تقديم
تشكل الدراسات الثقافية (Cultural studies) وهي تيار في البحث، ملتقى للكثير من التخصصات أهمها علم الاجتماع والأنثربولوجيا الثقافية والفلسفة والإثنولوجيا والأدب والفنون. أخذت في التشكل منذ الستينات من القرن الماضي حينما أسس ريتشارد هوگار (Richard Hoggart) مركز برمنغهام للدراسات الثقافية سنة 1964 وترأسه ستيوارت هول (Stuart Hall) فيما بعد.
ومعلوم أن المساهمات المندرجة ضمن الدراسات الثقافية تمثل شكلا من الرد على المناهج النقدية الحديثة المسكونة ببناء النماذج والكليات والأنساق المغلقة. وإذا كانت خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي قد تميزت بظهور الكثير من الدراسات الرصينة المستفيدة من كتابات ألتوسير وفوكو وفرويد وبورس وغريماس وجيل دولوز ودريدا.. كأعمال إدوارد سعيد وإعجاز أحمد وهومي بابا ولندا هتشن… فإن حقلها اتسع اليوم ليشمل قضايا الإعلام والدراسات النسوية ودراسات ما بعد الكولونيالية. ولأن اهتمام الدراسات الثقافية يتكرس لتحليل العلاقات المعقدة بين الثقافة والسلطة حيث تقترح مسارات جديدة للتفكير تتجاوز حدود المقاربة الأكاديمية الصارمة، فهي ليست نظرية بالمعنى الإبستمولوجي، بل هي مزيج من تيارات فكرية ونظرية وفنية متنوعة المرجعيات، إذ تصهر كل ذلك في بناء نماذج للتحليل تنصب على الممارسات والخطابات في تنوعها وتعدد أشكالها. ومعلوم أن تأثير الدراسات الثقافية لم يعد اليوم حكرا على الأوساط الثقافية الغربية: بريطانيا وأستراليا وأمريكا وفرنسا، بل امتد إلى العالم كله ومنه العالم العربي خاصة في العقد الأخير من القرن العشرين وبداية هذا القرن. ويمكن الحديث اليوم عن أبحاث ومساهمات في الحقل الفكري العربي تندرج ضمن هذا الأفق ومنها أعمال الدكتور نادر كاظم.
يعد نادر كاظم، الناقد البحريني ومدير تحرير مجلات أوان (سابقاً) وثقافات والعلوم الإنسانية حاليا، من الباحثين الذين يتمتعون بحضور لافت في المشهد الثقافي العربي. أصدر إلى حدود اليوم ستة كتب هامة هي: المقامات والتلقي: بحث في أنماط التلقي لمقامات الهمذاني في النقد العربي الحديث 2003، وتمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط2004، والهوية والسرد: دراسات في النقد الثقافي (2006)، وطبائع الاستملاك: قراءة في أمراض الحالة البحرينية(2007)، واستعمالات الذاكرة: في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ (2008)، وخارج الجماعة: في تجاوز الليبرالية والجماعية القمعيتين (2009).
وفي هذه الأعمال يدرس نادر كاظم الكثير من النصوص والخطابات الأدبية والثقافية كما يحلل الكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية من منظور يستفيد من الدراسات الثقافية بتياراتها المتعددة، وهو لا يستقدم إلى حيز التفكير أسئلة مكرورة أو مألوفة، وإنما يرحل بالنقد إلى أفق مغاير ومتجدد يسمح له بالتفكير في الكثير من الأنساق الثقافية بغية التأسيس لشكل من المصالحة مع الذات لا تخشى فيه الإقرار بالعيوب والاعتراف بها بدل التستر عليها وإخفائها. ولأن أعمال هذا الناقد تنتظم ضمن أفق مغاير يرتاده النقد العربي المعاصر وهو الانفتاح على الدراسات الثقافية واستثمار مقترحاتها وأدواتها في الاقتراب من النصوص والخطابات والممارسات بهدف بلوغ الفهم بما ظل متواريا خلف سطوحها فقد آثرنا أن نقف في هذا الحوار على أهم ملامحها والقضايا التي عنيت بها بغية تقريب الباحثين من استراتيجياتها وأهم مرجعياتها النظرية.
الحوار:
■■ أستاذ نادر كاظم بودي أن أشكركم على تلبيتكم الدعوة لهذا الحوار. وسأبدأ معكم مما هو عام قبل أن ننتقل إلى ما يخص أبحاثكم. الموضوعات التي يعنى بتحليلها نادر كاظم كانت محل مقاربات متعددة: تاريخية وسوسيولوجية وسياسية ودينية وأنثربولوجية.لكن الجديد بالنسبة لكم هو انطلاقكم مما بات يعرف اليوم بـ التخصصات أو النظريات المتداخلة.ماهي الأهمية التي يكتسيها هذا الإبدال؟.وأين تكمن وجاهته وملاءمته في التحليل الذي تعملون على تشييده؟
نادر كاظم:
■ أنت تعرف أن الجامعة، والجامعة العربية على نحو أخص، في تقلّص مطرد، وهناك نزعة متنامية فيها نحو التخصص، بل نحو المزيد من التخصص. طبعاً كثيرون ينظرون بإيجابية إلى هذه الظاهرة ويرونها علامة صحة وعافية للمعرفة الإنسانية، إلا أني أتصور أن المآل الذي تقودنا إليه هذه النزعة المغرقة في التخصص هو اعتزال العالم وقضاياه التي أسميها “قضايا مزعجة”، لأن الإغراق في التخصص يعني تطوير أدوات منهجية وأجهزة اصطلاحية مغرقة في تقنيتها التخصصية بحيث لا يفهمها أحد غير المتخصص، والأمر الثاني أن الإغراق في التخصص يعني تفتيت القضايا المتشابكة إلى جزئيات صغيرة متناثرة بحيث يغرق المتخصص فيها وينسى وحدتها المشتركة وترابطها الوثيق في الخارج. وثالثاً يقود التخصص الدقيق إلى وهم أن المنهجيات والأدوات والجهاز الاصطلاحي، وكل ما يجري تطويره وصقله في مجال التخصص إنما هي غايات وأنها مقصودة لذاتها.
لن أقول إن التخصصات متداخلة المعارف تمثل عودة إلى حالة المعرفة قبل أن تشرع نزعة التخصص الدقيق في تقسيمها إلى مجالات جزئية متعددة، ولكن أرى لزاماً علي أن أذكّر بشيء من هذا، هل تعرف أن أرسطو، على سبيل المثال، وضع كتابه عنعلم الأخلاق كمقدمة لكتابه عن السياسة، وحين انتهى من علم الأخلاق قال “فلندخل إذن في الموضوع” وهو يقصد كتابه عنالسياسة؟ وهذه ظاهرة ستجدها لدى علماء المسلمين، كما لدى مثقفي عصر التنوير الأوروبي، وإلا قل لي في أي تخصص يمكن أن ندرج مؤلفات جان جاك روسو؟ خذ خطاب في أصل التفاوت بين البشر، فهل هذا كتاب في السياسة أم الأنثروبولوجيا أم الفلسفة أم علم الاجتماع أم علم النفس؟ من المؤكد أنه لا هو هذا ولا ذاك، ولكنه كل هذه المعارف مجتمعة، ويبدو أن سرّ عبقريته الفذة أنه كذلك.
