السبت , 9 نوفمبر, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » تاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية بين المحلية والعالمية

تاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية بين المحلية والعالمية

 

شوكت باموك، التاريخ المالي للدولة العثمانية، ترجمة عبد اللطيف الحارس، بيروت، دار المدار الإسلامي، 2005.

عندما ينتهي القارئ غير الملم بالتاريخ العثماني وبطبيعة هذا التاريخ، وما تخلفت عنه من شواهد من قراءة آخر صفحة من صفحات الترجمة العربية لهذه الدراسة، قد يخرج ببعض الملاحظات مفادها أن الدولة العثمانية كانت بالفعل دولة إسلامية يحكمها نفس المنطق الذي حكم غيرها من الدول الإسلامية، لكنها تختلف عنها في كونها إمبراطورية عالمية أثرت في مجريات التاريخ العالمي بقدر ما تأثرت بها، ولم تكن لتستمر طوال ستة قرون لولا توافرها على جملة من الخصوصيات وعلى ما يكفي من مقومات تجديد ذاتها وقدرة على مسايرة ما كان يعرفه العالم المتوسطي من تقلبات رغم الأزمات، الحادة أحيانا، التي كان عليها مواجهتها. وقد يَخلًص هذا القارئ كذلك إلى أن كثيرا من الأحكام التي صدرت في حق التاريخ العثماني -أكانت من طرف كبار الباحثين من أمثال فرناند بروديل- هي في حاجة مستمرة إلى إعادة نظر وتدقيق؛ وربما أضاف الباحث العربي المهتم بالتاريخ الاقتصادي لكل ذلك. هل من سبيل إلى إنجاز أبحاث بنفس الدقة والعمق والشمولية حول المجالات العربية خلال ذات الفترة؟

اعتبارا لتعدد القضایا التي تعالجها هذه الدراسة ولكثافة المعلومات الواردة بها فقد رجحنا التوسع في تقديم مضامين فصولها الأربعة عشر قبل تقدیم بعض الملاحظات حول الدراسة نفسها وحول ترجمتها إلی اللغة العربية.

يتناول كتاب التاريخ المالي للدولة العثمانية تاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية بين سنتي 1300 و1918، وهو من بين آخر ما صدر حول التاريخ النقدي والمالي للدولة العثمانية خلال السنوات الأخيرة. صدر هذا الكتاب في الأصل باللغة الإنجليزية سنة 2000 تحت عنوان A Monetary History of the Ottoman Empire ضمن سلسلة “دراسات كامبريدج عن الحضارة الإسلامية” Cambridge Studies in Islamic Civilization، وكانت ترجمته إلى اللغة التركية قد صدرت سنة قبل ذلك تحت عنوانOsmanlı İmparatorluğu’nda Paranın Tarihi، أي تاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية سنة 1999، وأعيد طبعها سنتي 2000 و2003، ثم صدرت ترجمته إلى اللغة العربية سنة 2005 عن دار المدار الإسلامي ببيروت بقلم المؤرخ اللبناني عبد اللطيف الحارس.

يتكون الكتاب من مدخل وأربعة عشر فصلا، منها فصل خاص بالمقدمة، وفصل خاص بالخاتمة، كما يحتوي على خريطة واحدة وثمانية رسوم بيانية وستة عشر جدولا وثلاثة ملاحق وسبع وعشرين لوحة للنقود المعدنية والأوراق المالية العثمانية والأجنبية، إضافة إلى ثبت بالوثائق والمصادر والدراسات المعتمدة في الدراسة (ص. 463-489)، وفهرس للأعلام والمصطلحات والأماكن.

يعتبر شوكت باموك، مؤلف هذا الكتاب، من بين الباحثين الأتراك الذين أولوا اهتماما خاصا لدراسة النقود عبر التاريخ العثماني. فبعد إصداره لمجموع من الدراسات حول التاريخ الاقتصادي 1، صدر له أول عمل متكامل حول النقود العثمانية سنة 1995 تحت عنوان النقود في الإمبراطورية العثمانية، 1300-1914 كملحق للكتاب الجماعي حول التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للإمبراطورية العثمانية الذي أشرف عليه خليل إنالجيك وآخرون 2. وواصل شوكت باموك منذئذ نشر الدراسات والأبحاث ذات العلاقة بتاريخ النقود في الدولة العثمانية 3.

لا يشكل مؤلف شوكت باموك محاولة فقط لتقديم خلاصة للدراسات والمعارف المتوافرة حول تاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية من بدايتها إلى الحرب العالمية الأولى، لكنه يسعى بالإضافة إلى ذلك إلى تقديم رؤيا جديدة للنظام النقدي العثماني من خلال وضع هذا النظام في أفق جغرافي وزمني ومؤسساتي طموح جدا. وهذا ما أكد عليه المؤلف في المدخل (ص 5-15) الذي خصصه لتسطير الإطار العام للكتاب وبسط أهم القضايا المنهجية والأحكام التي طالت التاريخ العثماني، والتي سيعود لمناقشتها على امتداد صفحات الكتاب. يحدد باموك الإشكالية المركزية في دراسته لتاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية باعتبارها جزءا من إشكالية “النقود والإمبراطورية وموقعهما في الاقتصاد العالمي في مطلع عصر الرأسمالية”، لكون “التفاعل القوي بين التجارة العالمية، وتدفق المعادن الثمينة والنقود يجعل تبني رؤية عالمية أمرا أساسيا لفهم كل من العصور الوسطى وبواكير المرحلة الحديثة. وهذه هي تحديدا المسألة بالنسبة للتاريخ المالي لإمبراطورية مترامية الأطراف تقع على مفترق طرق التجارة العالمية، وتتأثر دائما بتغير أوضاع التجارة، وموازين المدفوعات، وتدفق النقود. وهكذا، فإن التاريخ النقدي يقدم لنا فرصة لتجاوز المقاربات الجزئية التي قام بها العديد من المؤرخين، وكذلك للتركيز على العلاقات بين تاريخ شرقي البحر الأبيض المتوسط… وتاريخ كل من أوربا وجنوبي أسيا خلال ستة قرون”. وبالفعل، سعى المؤلف، كما أكد على ذلك في أكثر من مناسبة، لتناول التاريخ النقدي للإمبراطورية العثمانية في إطار “لوحة كبيرة” تضم المجالات العثمانية بكل تنوعاتها واختلافاتها وفي علاقاتها بالأنظمة النقدية والمالية الأوروبية والأسيوية. وبعد تأكيده على أهمية اعتماد المدة الطويلةفي معالج مختلف القضايا التي يطرحها الموضوع، وقف باموك عند بعض أحكام المؤرخين الاقتصاديين التي طالت التاريخ النقدي للدولة العثمانية بخصوص تقلبات الأسعار وطبيعة السياسة الاقتصادية للدولة العثمانية وتخفيض النقد والتضخم خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وطبيعة تدخل الدولة في الحفاظ على التوازنات النقدية والمالية، كما قدم بعض الاستنتاجات التي سيخلص إليها من خلال فصول الكتاب، وهي تتعلق بتجديد قراءة التاريخ المالي للدولة العثمانية وبطبيعة انخراطها في النظام النقدي العالمي على امتداد ستة قرون، وتجديد النظرة لمؤسسات الدولة العثمانية نفسها، ليؤكد في آخر هذا المدخل بأن مناقشة كل هذه القضايا لم تكن ممكنة لولا تمكنه لأول مرة من تنظيم سلسلة زمنية متكاملة لمقاييس النقود العثمانية سواء منها تلك التي كانت تضرب في مركز الإمبراطورية أو في الولايات، وهي معلومات استقاها من مختلف المصادر والوثائق والدراسات، فضلا عن الإضافات القيمة لعلم المسكوكات في هذا الإطار. من أجل مناقشة مختلف هذه الجوانب رتب المؤلف الفصول المشكلة للكتاب بكيفية كرونولوجية، لكن من خلال تجميع القضايا الكبرى على شكل مواضيع مستقلة، مع العودة كلما استوجب الأمر ذلك لمناقشة ما تناوله في الفصول السابقة.

يتناول الفصل الأول (ص 21-54)، الذي يشكل مقدمة الكتاب، “التجارة والمال والدول في حوض البحر الأبيض المتوسط”، ويعرض لمجمل هذه الجوانب قبيل قيام الدولة العثمانية والحاجة المتزايدة للنقود في العالم القديم كشرط من شروط تحقيق التواصل التجاري بين مجتمعاته، ثم يعرض لملامح السياسات الاقتصادية العثمانية ومحاولات الإدارة العثمانية المركزية إقامة نظام نقدي تحتل هي صدارته، والأولويات الاقتصادية للدولة العثمانية المتمثلة في تموين اقتصاد الحواضر بما في ذلك الجيش والقصر وموظفي الدولة، والعائدات المالية للدولة عبر جباية الضرائب وتحقيق الازدهار الاقتصادي، وأخيرا، الحفاظ على النظام القائم من خلال الحفاظ على التوازنات الاجتماعية. وينتهي هذا الفصل بتقديم المؤلف لتصوره الخاص لفترات التاريخ النقدي للإمبراطورية العثمانية.

يعتمد التحقيب المتداول حول التاريخ المالي للدولة العثمانية على تواريخ جزئية في الواقع، وهو يتوزع بصفة عامة إلى ثلاث حقب: الحقبة الأولى:1300-1512، والحقبة الثانية:1512-1687، والحقبة الثانية:1687-1924. تتميز كل حقبة منها بجملة من الخصوصيات والملامح ترتبط من جهة بالتطورات الداخلية للدولة العثمانية، وتتصل من جهة أخرى بالسياسات المعتمدة من طرف المؤسسات العثمانية، ومن طرف المشرفين على تسيير شؤون الولايات التابعة لها. في حين يقترح شوكت باموك تحقيبا جديدا يعتمد النقود كمرجعية له ويقوم على أساس الارتباطات القائم بين التطورات التي عرفتها النقود العثمانية والتطورات الاقتصادية العالمية بحكم العلاقة الوثيقة بين الجانبين:

1- 1300-1477: عملة ثابتة نسبيا تشكل “الأقجة” الفضية عنصرها الأساسي لدولة ناشئة عند ملتقى الطرق التجارية للأناضول والبلقان.

2- 1477-1585: نقود ذهبية وفضية ونحاسية خلال فترة الازدهار الاقتصادي والمالي والتجاري والسياسي؛ توحيد النقود الذهبية، الرمز المطلق للسيادة، ظهور مناطق عملات فضية مختلفة داخل الإمبراطورية؛ تطوير شبكات القروض المالية بكيفية كثيفة داخل المراكز الحضرية وحولها.

3- 1585-1690: عدم استقرار نقدي ناتج عن صعوبات اقتصادية ومالية وسياسية، تفاقم متأثرا بحركات المعادن النفيسة داخليا؛ اختفاء “الأقجة” وتزايد تداول النقود الأجنبية ونسخها المنتقصة القيمة في الأسواق العثمانية.

4- 1690-1844: إصدار وحدة فضية جديدة؛ تقوية الروابط المالية بين المركز والأطراف؛ الاستقرار النسبي للقرش الجديد حتى سنة 1780، تلته أزمات مالية خطيرة وتخفيض سريع للنقد.

5- 1844-1918: التكامل مع الأسواق العالمية بعد الثورة الصناعية؛ نظام نقدي جديد، ثنائي المعدن، قائم على القرش الفضي والليرة الذهبية؛ التخلي عن التخفيض النقدي كوسيلة للحصول على عائدات مالية وازدياد الدين الخارجي؛ الاعتماد على قاعدة الذهب “العرجاء” عام 1880؛ تطوير المصارف التجارية.

أما الفصل الثاني (ص 55-88) “التجارة والمال من مصادرهما” فوقف فيه المؤلف على العلاقات القائمة بين التجارة والمعاملات المالية ورواج النقود خلال القرون الأولى من تاريخ الدولة العثمانية، وعلى الظرفيات التي تحكمت في تداول النقود في كل من الإمبراطورية البيزنطية ومنطقتي البلقان والأناضول، قبل أن يتطرق لحيثيات إصدار النقود العثمانية الأولى وما ارتبط بذلك من دور لضرب السكة ومناجم الفضة.

وبعد التأكيد على أن العثمانيين، كما هو الحال بالنسبة لبقية الإمارات التركمانية في الأناضول، لم يقوموا بإصدار نقود بأسماء حكامهم ما داموا مستمرين في إعلان ولائهم للسيادة الإلخانية (المغولية)، والإشارة إلى أن أول نقد أصدره العثمانيون يعود إلى أورخان باي سنة 1326، تساءل المؤلف حول أسباب عدم اعتماد الكتابات التاريخية العثمانية لهذا التاريخ كبداية لقيام الدولة العثمانية، كما هي العادة في التقاليد الإسلامية، واعتمادها لسنة 1299 كتاريخ لذلك، ليؤكد ما أشارت إليه دراسات سابقة في الموضوع حول كون هذا التاريخ الأخير يتوافق وحصول العثمانيين على استقلالهم عن السلطان السلجوقي في قونية، لكن من المحتمل أنهم اضطروا إلى قبول السيادة الإلخانية من جديد ليكون اعتماد سنة 1299 كتاريخ لقيام الدولة رغبة في التأكيد على الارتباط بالسلاجقة ذوي الأصول التركية بدل الارتباط بالإلخانيين ذوي الأصول المغولية.

