل الأدب أيضاً على ترسيخ القيم والمبادئ التي ترتكز عليها العلوم، التي تشكّل أسس تطّوّر العالم على جميع المستويات، على اعتبار أن هناك لقاء حميماً بين العلم والأدب على مستوى الفكر وعلى مستوى الواقع، ذلك أن العلم ليس نسقاً واحداً ووحيداً، بل هو ظاهرة اجتماعية متغيّرة عبر التاريخ الإنساني، وتحكمها عوامل خارجية ثقافية وحضارية وإيديولوجية، ممّا يعني ضرورة البحث في سائر أبعاد علاقة العلم بالمجتمع، بواسطة الأدب الذي يسعى إلى المعالجة الشاملة لمعايير السلوك العلمي، وقيم الممارسة العلمية التي هي عصب التقدم الحضاري الراهن، والتي لابدّ أن ترسو على أسس متينة تنضوي تحت منظومة قيمية ونسق أخلاقي متعارف عليه، ذلك أن كل شخص في المجتمع يتوفّر على حسّ مشترك بالخلق العام الذي يتألف من قيم ومبادئ وواجبات والتزامات يستقيها الفرد، منذ نعومة أظافره، من مصادر مختلفة قريبة منه ،على رأسها الأسرة والمدرسة ثم الجامعة التي يتبلور فيها دور تدريس الأدب في بناء الشخصية، والعمل على الإحاطة بالظاهرة العلمية بسائر أبعادها، حيث يحتاج الناس إلى التثقيف في شأن التطوّرات العلمية والاقتصادية والسياسية، كما يحتاجون إلى الحماية من مخاطر العلم التافه والمعلومات الخاطئة، وهذا لن يتأتّى إلا عن طريق تدريس الأدب الذي ينمّي الفكر النقدي، والحسّ المدني، ويعمل على اكتساب الفرد لوسائل حسن الاستدلال التي تجنّبه الانزلاق في مهاوي الجهل.

وتكمن أهمية الأدب، من جهة أخرى، في كونه يستطيع أن يكون سفيراً يتفوّق على السفراء الدبلوماسيين في تمثيل بلده ومنحه بطاقة تعريف؛ وخير مثال على ذلك دولة فرنسا التي جعلت من الأدب طريقاً إلى العالمية، إذ إنها كانت تعوّض تأخّرها العلمي أو الصناعي أو الاجتماعي، بعد الحرب العالمية الثانية، بواسطة جوائز نوبل للآداب التي كانت تحرز عليها، والتي خوّلت لباريس بأن تظلّ إلى حدود 1968 عاصمة العالم في الفن والأدب5.

