تقارير لجن تقصي الحقائق: العيون، الحسيمة، صفرو، القصر الكبير، سلا، سيدي إفني ، الرباط، نشر المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، 2009
أ-هيكلة التقارير ومنهجية عمل اللجن
إن هيكلة أغلب تقاريرالمنظمة المغربية لحقوق الإنسان حول أحداث العنف المحلية التي وقعت بالمغرب بين 2005 و2008 قد قدمت للقاريء بالشكل التالي:
مدخل يتضمن بشكل دائم قرار تشكيل لجنة تقصي الحقائق، أحيانا يُبَرَّر هذا القرار وأحيانا أخرى لا يُبَرَّر.
بطاقة تعريف أو لمحة جغرافية واقتصادية تقدم بشكل موجز الأوضاع العامة للمنطقة أو المدينة المعنية.
بعد ذلك يأتي وصف الأحداث والفضاء الذي وقعت فيه: وفي هذا الجزء الأساسي من التقرير يُعمد دائما إلى التزام الموضوعية في سرد روايتين (الرواية الرسمية ورواية الضحايا و/أو ممثلي المجتمع المدني المحلي أو الأسر… الخ) . يتم التذكير هنا دائما بالوقوف في عين المكان وبالتقاء مسؤولي المنظمة وموفدها بالسلطات المحلية (والي، عامل، باشا)، و بالجمعيات النشيطة بالمنطقة كما تتم زيارة الضحايا الموجودين بالمستشفى أو خارجه.
بعد هذا، يعمد المقررون إلى تحليل سياق وخلفيات الأحداث ثم يأتي تباعا ورصد التجاوزات سواء من طرف جهاز الأمن أو المتظاهرين، ثم المحاكمة و ملابساتها: هل الجلسات كانت علنية أم لا؟ هل تم احترام الحق في الدفاع ؟ هل تم احترام المدة القصوى للحراسة النظرية؟ ثم يتم التذكير بالأحكام مع تحليلها أحيانا ثم التوصيات.
ب – الأحداث موضوع التقصي وملاحظات حول التقرير الخاص بالعيون
يتعلق الأمر هنا بتقارير لجن تقصي الحقائق حول عدة أحداث عرفتها مدن مغربية تكاد كلها تكون من حجم متوسط أو صغير. وقعت كل هذه الأحداث خلال الأربع سنوات الممتدة من 2005 إلى 2008 ويمكن إجمالها في التالي: أحداث العيون عام 2005، أحداث تماسينت بنفس السنة 2005، حدث وفاة الشاب عبد الغفور حداد بحي المزرعة بسلا سنة 2006، أحداث صفرو خلال سنة 2007، أحداث سيدي إفني في 2008.
اخترنا حالة أحداث العيون وذلك لأنها تجسد وتلخص كل العناصر والأسباب التي أدت في الغالب الأعم إلى انفجار أعمال عنف محلية وقع فيها صدام بين المواطنين المتظاهرين وقوات الأمن خلال السنوات الأخيرة بالمغرب. ويمكن أن نذكر من بين هاته العناصر: احتقان اجتماعي ناتج عن ظروف اقتصادية صعبة، شعور عام بالغبن اتجاه سياسة الدولة وتصرف الإدارة والمسئولين المحليين، إشكاليات محلية متعلقة بالهوية. شارك في أحداث العيون المئات من المتظاهرين (التقديرات تراوحت بين 300 إلى 500 شخص خصوصا في حي معطى الله) ووصلت الأحداث أوجها في ماي 2005. لقد كانت خلفية هاته الأحداث انشغالات الساكنة الصحراوية : البطالة، تحيز السلطات لصالح بعض الأعيان، تعسفات الإدارة والأمن… كما شارك في بعض هذه الأحداث دعاة تقرير المصير. ولم تتدخل حسب لجنة التقصي قوات الأمن بشكل عنيف إلا في يوم 24 ماي إثر إحراق العلم المغربي وإلقاء قارورة غاز. ارتبطت أحداث هذا اليوم بقرار إدارة السجون نقل المعتقل الملقب بالكينان إلى سجن جديد يوجد خارج الإقليم وقد تزامن هذا القرار مع الذكرى الثانية والثلاثين لتأسيس جبهة البوليزاريو (20 ماي 1973).
