رسالة المغرب، العدد 18 ، 20 يونيو 1949.
هل أنتج المغاربة أدبا إنسانيا؟…
الأدب تصوير ناطق للحياة، ومتى استطاع فرد أن يعطينا صورة ناطقة، من ناحية من شعور الحياة فيه، فقد أنتج أدبا، فأدب أمة من الأمم بالتالي هو التصوير الناطق لحياتها بكل ما في هذه الكلمة من إحاطة وشمول، فهل أنتج المغرب في أدوار ماضيه شيئا من هذا التصوير الناطق للحياة؟.هل للمغاربة أدبهم، كما كان للإغريق، أدبهم، وكما للإنجليز وللألمان وللفرنسيين والروس أدبهم اليوم؟.لا نستعجل القراء هنا لا نافين ولا مثبتين، ولا نوقفهم على النتيجة قبل أن نوقفهم على المقدمات.
أيهما أدبنا؟…
حاول المغاربة أن يتركوا لنا صورا من عواطفهم وحياتهم في لغة معربة، وفي لغة ملحونة معا، ولا حاجة بالقارئ في أن يشك أو يتردد أي اللغتين كانت أكثر مرونة وأطوع لتصوير الحياة في يد الأديب المغربي، فقد كانت اللغة الملحونة دائما راجحة الكفة رجحانا لا يقبل المغالطة بحال، والذي يجادل في هذا الحكم على بداهته يجد نفسه ملزما بأن يأتي بطائفة من القصائد المغربية المعربة تضاهي في الروعة والقوة شبيهاتها في الشعر المغربي الملحون الذي تغلى به القرائح في لغة طليقة وخيال مبدع فياض. وما هو يا ترى سر تفوق الأدب الملحون على الأدب المعرب في المغرب؟ سترون سر ذلك فيما بعد. على أننا نسرع فنقول إن الأدب الملحون عاتر منحط عندنا، على طرافته وسمو خياله، لأنه أدب ملحون، يصرفنا عن تقديره كصورة لإنتاجنا الأدبي ما يصرف جميع الشعوب تقريبا على اعتبار أدبها العامي، المكتوب بلغة متساهلة مختزلة، أدبا وطنيا تعتد به بدل أدبها المدرسي الفصيح.
التربية أو العنصر؟…
لسنا نعتبر إذا إلا أدبا واحدا، هو هذا الأدب المعرب الرسمي الذي تقوم عليه ثقافتنا ويجعلنا على اتصال طبيعي بآداب الشعوب العربية كلها. ولكن هل سيبقى أدبنا الفصيح منحطا دائما؟ أقول: لا، لأن ضعف ملكتنا واضطرابها ناتجان عن اعتبارات تربوية خالصة، ولا تأثير محسوس لأي اعتبار عنصري فيهما. ولو كان لانحطاط ملكتنا في الأدب الفصيح سبب عنصري لما كان لنا بطبيعة الحال شعر ملحون لا يقل إتقانا وروعة في بعض الأحيان من أشعار بقية الأمم التي ليس لها سبب يمنعها من الإبداع في الكلام، بل لما كان لنا أيضا أمل في إنتاج أدب يمثل حياتنا وأفكارنا، ما دمنا شعبا قضت عليه خصائص العنصر بالبكم الأدبي، في الوقت الذي زودته بموهبة البطولة! وهذه دعوى يعوزها على الأقل دليل من علم خصائص الأجناس يدعمها ويجعلها مقبولة كفرض علمي.