ومن خلال استعراضه للنقود المتداولة خلال هذه القرون الأولى من تاريخ الدولة العثمانية، سواء بالوقوف عند أحجامها وأوزانها، أو بمقارنتها مع النقود البيزنطية، يخلص المؤلف إلى نتيجتين:

– تظهر العلاقة بين نقوذ الإلخانيين والإمارات التركية استمرارية النفوذ المغولي في الأناضول واستمرار آثاره في الممارسات العثمانية في الإدارة وفي مجالات أخرى، وهذا أمر يتعارض مع ما يرد في روايات المؤرخين العثمانيين وفي معظم الكتابات التاريخية المعاصرة.

– يؤكد استمرار هيمنة النقود الإلخانية وثبات الوحدات النقدية عبر الأناضول على فعالية الطرق التجارية الممتدة على المحور الشرقي الغربي في الأناضول، وعلى أهميتها بالنسبة للعثمانيين الأوائل، كما بالنسبة للإمارات التركية الأخرى. فمباشرة بعد تحقيق الاستقلال عن الإلخانيين أقدم العثمانيون على الاستيلاء على مدينة بورصة المتحكمة من جهة الغرب في تجارة الحرير في الأناضول.

وفيما يتعلق بدور ضرب النقود وإدارتها، فبالموازاة مع توسعهم في البلقان وفي وسط الأناضول خلال القرن الخامس عشر اتبع العثمانيون النموذج السلجوقي والإلخاني، فأسسوا عددا كبيرا من دور الضرب في المراكز التجارية الهامة القريبة من المناجم الأساسية، الأمر الذي يبرز مدى اهتمام العثمانيين بالمعادن النفيسة وبتوفير النقود على المستويات المحلية في وقت كان من الصعب فيه، من الناحية التقنية والإدارية، جمع السبائك في مراكز محددة ثم إعادة توزيعها على المقاطعات. وإذا كانت دور الضرب تسير بإحكام من طرف السلطة المركزية من خلال أنظمة مراقبة متعددة، فإن تقنيات ضرب النقود العثمانية، أكانت ذهبية أو فضية أو نحاسية، ظلت بسيطة إلى حدود نهاية القرن السابع عشر. كما أولى العثمانيون حرصا كبيرا على زيادة إنتاج المعادن النفيسة لتلبية الحاجيات المتزايدة للأسواق العثمانية من “الأقجة” من خلال العمل على زيادة إنتاج مناجم الفضة على الخصوص التي كان أغلبها يقع في القسم الشرقي من الأناضول وفي شرق أوربا (في كل من مقدونيا وصربيا والبوسنة). وهذا ما يفسر في نظر المؤلف تلك الحملات التي قادها العثمانيون في اتجاه هذه المناطق والتي كانت من بين أهدافها الأساسية السيطرة على مناجم المعادن النفيسة وتأمين احتكار السلطة المركزية لمنتجاتها. ولإبراز أهمية هذه المناجم يورد المؤلف نموذج منجم “سيدركابسى” في مقدونيا الذي أصبح خلال النصف الأول من القرن السادس عشر أهم مناجم إنتاج الفضة. فقد كان يشغل حولي 6000 عامل منجمي وينتج ما لا يقل عن 6 أطنان في السنة، في وقت يقدر فيه مجموع الإنتاج السنوي للفضة في منطقة البلقان بما يناهز 26 أو 27 طنا في السنة. وختم المؤلف هذا الفصل بالحديث عن النقود النحاسية التي تدعى “مانغير”، أو “منقور” والتي تم سكها من أجل الاستخدام في المعاملات اليومية الصغيرة في حين ظلت “الأقجة” الفضية الوحدة الحسابية الأساسية.

يحمل الفصل الثالث (ص89-118) عنوان “سياسة التدخل وتخفيض قيمة النقد”، وخصصه المؤلف لدراسة إشكاليتي تدخل الدولة في المسائل المالية واعتمادها لسياسة تخفيض العملة على عهد السلطان محمد الفاتح (1451-1481). فقد شكلت فترة حكم هذا الأخير عهدا خاصا في التاريخ المالي العثماني سواء فيما يتعلق بالسياسة الاستثنائية للدولة في المجال النقدي، أو فيما يتعلق بالسياسة التي سارت عليها في تخفيض قيمة العملة العثمانية. وهذه من الإشكاليات التي تتصل بتداول النقود في العالم القديم في أواخر الفترة الوسيطية، وبالندرة الدورية للمعادن النفيسة في مجموع الشرق الأدنى. ويؤكد المؤلف منذ البداية على أن تخفيض قيمة العملة العثمانية كان أقل بكثير مما عرفته أوروبا خلال نفس الفترة. كما أشار إلى أن السلطان محمد الثاني كان المخطط الفعلي لإدارة عثمانية مركزية مطلقة من خلال سلسلة القوانين التي سنها في هذا الباب، وأكد على أن منطق تدخل السلطة المركزية في القضايا الاقتصادية وفي إدارة الخزينة ازداد في التوسع ليطال مجموع المجال المالي خلال هذه الفترة بواسطة القوانين الخاصة بتنظيم عمليات ضرب النقود وضبط إنتاج مناجم الذهب والفضة.

وقف شوكت باموك في هذا الفصل كذلك عند سياسة تدخل الدولة على عهد محمد الفاتح، وعلى ما رافق ذلك من خصاص في الفضة وتدنى قيمة “الأقجة” – كما يبرز ذلك من خلال الجدول 1-3 حول الأقجة وقيمتها التبادلية بين سنتي 1326 و1481، إذ ارتفع عدد “الأقجة” عن كل مائة درهم من 265 سنة 1326 إلى 410 سنة 1481، كما تقلص وزنها بالغرامات لينتقل من 1.15 إلى 0.75 غرام. ثم ناقش مسألة تخفيض النقود العثمانية من خلال استعراض التفسيرات المرتبطة بالأسباب المالية لهذه الظاهرة والمتمثلة في عجز الموازنة وحاجة السلطة المركزية للحصول على مداخيل إضافية، وزيادة الطلب الاقتصادي على النقود والحاجة لزيادة المخزون المالي المتداول، وضغط الفئات الاجتماعية باتجاه تضخيم الأرباح، وسوء إدارة دور الضرب، وتعرض مخزون القطع النقدية للتلف مثل تآكل حواشي القطع النقدية.

ثم حاول المؤلف في نهاية الفصل تقديم “تفسير سياسي-اقتصادي للتخفيضات النقدية العثمانية“، حيث أكد على أن عملية تخفيض العملة طالت آثارها كل فئات المجتمع العثماني التي كان لكل منها موقف خاص من التخفيض، وأن أكثر الفئات المتضررة من سياسة التخفيض هي الفئات التي كانت تتلقى رواتب ثابتة بـ”الأقجة”، وفي مقدمة هذه الفئات عناصر الانكشارية. وخلص المؤلف إلى أن معارضة الانكشارية والمجموعات الأخرى لسياسة التخفيض هي التي ساهمت في الواقع، على المدى البعيد، في استقرار “الأقجة” بحجة أن وزنها وعيارها الفضي بقي بدون تغيير كبير بعد وفاة محمد الفاتح سنة 1481 وإلى حدود سنة 1585.

واهتم الفصل الرابع (ص 119-149) بـ“ظهور النظام المالي” العثماني حيث وقف المؤلف مطولا عند “السلطاني” العثماني باعتباره نقدا عالميا يمثل إحدى وسائل تعزيز السيادة على الطرق التجارية العالمية. فخلال مائة وخمسين سنة من عمر الإمبراطورية العثمانية كانت الأقجة الفضية مسايرة لأهدافها الاقتصادية ووسيلة أساسية للتبادل وللأداء في المعاملات المالية المحلية. إلا أن توسع المجالات العثمانية وتوسع معاملاتها الاقتصادية فرض على الدولة إصدار عملة يكون معترف بها في شرق البحر الأبيض المتوسط، مما اضطر العثمانيين إلى التحول إلى العملة الذهبية، وهو ذات التوجه الذي كانت تسير عليه مختلف الدول الأوروبية، كما اضطرت مصر المملوكية تبنيه حين أصدرت عملة ذهبية تحمل اسم “الأشرفي” سنة 1425 على نفس معايير “دوكا” البندقية لتسهيل معاملاتها مع التجار الإيطاليين أساسا.

أصدر العثمانيون أول قطعة نقدية ذهبية في إستانبول سنة 1477 تحمل اسم “السلطاني” أو “حسني سلطانيه” وكانت تحاكي مقاييس “دوكا” البندقية. وينم تبني العثمانيين لمعايير هذه الأخيرة، رغم أن البندقية كانت من أشد أعدائهم، عن إدراكهم بكون مقاييس الدوكا أصبحت مقاييس عالمية معترف بها في التجارة العالمية في البحر الأبيض المتوسط وما وراءه، وأن أي نقد آخر بمقاييس مغايرة لن يتمكن من الاستمرارية. لكن، وكما هو الحال في الدول المعاصرة، كانت المجالات العثمانية تعرف انتشار تداول مجموعة من النقود الأجنبية التي أضحت تشكل جزءا من المنظومة النقدية العثمانية، مثل: دوكا البندقية الذهبية، والأشرفي المصري الذهبي، والأنغوروسية الهنغارية الذهبية، وثمان ريالات الإسبانية الفضية، والدينار الأسدي الهولندي الفضي.

ومن بين القضايا التي عالجها المؤلف في هذا الفصل: الاستخدام المتزامن للنقود الذهبية والفضية والنحاسية في الدولة العثمانية، وزيادة استخدام المال. فخلال الربع الأول من القرن السادس عشر كان النظام النقدي العثماني يعرف تداول ثلاث أنواع مختلفة من النقود لكل منها وظيفة اقتصادية مختلفة. تأتي في المقام الأول النقود الذهبية التي كانت تستخدم بشكل أساسي من طرف التجار لتغطية مصارفهم الكبيرة في التجارة الداخلية والخارجية؛ ثم الأقجة الفضية التي كانت تشكل بالنسبة لمعظم القرن السادس عشر الوحدة الأساسية للاقتصاد المالي العثماني؛ وفي أدنى السلم النقدي العثماني نجد النقود النحاسية التي لم يكن التداول بها يتم على أساس قيمتها الفعلية وإنما على أساس قيمتها الإسمية المحددة سلفا من طرف الدولة.

أما بخصوص زيادة استخدام المال في المجالات العثمانية، فبعد التذكير بأن الافتراض الذي ساد لوقت طويل حول ارتباط استخدام النقود في منطقتي البلقان والأناضول بالتجارة العالمية وبجوانب من اقتصاد المدن، يؤكد المؤلف على أن الأبحاث المعاصرة أظهرت أن سكان المدن وبعض فئات سكان البوادي كانوا يشكلون مع نهاية القرن الخامس عشر جزءا من الاقتصاد النقدي، بل إن القرن السادس عشر شهد زيادة ملموسة في استخدام النقود بسبب النمو السكاني، وتطور شبكات التسليف، وقوانين المقاطعات التي صدرت بين أواسط القرن الخامس عشر وأواسط القرن السادس عشر. وختم المؤلف هذا الفصل بالتأكيد على أن “تنامي الكثافة السكانية خلال القرن السادس عشر أدى إلى زيادة كثافة عمليات التبادل، ليس فقط في المناطق الحضرية وإنما أيضا بمشاركة شرائح واسعة من السكان الريفيين… وبينما اجتذبت التطورات في غربي البحر الأبيض المتوسط انتباه عدد كبير من المؤرخين، فإن الآثار الاجتماعية والثقافية وكذلك الاقتصادية لهذا التوجه تنتظر بدورها أن تدرس بشكل كاف في وضع شرق البحر الأبيض المتوسط…

يتطرق الفصل الخامس (ص 151-169) لـ “التسليف والتمويل” وعرض فيه المؤلف في البداية الافتراض القائل بأن تحريم الفائدة في الإسلام قد حال دون تطور عمليات التسليف، مؤكدا أن عددا من العلماء المسلمين قدموا عدة طرق تسمح بتحاشي تحريم الربا، وأن مجموعة من الفتاوى الدينية المتسامحة القائمة أساسا على شرعية “ثنائية الجهاد” كانت متداولة ومعمولا بها في المجالات العثمانية. وإذا كانت هذه الفتاوى لم تحظ بتأييد واسع من قبل العلماء فلم يتم على الأقل الإعلان عن بطلانها، ولم يكن بالتالي ثمة مانع يحول دون اعتماد الفائدة في القروض المستخدمة في العمليات التجارية. وبعد الإشارة إلى أن المؤسسات العثمانية للتسليف والتمويل قد حافظت على خطها الإسلامي وبقيت في معظمها خارج تأثير التطورات التي شهدتها أوروبا حتى نهاية القرن السابع عشر، استعرض المؤلف جملة من الأمثلة اعتمادا على عدد من الأبحاث المنجزة حول هذا الموضوع، مثل أبحاث رونالد دنينغر حول مجموعة من المراكز الحضرية في منطقة الأناضول (قيسارية وكرمان وأماسيا وطرابزون) خلال القرن السادس عشر اعتمادا على سجلات المحاكم. وتبين هذه الأبحاث كيف أن استخدام القروض كان منتشرا بين كل شرائح المجتمعات الحضرية والريفية، وأن الفائدة كانت تتراوح بين 10 و20 في المائة، وتطبق بما ينسجم مع كل من الشريعة الإسلامية والقوانين العثمانية بموافقة المحاكم والعلماء 4. ودراسة حاييم جربر حول مدينة بورصة اعتمادا على نفس السجلات خلال القرن السابع عشر، والتي تفيد بأن القروض المتداولة في هذه المدينة كانت أكبر حجما وأكثر كثافة بسبب حجم المدينة نفسها، وتوسع تجارتها على الخصوص بسبب موقعها على طرق التجارة العالمية. فقد كانت مدينة بورصة معروفة بتجارة الحرير والصناعة 5.