ثم إن التعارض بين نزعة التخصص والتخصصات متداخلة المعارف ليس تعارضاً نظرياً، ولهذا ليس المطلوب هنا أن نأتي بحجج هذا الفريق ونواجهها بحجج الفريق الآخر، ولكن التعارض أساساً قائم بين دورين للمثقفين والباحثين والأكاديميين: دور الأكاديمي المتخصص الذي يتعامل مع موضوعاته بنزعة احتكارية وبموضوعية باردة ومملة، ودور المثقف المسؤول الذي يتعامل مع قضايا العالم على أنها شأن يعنيه، وأن الإغراق في موضوعات التخصص الدقيق قد يخدم التخصص إلا أنه لن تنتهي إلا بعزله عن هذه القضايا وتشابكها الوثيق.
ربما كنت في بداياتي أجد أهمية كبيرة في تسمية المجال الذي أجد نفسي فيه، وأضع فيه اشتغالاتي وكتاباتي، لكني اليوم لست مهووساً بتسمية ما أقوم به، البعض يقول إنه “دراسات ثقافية”، آخرون يسمونه “نقد ثقافي” أو “معارف متداخلة”، لكن كل هذا، حقيقة، لم يعد يعنيني كثيراً، بل إني أرى أن هذا النوع من الاشتغال متعدد المداخل والمعارف إذا جرى التفكير فيه على أنه منهج وأن على الباحث أن يلتزمه بصرامة فإنه يفقد كل مبررات وجوده وجدواه، ويتحول إلى وصفة مثله مثل الوصفات الجاهزة التي تعرفنا عليها في البنيوية وغيرها.
■■ الكثير من النقاد يرون أن الدراسات الثقافية ليست سوى موضة سرعان ما ستمضي دون أن تترك وراءها أي تأثير في حقل النقد والدراسة الأدبية، وهم يعللون هذا القول بعدم انضباط الدراسات الثقافية لمعايير العلم. فالمفاهيم الموظفة في التحليل لا تتموضع أنطلوجيا ضمن حقل معين في المعرفة العلمية، ولذلك لا تغدو أن تكون تلفيقا وجمعا لمفاهيم واصطلاحات بعيدة عن بعضها. أريد منكم أن تتكرموا بتوضيح هذا الأمر أولا، وكذلك الحدود بين الدراسات الثقافية والنقد الثقافي ثانيا ؟
نادر كاظم:
■ هنا لا بد من التمييز بين النقد الثقافي والدراسات الثقافية، لأن هذه الأخيرة آخذة في الانتشار أكاديمياً، وجونثان كولر يعتبرها النشاط الرئيسي للعلوم الإنسانية منذ تسعينات القرن العشرين، وهناك من يعتبرها بمثابة الجيل الجديد في سلسلة تطور العلوم الاجتماعية من “سوسيولوجيا” و”أنثروبولوجيا”، وهي اليوم مجال معرفي متخصص يتداخل مع العلوم الإنسانية من فلسفة ونقد أدبي وأنثروبولوجيا وعلم اجتماع وعلم نفس ولسانيات. وبعض الجامعات تعاملت مع الدراسات الثقافية كـ”تخصص علمي” ينال الطالب فيه شهادة الدبلوم أو البكالوريوس أو حتى الدكتوراه، وتدور معظم المقررات فيه حول قضايا عديدة مثل “الثقافة، والاقتصاد السياسي، والجنوسة، والجنسانية، والاستعمار، وما بعد الاستعمار، والعرق والهوية والأمة، والأنثروبولوجيا النقدية، والتاريخ، والسيميوطيقا، وما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة، والمؤسسات الاجتماعية، والعلم والتكنولوجيا، وممارسات الحياة اليومية كمشاهدة التلفزيون وأكل الوجبات السريعة وغيرها” وهذه مساحة شاسعة تغطي مفهوم الثقافة بكل اتساعه. وربما هذا التشعب هو ما جعل البعض يشكك في علميتها، ولكن ما ينبغي أن يكون واضحاً أن موضوع “الدراسات الثقافية” محدد في كل شيء ينطبق عليه أنه “ممارسة دالة” وذات معنى، ولهذا السبب تحديداً يذهب بعض الباحثين –ومنهم جونثان كولر– إلى تحديد مصدرين للدراسات الثقافية: أولهما سيميولوجية بارت التي اضطلعت بقراءات موجزة لمعظم الأنشطة الثقافية بما هي ممارسات ذات معنى، وذلك بدءً من مصارعة المحترفين والإعلانات والممارسة الطبية. والمصدر الثاني هو أعمال ريموند وليامز وريتشارد هوغارت.
أما من ينتقد انضباطها العلمي فينبغي أن نوضح له بأن الانضباط بحد ذاته ليس غاية. ومن يحلم بالانضباط العلمي في مجال النقد لا يزال موهوماً، وأكثر من هذا لا يزال يعيش تحت مغالطة العلموية وهو الإيمان الأعمى بالعلم والانضباط العلمي والمنهجي، وهذه مغالطة لأنها تحوّل المنهجية العلمية من أداة في البحث والمعرفة إلى غاية بحد ذاتها، فنطبق المنهج العلمي ونلتزم بالانضباط العلمي من أجل إثبات المنهجية العلمية والانضباط العلمي فقط فهذا دوران في حلقة مفرغة لا تنتج شيئاً. ثم كيف يكون النقد منضبطاً علمياً؟ هل كانت البنيوية منهجاً منضبطاً علمياً؟ قد يجيب البعض من هؤلاء بالإيجاب، وأنا أسأل ما الفائدة الكبرى المتحصلة من هذه العلمية والانضباط العلمي؟
ثم إن الانضباط العلمي بحد ذاته مفهوم فضفاض أي إنه ليس مفهوماً علمياً، فهل الانضباط العلمي قرين الموضوعية، أم قرين الاضطرادية والثبات (أي أن نحصل على ذات النتائج في كل مرة نطبق المنهج العلمي على ظاهرة معينة)، أم قرين الضبط المفهومي للمصطلحات؟ إذا كان هذا الأخير هو المقصود فإن في النقد الثقافي مصطلحات محددة بدقة حتى لو كانت تنتمي إلى حقول معرفية عديدة، فهذا ليس نقيصة في النقد الثقافي خصوصاً أن ظاهرة النقد الثقافي لا تكتسب معناها الحقيقي إلا في سياق المعارف المتداخلة interdisciplinary بما هي مجال تمحى فيه الحدود بين المعارف والحقول المعرفية. وهذه الأخيرة هي على النقيض من الانغلاق التخصصي، فإذا كان النقد الثقافي لا ينتمي إلى حقل معرفي محدد فلأنه نتاج المعارف متداخلة الحقول والتي تجمع بين نيتشه وفرويد وماركس ودريدا وفوكو ولاكان وإدوراد سعيد وجوليا كريستيفا وجوديث بتلر وهومي بابا ولويس ألتوسير وغاياتري سبيفاك وريموند وليامز وبارت وليوتار وجيمسون وآخرين ينتمون إلى مجالات متباينة.