التربية! التربية فقط!…
ولكن متى كان متيسرا للمغاربة أن ينتجوا أدبا وطنيا يمثلهم؟ أما قبل أن يصلوا في حياتهم الاجتماعية إلى طور النضوج، أي منذ زمن بعيد إلى عهد الحاكم الروماني بونيفاس تقريبا، فلم يكونوا قد استكملوا وعيهم الأدبي ولا كانت حياتهم النفسية والاجتماعية تزخر بما كانت تزخر به حياة الوثنيين الإغريق مثلا، وذلك لأسباب لا تهمنا الآن كثيرا. وبعد بونيفاس وغارة الو ندال وأثناء الفتح الإسلامي إلى أواخر القرن الرابع الهجري، كان المغاربة يعيشون بدون تقاليد في حياتهم اللغوية الأدبية لأن نضوجهم بقي مفتقرا إلى تلقيح أجنبي، إذ أنه انبعث من وجدانهم ولم يأتهم من الخارج، تولد فيهم من القرون البعيدة التي بقوا أثناءها منطوين على نفوسهم ولم ينتج لهم من رجة سياسية أو غزو أجنبي مفاجئ. وأخيرا استعرب المغاربة ولكنهم بقوا مرتطمين بمشكلة الذي يفكر بلغة أجنبية عنه، لم يرب على تقاليدها ولم ينفذ إلى أسرارها، وهنا احتدم الصراع بين ( الشلحية) لغة السوق والشارع والدار، وهي لا تتعدى هذا المستوى، وبين العربية لغة الدين والأدب (والتفكير). وهنا كانت تقاليد جديدة تتكون تكونا اجتماعيا لا يحس، وتظهر نتائج عقلية وعاطفية في المغرب الإسلامي لا يستطيع الباحث أن يحدد بالضبط مقدماتها.
وطلع القرن الخامس الهجري على المغاربة فإذا بالمثل التربوية قد حددت أصولها في المغرب بجلاء ودقة حسابية تقريبا، وهي لا تخرج عن حفظ القرآن عن ظهر قلب، وإتقان رسمه، والمرور عليه في الألواح إلى مالا نهاية له! فالطفل الذي يزج به في الكتاب لا يمكنه أن ينتهي من هذه العمليات المضنية العميقة إلا وهو كهل قد تجاوز الثلاثين، يعرف بدقة كم من مرة وردت فيه كلمة (قال) في القرآن وكم من مرة وردت فيه كلمة (على) أو أي كلمة أخرى ولكنه لا يستطيع أن يفسر لك آية قصيرة! لأنه أمي بعد لم تستفد ملكته الأدبية شيئا من العمر الطويل الذي سلخه في الكتاب.
جناية لا تغتفر!…
ويخيل لي أن هذه أكبر جناية جناها المغاربة على أنفسهم كأمة لها تاريخ ولها ثقافة، ويرى ابن خلدون عن حق أن هذه الطريقة العقيمة التي أخذ بها المغاربة لم تنتج سوى أجيال “حظها الجمود في العبارات وعدم التصرف في الكلام”. فلا يمكن أن نطلب منها أدباء نابغين ولا خطباء مفوهين، ولا ينبغي بعد أن نسأل أين أدباؤنا ونابغونا، فإننا ندفنهم أحيانا في الكتاب! ندفنهم في مقابر الكتاتيب فلا يخرجون منها إلا والشيب جلل بعض لحاهم والحياة اليومية آخذة بتلابيبهم تدفعهم ليؤسسوا أسرة ويلدوا أولادا يكون حظهم أيضا الدفن في مقبرة الكتاتيب كآبائهم… وهكذا دواليك! وهنا ضاع تاريخنا الأدبي ولا ريب.
هدف أخطئ!…
فإذا صح ما ذكر فاندرياس Vendryés من “أن اللغة تموت إذا وجدت نفسها في حالة انحطاط أمام لغة أقوى منها… وإذا صار أولئك الذين يتكلمون بها لا يجدون رغبة ولا ذوقا ولا دافعا للتكلم بها”. إذا صح هذا، وجدنا أن هذه الطريقة المشؤومة التي اتبعناها في تعليمنا لم ترم فقط أجيالنا بالجمود وبالعقم الأدبي كما يقول ابن خلدون، بل حالت أيضا دون توحيد اللغة بين المغاربة وتركت مجال الحياة لمختلف اللهجات الشلحية التي كانت ولا ريب في حالة انحطاط أمام لغة أقوى منها هي العربية، العربية التي لم يكن يعرقل تقدمها في المغرب العربي إلا هذا التعليم العقيم.