ووقف المؤلف من جهة أخرى عند مصدر آخر من مصادر القروض في منطقة الأناضول على الخصوص، ويتعلق الأمر بما يعرف ب”أوقاف النقود”، وهي مؤسسات تم إنشاؤها بهدف تشغيل الثروات النقدية واستخدام عائداتها لتحقيق مشاريع خاصة. وتبرز الدراسة التي قام بها مراد تشيزاكتشة حول مدينة بورصة، بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، أن أوقاف النقود كانت في الغالب تمنح قروضا بمبالغ صغيرة لأرباب الأسر أو لصغار التجار والحرفيين بفوائد تتراوح بين 11 و13 في المائة، أي أقل من نسبة الفوائد المطبقة في غيرها من القروض. وتشير نفس الدراسة إلى أن 9 في المائة من سكان مدينة بورصة خلال القرن الثامن عشر كانوا يلجؤون إلى هذا النوع من القروض 6.

وفي آخر هذا الفصل، تطرق المؤلف إلى التحول التدريجي للدولة العثمانية نفسها إلى أحد أكبر المستفيدين من القروض انطلاقا من أواخر القرن السادس عشر. وأبرز كيف أن الدولة وجدت نفسها في حاجة متزايدة لموارد مالية إضافية، خارج الموارد الاعتيادية بسبب تزايد المصاعب المالية، فاضطرت إلى اللجوء إلى الاستدانة القصيرة الأجل من كبار الإداريين بمن فيهم الوزراء وحتى السلطان نفسه، خاصة خلال فترات الأزمات المالية والحروب. ويفسر شوكت باموك هذا التحول بفقدان نظام “التيمار” لأهميته على الصعيدين العسكري والمالي بسبب المتغيرات التكنولوجية والحاجة إلى الاحتفاظ بأعداد كبيرة من الجند بكيفية دائمة في مركز الإمبراطورية. وهذا ما اضطر الدولة إلى الاعتماد المتزايد على نظام “الالتزام” الذي يخول لها الحق في الحصول بكيفية قبلية على حقوق استغلال المجالات التابعة لها. إلا أن التراجع المستمر للموارد المالية للدولة دفع بالسلطة المركزية إلى زيادة مدة عقود الالتزام من سنة إلى ثلاث سنوات، ثم من ثلاث إلى خمس سنوات، وأحيانا لمدد أطول. ويختم شوكت باموك هذا الفصل بالقول بأن السلطة المركزية فقدت بسبب ضعفها خلال القرن السابع عشر القدرة على السيطرة على الكثير من عقود الالتزام، فبقيت هذه العقود خلال الفترات اللاحقة بنفس القيمة الثابتة، وفق ما تبرزه السجلات الرسمية حول الموضوع، كما ظلت تستغل من طرف نفس الملتزمين الذين ينتمي عدد كبير منهم للإدارة العثمانية نفسها. وهذا ما يرجح أن هؤلاء كانوا يتخذون التدابير الضرورية للاستفادة من تلك العقود من خلال بيعها في الغالب لملتزمين فرعيين بعد المزادات الأولية الرسمية.

خصص المؤلف الفصل السادس (ص 171-212) المعنون بـ “المال والدولة” للحديث عن المناطق المالية داخل الإمبراطورية العثمانية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. فقد كانت الأراضي العثمانية في البلقان والأناضول تسير على نظام نقدي موحد باعتماد “السلطانية” الذهبية و”الأقجة” الفضية. لكن هذا الوضع لم يكن قابلا للاستمرارية على إثر توسع المجالات الخاضعة للدولة. فعمدت الإدارة العثمانية المركزية إلى اتباع مقاربة ثنائية للمال والنقود حيث وحدت النقود الذهبية بشكل يتفق مع المقاييس العالمية، وسمحت بانتشار النقود الفضية المختلفة بقدر ما يتفق مع الحاجيات المحلية لكل ولاية، ويستجيب في نفس الوقت لخصوصيات العلاقات التجارية المنتشرة فيها. كما حرص العثمانيون على أن تكون النقود الذهبية النقود الوحيدة المتداولة والمسكوكة في مختلف أرجاء الإمبراطورية لسببين اثنين: السبب الأول ذو بعد رمزي ويتعلق بالسيادة على مجموع المجالات العثمانية من البلقان إلى مصر والمغرب؛ في حين يستجيب السبب الثاني لضروريات اقتصادية، فقد كانت السلطانية الذهبية النقد الوحيد القادر على مسايرة الهيمنة المالية لـ”دوكا” البندقية على الصعيد العالمي، وضمان استمرارية مشاركة الدولة العثمانية في التجارة العالمية. ووقف المؤلف في هذا الفصل كذلك على تطور النقود الذهبية والفضية والنحاسية، وكذا تطور بعض الممارسات المالية في مناطق مختلفة من الإمبراطورية، من البلقان إلى سوريا ومصر والعراق واليمن والمغرب، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. كما أكد على أن تناوله لهذه المناطق كشف لأول مرة على منطق النظام النقدي العثماني وعلى شكله في كل أنحاء الإمبراطورية.

أما الفصل السابع (ص 213-243) حول “مراجعة ثانية لثورة الأسعار في الشرق الأدنى” فيعتبر في نظري الفصل المركزي في هذا الكتاب، ويتميز بنفس طويل في المقارنة والتحليل. فاعتمادا على بحثه المتواصل في قضايا النقود في التاريخ العثماني وعلى المادة التي تمكن من جمعها ودراستها خلال سنوات، حاول شوكت باموك المشاركة في النقاش الدائر بين المهتمين حول إشكالية “ثورة الأسعار في القرن السادس عشر” التي تعتبر من المواضيع التي حظيت بنقاش مستفيض خلال السنوات الأخيرة سواء في الكتابات الأوروبية أو في الكتابات التاريخية حول الاقتصاد العالمي. استعرض شوكت باموك في البداية جملة من التفسيرات المتضاربة حول أسباب ارتفاع الأسعار من خلال الأبحاث التي قام بها كل من إيرل هاملتون الذي اعتمد بالأساس على الوثائق الإسبانية وأرجع أسباب ارتفاع الأسعار إلى وصول المعادن النفيسة من العالم الجديد 7، ودنيس فلين الذي حاول إعادة صياغة النظرية الكمية لتفسير الظاهرة باعتماد إطار نظري يعرف بالمقاربة المالية لميزان المدفوعات 8، وميشال مورينو الذي أكد، من خلال أبحاثه المعتمدة على ما نشرته صحف البلاد المنخفضة حول وصول المعادن النفيسة إلى أوروبا، على أن مقادير المعادن الواصلة إلى هذه الأخيرة استمرت في التزايد خلال القرن السابع عشر، أي حتى بعد ما بدأت الأسعار في الانخفاض 9. ثم انتقل المؤلف بعد ذلك لمناقشة حصيلة الأبحاث حول ارتفاع الأسعار بالنسبة للتاريخ النقدي العثماني، ولمساهمة المؤرخ التركي عمر لطفي برقان في هذا الباب ومحاولته إدراج التاريخ النقدي العثماني ضمن التاريخ النقدي العالمي 10. وبعد تفنيده لمختلف الحجج التي استند إليها برقان في دراسته لارتفاع الأسعار في الإمبراطورية العثمانية، وبشكل خاص ما يتعلق بمالية الدولة والمؤسسات الزراعية والصناعة، خلص شوكت باموك إلى القول بأن “من الأسباب التي لفتت الانتباه لثورة الأسعار في أوروبا كان الادعاء المتسرع لكل من هاملتون وأتباعه بأن إعادة توزيع الدخل في أيدي المجموعات الجديدة وارتفاع الأسعار قد مهدا الطريق لقيام الرأسمالية. ومما يثير الاهتمام أن عمر لطفي برقان، وبشكل مماثل، فسر ارتفاع الأسعار كمنعطف هام وسبب رئيسي ’للانحطاط العثماني’ في نهاية القرن السادس عشر. إلا أن استعادة أحداث الماضي تبرز بأن ادعاءات كل من هاملتون وبرقان، ومحاولة تصوير ثورة الأسعار كحدث رئيسي وحيد تبدو مضخمة. لقد واجه النظام العثماني بدون شك صعوبات اقتصادية ومالية حادة في نهاية القرن السادس عشر. إلا أن هذه الصعوبات تعود إلى أسباب أخرى أكثر من التضخم الفضي بحد ذاته …“.

الفصل الثامن (ص 245-274) “خفض وزن العملة والانحطاط”، يتناول بالدراسة جانبين اثنين: الانخفاض الذي عرفت النقود العثمانية انطلاقا من سنة 1585-1584، ومسألة اختفاء “الأقجة” من التداول في الأسواق العثمانية وما ترتب عن ذلك من أزمات وعدم استقرار مالي خلال القرن السابع عشر. فالمؤرخون الاقتصاديون يتفقون على أن الاقتصاد العثماني والمالية العثمانية دخلا انطلاقا من أواخر القرن السادس عشر في فترة من الركود والأزمات بعد عقود طويلة اتسمت بكثير من الاستقرار والتوسع الاقتصادي والمالي. فقد بدأت الصعوبات المالية تواجه الدولة العثمانية مع بدايات الثمانينيات، مما اضطرها لتخفيض قيمة “الأقجة” التي دخلت في مرحلة طويلة من عدم الاستقرار استمرت إلى أواسط القرن السابع عشر تقريبا. والسؤال الذي أثاره المؤلف في هذا الفصل يتعلق بمدى صحة هذا الحكم، أي هل شكل التخفيض الذي عرفته النقود العثمانية في أواخر القرن السادس عشر بالفعل نقطة تحول حاسم في مسار الاقتصاد والنقود العثمانية؟ يتفق شوكت باموك مع هذا الطرح من الوجهة التاريخية لكنه يؤكد بالمقابل على أن أسباب تخفيض العملة والنتائج التي ترتبت عنها على الخصوص هي التي تفسر سلسلة الانتكاسات التي عرفتها النقود العثمانية أواخر القرن السادس عشر وعلى امتداد القرن الموالي.

لقد تميزت بدايات القرن السادس عشر بتوسع المجالات العثمانية في المشرق العربي وشرق أوربا، كما عرف هذا القرن إلى ما بُعيد السبعينيات منه نموا ديموغرافيا وتوسعا اقتصاديا موازاة مع استقرار مالي واضح بفضل ما حققته خزينة الدولة من عائدات بفضل عشرات الحملات. ولكن في ذات الوقت، كانت تلك النجاحات تختزل في طياتها أسباب الأزمة. فقد أفضت الحروب الطويلة التي خاضها العثمانيون خلال النصف الثاني من القرن إلى استنزاف الاحتياطي المالي الضخم للخزينة، كما أن المتغيرات التقنية أثبتت تخلف فرق “السباهية” – المرفوعة من أراضي “التيمار” والتي كانت تشكل العمود الفقري للجيش العثماني- وعدم فعاليتها في المواجهات الجديدة مع النمسا، مما دفع بالسلطة المركزية إلى الرفع من أعداد الإنكشارية التي انتقلت، بين أواسط القرن ونهايته، من 13.000 إلى 38.000، وتحمل الخزينة للتكاليف الإضافية المترتبة عن ذلك.

كان من نتائج هذه التطورات أن ارتفعت وثير الصعوبات المالية، وضَعُفَ الاستقرار الاقتصادي، الأمر الذي دفع بالإدارة المركزية سنة 1585 إلى تخفيض قيمة “الأقجة” بنسبة لم تشهدها الدولة العثمانية من قبل. فقد خفض المحتوى الفضي للأقجة بنسبة 44 في المائة، كما انتقل سعر صرفها في مقابل “الدوكا” والسلطاني من 60 إلى 120 “أقجة”. إلا أن تخفيض العملة لم يحل دون استمرار الأزمات وعدم الاستقرار المالي الذي استطال إلى أربعينيات القرن السابع عشر، وتمثلت مظاهره في ثورات الإنكشارية الرافضين لتخفيض العملة، وفي اختفاء الأقجة التدريجي من الأسواق العثمانية بسبب انخفاض وزنها ومحتواها من الفضة الذي انتقل من 0.7 غرام سنة 1580 إلى 0.3 غرام سنة 1640، وبسبب تقلص كميات الفضة الموجهة لدور الضرب التي انخفض عددها هي الأخرى بكيفية حادة بين سنتي 1574 و1687 (عهد مراد الثالث، 1574-1595، 38؛ محمد الثالث، 1595-1603، 40؛ مراد الرابع 1623-1640، 30؛ إبراهيم الأول، 1640-1648، 4؛ محمد الرابع، 1648-1687، 7). ويُرجع المؤلف بعض أسباب هذه الوضعية إلى العيوب التقنية لنظام ضرب النقود حتى أن الأقجة لم تعد سوى وحدة حسابية، في حين أن النقود الأوروبية الذهبية والفضية خاصة هي التي أصبحت في الواقع وسيلة المبادلات المالية من البلقان واستانبول إلى الأناضول وسوريا.

