باتريك بوشرون (إشراف)، تاريخ العالم في القرن الخامس عشر، تنسيق الترجمة العربية ومراجعتها وتقديمها لطفي بوشنتوف، الدار البيضاء-مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، سلسلة ترجمات، بيروت-المركز الثقافي للكتاب، 2022، في 1130 صفحة.
يتكون هذا الملف من القراءات التي تم تقديمها خلال الندوة التي نظمتها مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء بتعاون مع جمعية ومجلة رباط الكتب يوم الخميس 20 أكتوبر 2022، وهو تجسيد للعمل المشترك الذي يجمع المؤسَّستين منذ عدة سنوات، بناء على اهتمامهما بالكتاب وتطوير القراءة من خلال التعريف بالإصدارات المتميزة داخل المغرب وخارجه.
والكتاب موضوع هذه الندوة له قيمة خاصة، لأنه من إصدار المؤسسة المضيفة، وهو يدخل في إطار برنامج “ترجمات” الذي يمثل استراتيجية هادفة تُعنى بترجمة عدد من الأعمال المجدِّدة في مختلف مجالات العلوم الإنسانية، وهو إنجاز يكتسي قيمة حضارية لأن الترجمة لا تعني فقط نقل التأليف من لغة إلى أخرى، بل تعني كذلك إغناء المعرفة وتملكها في المغرب بل وفي إطار مجال حضاري واسع.
لقد سبق للمؤسسة أن أصدرت في سنة 2021كتابا هاما حول تاريخ العالم في القرن التاسع عشر أشرف على ترجمته المؤرخ محمد حبيدة. وها نحن بصدد كتاب هام آخر يتناول تاريخ العالم في القرن الخامس عشر أشرف على ترجمته المؤرخ لطفي بوشنتوف. يقدم الكتابان إضافة نوعية لأنهما يعرفان القراء والطلبة والباحثين بحقل التاريخ العالمي، وهو حقل ما زال مغمورا في الجامعة المغربية. ويركز الكتابان على قرنين كانا بمثابة منعطفين هامين في تطور الإنسانية جمعاء.
وبالإضافة إلى هذا الطابع المشترك للكتابين المذكورين، هناك خيط رفيع يجمع بين الكتاب موضوع هذا الملف ومجموعة من الإصدارات مثل ترجمة أسامة غاوجي لكتاب مغامرة الإسلام. الضمير والتاريخ في حضارة عالمية لمارشال هودجسون (2021)، أحد مجددي تاريخ العالم الإسلامي وأحد مؤسسي تيار التاريخ العالمي (2021)، وترجمة أحمد بوحسن لكتاب مغامرات ابن بطوطة. الرحالة المسلم في القرن الرابع عشر الميلادي لروس دان (2020) الذي استلهم مفهوم التاريخ العالمي في قراءته لنص الرحالة المغربي، والاهتمام الذي حظي به القرن الخامس عشر في الكتاب الجماعي تاريخ المغرب. تحيين وتركيب (2011) الذي أشرف عليه محمد القبلي في إطار “المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب”، حيث اعتُبر القرن الخامس عشر لأول مرة بمثابة حقبة مستقلة في تاريخ المغرب، وبعد ذلك أصدر أحمد بوشرب كتاب المغرب في القرن الخامس عشر. أضواء على قرن مغمور (2021). وقد يوحي هذا التزامن بتفكير جماعي حول تجديد معرفة تحولات القرن الخامس عشر بين خصوصيات التجربة المغربية وسياق التجربة العالمية.
كان تأليف الكتاب الذي نحن بصدده ثمرة عمل جماعي ضخم. فإلى جانب المشرف باتريك بوشرون، هناك ثلاثة منسّقين، و68 مؤلفا، و94 مقالا. أما الترجمة فقد ساهم فيها تسعة باحثين من المغرب وتونس، وأشرف عليها لطفي بوشنتوف الذي سبق له أن احتك بالحقبة موضوع الكتاب على مستوى تاريخ المغرب في أطروحته الصادرة سنة 2004، وسبق له أن أبان عن اهتمام متزايد بتحولات العالم في تلك الحقبة.
يبدأ الكتاب بمقدمتيْن هامتيْن وضعهما المشرف على الترجمة والمشرف على التأليف. وينقسم الكتاب إلى أربعة أبواب. تناول الأول “أقاليم العالم: الأطلس السياسي للقرن الخامس عشر”، والثاني “أزمنة العالم: كرونولوجيا القرن الخامس عشر”، والثالث “كتابات العالم: مكتبة القرن الخامس عشر”، والرابع “مصائر العالم: أوراش القرن الخامس عشر”.
يشعر المتصفح للكتاب أنه أمام مادة غزيرة تنقل القارئ باستمرار بين القارات والظواهر والأحداث والشخصيات. فهي فسيفساء تتيح إمكانية قراءة شبيهة بقراءة الموسوعة. لكن المتمعن في مضامين الكتاب يكتشف بطريقة تدريجية أن هناك مفهومان مترابطان يؤطران البناء العام للمؤلف.
المفهوم الأول هو بناء قراءة تاريخية مُنصفة تعيد النظر في السردية الأورو-أمريكية التي تُنعت عادة بالمركزية الأوربية. والمفهوم الثاني هو نقد الغائية في تمثل التاريخ (التِّيلِيُولُوجْيا)، ومعناها الفكرة المضمرة عند جل المؤرخين، والتي تعتبر أن ما حصل هو الممكن الوحيد لما كان يمكن أن يحصل. فبفعل المسافة التي تفصل المؤرخ عن زمن الحدث، ومعرفته بمآلاته، تعوَّد أن ينتقي عناصر معيَّنة ويشيِّد بها سلاسل سببية واضحة. بيد أن الزمن الذي يدرسه المؤرخ زمن يعج بالممكنات، وما يحصل هو في الواقع مزيج من الاتجاهات والعوامل البنيوية العميقة والقرارات التي لم تكن نتائجها من قبيل الأمر المحسُوم. وبالتالي فنقد الغائية هو إسقاط وهم الحتمية عن تمثل الماضي.
شارك في هذه الندوة أربعة باحثين: لطفي عيسى من جامعة تونس بورقة تحمل عنوان: “بين زمانيتين. قراءة معاصرة في ماضي العولمة”، ومحمد الصغير جنجار، نائب مدير مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء بورقة تحمل عنوان: “جغرافية حضارات الكتاب في القرن الخامس عشر”، ووفاء المصمودي، من جامعة محمد الخامس بالرباط بورقة تحمل عنوان: “البحر الأبيض المتوسط: عندما تغير الأطراف نظرتنا لتاريخ المركز”، ومصطفى نشاط، من جامعة محمد الأول بوجدة بورقة تحمل عنوان: “ابن خلدون ناظرا إلى إرهاصات النهضة الأوربية للقرن 15م”.
ويسرنا أن نقدم لقراء مجلة رباط الكتب ملفا يتضمن مساهمات كل من لطفي عيسى، ومحمد الصغير جنجار، ووفاء المصمودي، وتقريرا عاما عن الندوة أنجزه الباحث ربيع نقري من مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء.