عبد الله العروي، السنة والإصلاح، الدار البيضاء/بيروت، المركز الثقافي العربي، 2008
أعترف بأنني واجهت صعوبات غير يسيرة لتحرير نص أطمئن الى أنه يليق بكتاب عبد الله العروي. حينما عرض علي الأخ عبد الأحد السبتي المساهمة في هذا اللقاء، كنت قد قرأت الكتاب قراءة أولى، فاعتقدت أن من شأن قراءة ثانية أن تمكنني من استيعاب أطروحات الكتاب، أقول استيعاب، لأنني أعتقد، ولا شك أنكم تشاطرونني الرأي، أعتقد أن مؤلفات عبد الله العروي لا تتطلب من قارئها أن يقتصر على إيجاز معانيها، أو أن يعارض بعض قضاياها بهدف إبراز الاختلاف في هاته النقطة أو تلك. وعلى كل حال فالمؤلف نفسه يعفينا من ذلك إذ يؤكد أنه لا يرمي إقناع أحد بقدر ما يهدف إلى ” ترتيب أفكاره” (ص5). إن شساعة الاطلاع، وعمق التفكير، وأهم من هذا كله، صدق المعاناة، كل هذا يفرض على قارئ عبد الله العروي صعوبات نوعية لاشك أن جل القراء يجمعون عليها.
إلا أن المؤلف الذي بين أيدينا يتميز، فضلا عن ذلك كله، بصعوبات مضافة علها ترجع، فيما ترجع إليه، إلى الشكل الذي كتب به. ولعل التوقف عند مسألة الشكل هاته لإثبات أنها ليست مجرد مسألة شكلية عند مفكر يعلن اعتناقه للتاريخانية، منهجا وموقفا، من شأنه أن يكون مدخلا تمهيديا للكتاب.
هذا الكتاب من الكتب التي تستدرج قارئها لا لتأمل محتواها فحسب، ولا لبذل جهد مضاعف لاستجلاء معانيها بقراءتها وإعادة قراءتها، وإنما من الكتب التي تدعوك لإعادة كتابتها، بحيث لا يكفي القارئ أن يسترسل في القراءة كي يستخلص ما يمكن استخلاصه، وإنما هو مضطر، في أغلب الأحيان، للرجوع القهقرى لتوليد المعنى. هذا الرجوع ربما لا يكفي تفسيره بعجز القارئ عن التمثل المباشر لمعاني الفقرات، وإنما مرده، فيما أعتقد إلى أن أطروحات الكتاب لا تشكل قضايا تتوالد عن تحليل فتركيب، بقدر ما تتساكن كي تحيل إلى بعضها البعض. المعنى لا يؤلّف هنا عبر متابعة نمو développement، بقدر ما يركّب بالإحالة إلى معاني أخرى متفرقة لا تخضع لتراتب أو تسلسل ينم عن كون المعاني تتقدم عندما تتراكم، إلى حد أننا لا نستطيع أن نجزم بأن السابق في هذا الكتاب يحدد اللاحق، وهو ما يفترضه كل موقف تاريخاني. يدفعنا هذا الأمر إلى التساؤل عما إذا كان منهج العرض في هذا الكتاب يكرس مفهوما عن الزمان قد لا يكون هو المفهوم ذاته الذي يفترضه الموقف التاريخاني، وهو مفهوم لا يكتفي في بعض الفقرات بأن يسكن منهج العرض، وإنما يغدو أداة تحليل: فنحن نقرأ في (ص20) على سبيل المثال، موقفا من الفلسفة لا ينبني على تحليل تاريخي، بقدر ما يدعو إلى الاستغناء عنها بالاستغناء عن تاريخها.
بناء على ذلك فقد يخطر ببال قارئ كتاب العروي أن يسأل مؤلفه: ألا يعتمد هذا الكتاب منهجين، لا يقتصر الأول منهما على أن يكون منهج العرض ليتكفل الثاني بالكشف، وإنما منهجين يوظفان معا حتى في التحليل، ويتضحان بكيفية أكثر جلاء عند الحديث عن السنة، حيث لا يكتفي الكتاب، كما يقول في (ص165) ” برصد الروابط والعلاقات..صحبة الاجتماعيين”، ونهج تحليل تاريخاني للسنة نلفيه في الصفحات التي تلي (ص129)، حيث يوضع السؤال: كيف تكونت السنة؟ وإنما هو يسلك نهجا آخر نلفيه أساسا ابتداء من (ص170)، حيث تغدو العلائق هذه المرة، ليست علاقات الاجتماعيين، وإنما علائق المناطقة، فيتحول الأمر إلى رصد منطق السنة التي، كما نقرأ في (ص170) ” قد يقال عنها كل شيء سوى أنها تفتقر الى المنطق والاتساق. انها في الواقع غاية التناسق. كل جزء منها يأخذ برقاب الأجزاء الأخرى”، وهو الأمر نفسه الذي أكدت عليه (ص133) التي، بعد أن تثبت الفكرة ذاتها، تسعى الى رصد بنية، أقول بنية الفكر السني لترده إلى مجموعة مبادئ. قد يقال لا ضير في ذلك، في أن يؤالف المحلل بين الدياكروني والسانكروني، بين البحث عن منطق التطور ومنطق الانتظام، بين الكشف عن علائق الاجتماعيين، وإبراز علائق المناطقة، إذ لا أهمية كبرى في اعتماد تحليل دون آخر، أو إلى جانب آخر، وإن المسألة لا تعدو أن تكون مسألة منهجية، لكن يبدو أن المسألة المنهجية تأخذ هنا على الخصوص قيمة عظمى وتترتب عليها معان ذات شأن غير يسير. ويكفي دليلا على ذلك، الإشارة إلى أن اعتماد المدى الطويل la longue durée في التحليل يجعل الإسلام نقطة تحول وليس نقطة بدء.