■■ إن قراءة مجمل ما صدر لكم من أعمال لحد الآن يفضي إلى ملاحظة هامة: فالتحليل الثقافي لا يقتصر لديك على مجرد كشف العيوب النسقية في الثقافة العربية وإنما يمكّن من بلورة رؤية جديدة لتجاوز هذه الأنساق والتغلب عليها.. ويظهر هذا المنزع جليا في كتابكم: استعمالات الذاكرة حيث تطرحون فكرة الديمقراطية التوافقية كرد على نزعات استملاك التاريخ..فهل يمكن للمجتمع التعددي أن يعيش بلا ذاكرة؟
نادر كاظم:
■ في فترة مبكرة جرى الحديث عن إشكالية التراث والمعاصرة في الفكر العربي، وكانت إحدى الأفكار المطروحة في هذا الجدل أن العودة إلى التراث عودة مهمة من أجل النهضة، والعودة إلى التراث تعني عملية تذكّر وتذكير واستحضار للذاكرة. وفاتنا أننا كمجتمعات نمتلك ذاكرات متعددة، مما يعني أن العودة إلى الذاكرة ستكون عودة إلى ذاكرات متعددة وربما متخاصمة. ربما كان السبب وراء فكرة العودة إلى التراث أن أصحاب هذه الدعوة تصوروا، عن حسن نية، أن مجتمعاتنا منسجمة من حيث القومية والدين، وأنها، لذلك، تمتلك تراثا موحدا وذاكرة مشتركة. تبين فيما بعد أن هذا لم يكن سوى وهم، وهو وهم اندفعنا فيه بعيدا وبحسن نية أحياناً كي لا نسمح للتنوعات أن تحدث تشققاتها التي لا تلتئم في مجتمعاتنا. ولكن العقدين المنصرمين أماطا اللثام عن حقيقة مزعجة وهي أن مجتمعاتنا تفتقر إلى الانسجام الثقافي والإثني والديني والمذهبي وبدرجات متفاوتة، وأن كثيراً منها لم ينجز، بعد، وحدته الوطنية. طبعا لا يمكن مقارنة بلد مثل لبنان والعراق ببلد مثل مصر، ولكن هذا لا يعني أن مصر بلد منسجم دينياً أو حتى إثنياً بصورة كاملة، فهناك الأقباط وهناك أهل النوبة وهناك أقليات صغيرة كالشيعة والبهائيين.
هناك من يتصور أن طرح الموضوع بهذه الطريقة يتسبب في إحداث هذه التشققات والتخندقات الطائفية والإثنية، وأنا أتصور أن هذا كلام لا معنى له، وأن أصحابه أعمتهم نيتهم الحسنة (هذا إذا أحسنا الظن) عن تذكر حجم الفظائع والمذابح والمظالم والتمييز والتهميش والإقصاء الذي كان من نصيب الأقليات والجماعات الضعيفة والمهمشة في مجتمعاتنا، فلم يرفع هؤلاء أصواتهم بأننا أمة واحدة حين كان هذا النظام العربي الديكتاتوري أو ذاك يذبح أقلياته وجماعاته الضعيفة بدون رحمة، كما أنهم لم يرفعوا أصواتهم لمطالبة هذا النظام العربي أو ذاك بضرورة أن يعامل مواطنيه معاملة متساوية وألا يميز بينهم بما إننا أمة واحدة.
التعددية في مجتمعاتنا معضلة، وهي معضلة تعبّر عن نفسها بتجليات متعددة، والذاكرة واحدة من هذه التجليات. وأنا لا أقول إن معضلة التعدد يمكن اختزالها في الذاكرة، وإن حل هذه المعضلة يمكن إذا أحسنا إدارة التنوع بين ذاكرتنا المتنوعة. هناك مظالم على الأرض وهناك تمييز سياسي واقتصادي قائم، ولا يمكن حل معضلة التعدد بالذاكرة فقط. ولكن الذي أقوله إن التعامل القمعي والاحتكاري مع الذاكرة من خلال اصطفاء ذاكرة واحدة لتكون هي “الذاكرة الوطنية الرسمية” وإقصاء الذاكرات الأخرى، هذا النوع من التعامل يتراءى للبشر المستهدفين به على أنه لا يقل خطورة وقسوة من المظالم الواقعية القائمة على السياسية أو الاقتصاد. فالرسالة التي تفهم من هذا التعامل هي أن الدولة لا تعترف بنا، والاعتراف مطلب ملح وضروري بالنسبة للبشر، أما بالنسبة للأقليات والجماعات الضعيفة فهو مطلب مصيري.
■■ في كتابك طبائع الاستملاك الذي يتركز على قراءة نسق الطائفية في المجتمعات ذات الطبيعة التعددية كالمجتمع البحريني يتجه الاشتغال إلى تحرير السرديات من ربقات الاستملاك الطائفي عبر الارتقاء إلى قراءة محايدة تركز على العناصر المشتركة بما يؤدي إلى تجاوز الانغلاقية والتأويلات الأحادية التي تمجد الشبيه وتمقت المختلف..كيف يمكن تحرير المجال العام، وهو في الأصل مجال صراع ومنافسة شديدين؟
نادر كاظم:
■ ينبغي التمييز بين المجال العام والدولة، الدولة قد تكون مجالاً عاماً، إلا أنها مجال عام رسمي ويخص الجميع بما إنها دولة الجميع، وما الحكومة سوى الجهة المكلفة بتسيير شؤون الدولة والإشراف عليها، ولهذا فإن أي محاولة لاستملاك الدولة من قبل فئة أو جماعة ستشكل بداية الانزلاق باتجاه دوامة الصراع الذي لا يهدأ؛ لأن الجماعات الأخرى لن تقف مكتوفة الأيدي بل ستعتبر ذلك دعوة للانخراط في الصراع الجماعي. ومن هنا فإن تحييد الدولة والنأي بها عن دائرة الاستملاكات الخصوصية يعد مطلباً في غاية الأهمية في المجتمعات التعددية.