أما الفصل التاسع (ص 275-291) فيحمل عنوان “في غياب عملة وطنية” وهو في الواقع تتمة لما تناوله المؤلف في الفصل السابق. وقد عالج فيه ثلاثة جوانب: انتشار النقود المغشوشة في المجالات العثمانية، وعجز السلطة المركزية عن معالجة المصاعب المالية والنقدية التي شملت مجموع القرن السابع عشر تقريبا، وأخيرا عودة النقود النحاسية.

بالنسبة للجانبين الأولين، يبدو من عرض الفصل السابق، أن الأمر يرتبط من جهة بانعكاسات تخفيض العملة وعدم قدرة “الأقجة” على الاستجابة للحد الأدنى من الاستقرار الضروري للمعاملات المالية الداخلية والخارجية، ويرتبط الأمر من جهة أخرى بالأرباح المهمة التي كان يجنيها التجار الأوروبيون من خلال إدخال العملات المغشوشة إلى المناطق العثمانية. فقد قدرت مقادير ما عبر الجمارك العثمانية بكيفية رسمية من هذه العملات، بين سنتي 1656 و1669، ما يزيد عن 180 مليون قطعة، أي ما يعادل ستة ملايين “دوكا” بندقية؛ إضافة إلى الكميات التي كان يتم تهريبها إلى داخل الأراضي العثمانية من خلال رشوة مسؤولي الجمارك. وفي ظل وضعية مماثلة، لم يكن في وسع المسؤولين العثمانيين سوى العمل على الحد من انعكاساتها ليس إلا. وبالنسبة للنقود النحاسية، يشير شوكت باموك إلى أن هذه الأخيرة كانت شبه منعدمة في أواسط القرن السابع عشر، لكن بسبب الأزمة المالية لسنتي 1690-1691 فقد أقدمت الإدارة العثمانية، خلال فترة لا تتجاور اثنين وثلاثين شهرا، على إصدار حولي 600 مليون قطعة من “المانجير” النحاسي بقيمة اعتبارية تعادل “أقجة” واحدة لكل منها. بل إن النتائج الإيجابية التي حققها هذا الإصدار بالنسبة لخزينة الدولة دفع بهذه الأخيرة إلى إضافة مباني جديدة في دار السكة بإستانبول للرفع من قدرتها الإنتاجية من 300-400 ألف قطعة إلى 600 ألف قطعة في اليوم. وإذا كانت هذه النقود النحاسية الجديدة قد قبلت على نطاق واسع وحققت للخزينة مداخل مهمة، فإن العائق الأساسي الذي واجهها يتمثل في قلة مادة النحاس، وفي غزو الأسواق العثمانية مرة أخرى بالنقود المغشوشة الواردة من أوروبا. لقد حاول السلطان الجديد أحمد الثاني، عند وصوله إلى الحكم سنة 1691، إيقاف التداول بـ”المانجير” النحاسي، كما تم التفكير في إصدار جديد لنفس النقد. إلا أن هذه التجربة لن تستمر طويلا، فسرعان ما تم التخلي نهائيا عن إنتاج النقود النحاسية وتذويب ما تبقى منها في مخازن الدولة.

ويلاحظ المؤلف في آخر هذا الفصل أنه بالنظر إلى التطورات المالية العامة للدولة العثمانية ليس هناك اختلاف كبير بين أواسط القرن السابع عشر ونهايته، سوى في كون المستفيد في المرحلة الأولى هم التجار الأوروبيون ودور الضرب الأوروبية، والمستفيد في نهاية القرن هي الدولة العثمانية نفسها. ويؤكد المؤلف أنه بدون عائدات مرحلة “المانجر” النحاسي هذه ما كان في وسع الدولة العثمانية الإقدام على سك عملة جديدة ممثلة في القرش العثماني الفضي.

الفصل العاشر (ص 293-313) “القرش العثماني الجديد” ويتناول ظهور وحدة مالية عثمانية جديدة في استانبول والبلقان والأناضول خلال القرن الثامن عشر الذي شهد، بخلاف الفترة السابقة، توسعا تجاريا واقتصاديا واكبه استقرار مالي تميز على الخصوص بارتفاع مخزون الفضة، مما ساعد على إصدار نقد جديد وعودة الروح إلى دور الضرب في الأقاليم الأساسية من الإمبراطورية، البلقان والأناضول، وكذلك في كل من سوريا والعراق. بعد ظهور نقد فضي كبير سنة 1690 يحاكي النقد البولندي الذي كان يستورد بكميات كبيرة من طرف التجار الهولنديين، وسك نقد أكبر منه سنة 1703، شهدت عشرينيات هذا القرن ظهور سلسلة كاملة من النقود الفضية العثمانية من القرش إلى الـ”باره” إلى “الأقجة” الصغيرة. ورافق كل ذلك توسع اقتصادي واستقرار مالي مستفيدا من فترة السلام الطويلة التي شهدتها الدولة العثمانية بين سنتي 1747 و1768 على الخصوص. كما تمكنت خزينة الدولة من الاستفادة من فائض الميزانية بفضل اعتماد ميزانيات متوازنة، حتى أن القرش الجديد أصبح عند منتصف القرن الوحدة الحسابية الأساسية ووسيلة الأداء الرئيسية في مختلف المعاملات المالية. فيما يتعلق بالنقود الذهبية، وبعد توقف إصدارها، في أواخر القرن السابع عشر، عادت دور الضرب لسكها، بفضل عودة الذهب إلى مصر ومناطق أخرى، بل تم سك نقود ذهبية جديدة تعرف بالـ”طغرالى” و”زنجرلى” و”فندق” و”زر محبوب”. وكانت هذه النقود في أغلبها قريبة من عيار “دوكا” البندقية. لكن الثلث الأخير من هذا القرن سيعرف حربين كبيرتين: الأولى ضد روسيا بين سنتي 1768 و1774، والثانية ضد كل من روسيا والنمسا بين سنتي 1787 و1792. وإلى جانب الانعكاسات السياسية للحرب مع روسيا اضطرت الدولة العثمانية إلى دفع تعويضات حرب تناهز سبعة ملايين ونصف “أقجة”، أي ما يعادل 62.500 قرشا، لكن انعكاساتها ظلت مع ذلك محدودة. أما الحرب الثانية، فكانت نتائجها أكبر لتزامنها مع الأزمة المالية المترتبة عن الحرب الأولى، واضطرار الدولة العثمانية إلى التخفيض من وزن القرش مما أفقده ما يناهز ثلث محتواه من الفضة. ومن بين مظاهر هذه الأزمة أن سليم الثالث لم يجد في خزينة الدولة ما يقدمه لعناصر الانكشارية بمناسبة توليته جريا على عادة السلاطين العثمانيين عند اعتلائهم للعرش. ومع نهاية الحرب، وإلى غاية عزل سليم الثالث سنة 1807، شهدت النقود العثمانية، وبشكل خاص القرش الفضي، نوعا من الاستقرار على مستوى محتواه من الفضة وعلى مستوى سعر صرفه مقابل دوكا البندقية. لكن الدولة العثمانية عرفت على امتداد ما تبقى من القرن التاسع عشر تحولات كبرى كانت من بين معالمها البارزة ازدياد الضغوطات الاقتصادية الأوروبية على المجالات العثمانية، كما أضحت اقتصاديات هذه الأخير تتجه نحو الارتباط المتزايد مع اقتصاديات أوروبا الثورة الصناعية، وما ترتب عن ذلك من انعكاسات على استقرار النقود العثمانية. يتناول الفصل الحادي عشر (ص 315-339) مسألة “الارتباطات مع الأطراف” حيث حاول المؤلف القيام برصد للنقود التي كانت رائجة في بعض الولايات العثمانية وهي ولايات مصر وتونس والجزائر وطرابلس الغرب والقرم خلال القرن الثامن عشر وبداية القرن الموالي. وقد توسع المؤلف في الحديث عن مصر مثلما فعل في الفصل السادس (المال والدولة) لوفرة المادة حول هذه الولاية، فأبرز التقارب في المحتوى الفضي لكل من البارة والقرش والتقارب في الصرف كذلك، كما سجل تداول الريال الإسباني كأهم النقود الأجنبية المتداولة في مصر خلال هذه الفترة، وتفرد مصر باستمرارية تداول النقود النحاسية بخلاف ما كان يعرفه مركز الإمبراطورية، وأن النقود المسكوكة في مصر ظلت تحمل اسم السلطان العثماني إلى غاية الحرب العالمية الأولى. أما بالنسبة لتونس فقد وقف المؤلف عند سك الريال الفضي، واستعادة الروابط النقدية مع المركز بفضل حمل هذه النقود لاسم السلطان العثماني. وسجل في المقابل خسارة الريال التونسي لـ 60 في المائة من محتواه الفضي بين سنتي 1725 و1760، والاختلافات القائمة بين المركز وهذه الولاية على مستوى النقود الذهبية والنحاسية، وانتشار تداول الريال الاسباني. وبخصوص الجزائر وطرابلس، فقد شبه الأولى بتونس من حيث سك النقود الفضية، كما أكد على التشابه المطرد للنقود المسكوكة بها مع تلك التي كانت متداولة في إستانبول وفي أماكن أخرى من الإمبراطورية. وحرص على الإشارة إلى تعدد النقود الأجنبية المتداولة في الجزائر من نقود إسبانية وفرنسية وإيطالية وبرتغالية ومغربية. أما طرابلس الغرب، فقد شهدت سك نقود مختلفة خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر، في حين تأثرت نقودها خلال النصف الثاني بالقرش المسكوك في إستانبول، وإن كان من غير الواضح أن وزن هذه النقود ومحتواها الفضي كان يساير نقود إستانبول. كما سجل تراجع “قرش طرابلس” بسبب الصعوبات المالية لسلطات الولاية كنتيجة لتراجع القرصنة إثر الضغوط التي كانت تمارسها الدول الأوروبية. أما بالنسبة للقرم، فبعدما شهدت “أقجة القرم” تراجعا بالمقارنة مع أقجة إستانبول خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، أقدم خاناتها بعد سنة 1774 على سك قرش فضي جديد يقل وزنه عن قرش إستانبول بـ40 في المائة ومحتواه الفضي بـ55 في المائة. مع التأكيد على عدم وجود روابط رسمية بين النقدين. وختم المؤلف هذا الفصل بالتأكيد على أن “القرن الثامن عشر كان فترة تحسن وتقوية للروابط بين المركز والأطراف.” فقد “حدث تفاعل متنام أيضا بين العملات الفضية لكل من مصر، وطرابلس، وتونس، والقرم، والجزائر وتلك التي تعود لإستانبول، خلال هذه الفترة. كانت أقوى هذه الروابط مع القاهرة وطرابلس، وأضعفها مع تونس، والقرم، والجزائر. هذه الصورة المعتمدة على النقد والتعاملات المالية تشكل مفارقة هامة لان القرن الثامن عشر ينظر إليه، بشكل عام، من قبل المؤرخين على انه فترة تزايد اللامركزية في الإمبراطورية.

يركز الفصل الثاني عشر (ص 341-367) على “التخفيض الكبير لوزن العملة” الذي ميز القرن التاسع عشر. وبعد الوقوف على إشكالية تنامي الدين الداخلي للدولة العثمانية الناتج عن تراكم الأزمات المالية والنقدية منذ أواخر القرن الثامن عشر، أزمات لم تنفع في حلها مختلف الإجراءات التي اتخذتها الدولة مثل نظام “المالكانه” ونظام “الإسهام” من أجل توسيع قاعدة الاستدانة الداخلية، ولا المحاولات الفاشلة للاقتراض من الدول الأجنبية في أواخر القرن الثامن عشر (من فرنسا وإسبانيا وهولندا والمغرب). لذلك، وجدت الدولة نفسها مرة أخرى مضطرة إلى إجراء تخفيض كبير لوزن العملة علها تتمكن من الرفع من واردات الخزينة. حدث هذا التخفيض على عهد السلطان محمود الثاني، وهم مرحلتين اثنتين: مرحلة أولى بين سنتي 1808 و1822، وارتبطت بالصعوبات المالية التي أفرزتها الحروب مع روسيا وإيران والثورة اليونانية؛ ومرحلة ثانية خلال وبعد الحرب مع روسيا (1828-1829)، بسبب نفقات الحرب وتعويضاتها التي بلغت 400 مليون قرش. ومن الانعكاسات السلبية لعمليات التخفيض هذه يمكن الإشارة إلى الانخفاض الفعلي لعائدات الدولة، وتزايد عدم ثقة الناس بالعملة، وانتشار عمليات التزوير، وتقلص قدرات الدولة على الاستدانة الداخلية.