من هوة إلى هوة؟…
التلميذ الذي يدخل إلى الكتاب طفلا فلا يخرج منه إلا وقد خط الشيب لحيته، كيف له أن يضطلع بدراسات في النحو وأسرار اللغة وغير ذلك؟ ومع ذلك فهناك من استطاع بعد حذق القرآن أن يتجرد للدرس، ولكن دروس ماذا؟ هنا يجد القراء السبب الثاني الذي، بإضافته إلى السبب السابق، يفسر كيف قضى أجدادنا على مستقبلهم وماضينا الأدبيين، فإن الطالب الذي يخرج منهوكا مغلول الخيال من الكتاب لا يلبث أن يرتطم في دراسته بكتب مقفلة مشوهة فيها العلم كله وليس فيها من العلم شيء مطلقا. ومن هذه الكتب نفسها يأخذ من الركاكة وفساد التعبير ما يقضي على ذوقه، بينما تنتشر عليه القواعد فيها انتشارا مشوشا فلا يكاد يظفر منها بشيء!
العلم للعلم!…
والذي يمر على التاريخ المغربي يصطدم بعشرات الأدلة التي ترسم له خطوط المثالية العامة التي تستولي على فكرة الأجيال المغربية كلها باستثناء قليل. فقد كانت مثالية متزمتة مخنوقة، تقوم على شظايا من التصوف وضعف روح النقد إلى حد الاستسلام. والذي يهمنا هنا هو أثر هذه المثالية في الموضوع الذي نعالجه الآن و هو أثر مميت دون ريب، وهو أكثر أمانة بالنسبة لرجل سلخ زهرة شبابه كله في حفظ القرآن وعد كلماته، ثم في الوقت الذي نهكت قواه المعنوية كلها ابتدأ مرحلة أخرى مضنية مبلدة في هوة من التحشيات المشوشة والكلام الركيك؛ وتحت أغلال نفسية مستسلمة؛ تعتمد لا على علم الأستاذ ولبقاته في التبليغ بل على البركة المرجوة منه في غالب الأحيان. وهكذا لم نكن نأخذ العلم للعلم بل للأخلاق والتقوى على حسب ما نتصور الأخلاق والتقوى! فقد نقبل بالنتيجة على شيخ ونأتلف حوله حلقة كثيفة لا لأنه عالم خصيص بل لأن البركة مرجوة منه والبركة تعين على الفهم دون ريب!
ثلاثة أسباب…إذن!
لقد تضرر تاريخنا الثقافي على العموم، والأدبي منه بنوع خاص، من جراء الأغلاط الكبيرة التي ارتكبها أجدادنا رحمهم الله وهي لا تخرج كما قدمنا على أمور ثلاثة:
أ) الأسلوب الذي اتبعوا في حفظ القرآن.
ب) فساد كتب التعليم وركاكتها.
ج) الروح المتزمتة المستولية على المجتمع.
والعجيب أن المغاربة لم يستطيعوا أن يقتبسوا أسلوب جيرانهم في الأندلس، وهو أسلوب حي وتقليدي في آن واحد، كان له الأثر الرئيسي في ازدهار الأدب العربي في شبه الجزيرة الإيبيرية. بل لم يهتدوا حتى إلى الأسلوب الجاري في تونس والذي كان بتنازعه التأثير المغربي والأندلسي معا؛ وبفضله كان للقيروان من أعلام الأدب العربي أكثر مما كان لأي مدينة عندنا في المغرب!
هل أنتج المغاربة أدبا إنسانيا؟…
نسأل من جديد: هل أنتج المغاربة في ماضيهم أدبا إنسانيا؟ ونجيب: لا! والسبب يعرفه القراء الآن، ويمكنهم أن يعرفوا أيضا لماذا كان الأدب الملحون المغربي أكثر قوة وأقرب إلى تصوير حياتنا من الأدب المعرب، ذلك أنه أدب فطري لم تخنقه هذه الأغلال بطبيعة الحال، فكان يجري طليقا مع الحياة اليومية للمجتمع. وبالله التوفيق.
P.-S. مقتطف من عبد الجليل ناظم وجلال الحكماوي، نصوص من الثقافة المغربية الحديثة، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2008، (ص 153- 157).