حاورته أميمة المحمدي
يعد محمد الولي أحد أهم البلاغيين المغاربة المهتمين بحقل الخطابة والحجاج والبلاغة، فقد بدأ الترجمة والتأليف منذ الثمانينيات من القرن العشرين، واستطاع أن يبصم على مسار حافل أغنى المكتبة البلاغية العربية بالكثير من المؤلفات الجادة، والترجمات الرصينة التي تعد مرجعا لا غنى عنه للباحثين. نذكر في هذا الصدد: الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي (1990)، والاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية (2005)، والخطابة والحجاج (2020). ومن ترجماته نجد: بنية اللغة الشعرية لجان كوهن (1986)، بالاشتراك مع محمد العمري، وقضايا الشعرية لرومان ياكبسون (1988)، بالاشتراك مع مبارك حنون. ومن آخر ترجماته: المصنف في الحجاج الخطابة الجديدة (2023)، لشاييم بيرلمان وأولبرخت تيتيكا. وسوف نحاول في هذا الحوار الاقتراب من تجربته الغنية أكثر.
س1: ترجمتم مؤخرا كتاب “المصنف في الحجاج الخطابة الجديدة” بعد مرور 65 سنة على صدوره. حدثنا عن هذه الترجمة؟ وما هي أهم الصعوبات التي واجهتك؟
في البداية أجزل لك الشكر على دعوتك الطيبة لإنجاز هذا الحوار. وأنا مدين لك ولكل الباحثات والباحثين بواجبات التشجيع.
المصنف هو قلب التخصص الذي نذرت له حياتي كباحث وأستاذ. لقد استهلك حيزا مهما من عمري كباحث. أعيش متشردا بين عدة لغات، لغات لي بها إلمام كثير أو قليل، كالعربية التي أنقل إليها والفرنسية التي أنقل عنها والترجمة الإسبانية التي استعنت بها، إذ كانت مرافقتي في كل مراحل الترجمة. ولكن معرفة اللغة وحدها غير كافية، إذ لا بد من المعرفة الشاملة بما ينطوي عليه الكتاب المترجم. وأيضا لا بد من الكثير من المرونة. والإبداعية، إذ الأمر ليس تقنيا صرفا. فلو كنا نترجم كتابا في الرياضيات لما صادفنا نفس الصعوبة.
إن ترجمة المصنف في الحجاج كانت عملية مضنية، واختياراً لا يخلو من المغامرة وربما المجازفة. إلا أن المخاطرة أو المجازفة هنا من حظ اليانصيب الرابح دوما. لأن الخسارة هنا لا تكون هدرا. إنها تمهيد الطريق لمن يشتهي ركوب المغامرة مجددا فيجد الطريق أمامه مرسومة الملامح مهما كانت باهتة هي مسعفة في كل حال. وحين تكون الترجمة موفقة فذلك يمثل أحسن رد على أولئك الذين يستلقون في الظلال يراقبون فقط من يعملون ويكدون فلا تظهر لهم إلا العيوب. ذلك أسهل عمل. وأنا لست من أنصاره. ولا أمتطي تلك المراكب.
س2: ترجمتم العديد من الأعمال والمؤلّفات الأدبيّة لأسماء لامعة في مجال الأدب والفكر، مع العلم أنّ الترجمة الأدبيّة من أصعب أنواع الترجمة لطبيعة النص الأدبي التخييليّة. فكيف يُبدِعُ محمد الولي في ترجمة نُصوص أدبيّة صعبة مُنفتحَة على أكثر من قراءة، وأكثر من تأويل؟
في الواقع، النصوص التي أترجمها هي منتسبة في أغلب الحالات إلى جنس خطاب يتوسل باللغة الاصطناعية، أي بخطاب تقني وعلمي. أي إن معاني العبارات، بل النصوص هي في الأرجح أحادية المعنى أو حرفية الدلالة، أو على الأقل نصيبها من الالتباس والغموض قليل. ولذلك فمن الناحية المبدئية والنظرية، الترجمة هنا من لغة إلى أخرى متاحة وممكنة، والخسارات تكون قليلة وقليلة جدا إذا أنجزها مترجم مقتدر في المجال الذي يشتغل فيه. إنما الأمر يكون مختلفا حينما نُقْدم على ترجمة نصوص إبداعية شعرية على وجه الخصوص، وهي النصوص التي نتلقاها بعيدا عن سياقها الأصلي، النفسي والاجتماعي والثقافي. علاوة على هذا فإن جوهر الشعر هو التعبير بلغة المجاز والاستعارة والتمثيلات والرموز، حيث المعنى يكون متعددا وربما فالتا يستعصي على تسليم مفاتيح المعاني المقصودة. ولهذا ينشب ذلك النزاع دوما بين الشعراء والنقاد بصدد المعنى أو المعاني التي ينسبها كل طرف إلى النص قيد التلقي. الترجمة هنا تكون عملية شاقة. ففي النهاية المترجم يكون مؤوِّلا. أو إنه لا يترجم إلا تأويلا واحدا من تأويلات لامتناهية للنص.
س3: القارئ لترجمات محمد الولي يحسّ وكأنها كُتبت أصلاً باللغة العربيّة. فالعديد من المترجمين للنص الإبداعي يُتقنون اللّغة ولا يفلحون في تقديم ترجمة جيّدة. ما سبب وضوح ترجماتكم، عكس الكثير من المؤلفات المترجمة التي نجدها في حقليْ الحجاج والبلاغة؟
في الحقيقة الترجمات التي أقدم عليها هي ترجمات جنس معين من النصوص. إنها نصوص تنتمي إلى حقول معرفية معروفة، وهي الشعرية والبلاغة والحجاج والنقد الأدبي واللغويات عامة. إنها المجالات التي أشتغل فيها كباحث وأستاذ. إنني أتجول فيها وأنا أتمتع ببطاقات المرور وبطاقة هوية. في هذا المجال أنا لست مدسوسا. أحس فيه بألفة، فهو ليس غريبا عني. أدرك تماما الأماكن السرية والمظلمة وأسعى إلى الإمساك بالمعنى المقصود اعتمادا على خبراتي اللغوية ومعارفي وأدواتي التي أسخرها في مختبري. وأنا في كل الأحوال حريص على التفاهم مع القراء. بل ومع عشيرة المختصين في المجال. ولهذا فإنني أحاول ما أمكن، ألا أخرج على تلك الأعراف المعجمية والتقنية المتقاسمة. إن طبعي ينفر من خلق النزاعات. وأنا أطبق هذا في حقلي المعرفي. لأني أميل إلى إقامة الجسور لا التقويض.
على الأرجح هذا ما يفسر سبب وضوح الترجمات التي أنجزها. علاوة على هذا، فإن اختياراتي هي في الغالب نصوص اكتسبت بعض العتاقة والرواج الذي ينفي عنها صفات الغربة. إنها النصوص التي امتلكت المواطنة المعرفية التي تجعلها أليفة عند جمهور القراء في هذا الميدان.
س4: في كتابكم “الصورة الشعريّة في الخطاب البلاغي النقدي” قدمتَم تحليلاً عميقاً لأهميّة الصورة في النقد الأدبي القديم والحديث. ما الذي يميّز الصورة الشعريّة اليوم، ونحن نعيش عصر ثقافة الصورة بامتياز؟
نعم الصورة الشعرية في الشعر القديم لم تكن تحتل نفس تلك المكانة التي تتمتع بها الآن. إن الصورة تحتل اليوم مكانة هامة في الشعر. لم يسبق في الماضي أن أغرم الشعراء بالصورة مثل ما أغرم بها الشعراء المحدثون. تكاد تكون القصيدة المعاصرة باقة من الصور الاستعارية خاصة. ولأمر ما كنا نشتكي من غموض القصيدة المعاصرة. إن ذلك حصل بسبب استغراق جهود الشعراء المعاصرين في الكتابة التصويرية. طبعا، حصل هذا التشديد على الصورة بسبب النشر الكتابي. فحين حَولت القصيدة البوصلة من الإلقاء الشفوي في اتجاه الطبع والكتابة والقراءة تحررت القصيدة من الشفوية وبالتالي من القيود اللفظية أو الصوتية. فهذا التحول إلى الكتابة هو ما عزز هذا الحضور التصويري على نحو أضحت العين هي أداة التلقي وليس الأذن. إضافة إلى تأثر الشعر بما يحدث في مجال مُجاور وهو التشكيل. لقد غمرتنا الصور في كل مكان.