أما المجال العام فهو مساحة أو فضاء حديث التشكل، ويورغن هابرماس يرصد تشكله في أوروبا في القرنين 17 و18، لأن الفضاءات القديمة كانت أساساً فضاءات خصوصية ومحتكرة من قبل الجماعات والطوائف والأعراق والقوميات وأحياناً من قبل الملوك والأمراء والإقطاعيين الكبار. وكانت دائرة المساحات العمومية دائرة ضيقة جداً. وبنشوء الدولة الحديثة وتفكك الفضاءات الجماعية الخصوصية وبُناها القديمة نشأ فضاء جديد، وهو المجال العام وهو الفضاء المكاني والخطابي الذي يتسع للجميع دون تمييز على أساس طائفي أو عرقي أو ديني أو غيرها، وهو مجال يجري فيه تداول النقاش والحجج والاعتراضات والاقتراحات بشكل عمومي لا خصوصي، فمن يكتب مقالة في صحيفة، اليوم، يفترض أنه يكتب المقالة لجميع القراء لا لأبناء طائفته أو قوميته، وإذا حصل أنه كتب لطائفته أو قوميته فقط، فهذا لا يعني أن طائفته وقوميته معنية بما كتب دون غيرها، بمعنى أننا قد نصدر خطابات بمقاصد خصوصية إلا أنها لن تبقى خصوصية إذ سرعان ما يتلقفها المجال العام ويجري تعميمها.
وما دمنا اتفقنا على أنه مجال عام، فإنه سيكون عرضة لصراعات الاستملاك بغاية احتكاره والسيطرة عليه، ولكن ما يميّز المجال العام أنه غير قابل للاستملاك بطبعه خاصة في دولة ديموقراطية، نعم هو مجال تدور فيه الكثير من النقاشات الحادة والمزعجة، ولكن ما يحدّ من حدية هذه النقاشات أنها ليست أحادية، فلكل رأي آخر مضاد أو ومختلف يحدّ من سطوته. وهذه فكرة أتناولها بتوسع أكبر في عملي الراهن حول الكراهية التي تجري في المجال العام.
■■ بناء على هذا التحليل، تربطون، في حالة المجتمعات التعددية، بين التعايش السمح ونبذ طبائع الاستملاك. هل معنى هذا أن مثل هذه المجتمعات لا يمكن أن تستثمر التعددية لصالحها إلا في إطار رؤية علمانية ومتحررة من إكراهات السيطرة على الحقيقية..
نادر كاظم:
■ لا أسمي ذلك علمانية، ليس لأن العلمانية أصبحت تقترن في ذهن المسلمين على وجه الخصوص بالإلحاد واللادينية، بل لأن العلمانية في أصل تكونها كانت على علاقة قلقة مع الدين، فالعلمانية كانت علمانية تستهدف إبعاد الدين عن الدولة على وجه مخصوص، بمعنى أنها لم تكن تستهدف تحييد الدولة تجاه القومية أو العرقية أو الطائفية أو المناطقية أو أي شكل من أشكال التمييزات الممكنة بين المواطنين. أنا أسمي ذلك تحييداً للدولة تجاه كل أشكال التمييز دينية أو قومية أو مناطقية، بمعني أن الدولة القومية التي تقرّ بأن اللغة العربية لغتها القومية الرسمية في ظل وجود أبناء قوميات ولغات متعددة فيها لا تختلف كثيرا عن الدولة التي تقوم على النص على أن الدين الفلاني ديناً رسمياً للدولة. هذا الأمر الأول، أما الثاني، فإن الدولة العلمانية لما كانت في أصل نشأتها على علاقة قلقة مع الدين، فهذا جعل الموقف الضدي والسلبي من الدين موقفا منسجما مع هذه العلمانية، بمعنى أن الدولة العلمانية التي تمنع الرموز الدينية في الأماكن العامة مثل لبس الحجاب، فهي ترى أن هذا الموقف ينسجم مع علمانيتها، ولكنها تغفل أن هذا لا ينسجم مع حياد الدولة تجاه أديان مواطنيها وأساليب حياتهم، لأن هذا الموقف العلماني يعبّر عن انحياز لصالح العلمانيين على حساب المتدينين. وعلى هذه الشاكلة فإن الدولة التي تطبق العلمانية الراديكالية لا تختلف عن الدولة الدينية المتعصبة التي تلزم المرأة بارتداء الحجاب، فهذا انحياز وذاك انحياز ولا فرق بينهما. وكلا الانحيازين يكشفان أن الدولة قد جرى استملاكها من قبل جماعة علمانية أو دينية وأنها غادرت حيادها المطلوب كدولة للجميع دون تمييز. وأنا هنا لا أميز بين دولة عربية تتبنى علمانية راديكالية، وأخرى غربية تتبنى ذات العلمانية الراديكالية، كما لا أميّز بين دولة دينية إسلامية متعصبة وأخرى بوذية أو هندوسية أو غيرها. فليس ثمة مواطنون حقيقيون يتمتعون بمواطنة كاملة وآخرون متطفلون على الدولة ويتمتعون بمواطنة ناقصة ويُمنّ عليهم بها، فهذا خرق لمبدأ المواطنة أساساً التي هي صيغة للحقوق والواجبات المتساوية. وإذا تحققت هذه الصيغة فتسميتها، بعد ذلك، تصبح حاجة زائدة.
■■ من يتتبع أبحاثكم ومقالاتكم التي تكرست لتحليل ظواهر أدبية يلمس نوعا من التنوع في مجالات الاهتمام: من التلقي إلى النقد الثقافي. لنبدأ بكتابكم حول المقامات والتلقي. ما هي القضية المركزية التي عنيتم بالتقصي فيها؟
نادر كاظم:
■ طبعاً هذا أول كتاب صدر لي في العام 2003، وأردت فيه أن أقدم مقاربة نقدية لتاريخ التلقي العربي بما هو سلسلة متصلة من التقلبات والتحولات. وهي تحولات يمكن أن يرصدها الباحث في تاريخ تلقي معظم النصوص المؤسسة في الثقافة العربية. كنت، في البداية، أريد أن أرصد فعل التلقي والقراءة كما حدث في مجرى التاريخ وكما يحدث في كل لحظة يلتقي فيها قارئ ونص وجهاً لوجه. لم يكن “التلقي” يعنيني كنشاط يحدث في الفراغ، أو كفعل مجرد أو افتراضي، ولهذا لم أكن قريباً من فولفغانغ إيزر حين يتحدث عن “فعل القراءة” كنشاط ذهني، وعن مفهوم “القارئ الضمني” بما هو بنية نصية. وكنت أقرب إلى هانز جورج غادامير وهانز روبرت ياوس تحديداً مع نقل جهد هذا الأخير من “تاريخ الأدب” إلى “تاريخ التلقي”؛ لأن مع غادامير وياوس تستطيع أن تقترب من التلقي والقراءة أو الفهم والتفسير كأنشطة إنسانية فعلية تحدث في عالم الدنيا، وهذه الدنيوية هي ما تمكن الباحث من الحديث عنها كأفعال تحدث في الواقع وتجري في التاريخ، وبحسب نيتشه فإن “ما لا تاريخ له لا يمكن فهمه ولا التعريف به”، فكنت أحاول فهم التلقي والتعريف به من خلال إعادة تكوين تاريخه. ومن هذا المنطلق أمكنني أن أتحدث عن “تاريخ التلقي” بما هو صيرورة من بناء الأفق وكسره أو تعديله، وبما هو تعبير عن علاقة جدلية بين أنماط التلقي التي تدور حول نص من النصوص. وقد اخترت لاختبار هذه المقولات مقامات بديع الزمان الهمذاني” لأسباب متعددة لكن أهمها أن هذا النص من النصوص المؤسسة في الأدب العربي، هو بمثابة الظهور العلني لنوع كتابي جديد في تاريخ الكتابة العربية. كما أنه عرف تحولات جذرية في قراءته وتلقيه منذ القرن الرابع الهجري حتى هذه اللحظة.