لكن تدريس الأدب اليوم بالجامعات أصبح مطالباً بتبرير شرعيته في عالم تحكمه التقنية والعلوم وسراب الاتصال والتواصل الحديث، ممّا نتج عنه تخوّف العالم أجمع من هبوط المستوى الثقافي، وخطر تزايد الأمية والجهل، وقوة وسائل الإعلام والتواصل الجديدة، وصعوبة تعريف القيم ونقلها إلى الأجيال المتعاقبة. وقد تنبّأت، في هذا الإطار، الكاتبة حنة أرندت6، في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين (1958)، بوقوع أزمتين مترابطتين بالولايات المتحدة الأمريكية، وهما: أزمة التعليم وأزمة الثقافة.  كما تناولت الصحافة الفرنسية أزمة الأدب، في نهاية القرن العشرين (2000)، وأشارت إلى أن “الدراسات الأدبية دخلت زمن الشك”7.  وهكذا أصبح الأدب اليوم يشكّل عبئاً ثقيلاً على دارسيه ومدرّسيه في نفس الآن، وذلك نتيجة افتقار الطلبة إلى آليات ومقوّمات ومتطلّبات الدراسات الأدبية، وأيضاً نتيجة إكراهات مختلفة تشمل الأسرة والمؤسسة والمجتمع في إطار التعامل مع تدريس الأدب، حيث لم تعد القراءة، من جهة، من الأولويات، ولم يعد للكتاب مكان في ظل الغزو المعلوماتي، وانتشار النصوص التفاعلية أو ما يسمّى بالأدب الرقمي الذي يفتقر في أغلب الحالات إلى معايير الكتابة الأدبية الراقية، والفكر الإنساني العميق لانفتاحه على مختلف المستويات الثقافية والفكرية، ومختلف الشرائح الإنسانية التي تتيح لها الوسائل الإلكترونية إعادة كتابته وإحداث تغييرات فيه. وذلك على عكس الاتصال الأدبي الذي كان مزدهراً في السابق، والذي قال فيه ديكارت: “إن قراءة الكتب الجيّدة تشبه الحديث مع الناس الشرفاء من أبناء القرون الخوالي الذين كتبوها، بل هي حديث متقن يعرضون لنا فيه أفضل أفكارهم”8.  ومن جهة أخرى، سادت النظرة الدونية للأدب مقارنة بما تحققه العلوم من تطوّر وازدهار، خصوصاً وأن جل الطلبة الذين يتوجّهون إلى دراسة الآداب، لا يفعلون ذلك عن اقتناع وحب، بل لأنهم لا يستطيعون ولوج المؤسسات المتخصصة والانتساب إلى الشعب العلمية، فأصبح التجاوب شبه منعدم بين الطالب والأستاذ، لأن كلاًّ منهما يحمل نظرة مختلفة عن تدريس الأدب وما يترتّب عن ذلك من ملل بالنسبة للأول، ومن جمال ومتعة بالنسبة للثاني. ترى كيف يستطيع طالب لا يقرأ ولا يملك رصيداً معرفياً معيّناً أن يستجيب لإغراءات الأدب ولجماليته سواء على مستوى الإبداع أو على مستوى الأفكار؟ وكيف لا يقع الأستاذ في نمطية التدريس أمام طلبة عاجزين عن الانفعال أمام رقة الشعر وعذوبته، أو أمام خصوبة الرواية ودورها الكبير في تقويم السلوك البشري؟ يطرح هذا الوضع معضلات إبستمولوجية وتطبيقية تهمّ من جهة، توصيل مادّة يجب على الطالب أن يشعر بخصوصية موضوعها، وبخصوصية وسائل مقاربتها، ومن جهة أخرى، إدراكه لنقط تلاقي ونقط اختلاف الأدب مع الحقول المعرفية المختلفة. كما يطرح ضغط وسائل الاتصال المتنوعة وفي مقدمتها الأنترنيت التي تسهل إنتاج المعلومة وتداولها واستثمار تقنيات الإعلام وتقنيات الصورة وآليات الحاسوب من أجل إنتاج نصوص تتيح لأي قارئ شكلاً من أشكال إعادة كتابتها. وهذا يؤثر سلباً على الدارسين للأدب، ممّا يتطلّب الرفع من مستوى الطالب ومن مستوى تكوين الأساتذة أنفسهم وإصلاح ممارسة التدريس من الداخل مع مراعاة مجمل الشروط التي تتطلّبها العملية، وأيضاً مراعاة ما يحدث من تطوّر في نقل المعارف وتداولها عبر وسائل الإعلام والتواصل، بما في ذلك المعلوميات والأنترنيت التي يجب أن توظف في خدمة تدريس الأدب عبر إدخالها إلى الجامعات بشكل مقنن، وتكوين الطلبة من أجل استعمالها استعمالا صحيحاً ومثمراً ومفيداً، أي: تطوير الذات المعرفية وفق التحولات الجديدة في العالم، وتبنّي مسارات أكثر تطوّراً في بناء الأسئلة، اعتماداً على أدوات ومفاهيم تساعد على الارتقاء بالمعرفة الأدبية وفهمها وتطوير وسائل مقاربتها والإلمام بمختلف وجوه تصريفها إبستيمياً.  وأيضاً لا بدّ من تعميق النظرة إلى مفهوم الأدب سواء من طرف الأساتذة أو من طرف المتعلّمين، أو من طرف الهيئات الرسمية المؤطرة له، ذلك أن تدريس الأدب في المستقبل لا يجب أن يشغل المتخصّصين وحدهم، بل لا بدّ أن يتجاوزهم إلى دائرة رجال العلم والسياسة والمؤرخين والفلاسفة المثابرين على قراءة الأدب والمتتبّعين لخطواته، لعلّ ذلك يخلق تساؤلات وحلولاً جديدة تساعد على تنشئة النخب لكي توظّف خير ما في الأدب وخير ما في العلوم والتقنيات لخدمة الإنسانية جمعاء.  فهذا العالم الذي يتخبّط في الحروب والمجاعات والمؤامرات التي لا أفق لتوقفها، يحتاج إلى تعليم أبنائه أدباً يتحدّى القبح والظلم والجهل والنسيان، ويرسم آفاقاً مستقبلية جديدة تعطي معنى مختلفاً للجمال والحب والسلام، وتحث على التفكير والتأمّل من أجل وقف عجلات الدمار والخراب.