س5: حدثنا عن دراستك لجداريات بانكسي (Bancksy). فكما نعلم أنكم قد قدّمتم قراءة لمجموعة من أعماله الفنيّة بمفاهيم تعتمد على المقوّمات البيانيّة بخلق لغة جديدة غير متداوَلة في مجال الفن التشكيلي. بلاغة إنسانيّة في محاولتها تقويم اعوجاجات العالم على حد قولكم. فإلى أيّ حد يمكن للبلاغة الجديدة الانخراط في الممارسة البلاغيّة التشكيليّة؟
نعم إن التحليلات التي قمت بها لدراسة رسوم بانكسي تنبع من دافعين اثنين:
الأول إنساني. إن بانكسي فنان إنساني عبقري. إن فكره خليط من الماركسية والفوضوية والإنسانية ومناهضة الرأسمالية والطغيان والعطف على العالم الثالث وكل المحرومين والطفولة والتمرد. هذا هو السبب الذي جعله يبدع رسوما تناصر وتدافع عن القضية الفلسطينية. إن تلك الرسوم التي خططها على جدار العنصرية تبلغ مستوى من الرقي الجمالي فريد. وأنا بدوري أتنفس نفس الهواء الفكري. لا يمكن أن أنفيه وأنا فخور به. أنا مع المحرومين حيثما كانوا.
من جهة أخرى، أحاول في تلك الدراسة عن بانكسي أن أبين أن البلاغة والاستعارية لا ينبغي أن تظل محاصرة في الأوراق ورفوف المكتبات وبالمكتوب والمقروء أساساً. حان الأوان لتمتيع العين بهذه البلاغة التصويرية البهية التي تخاطب كل الآدميين حتى أولئك الذين لا يتحدثون نفس اللغة. تكون بذلك الصورة هي اللغة العالمية التي لا تحتاج إلى قواعد النحو والصرف وقواعد كتابة الهمزة أو الجمع. إن تلك الأطر المعرفية البلاغية يمكن أن تطبق على اللغة غير اللفظية. كنت أعبر عن تحد ما. يتمثل ذلك في أن البلاغة يمكن أن تطبق أيضا على الرسم. إن الاستعارية والرمز والسخرية نلاحظها في الرسوم كما نلاحظها في الكلام العادي. إنها خطوة لتجديد البلاغة والدخول بها إلى مجالات لم نتعود الدخول إليها بوسائل بلاغة تم ابتكارها بتحليل اللغة. أنا أزعم أنه يمكن أن نحلل بها نصوصا تعتمد اللغة غير اللفظية.
س6: ما هي مشاريعكم المستقبلية في مجال الترجمة؟
نعم أفكر الآن بتنسيق مع أحد أعز أصدقائي، الأستاذ حنون مبارك، في ترجمة واحدة من روائع الفكر الغربي، بل البشري. أقصد إلى أهم كتاب في البلاغة الغربية De l’orateur لشِيشْرُون خطيب روما الأشهر. إن الكتاب هو خلاصة البلاغة الغربية الذي تم تأليفه في مستهل القرن الأول الميلادي. إن كل الآثار التي تتحدث عن البلاغة في الغرب منه تغترف وعليه تتعلم. وحسب علمي فإن هناك جهلا شبه تام بأعمال شيشرون حول البلاغة في العالم العربي. أتمنى أن نشرع قريبا في التنفيذ كما أتمنى أن نعثر على ناشر يليق بعظمة هذه التحفة الإنسانية. إن نشره بالعربية سيوفر فرصة ثمينة للنقاش والحوار في هذا المجال المتوقد الذي ندعوه البلاغة أو الخطابة.