■■ من خلال مقاربتكم لأنماط القراءات التي انصبت حول مقامات الهمذاني خلصتم إلى إدراجها ضمن ثلاثة أنماط كبرى هي: التلقي الإحيائي الذي بدأ مع عصر الإحياء في الثقافة العربية والتلقي الاستبعادي الذي بدأت قراءاته في الظهور منذ العقد الأول من القرن العشرين، ثم التلقي التأصيلي الذي تبلور منذ النصف الثاني من القرن العشرين. على أي أساس استندتم في طرح هذا التصنيف أولا وفي تحقيبه ثانيا ؟
نادر كاظم:
■ هذه الأنماط الكبرى هي أهم أنماط التلقي الذي دارت حول المقامات في العصر الحديث. والحقيقة أنني لم أكن معنياً كثيراً برصد اللحظات الزمنية الفاصلة بين نمط ونمط، لا لأن القراءة كفعل فردي يتجاوز النمط كإطار جماعي، بمعنى أن قراءة إحيائية للمقامات قد تظهر بعد أن ينقضي زمن نمط التلقي الإحيائي بما هو إطار للقراءة الجماعية المشتركة. طبعاً ليس ثمة ما يمنع من ظهور قراءة كهذه إلا أنها ستكون قراءة في غير أوانها، وكأي شيء يأتي في غير أوانه فإنها ستكون قراءة غريبة ومغتربة عن سياقها. ولنتخيّل أن قارئاً يؤلف كتاباً اليوم في إثبات أن المقامات مجموعة من القصص القصيرة، فعلياً ليس هناك ما يمنع من ظهور هذه القراءة إلا أنها قراءة تحلق خارج السرب، خصوصاً بعد جملة القراءات الجديدة التي تناولت المقامات من منظور يتجاوز مسألة حسم انتمائها إلى نوع أدبي حديث، فالمقامات منذ الثمانينات صار ينظر إليها على أنها نص خاص وذو بنية سردية معينة بعيداً عن استراتيجية المغايرة مع نوع أدبي حديث كما لو كان هذا الأخير نموذجاً وعلى المقامات أن تندرج فيه وتحتذيه.
لهذا أقول إن التحقيب بحد ذاته ليس مسألة كبرى، وهو مسألة نسبية، ومع هذا فإن اعتماد مفهوم “نمط التلقي” بما هو إطار عام للتلقي الجماعي قد فرض علي أن أزيح من أمامي مسألة تصنيف هذه القراءة أو تلك، كما أزاح مسؤولية التقصي والاستقصاء لكل القراءات التي دارت حول المقامات. لأن “نمط التلقي” تعبير عن حالة من التلقي الجماعي المشترك، هو بهذا المعنى بمثابة التحام متماسك لجملة من القراءات التي تصدر عن أفق تاريخي واحد، وتحركها هواجس أيديولوجية مشتركة، كما أنها تشترك في مجموعة من الافتراضات والغايات والمعجم الاصطلاحي المعتمد واستراتيجيات القراءة. وكل هذا سمح لي بتجاوز مسألة التصنيف والاستقصاء، والاهتمام بصورة مركزة باستنطاق المتن القرائي النموذجي الذي شكّل نمط التلقي في أفق تاريخي محدد.
وقد أوضحت في الكتاب أن الحديث عن “أنماط التلقي” هو حديث عن فعل التلقي في وجهه التزامني والتعاقبي معاً. فحين أتحدث عن الوجه التزامني لـ”نمط التلقي” فإني أتحدث في الحقيقة عن نوع من القراءات أو القراء أسميته –مستفيداً من جونثان كولر– بـ”القارئ الكفء” الذي يتمثل أعراف القراءة خير تمثل، فهذا النوع من القراء هو ما يمثّل “النمط” في أفق تاريخي معين. أما الوجه التعاقبي للنمط فيعبر عنه نوع آخر من القراءات أو القراء اصطلحت على تسميته –مستفيداً من هارولد بلوم– بـ”القارئ القوي” الذي يخرق الإجماع العام في القراءة، ويتمرد عليه، وبدلاً من أن يخضع لإكراهاته فإنه يعمد إلى مجابهته من أجل إفساح المجال للتعبير عن قراءة مختلفة عما هو سائد، ومن هنا فهذا النوع من القراء هم من يزعزعون تماسك النمط، ويمهدون لظهور نمط تلقٍ جديد، وهذا هو حال روحي الخالدي مع التلقي الإحيائي، وقراءة فخري أبو السعود مارون عبود مع التلقي الاستبعادي، وقراءة عبد الفتاح كيليطو مع التلقي التأصيلي.
وقد سمح هذا النوع من المقاربة بقراءة “نمط التلقي” بما هو ضرب من ضروب الإكراه الذي تمارسه القراءة الجماعية على الأفراد. فالقراءة الجماعية هنا تمثل سلطة وهي من تفرض القيود والضوابط على حرية “فعل القراءة” والتلقي. وبهذا تتضاعف القيود المفروضة على فعل القراءة فإضافة إلى القراءة الجماعية هناك إكراه الأفق التاريخي والسياق الثقافي. ومن هنا يصبح القارئ القوي جديراً بوصف القوة التي أهلته لمجابهة هذا الإجماع القرائي. وبدون هذه القوة لا يتأتى لأي قارئ مجابهة هذا الإجماع، وهذه مسألة كان نيتشه أبرز من تحدث فيها حين أراد أن يبحث في “جينالوجيا الأخلاق”، فبحسب بنيتشه فإن كل شيء موجود يتم تفسيره من طرف قوة أعلى منه تكون قادرة على إعادة إنتاجه ومنحه مقاصد جديدة، ونيتشه يتحدث عن هذا التفسير بما هو إخضاع وسيطرة وتعبير عن إرادة القوة التي سيطرت على شيء أقل قوة وأعطته تفسيراً واستعمالاً جديدين.