موازاة مع هذه التطورات، وأمام الحاجة المتزايدة للدولة للأموال، أصبح للمصرفيين المحليين دور أساسي في تغطية الحاجيات المالية للدولة في أواخر القرن الثامن عشر، بل أصبح هؤلاء المصرفيون خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر من كبار الرأسماليين يطلق عليهم لقب “مصرفيو غلطة” بسبب استقرارهم في هذه المنطقة القريبة من إستانبول. ومن بين العائلات التي برزت في هذا الإطار عائلة دوزأوغلو الأرمينية التي كان لها دور أساسي في إدارة دور الضرب العثمانية إلى حدود العشرينيات من القرن التاسع عشر، وبعد بضع سنوات أصبح أحد أعضاء هذه العائلة مستشارا أساسيا للسلطان محمود الثاني في القضايا المالية. إلا أن ارتفاع حاجياتها المالية دفع الدولة العثمانية إلى التوجه مباشرة إلى الأسواق المالية الأوروبية، الأمر الذي أفقد هؤلاء المصرفيين وظيفة الممول الأساسي لخزينة الدولة لصالح المؤسسات المالية الأوروبية التي أخذت في فتح فروع محلية لها، مثل المصرف العثماني الإمبراطوري الذي تأسس في إستانبول سنة 1863 برأسمال بريطاني فرنسي، مما فسح المجال أمام المصارف الأوروبية لتوسيع عملياتها المالية في الأسواق العثمانية.

وتناول الفصل الثالث عشر (ص 369-401) “من الثنائية المعدنية إلى قاعدة الذهب العرجاء” في الفترة الممتدة من أواسط القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الأولى. وعالج فيه المؤلف مسألة اندماج الاقتصاد العثماني في الاقتصاد العالمي، ومسألة الانتقال من الثنائية المعدنية إلى العملة الورقية، وانعكاسات ذلك على الاستقرار النقدي العثماني، فالمصارف التي أنشئت أساسا لإقراض الدولة.

كما وقف المؤلف عند الاقتراض الخارجي للدولة العثمانية الذي ما فتئ يرتفع انطلاقا من سنة 1854 بسبب إقدام الخزينة العثمانية على بيع سندات طويلة المدى ذات فائدة عالية في الأسواق المالية الأوروبية، مما شجع الإقبال على اقتنائها. وكانت من بين الانعكاسات السلبية لهذه السندات أن عرفت الدولة العثمانية أزمة مالية جديدة سنة 1873 أعلنت على إثرها، سنتين بعد ذلك، عن التوقف التام عن تسديد القروض الخارجية البالغة 200 مليون جنيه إسترليني. وتناول المؤلف في هذا الفصل كذلك ظاهرة المصارف التجارية التي أخذت في الانتشار في مختلف جهات الإمبراطورية، والتي كان أغلبها برؤوس أموال أوروبية، مثل المصرف العثماني الإمبراطوري الذي كان مصرفا فرنسيا بريطانيا، وإن كانت حصة الفرنسيين في رأس ماله أكثر من 80 في المائة سنة 1880، والذي توسعت أنشطته لتشمل التجارة والاستثمار عبر إنشاء شبكة تتكون من ثمانين فرعا. إضافة إلى تأسيس الدولة العثمانية نفسها لمصارف تابعة لها، مثل المصرف الزراعي سنة 1888 لتقديم القروض للمزارعين بفائدة أقل من المقرضين التقليديين، وقد فاقت فروع هذا المصرف 400 فرع، مما جعله أكبر مؤسسة مالية في الإمبراطورية.

وفي ختام هذا الفصل تم الحديث عن تمويل الحرب العالمية الأولى من خلال إصدار الدولة سنة 1915 لعملة ورقية ذات قيمة موازية للنقود الفضية والذهبية، وإصدار قانون توحيد النقود سنة 1916 يضع حدا لتداول النقود الصادرة قبل سنة 1844. إلا أن أية من هاتين المبادرتين قلص من أزمات الخزينة العثمانية، فسرعان ما اضطرت الدولة إلى الالتجاء إلى إصدار قوائم وعدت بإعادة شرائها بالذهب بعد انتهاء الحرب، وسرعان ما فقدت هذه القوائم لقيمتها بالموازاة مع ارتفاع مؤشرات كلفة المعيشة بثمانية عشر مرة بين 1914 و1918.

أما الفصل الرابع عشر (ص 403-412) فقد خصصه المؤلف لـ “الاستنتاجات” التي خلص إليها من خلال دراسته للنقود العثمانية على امتداد ستة قرون. وتهم هذه الخلاصات خمسة مستويات:

استخدام النقود والاعتمادات المالية من حيث توسع تداول النقود لتطال البوادي بعدما كان الاعتقاد سائدا بارتباط الأمر بالمدن فحسب، ومن حيث انتشار عمليات التسليف في عدد كبير من المناطق خاصة في المناطق الساحلية الأكثر انخراطا في الأعمال التجارية.

سياسات الدولة التي كانت تعكس في الغالب مصالح الفئات الاجتماعية المهيمنة، كما تعكس وعي السلطات المركزية بحدود سلطتها.

تخفيضات وزن العملة التي حدثت خلال ثلاث فترات اتسمت بانخفاض الأقجة، ثم القرش بكيفية أسرع من أي فترة أخرى: عهد محمد الثاني في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وفترة عدم الاستقرار النقدي والمالي بين ثمانينيات القرن السادس عشر وأربعينيات القرن السابع عشر، وعهد محمود الثاني في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، وأن أسباب ودوافع هذه التخفيضات كانت متعددة.

الدورات الاقتصادية الطويلة المدى التي كشفت عن كون آثار ثورة الأسعار في أواخر القرن السادس عشر لم تكن بالقدر الكبير كما كان يعتقد سابقا، والتي مكنت من استبدال صورة انحطاط الدولة العثمانية بعد القرن السادس عشر بقابلية الدولة والمجتمع العثمانيين على إعادة التنظيم. وإذا كان القرن السابع عشر فترة عدم استقرار وتدهور نقدي، فإن القرن الثامن عشر كان فترة معافاة للنظام المالي العثماني وتقوية الروابط بين المركز والأطراف.

كشف اعتماد مجموع مناطق الإمبراطورية كإطار لدراسة النقود العثمانية عن طبيعة الارتباطات النقدية بين المركز والأطراف، وعن ضعف هذه الارتباطات مع كل من مصر وطرابلس الغرب وتونس والجزائر خلال القرن السابع عشر، وازدياد هذه الروابط قوة خلال القرن الثامن عشر مع كل من مصر وطرابلس الغرب على الخصوص. “وهكذا فإن هذه الصورة الكبيرة للإمبراطورية الواسعة في التاريخ المالي، المعتمدة في هذا الكتاب، قد قدمت لنا رؤى أساسية لمسائل هامة أخرى، أبرزها ما يتعلق بتاريخ المؤسسات العثمانية وتطورها، ومفهوم الإمبراطورية بحد ذاته، وطبيعة هذا الكيان، وكيف نظر إليه العثمانيون أنفسهم”.

وفي نهاية الدراسة أدرج المؤلف ثلاثة ملاحق: يقدم الملحق الأول بعض القوانين الخاصة بتداول النقود وسكها، وبدور الضرب في بعض مناطق الإمبراطورية، في حين أفرد الملحق الثاني لتلخيص المنهجية والنتائج الأولية لدراسة قيد الإنجاز حول الأسعار في إستانبول وفي مدن أخرى بين نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن العشرين، أما الملحق الثالث فيتعلق بملاحظة للمؤلف حول الأوضاع الاقتصادية والنقدية الأساسية في الإمبراطورية العثمانية. وأخيرا، سلسلة من اللوحات تمثل النقود المعدنية العثمانية والأجنبية التي كانت متداولة في الإمبراطورية، إضافة إلى بعض النقود الورقية العثمانية العائدة إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

مشروع التأريخ للنقود في مجموع الإمبراطورية العثمانية:

حاولت فيما سبق تقديم مضامين هذه الدراسة بقدر ما تتيحه الترجمة العربية للنص الانجليزي، كما أكدت في البداية على أهميتها وعلى تفردها في تناول قضايا ما تزال إلى اليوم مجالا بكرا بالنسبة للدراسات العثمانية عامة، كما أنها تتميز بكثير من الجرأة في اقتحام مربع التاريخ الاقتصادي العالمي الذي ما يزال حكرا على المدرسة الأنجلوسكسونية. إنها أول دراسة كذلك تتناول تاريخ النقود خلال مجموع الفترة العثمانية وبالنسبة لمجموع المجالات العثمانية في محاولة لإدراجها ضمن حركية النقود على المستوى العالمي بين نهاية الفترة الوسيطية وبدايات القرن العشرين.

وقبل إبداء بعض الملاحظات التي عنت لي أثناء قراءة هذا العمل أود الوقوف باختصار عند مميزاته العامة وعند مستويات قراءته، وهي مميزات ومستويات تختزل في طياتها، في الواقع، نوعية الصعوبات التي تواجه إنجاز أعمال مماثلة:

1– المجال الجغرافي الذي يشمل مجموع الولايات العثمانية بما يعني ذلك من تعدد واختلاف في الإثنيات واللغات والديانات، وتعدد واختلاف في الممارسات المالية والنقدية نفسها. فمن أجل الإمساك بالتطورات المختلفة للنقود العثمانية كان على المؤلف اعتبار هذه الثوابت البنيوية التي يختص بها الفضاء العثماني أكثر من غيره من الفضاءات الإسلامية.

2– الحيز الزمني الذي يغطي مجموع الفترة العثمانية اعتمادا على المدة الطويلة من أجل ضبط التوجهات العامة لتداول النقود في المجالات العثمانية، الأمر الذي لا يمكن أن تسعف إليه الدراسات الجزئية مهما تعددت الوثائق وتنوعت المناهج.

3– الاستثمار الجيد للدراسات والأبحاث المنجزة حول الموضوع، وبخاصة ما يرد بها من معطيات وأرقام حول النقود العثمانية.

4– الهم المتواصل للباحث لقراءة تاريخ النقود العثمانية كجزء من التحولات النقدية العالمية اعتمادا على المقارنة ومناقشة نتائج الأبحاث ذات العلاقة بالموضوع.

5– تجديد السؤال حول مجموعة من القضايا لا تتصل بالنقود العثمانية فحسب، وإنما تتعداها لتطال مجموع التاريخ العثماني، من مؤسسات ونظم، بل ومفهوم الدولة نفسها وآليات اشتغالها.

من وجهة نظر منهجية يمكن التمييز في عمل شوكت باموك بين مستويين اثنين: مستوى أول ويتعلق بالتأريخ للنقود العثمانية في حد ذاتها، ومستوى ثان ويهم قراءة هذا التاريخ على ضوء حركية النقود العالمية خلال الفترتين الحديثة والمعاصرة.

بالنسبة للمستوى الأول، نلاحظ أن شوكت باموك قدم لنا صورة متكاملة للنقود العثمانية، ولأغلبية النقود التي كانت رائجة في الولايات العثمانية خلال ستة قرون (كما في الفصلين السادس: المال والدولة، والحادي عشر: الارتباطات مع الأطراف) اعتمادا على المادة التي تمكن من جمعها. أما المعلومات الأخرى فأغلبها يتأسس على الدراسة التي سبق للمؤلف أن نشرها سنة 1995 حول “النقود في الإمبراطورية العثمانية، 1300-1914” والتي سبقت الإشارة إليها في تقديم هذا العرض. المتميز في هذا المستوى هو رصد المؤلف لكل المعلومات المتعلقة بالنقود العثمانية في مختلف الدراسات والأبحاث الصادرة حول الموضوع. فالمعطيات التي أوردها في الجداول الستة عشر مثلا استقاها بدون استثناء من دراسات لباحثين آخرين كما حرص هو نفسه على الإشارة إلى ذلك بعد كل جدول. إضافة إلى توظيفه للأبحاث الصادرة بعد سنة 1995، مثل أبحاث ليندا دارلين حول الضرائب وإدارة المالية، ودراسة دينة رزق خوري حول الموصل خلال الفترة العثمانية، واللتين استعملتا الوثائق المتعلقة بالمالية في الأرشيف العثماني 11، وأبحاث كل من عبد الحميد فنينة ولمنور مروش حول النقود في كل من تونس والجزائر 12، وغيرها من الأبحاث.

وتتمثل الأهمية البالغة لهذا العمل في المستوى الثاني، أي مستوى إدراج النقود العثمانية ضمن التاريخ النقدي العالمي. وقد أبان المؤلف في هذا المستوى عن حرفية كبيرة في عرض المعلومات وإجراء المقارنات ونقد الأحكام التي لا تتماشى والتطورات التاريخية النقدية العثمانية وإيجاد المسوغات لتفسير مجريات التاريخ المالي والنقدي العثماني ضمن التاريخ النقدي العالمي. وهذا أمر فرض على المؤلف الانتقال بين مستويات تحليل مختلفة، خاصة وأن الأمر يتعلق بإمبراطورية كانت تمتد على ثلاث قارات وكانت تتعايش فيها أشكال مختلفة من العلاقات المالية والنقدية، كما لم يكن تمثل العلاقات المالية في إطارها يتم بنفس الكيفية من طرف المرتبطين بتلك العلاقات للاختلافات التي توسع المؤلف في عرضها.