يتميز أسلوب ومضمون هذا التقرير، وهو الأول من بين مجموعة التقارير المنشورة بالكتاب المشار إليه أعلاه، بحذر شديد. وقد يفسر ذلك خشية المنظمة من تهمة الدفاع أو التعاطف مع دعاة الانفصال. ويتجلى هذا الحذر في النقط التالية:
تذكير التقرير في مدخله بما قامت به المنظمة المغربية لحقوق الإنسان تجاه الطرف الأخر ومن ذلك بيانها حول الموقف الجزائري الداعي إلى تقسيم المنطقة الصحراوية وحول المحتجزين في منطقة تندوف كما راسلت المنظمة رئيس المفوضية السامية للاجئين طالبة منه القيام بتحقيق حول تعذيب مواطنين مغاربة بتندوف (ص. 11).
أسلوب نقدي مخفف للأجهزة الأمنية، ويمكن الاستشهاد هنا بجملة عانت ولا شك من عدة تدخلات تجميلية حتى لا يشعر المسئولون الأمنيون أنهم مستهدفون من طرف التقرير حيث يقول نص التقرير في نقطته الرابعة ضمن خلفيات الأحداث “إن مختلف مخاطبي لجنة التقصي يشددون على أن هناك أسبابا عامة لعبت دورا مساعدا لوقوع هاته الأحداث من ذلك عدم تخلص السلطات العمومية بالمنطقة من تفضيل السياسة الأمنية لمعالجة المشاكل المطروحة” (ص. 16). لاحظوا استعمال “عدم تخلص” عوض “متابعة سياسة ” أو “التمادي…”. وكذلك الشأن بالنسبة للنقطة التالية حيث يشير التقرير إلى: “عدم تمكن المقاربة الاجتماعية والسياسية المتبعة من تكثيف الحوار” عوض “إهمال” أو “رفض”.
ومن أساليب هذا التخفيف المبالَغة في وصف تخفيض محكمة الاستئناف للأحكام الصادرة ابتدائيا: “وصدرت أحكام في شأن الملفات بعقوبات متفاوتة أقصاها 20 سنة و التي تم تخفيضها استئنافيا إلى أقل من الربع” (ص. 17 )، بينما خفض بعضها إلى 6 سنوات وهذا ليس أقل من الربع. كان من الممكن أن يقال خفضت إلى أربع أو ست سنوات لأن ذلك هو ما تم بالفعل (الصفحة 18).
كما أن التقرير يعبر عن رغبته في الحياد السلبي وذلك بالقول: “وحسب هيأة الدفاع فان هذه العقوبات غير متناسبة مع الأفعال”. وفي نفس الصفحة وتحت عنوان “حرية تأسيس الجمعيات” نقرأ: “أفادت بعض الشهادات التي تلقتها اللجنة أن هناك نوعا من التضييق من طرف السلطات العمومية على بعض الأنشطة السياسية وبعض تظاهرات المجتمع المدني”، بينما هناك وقائع وليس فقط بعض الشهادات كإغلاق مقر فرع منتدى الحقيقة والإنصاف مند ماي 2003، وكذلك اعتقال أعضاء من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وإصدار عقوبات قاسية ضدهم.
يبدو أن هدف هذا الأسلوب الحذر هو إقناع السلطات العمومية باعتدال المنظمة ومهنيتها ولكن هذا قد يضر بصورة المنظمة في المجال الحقوقي واتجاه بعض أطراف المجتمع المدني داخليا وخارجيا :إن بإمكان المقررين أن يقولوا بكل موضوعية رأيهم كنشطاء أو مهتمين بحقوق الإنسان حول الأحكام: هل توافق “الجرائم” و”الجنح” المرتكبة أم تتجاوز قسوتها الأضرار التي قد تكون لحقت بالمجتمع من جراء ما فعله المتهمون؟
ج – ملاحظات ومقترحات حول مجمل التقارير
• على مستوى الشكل
لاشك أن القارئ المتوسط سيحبذ أن تكون بداية التقرير ملخصا للحادث أو الأحداث موضوع البحث وليس، كما هو الحال الآن، التذكير الجاف والشبه إداري بقرار المنظمة تشكيل لجنة التقصي.