■■ عبرتم في هذا الكتاب عن الرغبة في إنجاز نوع من التلقي الخارجي للنصوص المؤسسة في الثقافة العربية. ما هي الأهمية التي يمكن استخلاصها من البحث في الروابط والعلائق القائمة بين تواريخ التلقي الخاصة بكل نص؟
نادر كاظم:
■ أتصور أن جزءً مهماً من الإجابة عن هذا السؤال قد أشرت إليه منذ قليل، لأن الإجماع القرائي الذي يعبر عن “نمط التلقي” لم يكن إجماعاً حول قراءة معينة لنص مفرد اسمه “مقامات بديع الزمان الهمذان بل هو بمثابة إجماع قرائي عام حول قراءة معينة للتراث العربي بما هو مجموعة من النصوص والأسماء والقيم والمعارف وغيرها. فالإحياء كان إحياء للتراث ونصوص هذا التراث، كما أن الاستبعاد كان نبذاً لهذا التراث ونصوصه، والأمر ينطبق على التأصيل بما هو تجذير لأنواع كتابية في هذا التراث ومن خلال نصوصه. ومع هذا يمكننا أن نرصد فروقات فيما يتعلق بالموقف من نصوص محددة، فنص مثل ألف ليلة وليلة كان نصاً تراثياً، إلا أن موقف التلقي الإحيائي منه كان سلبياً أي أنه لم يكن مقصوداً بالإحياء، ومع هذا لا ينبغي أن ننسى أن هذا النص طبع أكثر من طبعة في هذا العصر. مما يعني أن هناك إجماع عام تتخلله بعض الاختلافات. وهذا ما يحتم علينا أن نحلّل “تاريخ تلقي” كل نص من جهة، وتاريخ التلقي العربي العام للنصوص من جهة ثانية. وهذه المقاربة وحدها هي الكفيلة بتأكيد نتائج كتاب المقامات والتلقي وإمكانية تعميمها على “التاريخ العام للتلقي العربي”. وهذا ما سيسمح لنا بالحديث عن “تاريخ التلقي العربي” تماماً كما كنا نتحدث عن “تاريخ الأدب العربي” فتاريخ التلقي هو الوجه الآخر من التاريخ الأدبي.
■■ لا شك أن كتابكم تمثيلات الآخر الذي نلتم به جائزة البحرين للكتاب سنة 2005 يؤسس لنقلة جديدة في النقد العربي المعاصر. يتمثل ذلك في استثمار المقترحات التحليلية والتأويلية التي تقدمها الدراسات الثقافية بتياراتها المختلفة خاصة النقد الثقافي. هل استنفد النقد الأدبي أهميته حتى نقول بالنقد الثقافي؟ وما هي الإضافة التي يمكن أن تتحقق من تحليلات تعطي الأولوية للثقافي على الأدبي بالمعنى الإستتطيقي ؟
نادر كاظم:
■ هذا سؤال مهم، وإجابته قد تطول إلا أني سأوجز القول فيه مراعاة لطبيعة هذا الحوار. أما فيما يتعلق بالسؤال الأول فإني أتصور أن من التبسيط المخل أن نقارب الموضوع من هذه الجهة، فظهور النقد الثقافي ليس بالضرورة علامة على استنفاد النقد الأدبي، بل هو تعبير عن حاجة جديدة لا يستطيع النقد الأدبي تلبيتها إلا بنقلة جديدة في مفاهيم هذا النقد وطرائق توظيفها وفي الغايات من وراء النقد أصلاً، هذه النقلة عبّر عنها النقد الثقافي من خلال تحويلات عديدة تبدأ من موضوع النقد (فهل موضوع النقد هو النص الأدبي أم النص الثقافي أم الممارسات الخطابية أم الأحداث أي الممارسات غير الخطابية بصورة أعم أم النسق بما هو مجموعة من القيم المتوارية خلف النصوص والخطابات والممارسات؟)، ولا تنتهي عند اختلاف المقاصد من وراء النقد (فهل الغاية من النقد كشف بنية النص الجمالية أو الكشف عن عيوبه الثقافية أم عن الدلالة الثقافية التي ينطوي عليها أم غير ذلك؟). والسؤال الملح في النقد الثقافي هو سؤال الجدوى من وراء النقد ومسؤولية النقد والناقد، فما الفائدة حقاً من وراء الكشف عن جمالية نص من النصوص أو انتظام بنيته أو تبعثرها؟ ما الفائدة الفعلية من وراء إثبات أن هذا النص تحكمه بنية جمالية ثابتة أو متغيرة؟ ما الذي يتغيّر حين نقول إن هذا النص أسمى جمالياً من ذاك النص؟ أو حين نقول إن كل أشعار المتنبي محكومة ببنية شعرية محددة؟ ولا ينبغي أن يفهم من هذه الأسئلة أن النقد الثقافي يتعامل مع الجماليات بلا اكتراث أو بلا مبالاة، هذا غير دقيق، لأن هناك من النقاد الثقافيين من يؤكد على أن موضوع النقد الثقافي هو “النصوص الجمالية”، و عبد الله الغذامي يقول هذا بكل وضوح في كتابه النقد الثقافي، إلا أنه يوسّع من امتدادات الجمالية لتشمل نصوصاً استبعدها النقد الأدبي كالنكتة والأغنية والشائعات وغيرها. كما أنه يكشف جمالية هذه النصوص لا لغاية جمالية وبنيوية وتفكيكية، بل هو يكشف عن الجمالية بما هي حيلة ثقافية من حيل النسق الذي ينشط في هكذا نصوص، ويتسرّب ليصوغ شخصياتنا من خلال هذه النصوص لكونها نصوصاً لا تخضع للمساءلة النقدية ولا تمر على الوعي الفاحص بالضرورة.
من جهة أخرى فإني أتصور أن النقد الأدبي مصطلح عام وملتبس ومن الصعوبة حصر مدلولاته الحقيقية، فهل هو أدبي لكونه يشتغل على نصوص أدبية لا غير؟ أم هو أدبي لكونه يشتغل على النصوص عامة ولكن بطريقة أدبية وجمالية؟ ومع كل هذا فإن العلاقة بين النقد الأدبي والنقد الثقافي ليست على غرار العلاقة بين النظريات العلمية أو “النماذج الإرشادية” في نظرية توماس كون، في هذه الأخيرة نستطيع أن نقول إن نظرية بطليموس الفلكية قد استنفدت مع إعلان كوبرنيكوس لنظريته الفلكية وتأكيد غاليلو لهذه النظرية، ولكن من يستطيع أن يقول إن نظرية أرسطو حول الحبكة قد استنفدت؟ ومن يستطيع أن يقول إن كانط أو سبينوزا أو نيتشه أو فرويد أو ماركس أو سوسير أو فوكو أو أو قد استنفدوا؟ وبهذا المعنى لا يمكن القول إن النقد الثقافي علامة على استنفاد النقد الأدبي الذي يشمل كل اشتغال على الأدب منذ أرسطو حتى آخر ناقد بنيوي أو ما بعد بنيوي، هو تعبير عن نقلة في أدوات النقد ومقاصده وموضوعاته وطرائقه.