وأعتقد أن أهمية هذا المستوى في دراسة شوكت باموك تؤكد ما أشرت إليه سابقا حول استثماره الجيد للأبحاث المنجزة من طرف باحثين أتراك آخرين، من أمثال خليل ساحللى أوغلو ومحمد غينتش، الذين يعود لهم الفضل، في الواقع، في إبراز الأهمية القصوى للوثائق العثمانية في دراسة التاريخ الاقتصادي والمالي للإمبراطورية العثمانية بقضائهم لعقود من الزمن في التنقيب والبحث في الأرشيف العثماني بإستانبول، وفي نشر العديد من الدراسات والأبحاث التي لا يمكن بأي حال تجاوزها أثناء الحديث عن تاريخ النقود والمالية العثمانية.

أما الملاحظات التي يمكن تسجيلها حول هذا العمل فتتعلق بخمس جوانب، وتهم بالأساس ما أورده شوكت باموك بالنسبة لفترة ما قبل بدايات القرن التاسع عشر لكون الدولة العثمانية والمجالات التابعة لها وجدت نفسها خلال هذا القرن مجبرة على الانخراط في النظام النقدي العالمي، ولكون المؤلف نفسه لم يعتبر، في واقع الأمر، الفترة الممتدة من أواسط القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، ضمن الاستنتاجات العامة التي خلص إليها من خلال دراسته للنقود العثمانية.

1- المركزية العثمانية:

الملاحظة الأساسية التي يمكن توجيهها للمؤلف تتعلق بعدم التوافق، الذي نلاحظه في عدد من فقرات الكتاب، بين حرصه على تناول التاريخ النقدي للإمبراطورية العثمانية من خلال “لوحة كبيرة” تضم مجموع المجالات العثمانية، واعتماده في غالب الأحيان على المجالات المركزية للإمبراطورية -الأناضول والبلقان- كمجالات مرجعية لانتقاء النماذج والعينات التي يعمم نتائج دراستها بعد ذلك على مجموع المجالات العثمانية. ونلاحظ هذا الأمر من خلال ما أورده حول المجالات العربية بشكل خاص. فإذا استثنينا ما يتعلق بمصر وإلى حد ما تونس خلال القرن الثامن عشر، تنبني محاولة ربط نقود المنطقة العربية بحركية النقود العالمية على معلومات عامة. وهذا جانب يكشف عن قلة الدراسات المتعلقة بالنقود في المجالات العربية عموما، وعن قلة اهتمام الباحثين الأتراك بالحياة الاقتصادية في هذه الولايات بالقياس مع اهتمامهم بالولايات العثمانية في شرق أوروبا13.

وفي نفس الإطار، انتقد شوكت باموك الأحكام التي قدمها مؤرخو الاقتصاد العالمي حول حركية النقود العثمانية وحول مدى انخراط الاقتصاد العثماني والنقود العثمانية ضمن التطورات العالمية، وانتقد بشكل خاص استنتاجات أريل هاملتون ولطفي برقان، بحجة اعتماد الأول على الوثائق الإسبانية الأوروبية فقط – أي اعتماده للمركزية الأوروبية- وقيام الثاني بتبني مقاربة هاملتون وإن اعتمد على الوثائق العثمانية. صحيح أن استنتاجات هاملتون تعود للنصف الأول من القرن العشرين، ولا يمكن بحال أن تصمد أمام تجدد البحث في التاريخ الاقتصادي، وأن أعمال برقان هي أعمال مؤسسة في ربط الاقتصاد العثماني بالاقتصاد العالمي. ولكن، ألا يمكن القول بأن شوكت باموك نفسه سار على نفس النهج بتبنيه للمركزية العثمانية في معالجة الأوضاع النقدية خارج منطقتي الأناضول والبلقان؟

كما انتقد شوكت باموك الدراسات الجزئية للتاريخ الاقتصادي والمالي، يقول: “لقد عفا الزمن عن الأعمال المتداولة للمؤرخين الاقتصاديين لأنها لا تقدم إلا تغطية جزئية.” (ص 11). إن هذه الوضعية ترتبط إلى حد كبير بنوعية الأبحاث المتوافرة اليوم حول التاريخ النقدي للإمبراطورية العثمانية، فالدراسات قليلة، كما أكد على ذلك المؤلف نفسه، ولا مجال بالتالي للتقليل من أهمية الدراسات الاقتصادية الجزئية التي شكلت في الواقع المادة الأساس التي أقام عليها شوكت باموك دراسته لتاريخ النقود العثمانية. بل نحن في حاجة إلى مزيد من الأبحاث والدراسات الجزئية المعتمدة على الوثائق العثمانية بالنسبة لمجموع الفترة العثمانية ولمجموع الولايات العثمانية حسبما تسمح به المادة المتوافرة، دراسات من قبيل ما قام به أحمد طبق أوغلو وياووز جزار حول المالية العثمانية14. لأن إقامة سلسلة متواصل للنقود أو الأسعار -التي هي نتيجة لدراسة باحثين آخرين- لا تكفي بمفردها للاطمئنان للاستنتاجات التي تم التوصل إليها. فهذا العمل مساهمة مفيدة جدا، إلى جانب مساهمات أخرى لا تقل عنه فائدة.

2- الوثيقة والتأويل:

اعتمد شوكت باموك على عدد هائل من الدراسات والأبحاث المتعلقة بالموضوع، إذ تشتمل قائمة البيبليوغرافيا المثبتة في آخر الكتاب على ما يناهز 500 مادة من بينها 130 لباحثين أتراك، لكنه في المقابل لم يعتمد على ما يكفي من وثائق بما يوازي حجم المشروع والأهداف الطموحة التي رسمها له في بداية الكتاب. وهذه ربما هي أهم ملاحظة ستوجه لهذا العمل من طرف مؤرخي الإمبراطورية العثمانية قبل مؤرخي الاقتصاد. صحيح أن الدراسات التي اعتمد عليها باموك استندت في أغلبها إلى الوثائق العثمانية، وصحيح كذلك أن المعلومات الكمية الواردة في هذه الدراسات قابلة للاستعمال من طرف باحثين آخرين. لكن المشكل يطرح عند مستوى التأويل.

يدرك المشتغلون بالوثائق العثمانية جيدا أهمية التمييز بين المعلومات الواردة في هذه الوثائق والتأويلات الممكنة لتلك المعلومات، كما يدركون بأن حدود التأويل ترتبط بكيفية وثيقة بالسؤال المطروح أثناء البحث نظرا لطبيعة الوثائق العثمانية نفسها. لذلك، يكون من الصعب تجاوز الحدود الكمية للمعلومات الواردة في الدراسات التي اعتمد عليها المؤلف، والاعتقاد بإمكانية القيام بتأويلات لا تخص التاريخ النقدي فحسب، بل تتعداه لتطال مجموع التاريخ الاقتصادي وتاريخ المؤسسات والنظم العثمانية كذلك، في غياب الاطلاع المباشر على تلك الوثائق. واعتماد شوكت باموك على “الدراسات الجزئية”، التي طالما انتقدها في الكتاب، قلص من زاوية نظرته لتاريخ النقود العثمانية.

لذلك، أعتقد بأن النقص الأساسي في هذا العمل يتمثل بالدرجة الأولى في عدم اعتماده على ما يكفي من وثائق مباشرة، وبأن القراءات التي قدمها المؤلف لمجموعة من القضايا يجب التعامل معها بنوع من الاحتراز. إن إدراج النقود العثمانية ضمن حركية النقود العالمية لا يقوم على أساس إقامة سلسلة متواصلة للنقود ولمقاييسها ودرجة نقاوتها، فهذا من صلب عمل علماء المسكوكات، بل يقوم على أساس معالجة القضايا المحيطة بتداول النقود: المؤسسات السياسية والإدارية والاقتصادية، السياسات الاقتصادية والمالية، العلاقات بين المركز والأطراف وبين الحواضر والبوادي، إلى غير ذلك مما لا يتصل بكيفية مباشرة بالنقود. إن دراسة ما يوفره الأرشيف العثماني، وفق المنظور الشامل الذي أُدرج فيه هذا العمل، هي وحدها الكفيلة بتأكيد أو تفنيد ما قدمه شوكت باموك من تأويلات.

3- النقود ومسألة عودة الروابط بين المركز والولايات خلال القرن الثامن عشر:

يعتبر شوكت باموك أن دراسة النقود العثمانية والنقود التي كانت رائجة في الولايات كشفت له عن التقارب بين العملات المتداولة في المركز وفي الولايات، الأمر الذي مكنه من “التوصل إلى استنتاج هام … وهو أن القرن الثامن عشر كان فترة تحسن وتقوية للروابط بين المركز والأطراف“، بل يتساءل حول ما إذا كانت عودة هذه الروابط تشكل أساس المركزية التي سارت عليها الدولة العثمانية خلال القرن التاسع عشر. لقد أصاب شوكت باموك بتأكيده لما هو معروف حول تقوية هذه الروابط، لكنه أخطأ في ربط ذلك بالنقود.

بنى شوكت باموك استنتاجاته هذه على المعلومات التي أوردها في الفصل الحادي عشر “الارتباطات مع الأطراف“. نلاحظ أولا أن هذا الفصل هو أضعف فصول الكتاب، إذ تفتقد المعلومات الواردة به إلى الترابط اللازم الذي قد يتيح مثل هذه الاستنتاجات. فماذا قدم شوكت باموك في هذا الفصل؟

الفصل عبارة عن سرد لمعلومات تتعلق بالنقود التي كانت رائجة في كل من مصر وتونس والجزائر وطرابلس الغرب بين النصف الثاني من القرن الثامن عشر وبداية القرن الموالي، وفي شبه جزيرة القرم بين 1774 و1783. ومن خلال هذه المعلومات ليس هناك ما يفيد بوجود ارتباطات فعلية بين النقود في هذه الولايات ونقود إستانبول، وما يوحد بين هذه النقود جميعها هو التقارب في المحتوى واستمرار رواج النقود الأجنبية بكثافة. فهل “التقارب في النقود” هو ما يؤكد على عودة الروابط بين المركز والأطراف؟ إن اعتماد شوكت باموك على دراسات متخصصة مكنه من رصد النقود المتداولة مثلا في بلاد المغارب (دراسات عبد الحميد فنينة ولمنور مروش)، واعتماده على دراسات عامة (مثل دراسة جميل أبو النصر) 15 جعله يبقى بعيدا عن الإمساك بتطور العلاقات بين الباب العالي والولايات المغاربية. وهنا أتساءل عن عدم استفادته من المعلومات الغزيرة حول الولايات العربية التي يقدمها إسماعيل حقي أوزن تشارشلى في مؤلفه الضخم عن التاريخ العثماني 16، وعدم استفادته بالنسبة للمغارب مما كتبه عزيز سامح إلتر اعتمادا على الوثائق العثمانية 17.

أما العلاقات بين المركز والأطراف – ونقصد الولايات العربية على الخصوص- فهي لم تنقطع على الإطلاق، ولكنها اتخذت منحنيات وأشكال متعددة بعد القرن السادس عشر. وأعتقد بأن المشكل بالنسبة لشوكت باموك، كما هو الحال بالنسبة لعدد من الباحثين الأتراك، أنه ظل ينظر للولايات بمقياس القرن السادس عشر واعتمادا على دراسات جزئية لا تتوفر بنفس الدرجة بالنسبة لمجموع الولايات. فهو مثلا يؤكد على أن العلاقات بين مصر والباب العالي خلال القرن الثامن عشر كانت أكثر أهمية بخلاف الاعتقاد الذي كان سائدا بين الباحثين، وحجته في ذلك نتائج البحث الذي قام به هاتاوي Hathaway حول مصر المملوكية 18. أما بالنسبة لولايات الجزائر وتونس وطرابلس الغرب فقد بقيت علاقاتها محدودة مع الباب العالي ما دام أن المؤلف لم يعثر على دراسات تغير النظرة السائدة لهذه العلاقات، واعتماده على دراسات عامة من قبيل دراسة جميل أبو النصر المشار إليها أعلاه.

من أجل التأريخ للنقود في الولايات ودراسة علاقاتها بالنقود العثمانية في المركز وربطها جميعا بحركية النقود العالمية لابد من توافر ثلاثة شروط: تدقيق مفهوم الولاية العثمانية، وتعويض المركزية التي تحكم تعاطي المؤرخين الأتراك بصفة عامة مع أوضاع الولايات داخل المنظومة العثمانية بنظرة تعتبر دور هذه الولايات وطبيعة روابطها بالباب العالي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهذا أمر لا يمكن أن يتأتى إلا بتحقيق الشرط الثالث المتمثل في دراسة الوثائق العثمانية المتعلقة بهذه الولايات.