نستنتج مما سبق أن تدريس الأدب في جامعة المستقبل أمر ضروري لأنه يعتبر خطوة أساسية نحو الوصول إلى الإنسانية الكاملة والتفكير الكوني القائم على الإحساس بالآخر والتموضع في مكانه أثناء عملية التفكير، كما أنه يساعد على إعداد أفضل لكل المهن القائمة على العلاقات الإنسانية، فالطبيب كما عالم الاجتماع والمؤرخ والحقوقي وغيرهم يحتاجون إلى التزود من الأعمال الأدبية ومن النظريات والأفعال السياسية والتحولات الاجتماعية والتطورات العلمية. ولا يجب أن ينحصر تدريس الأدب على إنتاج أساتذة للآداب، بل يتجاوزه إلى العمل على تحقيق التواصل والحوار بين مختلف الشرائح البشرية، والوصول إلى المعاني الكبيرة والعميقة، التي يتضمنها الأدب، والتي تهم الوجود الإنساني الذي يعتبر محور الكون، الشيء الذي يتيح لدارس الأدب الانتقال من متخصّص في التحليل الأدبي إلى عارف بالكائن البشري ومدرك لسلوكه وأهوائه.

هكذا، فإن تدريس الأدب في نظري لا بدّ أن يظلّ موجوداً وحياً يتجدّد، لأنه يحث، من جهة، طالب العلم على أن يصير أكثر فاعلية، ويوقظ قدرته على التداعي، ويحرّك جهاز التأويل الرمزي لديه، إضافة إلى أنه يعلّمه كيف يفكّر بنفسه بدل الاقتصار على رؤى العالم الجاهزة التي يصادفها من حوله. ومن جهة أخرى، لأن الأدب مرتبط بوجود الإنسان، يزوّده بإحساسات عميقة تجعل حياته أشحن بالمعنى وأدفأ وأجمل.  كما أن تدريس الأدب حديث عن الذات وشرح لأفكارها ومشاعرها وتطلّعاتها. إنه يشبه، إلى حدّ كبير، أغنية فيروزية طويلة، مليئة بالإيقاع، والمعنى، والبوح، والفرح، والإثارة، ويقظة الروح، وانتفاضة القلب. وهو عبور إلى الذات عبر جسر الآخر، وعبور إلى الآخر عبر جسر الذات، في رحلة متناغمة مليئة بالجمال والإبداع. وبالتالي، فإنه إحدى السبل الأكيدة التي تقود إلى اكتمال كلّ إنسان وتحافظ على استمراريته.

هذا مجرد رأي، والرأي جواب عن سؤال، ومادة لسؤال جديد قد يكون في مجالنا هذا، هو ماذا قد يصبح الإنسان بدون آداب وتراث وقيم وأخلاق؟ ماذا يكون مصير من فقد الذاكرة؟

 

هوامش

  1. إيمانويل فريس، برنار موراليس، قضايا أدبية عامة، ترجمة: لطيف زيتوني، عالم المعرفة، العدد 300، فبراير 2004، ص 14.
  2. فيلسوف واقتصادي بريطاني عاش ما بين 1806 و1873، صدرت له سيرة ذاتية بعد وفاته.
  3. تزفيتان تودوروف، الأدب في خطر، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2007، ص 43.
  4. المرجع السابق، ص 44.
  5. Pascal Casanova, la république mondiale des lettres, Paris, Seuil, 1999.
  6. إيمانويلفريس، برنارموراليس، قضايا أدبية عامة، ص 7.
  7. نفسه. ص
  8. Descartes, Discours de la méthode (1637), in Œuvres et lettres, textes présentés par André Bridoux, Paris, Gallimard, coll. La Pléiade, 1953, p. 128.

 

- مليكة معطاوي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية/الرباط

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.