وهنا أود أن أقول إن السيميولوجيا –على سبيل المثال– هي بمثابة الطور الأولي من النقد الثقافي، فسيمولوجيا رولان بارت كانت مغامرة من أجل البحث عن المعنى في كل النصوص والخطابات والممارسات والأشياء، وبارت نفسه يتحدث عن “علم دلالة الأشياء”، وأخضع موضوعات عديدة للمقاربة السيميولوجية، وهو يؤكد أن وجود المعنى هو ما يجمع بين اللباس، والسيارة، والأطباق، والأفلام، والموسيقى، والإعلانات، والأثاث، وعنوان الجريدة، والممارسات الطبية، وأشياء أخرى متنافرة جداً إلا أنها تشترك في كونها جميعاً علامات أي أشياء تحمل معنى، ومجموعة دوال تشير إلى مدلولات.
أتصور أن هذه “المغامرة السيمولوجية” طور أولي من النقد الثقافي، ولا ينقص هذه المغامرة لتكون نقداً ثقافياً إلا أن نمضي في البحث عن مشتركات كل هذه النصوص والخطابات والممارسات والأشياء إلى ما هو أبعد من كونها علامات فقط -أي دال يشير على مدلول- إلى البحث عن المعنى الأعمق الذي تنطوي عليه هذه الخطابات، والدلالة العميقة هنا لا تعني الدلالة الإيحائية في عرف بارت، بل هي الدلالة النسقية بما هي علامة على القيم التي تسعى هذه الخطابات إلى تمريرها مستغلة “العمى الثقافي” الذي يتلبسنا ونحن نقرأها أو نستخدمها. وإذا كان بارت يرى أن “تفكيك علامات العالم معناه دائماً مقاومة براءة الأشياء”، فإن النقد الثقافي يأخذ بهذا ويمضي به إلى ما هو أبعد، فممارسة النقد الثقافي معناها أن نقاوم براءة النصوص والخطابات والممارسات والأشياء، وأن ننزع عنها وجهها الجميل البراق الذي يأخذ الأبصار والأسماع والألباب لنقع على حقيقة النسق وأفاعيله. فالنقد الثقافي هو نقد مشاكس لمفاهيم “براءة الأشياء” وبداهة الحس المشترك، بل هو محاولة للكشف عن الأصل غير البريء في النصوص والخطابات والممارسات والأشياء، وإدراك أن ما هو مألوف وطبيعي ليس أكثر من “تشييد تاريخي وثقافي” و”تطبيع” تقوده الأجهزة المادية والأيديولوجية في المجتمع. أردت أن أقول إن النقد الثقافي ليس علامة على استنفاد النقد الأدبي لأهميته، بل هو تعبير عن نقلة وتحول حصلا على مستويات عديدة.
■■ حينما يجري الحديث عن التمثيل الثقافي غالبا ما ينصرف الاهتمام إلى التمثيلات والصور التي ركبتها الثقافة الغربية في العصر الحديث عن آخريها ما وراء البحار ومنهم العرب، وهي الصور التي حللها إدوارد سعيد في كتابيه الاستشراق والثقافة والإمبريالية، أما أن ينصب الاهتمام على تفكيك الصور والتمثيلات التي كونتها الثقافة العربية عن الآخرين الذين اشتبكت معهم، فهو أمر لم ينشط الاهتمام به إلا في العقد الأخير من القرن العشرين. ويمكن أن نفكر هاهنا بكتابات نور الدين أفاية وعبد الكبير الخطيبي وأدونيس وآخرين. بالطبع أنتم جعلتم الأطروحة الأساسية لكتابكم: تمثيلات الآخر هي تفكيك الصور المختلفة التي ركبتها الثقافة العربية عن الآخر الأسود في العصر الوسيط. ما هي أبرز العوامل التي تحكمت في ما يشوب هذه التمثيلات من تحيز وتسلط ورغبة في إسكات الآخر؟
نادر كاظم:
■ ينبغي أن يكون واضحاً أن أي ثقافة لا تخلو من تمثيلات وصور نمطية تشكلها عن الآخرين المختلفين المجاورين أو الأباعد. وهذا بحد ذاته أمر عام ومتداول بين الثقافات، وأنت تعرف أن الأمريكيين الأصليين كانوا يحملون صوراً نمطية عن كولومبس والغزاة الأسبان، بالمعنى ذاته حين نقول إن كولومبس كان يمتلك صوراً نمطية عن هؤلاء. إلا أن خطورة هذا الموضوع تتضاعف إذا ترافقت القوة والغلبة العسكرية والحضارية (أنا أدرك أن هذه الأخيرة صفة غامضة وملتبسة) مع التمثيل وتكوين الصور النمطية، فحين نكون أمام حالة تمثيلية كهذه فإننا نتحدث عن “قوة التمثيل” والتمثيل بما هو أداة وحافز على الفعل وكذا كمسوّغ للفعل، وإذا عرفنا أن القوي هو من يضع شروط اللعبة وهو القادر على الفعل، فعل أي شيء، فإننا سنكون أما سياقات تمثيل بالغة الخطورة على الآخرين الممثَّلين. وباختصار فإن سياقات التمثيل تتعرّض للاهتزاز حين تكسر القوة الموازين، وحين يصبح أحد الأطراف في علاقة التمثيل قوياً والآخر ضعيفاً، والتمثيل هنا ليس خطاباً ينطوي على القوة والسلطة بل هو عينه القوة والسلطة.
وبهذا المعنى كنت أحلل النصوص والخطابات والممارسات في الثقافة العربية في العصور الوسطى، وهي الفترة التي كان فيها العربي صاحب القوة والقادر، من ثم، على تمثيل الآخرين، لا لأنهم عاجزين عن تمثيل أنفسهم، بل لأن تمثيلهم يصبح حاجة ضرورية من أجل مقاصد عديدة منها غزوهم وتبرير تدميرهم ومحقهم. فإذا كنت أمثل أبناء ثقافة معينة على أنهم بشر أنداد فإني أتعامل معهم كبشر أنداد، لكني حين أتمثلهم كبهائم هائمة وسباع هائجة فإني أتعامل معهم كبهائم ينتفع بها، وسباع بحاجة إلى القتل أو الترويض لتكون أليفة ليسهل الانتفاع بها.
وأتصور أن الثقافة العربية لم تكن بدعاً من الثقافات، وتحديداً الثقافات القوية التي تتعامل مع الآخرين الضعفاء كموضوعات للانتفاع أو للاستيعاب بما هو آلية لاحتواء الآخر من خلال تحويله ليكون على غرار الذات.