فـ“التقارب في العملات” لا يكشف عن “عودة الروابط بين مركز وأطراف الإمبراطورية” كما اعتقد ذلك شوكت باموك، بل يعكس الأوضاع الاقتصادية الجديدة في البحر الأبيض المتوسط، أما “عودة الروابط” في حد ذاتها فترتبط بجوانب أخرى. لقد شهد البحر الأبيض المتوسط انطلاقا من بدايات القرن الثامن عشر استقرار منحى جديدا كان وراء تمكين أوروبا من شروط الامتداد الاقتصادي في اتجاه جنوب وشرق المتوسط، وربط جزء من اقتصاديات هذه المنطقة باقتصادياتها. فكان من الضروري على سلطات هذه الولايات مسايرة الواقع الاقتصادي الجديد وسك نقود تستجيب لهذا الواقع لتحقيق “التقارب” الضروري مع العملات المتداولة في تجارة المتوسط. أما عدم الاستقرار في مقاييس ومحتويات النقود التي تم سكها في هذه الولايات -وفي الولايات المغاربية بشكل خاص- فيرتبط بعدم الاستقرار السياسي الدوري من جهة، والاستخدام المتزايد للنقود الأجنبية من جهة أخرى. وهذا ما قلص من حظوظ رواج النقود المحلية داخليا، وسهل بالمقابل العلاقات التجارية مع القوى الأوروبية بفضل كثرة هذه النقود الأجنبية بالتحديد.

وبالإضافة إلى ما أورده شوكت باموك حول وجود روابط نقدية أكبر مع تونس على عكس الجزائر، فالأمر يرتبط بكون جزء من مبادلات تونس التجارية كانت تتم مع المشرق، في حين أن أغلب التجارة الخارجية للجزائر كانت مع أوروبا. وهذا ما يفسر ما قدمه المؤلف نفسه حول كثافة رواج النقود الأجنبية في الجزائر (نقود إسبانية وفرنسية وإيطالية وبرتغالية ومغربية)، وانتشار الريال الإسباني في تونس مثلما كان منتشرا في مصر خلال نفس الفترة.

أما بخصوص تكاثف العلاقات بين المركز والولايات خلال هذه الفترة فهو انعكاس من جهة لهذه الأوضاع الجديدة على مستوى المتوسط، لكنه يرتبط بشكل وثيق بالأوضاع الخاصة بكل من الدولة العثمانية وبالولايات من جهة أخرى. وتوفر الوثائق العثمانية إمكانية رصد هذه التوجهات، إذ تكشف عن العودة التدريجية لتلك الروابط بالنسبة لأغلب الولايات العربية انطلاقا من بدايات القرن الثامن عشر، وانطلاقا من ثلاثينيات نفس القرن بالنسبة للولايات المغاربية. ولا يقتصر الأمر هنا على “دفاتر المهمة” التي ساد الاعتقاد لفترة طويلة بأنها تتضمن كل ما يخص العلاقات مع الولايات، بل يخص سائر تصانيف الأرشيف العثماني بما فيها دفاتر المالية.

4- مفهوم الولاية:

من بين الإشكاليات التي تطرحها هذه الدراسة، كما تطرحها غيرها من الدراسات، إشكالية الولاية العثمانية: مفهومها، ونوعيتها، ودرجات ارتباطها بالسلطة المركزية، وموقع كل منها داخل المنظومة العثمانية. الإيالة والولاية والإيالات المستثناة والمقاطعة والسنجق والقضاء والناحية وغيرها من المصطلحات التي استعملها العثمانيون للتمييز بين الوحدات المشكلة للإمبراطورية، هي تقسيمات ترتبط إما بضروريات إدارية أو اقتصادية أو مالية-جبائية أو عسكرية. وتعتبر الإيالة أو الولاية أكبر التقسيمات الإدارية والوحدة الأساسية للتمييز بين مناطق الإمبراطورية.

مشروع شوكت باموك هو دراسة النقود في مجموع مناطق الإمبراطورية، مما يعني أنه يتناول الموضوع بالنسبة لكل من ولايات شرق أوروبا والأناضول والولايات العربية من الجزائر إلى مصر والحجاز واليمن والشام والعراق. لكن عندما نبحث عن مدى حضور هذه الولايات في عمل شوكت باموك وكيفية تعامله معها من الناحية النقدية، نجده من جهة، يميز بين مجموعتين كبيرتين: الولايات المركزية، ويقصد بها ولايات شرق أوروبا والأناضول، ثم الولايات الأخرى وتتشكل مما تبقى من ولايات؛ ويميز من جهة أخرى، داخل هذه المجموعة الأخيرة، المناطق التي يسميها بالأطراف، ويقصد بها ولايات الجزائر وتونس وطرابلس ومصر وخانية القرم.

خصص المؤلف فصلين للحديث عن الولايات المدرجة ضمن المجموعة الثانية: الفصل السادس حول المال والإمبراطورية، والفصل الحادي عشر حول الارتباطات مع الأطراف. وهناك اختلافات بين الفصلين في تعامله مع هذه الولايات. ففي الفصل السادس، يدرج المؤلف ضمن المناطق النقدية للإمبراطورية العثمانية البلقان ومصر ومنطقة تداول الشاهي، أي المناطق المحاذية لإيران، ثم القرم والولايات المغاربية، ويرد على ذكر العراق وفلسطين واليمن. أما في الفصل الحادي عشر، فأطراف الإمبراطورية بالنسبة له هي مصر والولايات المغاربية إضافة إلى القرم. هناك خلل ما في تعاطي شوكت باموك مع الولايات خارج منطقتي البلقان والأناضول. فإذا كان الأمر مفهوما بالنسبة لليمن التي خرجت مبكرا من دائرة التأثير المباشر للباب العالي، فما هو غير مفهوم حصر الحديث عن الولايات العربية المشرقية في مصر. فهل هذا يعني أن الأنظمة النقدية للولايات المشرقية الأخرى كانت متطابقة تماما مع الأنظمة النقدية لإستانبول؟ وهو ما لا نلمسه في الدراسة؛ أم أن وضعيتها القانونية داخل الإمبراطورية كانت تختلف عن كل من مصر والولايات المغاربية؟ وهذا ما تفنده التطورات التاريخية التي شهدتها هذه الولايات خلال القرن الثامن عشر على الأقل. فقد شهدت المنطقة الممتدة من فلسطين إلى التخوم الإيرانية تطورات سياسية واقتصادية ونقدية مشابهة لما شهدته مصر. فربما لهذا التشابه لم يهتم شوكت باموك بأوضاعها النقدية، واكتفى بالاهتمام بمصر! يبدو أن هذا الأمر يرتبط، كما أشرت إلى ذلك، بنوعية المادة التي اعتمد عليها المؤلف، كما يرتبط بغياب مفهوم واضح للولاية العثمانية. ولعل تجديد مفهوم الولاية العثمانية بما يساير التطورات التاريخية ومستجدات البحث في هذا الباب، قد يسعف لتجاوز سلبيات تناول تاريخ الولايات بمنظار المركزية العثمانية.

5-بين التاريخ والاقتصاد:

عندما انتهيت من قراءة هذا الكتاب تساءلت حول ما إذا كنت أمام دراسة تاريخية اقتصادية، أم أمام دراسة اقتصادية تاريخية. بصيغة أخرى، هل نحن بصدد دراسة تعتمد منهج التاريخ كوسيلة للتحليل، أم أمام دراسة اقتصادية تستلهم أحداث الماضي فحسب من أجل دراسة قضايا اقتصادية. إن تكوين شوكت باموك هو تكوين اقتصادي في الأصل، وتغليبه للمقاربة الاقتصادية فيما نشر من أبحاث مسألة واضحة. ولعل الإشارة إلى أحد أبحاثه المتأخرة قد تسعف لتأكيد هذا الأمر:Urban Real Waves Around the Eastern Mediterranean in Comparative Perspective, 1100-2000، الصادر سنة 2005. 19، فالزمن المعتمد في عنوان هذا البحث هو زمن الاقتصادي، وليس زمن اشتغال المؤرخ، ولا حتى زمن اشتغال مؤرخ الاقتصاد. ونقف على هيمنة المقاربة الاقتصادية في عمل شوكت باموك بدءًا من مدخل الدراسة وفي عدد من فقرات الفصول، حيث يخفت حضور المؤرخ ليحل محله المحلل الاقتصادي المهتم بالوقائع أكثر من اهتمامه بالأحداث، والذي يستعجل الوصول إلى الاستنتاجات الكمية والخلاصات ذات الأبعاد المالية النقدية. وفي بعض الفقرات يغيب المؤرخ تماما، يقول شوكت باموك: “لو كانت الديناميات الأخرى، وخاصة الاقتراض الداخلي متوفرة كبديل كاف في مطلع القرن التاسع عشر، لما أجبرت الحكومة المركزية على اللجوء إلى أسرع عملية تخفيض في وزن العملة في التاريخ العثماني”.! (ص 407).

إن الانطباع العام الذي يخرج به القارئ لهذا العمل هو أن هذا الأخير يهم بالأساس التاريخ النقدي لمركز الإمبراطورية العثمانية، وأن شروط كتابة تاريخ يروم تحقيق الأهداف التي سطرها المؤلف في المقدمة لم تكتمل بعد. فهو محاولة جادة لابد أن تليها محاولات أخرى للتقدم في دراسة تاريخ النقود في الإمبراطورية العثمانية وإدراجها في إطار حركية النقود على المستوى العالمي.

ملاحظات حول الترجمة:

لابد في البداية من التنويه بالجهد الذي بذله عبد اللطيف الحارس في ترجمة هذا العمل من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية، والنفس الطويل الذي استوجبه إنجاز ترجمة تقع فيما لا يقل عن خمسمائة صفحة؛ والتنويه كذلك بحرص دار المدار الإسلامي على تمكين القارئ العربي من الإطلاع على الأبحاث الجادة التي تتناول التاريخ العربي العثماني المشترك. فبالإضافة إلى هذا الكتاب، قامت نفس الدار بنشر الترجمة العربية لإحدى الدراسات المؤسسَة للبحث المعاصر في التاريخ العثماني، وهي دراسة الباحث التركي خليل إنالجيك الصادرة في الأصل باللغة الإنجليزية سنة 1973: تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار (2002)، كما قامت بإصدار المؤلف الجماعي الذي كان نفس الباحث أحد المشرفين على إنجازه، وهو كتاب: التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة العثمانية (2007).

وإذا ما استثنينا المشاكل التي تشترك فيها أغلب الترجمات في العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى اللغة العربية، وبعض الجمل التي تتطلب من القارئ قراءات متعددة لإدراك المعنى الذي يقصده المترجم، وبشكل خاص الجمل التي حاول نقلها إلى اللغة العربية بالحفاظ على بنيتها الإنجليزية الأصلية؛ باستثناء ذلك، فقد جاءت الترجمة العربية بمستوى مقبول وبأسلوب سلس يسمح للقارئ بالانتقال بين الفقرات وتتبع الأفكار بدون عناء يذكر. ومع ذلك، هناك بعض الملاحظات تعكس في الواقع إشكالية ترجمة أعمال مماثلة، وتتعلق بجانبين: الفئة المستهدفة بالترجمة، وهنا قراء اللغة العربية، وطبيعة موضوع الترجمة. أغلب كتابات شوكت باموك ألفت باللغة الإنجليزية في الأصل، وهو اختيار قد لا يرتبط فقط بدراسة المؤلف أو بتدريسه في عدد من الجامعات الأنجلولسكيونية، بل قد يرتبط بحرصه على الوصول إلى أكبر عدد ممكن من القراء والمشاركة في النقاش العلمي الدائر حول قضايا التاريخ الاقتصادي داخل مؤسسات البحث الغربية. لذلك، فإن الفئة التي ظل يستهدفها من خلال أعماله المختلفة هي فئة المهتمين بالتاريخ الاقتصادي بصفة عامة الذين لا تفترض فيهم بالضرورة المعرفة بالتاريخ العثماني وبلغة التاريخ العثماني. فكان على المؤلف أن يختار ما هو مشترك بين هؤلاء المهتمين من مصطلحات ومفاهيم. لكن المتلقي العربي الذي يشكل تاريخ الإمبراطورية العثمانية جزءا من ثقافته وفصولا من المقررات الدراسية في مختلف المستويات، فقد ألف الحديث عن الدولة العثمانية، والديوان الهمايوني، والصدر الأعظم، والولاية، والباي، والداي، والباشا، والبيلرباي وغير ذلك من مفاهيم ومصطلحات التاريخ العثماني. فوجب إرجاع مثل هذه المفاهيم والمصطلحات إلى أشكالها المتداولة في البلاد العربية وليس الاحتفاظ بما يحيل عليها في اللغة الإنجليزية.

تتلخص ملاحظاتي حول الترجمة العربية في ثلاث جوانب:

1- رسم عدد من الكلمات:

بادشاه (عوض بادى شاه كما كتبها المترجم)، قول أوغلو (كولغلو)، غالطة (غالاتا)، اسكودار (اشقودره)، بيكلربك والأفضل بيلرباي (بيلربيك)، أرخان باي (أورخان بيه)، علي باي، ويعرف بعلي باي الكبير (علي بيه) لكون الكاف في هذه الكلمات كاف يائية، بورصة (بورسة)، طرابلس الغرب (تريبوليتانيا)، محمد غينتش (غينش، غانيش)، خوداوندكار (هودافنديغار)، تشيفتليك (جفتلك)، بوبكر صدوق (صادق)، ياوز أو ياووز جزار (يافوز)، مصطفى آقداغ (أكداغ) … وقد كان من الممكن تلافي مثل هذه الأخطاء بالرجوع إلى القواميس العامة للغة التركية والعثمانية.