ربما يكون من الأفضل والأنفع أن يستهدف التقديم للمنطقة إلقاء الضوء على سياق الأحداث وليس كما هو حال بعض التقارير المنشورة التقديم الجغرافي العام من تضاريس وكثافة سكانية الخ… اللهم إلا إذا كان ذلك يساعد بطريقة مباشرة على فهم ما جرى. سيكون من المفيد أيضا أن يتم تحديد محتوى التقديم انطلاقا من طبيعة الأحداث وذلك لكشف خلفياتها الثقافية أو التاريخية مثلا، ومحاولة فهمها. فلتقديم أحداث القصر الكبير كان من المفروض التعرض لظاهرة الليلة الكناوية أو ما ادٌعي أنه زواج مثلي.
• على مستوى المضمون
إن الخطاب والأسلوب المعتدل الذي حررت به التقارير لا يلتزم فقط الموضوعية وإنما يرمي أحيانا إلى تحقيق نوع من التوازن بين السلطة والمجتمع وهذا عزيز التحقيق بل وقد يضر بالحياد الإيجابي المفروض في مثل هذه التقارير.
من إيجابيات التقارير أن هدفها لم يكن أبدا الإدانة لأي من الطرفين بل إلقاء الضوء على الأحداث مع الإشارة انه كان بالإمكان تفاديها إذا ما تم احترام القانون من طرف السلطات الأمنية التي لا تحترم أبدا ما يفرضه القانون مثلا من توجيه ثلاث إنذارات بمكبر الصوت قبل استعمال القوة لتفريق المتجمهرين. وهاته الإنذارات حسب ما يفرضه القانون يجب أن تتضمن التذكير بالعقوبات والغرامات التي يمكن أن يتعرض لها المتظاهرون في حالة عدم احترام دعوة السلطات لتفريق الجمع أو التجمهر. يتم كذلك التذكير من طرف لجن التقصي بان من واجب السلطات احترام الحق في التعبير و التظاهر.
المقاربة العامة لأغلب التقارير المنشورة بالمجلد المعني وطريقة المحاججة وتجنب البوليميك السياسي إلا ما نذر وسنذكر أسفله بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة وهي التزام الحياد في إطار الدفاع عن حقوق الإنسان والمطالبة الدائمة، والتي تكاد تتخلل كل فقرة من فقرات التقارير، باحترام القانون، ليس فقط من حيث العمق والمحتوى بل كذلك على المستوى الإجرائي والمسطري.
من بين النتائج العملية المؤملة لنشر مثل هذه التقارير، احترام أكبر للقانون من طرف أجهزة الأمن التي تعرف مسبقا أنه قد يكون هناك لجنة لتقصي الحقائق حول أي أحداث تنتهك فيها حقوق الإنسان وأن هاته اللجنة قد تعلن للعموم وقائع محرجة بالنسبة للسلطات الوصية.
كما أن بعض نتائج البحث والتقصي الذي قامت به المنظمة سيكون لها وقع ايجابي على المستوى الأكاديمي. هكذا لاحظت المنظمة خلال أعمال لجنها الأخيرة لتقصي الحقائق أن هذه الحركات لها سياقات جديدة وتتبنى مطالب فئات كانت في معظمها خارج الإطارات التنظيمية المعروفة على الصعيد العام كما قالت رئيسة المنظمة (ص. 93) في 1يونيو 2008 يوم عرض تقرير لجنة التقصي حول أحداث سيدي إفني بالخزانة العامة بالرباط. وأضافت رئيسة المنظمة “أن الحركات الاحتجاجية تعبر عن مطالب سياسة جزئية أو عن مطالب اقتصادية واجتماعية وثقافية والتي تعمل غالبا بشكل مستقل عن الأحزاب والنقابات مؤسساتيا لكن بعلاقة ومساهمة عدد من أعضاء هذه الأحزاب والنقابات داخلها” (ص. 93).