وتكمن خطورة التمثيل، إضافة إلى هذا، في كونه يقود إلى التمثيل بالمعنى المسرحي، بمعنى أن الآخر موضوع التمثيل يضطر إلى أن يمثّل وأن يتقمص دورا لشخصية أخرى غير شخصيته الحقيقية، وأخطر ما في هذا أن التمثيل الدائم يحول الآخر إلى ممثل يتقمص دوراً لا فكاك منه فيختلط عليه التمثيل والحضور الحقيقي للذات، وأتصور أن الأسود كان يمثل أي يمارس التمثيل (بالمعنى المسرحي) في الثقافة العربية خضوعاً منه لسياقات الهيمنة، وتهرباً في الوقت نفسه من ضغوطات هذه السياقات وما تنطوي عليه من تمثيلات سلبية بحقه، فلكي يهرب من كونه موضوعاً للتمثيل العربي السلبي كان يمثّل دوراً على غير حقيقته كدور الشخصية الفرحة والطروب. وهذه ظاهرة درستها حنا أرندت فيما يتعلق بشخصية اليهودي في باريس أواخر القرن 19. حيث بات أصل اليهودي خفياً لا يلحظه أحد، بمعنى أن عليهم أن يكونوا يهوداً لكن عليهم أيضاً ألا يظهروا شبيهين باليهود. وقد حولتهم هذه الوضعية إلى ممثلين فعليين “ولكن على مسرح لا تسدل ستارته أبداً، حتى أن هؤلاء الناس أصبحوا، بعد أن حولوا حياتهم كلها إلى دور مسرحي عاجزين عن تعيين هويتهم الحقيقية حتى بينهم وبين أنفسهم”.
وبهذا المعنى أيضاً كنت أرى أن التمثيل العربي السلبي تجاه الأسود قد فرض عليه أن يكون “ممثل فعلي” لدور الفاسق الشيطاني الذي لا يكف عن الطرب والرقص لفرط غباوته وحيوانيته. هذا دور كان العربي يريده من الأسود، وهذا الأخير أداه على أكمل وجه حتى أن أحداً ما كان يشك في أن هذا مجرد أداء لدور لا تعبير عن حقيقة ذوات السود. لقد عاش السود في هذه الثقافة غيرية مغتربة عن حقيقة هويته، وهي غيرية فرضتها عليه قواعد الإخراج التي وضعتها الثقافة والمجتمع.
■ ■ قلتم في هذا الكتاب بأنه كما أنتج الغرب طقما هائلا من الأبحاث والدراسات والمعرفة حول الشرق لتسهيل السطوة عليه، فإن الحضارة الإسلامية في العصر الوسيط أنتجت هي الأخرى كما هائلا من التمثيلات حول الآخرين المختلفين دينيا وثقافيا ولغويا وحضاريا، من أجل الهيمنة عليهم وإخضاعهم ومنهم السود والزنوج. وقد تحقق هذا كله في سياق الغلبة الحضارية والسياسية التي تمتعت بها الحضارة العربية الإسلامية طوال القرون الهجرية الخمسة الأولى. وفي سياق هذه الغلبة ترعرع ما سميتموه خطاب الإستفراق (Africanism) العربي. ما الذي تقصدونه بهذا الخطاب؟ وما هي المرجعيات التي كانت تغذيه وتوجهه بصورة لاشعورية ؟
نادر كاظم:
■ الاستفراق هو خطاب تتحالف فيه المعرفة والقوة كما هو حاصل في الاستشراق من منظور إدوارد سعيد. وبدل أن يكون الشرقي موضوع الخطاب كان الأسود (الأفريقي بالمصطلح الحديث) هو موضوع خطاب الاستفراق، وهذا خطاب، كما أوضحت في الكتاب، بالغ الثراء والاتساع وهو يحكم كل نصوص وخطابات الثقافة العربية في العصور الوسطى، وحتى العصر الحديث إذ يكفي أن تنظر في مقدمة كتاب تخليص الإبريز في تلخيص باريز للطهطاوي، مفتتح العصر الحديث عندنا، لتتأكد من هذه الحقيقة.
يمكن أن يكون اللغوي مختلفاً عن الفقيه، وهذا الأخير مختلفاً عن الكلامي والفيلسوف والقصاص والشاعر وعالم البحار والطبيب ووو…، إلا أن جميع هؤلاء يوحدهم خطاب واحد حين يتعلق الأمر في نظرتهم إلى الأسود بما هو آخر يختلف عن العربي في كل شيء. وحين يكون هذا الآخر هو موضوع الحديث والكتابة فإن الخطاب يوظف المجازات ذاتها، ويستحضر الصور النمطية عينها، فالأسود دائماً مثال الحيوانية والفسوق والطرب والشهوانية المفرطة. والاستثناءات في هذا قليلة، وقد أشرت إليها في الكتاب، وأوضحت أنها لا تخلو من تمثيل سلبي تجاه الأسود. وباختصار كان هذا النوع من الخطاب عاماً وحاكماً على الجميع ولا يختلف فيه تابعي ورع كطاووس اليماني الذي كان لا يأكل من ذبيحة الأسود لكونه “عبد مشوّه الخلقة”، ولا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود ويقول هذا من قول الله “فليغيرن خلق الله”، وكأن البياض هو خلق الله وصبغته وما عداه فهو من خلق الشيطان!، هذا لا يختلف عن أبي العباس الراضي بن المقتدر بالله الذي كان “لا يتناول شيئاً من أسود، ويقول: إنه عبد مشوّهٌ خلقُه”، أو عن مؤرخ كالمسعودي أو عالم بالعمران كابن خلدون أو عن طبيب كابن سينا وابن بطلان الذي كان يرى أن السود عبيد بالفطرة و”كأنهم فُطِروا على العبودية”. فجميع هؤلاء كانوا يمثلون السود بطريقة سلبية ويعدونهم في “عداد البهائم والوحوش” أو هم خلق غريب أو بشر “مشوَّه الخلقة”.
■ الدكتور نادر كاظم كاتب وناقد من البحرين مدير تحرير مجلة الدراسات الثقافية ثقافات ولعلوم الإنسانية –جامعة البحرين. من مؤلفاته:
• المقامات والتلقي: بحث في أنماط التلقي لمقامات الهمذاني في النقد العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2003.
• تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2004.
• الهوية والسرد: دراسات في النقد الثقافي، مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، البحرين/بيروت 2006.
• طبائع الاستملاك: قراءة في أمراض الحالة البحرينية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت2007.
• استعمالات الذاكرة: في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ، الطبعة الثانية، مكتبة فخراوي، البحرين 2008.
• خارج الجماعة: في تجاوز الليبرالية والجماعية القمعيتين، دار الأيام للنشر، البحرين 2009.
هل يمكننا الحصول على ايميل مجلة العلوم الانسانية -كلية الآداب جامعة البحرين- كون الدكتور نادر كاظم هو مدير هيئة تحرير المجلة ، لان الايميل الموجود على صفحة المجلة لا نحظى منه بالرد عند ارسال نسخة الكترونية من الابحاث فربما تم تجميده او تغييره ، نرجو افادتنا بالعنوان الصحيح مع الشكر والتقدير