2- ترجمة كلمتي “إمبراطورية” و”نقد”:

بالنسبة لكلمة (Empire)إمبراطورية، يبدو أن المترجم فضل ترجمتها بلفظة “دولة”، وربما هناك حرص مماثل من طرف الناشر نفسه على ترجيح هذا الاستعمال على منوال كثير من المؤلفات التي تحمل عناوين مثل “الدولة الأموية” أو “الدولة العباسية” وهي تتناول بالدراسة كذلك مختلف المناطق التي كانت تابعة للأمويين أو للعباسيين (انظر عناوين المؤلفات الصادرة عن نفس الدار حيث ثم استبدال “إمبراطورية عثمانية” بـ”دولة عثمانية“). فهذا اختيار يحترم ما لم يكن على حساب استقامة المعنى الذي قصده المؤلف في الأصل. وربما كان من الأفضل الإشارة إلى ذلك في تقديم الترجمة.

أما بالنسبة لكلمة (Money) و (Monetary) أي نقد ونقود ونقدية، فقد تمت ترجمتها في الغالب بمال وأموال ومالية. هناك تقارب كبير في اللغة العربية بين النقد والمال، وإن كان النقد في الأصل يشكل جزءا من المال. لكن هناك فرق واضح بين “النظام النقدي” و“النظام المالي“، بين “المعاملات النقدية” و”المعاملات المالية“، بين “السياسة النقدية” و”السياسة المالية“، بين “الاستقرار النقدي” و”الاستقرار المالي“، وغيرها من الثنائيات التي استعملها المترجم كمترادفات ليس إلا. فالفرق بين كل منها واضح، والغايات من استعمال هذه بدل تلك أوضح.

إن دراسة شوكت باموك لا تتعلق إطلاقا بدراسة مالية الإمبراطورية العثمانية، كما أنها لا تتعلق بدراسة النقود في الدولة العثمانية، بل هي دراسة تتناول تاريخ النقود والممارسات النقدية للدولة العثمانية ولغير الدولة العثمانية في مجموع مناطق الإمبراطورية. فالدولة تحيل على المؤسسة، على السلطة المركزية، أما الإمبراطورية فتحيل على المجال. وهذا بالضبط هو ما قصده المؤلف على امتداد صفحات الدراسة بسعيه إلى إدراج مجموع المجالات العثمانية ضمن حركية النقود على الصعيد العالمي.

ونكتفي بالإشارة إلى بعض النماذج من هذه الاستعمالات:

العنوان الأصلي للكتاب: A Monetary History of the Ottoman Empire

الترجمة: التاريخ المالي للدولة العثمانية.

الإشكالية المركزية في الكتاب كما صاغها المؤلف: This book is about money and empire and their place in the world economy at the dawn of the era of capitalism. (ص vii من النص الإنجليزي)، الترجمة العربية: “تناولتُ في هذا الكتاب الأموال والدولة، وموقعهما في الاقتصاد العالمي، في مطلع عصر الرأسمالية”، (ص 1).

قلة الدراسات حول النقود في الإمبراطورية العثمانية: Despite the considerable growth of research in Ottoman economic and social history in recent decades, monetary history has remained one of the least studies areas in the historiography of the Ottoman Empire and more generally of the Middle East. (ص xxi

الترجمة العربية: وعلى الرغم من النمو الضخم في أعداد الأبحاث المتعلقة بالتاريخ الاقتصادي والاجتماعي العثماني في العقود الحالية، إلا أن التاريخ المالي كان واحدا من المجالات الأقل حظا في الدراسة من بين الأبحاث التاريخية المتعلقة بالدولة العثمانية، والشرق الأوسط بشكل عام. (ص 11).

عنوان الفصل السادس: Money and Empire ، الترجمة العربية: الأموال والدولة. وهذا الفصل لا يتحدث عن الدولة العثمانية، بل هو عبارة عن عرض لمختلف النقود التي كانت منتشرة في الإمبراطورية العثمانية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.

عنوان الملحق الثالث: A note on basic economic and monetary magnitudes (ص 241)

الترجمة العربية: ملاحظة حول الأوضاع الاقتصادية والمالية الأساسية. (ص 431).

لذلك، أعتقد بضرورة مراجعة كلمات نقد ونقود ونقدية، ومال وأموال ومالية، ودولة وإمبراطورية كما جاءت في الترجمة العربية للتأكد من مدى تطابقها والمعنى الذي قصده المؤلف في الأصل من استعمال هذه الكلمة أو تلك، فهناك غموض واضح في كثير من الفقرات.

3- استعمال بعض المصطلحات والمفاهيم:

والتي لا تتطابق مع الفترات التاريخية التي عالجها المؤلف في دراسته. فعلى امتداد الترجمة هناك استعمال للحكومة المركزية والحكومات العثمانية والحكومات المحلية، وكان من الأفضل ترجمتها بالسلطة المركزية والسلطات المحلية. كما استعمل المترجم كلمات من قبيل النقابة والنقابات الحرفية، والمقصود بها الطائفة أو الطوائف الحرفية، واستعمل كلمات لا دلالة لها في التاريخ العثماني إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر، مثل المعارضة الشعبية والشعب العثماني، وعملة وطنية والمقصود بها عملة محلية فقط.

إن ترجمة مثل هذا العمل تقتضي في نظري إجراء مراجعتين عدا الترجمة العربية: مراجعة أولى يقوم بها باحث في التاريخ الاقتصادي لضبط الألفاظ والمصطلحات واللغة المناسبة لاستقامة كل ما يتصل بالاقتصاد، ثم مراجعة أخرى من طرف ملم بالتاريخ العثماني. ومن باب تسهيل قراءة هذا العمل في نسخته العربية كان من الممكن الاتفاق مع المؤلف والناشر على إضافة بضع صفحات تخصص لتقديم تعريف مقتضب للمؤسسات المالية العثمانية لاستحالة إدراك القارئ العادي لكثير مما أورده المؤلف حول هذا الجانب، وإضافة جدول للتعريف بالمصطلحات العثمانية الواردة بالكتاب.

وأخيرا، أود طرح سؤال عام: هل كانت هذه الدراسة ستعرف طريقها إلى القارئ العربي لو صدرت باللغة التركية بدل اللغة الإنجليزية؟ ما أنجز في تركيا من أبحاث تاريخية منذ قيام الجمهورية إلى اليوم، وبشكل خاص خلال الثلاثة عقود الماضية، يتميز بالكثافة والتنوع ويهم جزء منه التاريخ العربي خلال القرون الأربعة الماضية.

لذلك، كنت أتمنى من المترجم أن يضيف إلى الفقرة التي أوردها في تقديمه لترجمة الكتاب، حين قال: “لقد بقيت كتاباتنا التاريخية قائمة على فهم جزئي أو مشوه أو منحاز للماضي. وقد تعرضت الكتابات التاريخية المتعلقة بالدولة العثمانية بالذات، للإهمال معظم القرن العشرين، حيث طمست أهمية هذه الدولة. إلا أن هذا لم يكن سوى جزء بسيط من اتجاه أكثر شمولية تجاهل الأثر العثماني على حاضرنا، رغم قوة نفوذ هذا الأثر وعمق النتائج المترتبة عليه“، أن يضيف إلى ذلك، أن أحد أسباب استمرار “الفهم الجزئي أو المشوه أو المنحاز” لماضي البلاد العربية خلال أربعة قرون من التاريخ العربي العثماني المشترك يعود إلى عدم اهتمامنا بالدراسات العثمانية وإلى غياب مؤسسات البحث الكفيلة برعاية تلك الدراسات. لذلك، سنبقى في وضعية انتظار دائم لما عسى أن تجود به علينا الدراسات الصادرة في الغرب من “إضاءات جديدة” حول تاريخنا العربي.

الهوامش: 1- The Ottoman Empire and European Capitalism 1820-1913: Trade, Investment and Production, Cambridge, 1987

2- An Economic and Social History of the Ottoman Empire, 1995, pp. 947-985

3- نشير على سبيل المثال إلى دراستيه الأخيرتين حول النظام المالي العثماني في المجالات الحدودية وحول الأسعار في الدولة العثمانية :

The Ottoman Monetary System and Frontier Territories in Europe“,International Journal of Turkish Studies, 9/2003, pp.175-182;

Prices in the Ottoman Empire, 1469-1914“, International Journal of Middle East Studies, 36/2004, pp. 68-451.

4- كانت الدول العثمانية تسير في نفس الوقت على الشرع الإسلامي وعلى القوانين الوضعية. وتعود أهم هذه القوانين إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر فيما يعرف بـ”قوانين نامه” التي أصدرها كل من محمد الفاتح وسليمان القانوني، والتي كان تطبيقها يتم بموافقة العلماء أنفسهم. ولإبراز خصوصية هذه القوانين نسوق مثالين اثنين: يتعلق الأول بأحقية السلطان في قتل إخوته “من أجل استقرار العالم” الأمر الذي ظل معمولا به إلى القرن الثامن عشر، ويخص الثاني تحويل حدود الشرع في حق السارق مثلا إلى غرامة مالية لأسباب اقتصادية بالأساس، إضافة إلى تنصيص هذه القوانين مختلف الجزاءات وعلى الضرائب الوضعية.

5 – Haim GerberEconomy and Society in an Ottoman City: Bursa, 1600-1700, Jerusalem, 1988.

6 – Murat Çizakça, “Cash Waqfs of Bursa, 1555-1823“, Journal of the Economic and Social History of the Orient, 38/1995, pp. 313-354.

7 – Earl HamiltonAmerican Treasure and the Price Revolution in Spain, 1501-1650, Cambridge, 1934.

8 – Dennis Flynn, “A New Perspective in the Spanish Price Revolution: the Monetary Approach to the Balance of Payments“, Explorations in Economic History, 15/1978, pp. 388-406.

9 – Michel MorineauIncroyablesGazettes et Fabuleux Métaux : les Retours des Trésors Américainsd’après les Gazettes Hollandaises (XVIe-XVIIIe siècles), Paris, 1985.

10 – Ömer Lütfi Barkan, “The Price Revolution of the Sixteenth Century: a Turning Point in the Economic History of the Near East“,International Journal of Middle East Studies, 6/1975, pp. 3-28.

11 – Darling, Linda T., Revenue-Raising and Legitimacy, Tax Collection and Finance Administration in the Ottoman Empire, 1550-1660, Leiden, 1996.

Dina Rizk KhouryState and Provincial Society in the Ottoman Empire: Mosul, 1540-1834, Cambridge, 1998.

12 – Abdelhamid FeninaLes Monnaies de la Régence de Tunis sous les Husaynides, Etudes de Numismatique et d’Histoire Monétaire, 1705-1891, Tunis 2003.

وقد اعتمد باموك على نص الأطروحة الذي تمت مناقشتها سنة 1993.

Lemnouar Merouche, “Les Fluctuations de la monnaie dans l’Algérie Ottomane“, Mélanges Ch.-R. Agéron, Zaghouan, 1996, pp. 609-630.

13 – سبق لخليل ساحللي أوغلو أن نشر بحثا حول “النقود في البلاد العربية في العهد العثماني”، مجلة كلية الآداب(القاهرة)، 11/1971، ص 105-115.

14 – Amhet TabakğluGerileme Dönemine Girerken Osmanli Maliyesi, Istanbul, 1985. Yavuz Cezar, Osmanli Maliyesinde Bunalim ve Değișim Dönemi: XVIII. yy.dan Tanzimat’a Mali Tarihi, Istanbul, 1986.

15 – Jamil Abun-NasrA History of the Maghreb in the Islamic Period, Cambridge, 1987.

16 – İ.H. UzunçarşılıOsmanlı Tarihi, cilt I-IV.

17 – Aziz Samih IlterŞimali Afrika’da Türkler, Istanbul, 1946-47.

18 – H. HathawayThe Politics of Households in Ottoman Egypt, the Rise of the Qazdaglis, Cambridge, 1997.

19 – Research in Economic History, Vol. 23/2005, pp. 209-228.

يقدم هذا المقال نتائج أولية لبحث يقوم به شوكت باموك حول الأسعار في إستانبول وبعض كبريات الحواضر العثمانية، وقد أدرج المؤلف بعض نتائج هذا البحث في ملاحق الكتاب.

- عبد الحفيظ الطبايلي

43

2 تعليقان

  1. دكتور / أحمد يوسف

    توضيح

    يعد كتاب التاريخ المالى للدولة العثمانية من اجمل ما تم كتابتة فى مجال النقود العثمانية وبالمانسبة هناك الكثير من الدراسات التى تخص النقود العثمانية فأنا مثلاً دكتور بقسم الاثار الاسلامية بكلية الاثار جامعة القاهرة موضع الماجستير كان بعنوان “نقود على بك الكبير وقيمها النقدية دراسة اثرية وثائقية
    اما موضوع الدكتوراه كان بعنوان النقود المتداولة فى بلاد الشام فى العصر العثمانى
    واتمنى من الله ان تساعدنى احد دور النشر فى نشر وطباعة هاتين الرسالتين وشكر

    • أستاذ هل يمكنك مساعدتي فانا أيضا أبحث في موضوع حول تداولل النقود في الجزائر خلال الفترة العثمانية .انا طالب من جامعة الشلف الجزائر. احتاج الى كتب او مقالات في هذا الجانب والى نصائحكم حول كيفيه التعامل مع دراسة تاريخيه النقود وعن لعناوين الفرعية التي نتناولها في مثل هكذا دراسات ولك مني جزيل الشكر والامتنان .

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.