ويمكن التعليق على ذلك بالقول أنه كان هناك حضور ملحوظ لليسار في هذه الأحداث ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي ولكن مساهمة اليسار هاته لم تأخذ أبدا بعدا مؤسساتيا وطنيا. لماذا؟ لأن جل أحزاب هذا الاتجاه تشارك في الحكومة منذ أكثر من عشر سنوات وهذا ما أعطى واقعا جديدا على المستوى المحلي للحركية السياسية حيث إن الأعضاء المحليين إما أنهم جمدوا عضويتهم أو على الأقل حدوا من نشاطهم أو أنهم لا يعتبرون أنفسهم ملزمين باتباع اختيارات قيادتهم على المستوى الوطني. كان هناك إذن حضور لليسار في أحداث صفرو والحسيمة والعيون وايفني وطغيان الطابع الإسلامي على أحداث القصر الكبير مما أدى إلى تراجع منتدى حقوق الإنسان بشمال المغرب عن توقيعه للشكاية الجماعية التي كان من بين موقعيها حزب العدالة والتنمية وتأكيد الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أن العضو الذي وقع باسمها لم يستشر المسئولين لا على المستوى المحلي ولا الوطني.
-بعض توصيات لجن التقصي تأخذ طابعا سياسيا بالمعنى العميق للكلمة أي أنها تتجاوز الطابع الحقوقي المحض ومن ذلك: “من أجل وساطة فعالة نحو الحركات الاحتجاجية الاجتماعية ومن أجل إعمال المساءلة ووضع حد للإفلات من العقاب” حيث وضعت هذه الجملة كشعار للتقرير عن أحداث إفني (ص. 95).
قلنا أعلاه إن الخطاب الحقوقي المحايد على المستوى السياسي يغلب على التقارير المعنية رغم وجود بعض الاستثناءات نذكر بعضها فيما يلي:
التقرير حول أحداث القصر الكبير، تم عرض محتوى أسئلة نواب العدالة والتنمية في سبعة سطور دون الاستشهاد بنص ما صرحوا به بدقة بينما تم سرد جواب وزير الداخلية بين هلالين في حوالي ستة وعشرين سطرا. وهذا فيه نوع من الإجحاف لخصم إيديولوجي (ص.68-69). يضاف إلى هذا إشارة ذات منحى سجالي إلى أنه كان هناك “تزامن بين خطبة الإمامين مع السؤال الشفوي الآني لفريق العدالة والتنمية بمجلس النواب.”(ص.73). وللتذكير فإن إمامي مسجدين بالقصر الكبير وهما جامع وادي المخازن وسيدي الهزمري كانا قد استنكرا في خطبة الجمعة “المنكر” وحذرا من غضب الله وبعد انتهاء الصلاة خرجت الجموع متظاهرة أمام مكان الحفل الكناوي.
يؤكد التقرير حول أحداث تماسينت والتي وقعت في سياق إعادة إعمار المناطق المتضررة من الهزة الأرضية بنواحي الحسيمة: “تميزت مرحلة ما بعد الزلزال بإقليم الحسيمة بارتباك ظاهر لأجهزة الدولة المعنية بالتدخل، وساهم حضور الملك في تسريع وتيرة إغاثة المنكوبين كما شكل الخطاب الملكي …”(ص.35 ). تنضح الجملة الأخيرة بنبرة دعائية أولا وهي تغطي الواقع ثانيا. فبالرجوع إلى وسائل الإعلام الدولية وبعض الصحف المغربية المستقلة لا يسع المرء إلا أن يتأسف على هذه الجملة التي تمثل نشازا في التقرير. فلنذكر بأنه عقب الإعلان الرسمي عن حضور الملك عمدت السلطات المحلية إلى شبه إيقاف تام لعمليات الإغاثة مع منع العديد من شاحنات المجتمع المدني من دخول المنطقة المنكوبة في انتظار وصول الموكب الرسمي وأنه بسبب الهزات الرجعية ونظرا للاحترازات الأمنية الطبيعية والمقبولة في مثل هاته الظروف، فإن الموكب المذكور وصل متأخرا جدا.