الأحد , 28 أبريل, 2024
إخبــارات
الرئيسية » قـــراءات » تبئير الرواية وسؤال الكتابة

تبئير الرواية وسؤال الكتابة

محمد برادة، حيوات متجاورة، دار الفنك، الدار البيضاء، 2009.

kiraat_10.6بعد صدمة الانتقال من القرن الماضي والولوج إلى الألفية الثالثة، عرفت كثير من السرديات الكبرى أزمة منهجية تتعلق بعجزها عن فهم وتأويل طبيعة المتغيرات والتحولات التي يعرفها الواقع. ولهذا كان لزاما عليها أن تعود إلى نقد وضعها الابستيمي ومراجعة مسلماتها المنهجية. استطاعت رواية الحداثة الجديدة أن تلتقط هذا المنعطف المعرفي من خلال التشكيك في تداولية المفاهيم النقدية واجرائيتها التجريبية كالتمثيل الواقعي والمرجعية الموضوعية والوحدة واستقلالية العمل الأدبي والتفرد والأمل والاستمرارية والانسجام النصي.

لقد بادرت الرواية الجديدة قبل أن يدرك النقد الأدبي هذا التحول إلى مساءلة شرط وجودها المتعلق بالبناء الأدبي وسيرورة تشكله من خلال التركيز على عملية توليده وإنتاجه عبر الرصد المرآوي للطريقة التي تكتب بها الرواية كنقد ذاتي لموضوع الكتابة. يسمي هذه التجربة في التخييل النقاد الامريكيون (ألتر شولتز – ليندا هشيون – غراف) بالميتاتخييل Metafiction (التخييل الشارح)، بينما يقابلها في الخطاب النقدي الغربي مصطلح التخييل الذاتي Autofiction. وإذا كان مصطلح التخييل الذاتي الذي وضعه الناقد دوبروبسكيDoubrovsky قد شاع تداوله في أمبراطورية الآداب العالمية، فقد بقي مقتصراً على جنس السيرة الذاتية (أو الكتابة الاستعرائية) حسب تعبير فنسان كلونا، بينما نجد نقاد الميتاتخييل يتجاوزون هذا التعريف الضيق، لتطبيقه على كل أنواع النصوص السردية سواء كانت تاريخية أو سيرة ذاتية أو رواية واقعية.

لقد استعمل الناقد امبرتو إيكو في كتابه حول الأدب مصطلح الميتاسردية Metanarrativitè أو السرد الذاتي كمقابل لمصطلح الميتاتخييل الذي يعرفه “بأنه التفكير الذي يقوم به النص على ذاته وحول مادته عبر إدماج صوت المؤلف الذي يتأمل ما هو بصدد حكايته” (ص270). معتبر أن تقنية الميتاتخييل أو السرد الذاتي من أهم السمات المحددة لرواية ما بعد الحداثة.

من أجل التمييز بين التخييل والميتاتخييل، يمكن أن نستحضر الفرق بين الحكاية والخطاب كما تقدمه نظرية البويتقيا، بالنسبة للحكاية فإنها تتضمن الأحداث والشخصيات والموضوعات، أما بالنسبة للخطاب فإنه يحيل إلى الطريقة التي تقدم بها الحكاية، ومن أجل التعرف عليهما فإننا نطرح بالنسبة للحكاية سؤال ما هو الموضوع أو المضمون الذي تتحدث عنه؟ أما بالنسبة للخطاب فإننا نريد أن نتعرف على الطريقة التي تقدم بها الحكاية وآليات عرضها.

من جملة البرامج الميتاتخييلية التي توظفها رواية حيوات متجاورة نجد تجربة (الوعي الذاتي) الذي يقوم به الكاتب داخل الرواية عندما يصاب بعنصر المفاجأة الذي ينتابه لحظة مزاولته لفعل الكتابة، فيعمد إلى نقل الأسئلة القلقة التي تواجهه إلى داخل الرواية من خلال عرضه للسيرورة الابداعية أمام القارئ، جاعلاً من عمله الروائي ككاتب محور إبداعه، هناك كثير من الدهشة والحيرة إزاء العمل الابداعي أو كما تسميه ليندا هشيون بالعلاقة المؤثرة التي يعلن عنها الكاتب عند لحظة إبداعه، لكن الأهم في تجربة الميتاتخييل بالمقارنة مع التخييل التقليدي أن الكاتب يجهر بذلك التوتر إبداعياً، لكي يشرك القارئ بالمتعة التي يحسها عند كتابته للرواية وانشغالاته الحائرة أمام صعوبة الحكي التي تبرهن على تقديره البالغ لفعل الكتابة (فهو لا يعرف كيف يشرع في حكي الرواية التي تجمعت خيوطها لديه من خلال معاشرة بعض شخوصها (ص 5). بالنسبة لخاصية الميتاتخييل يمكن التقاطها كذلك من داخل الرواية، وذلك من خلال بعض الإحالات الميتانصية التي ترتبط بجنس الرواية كتصعيد وإعلاء من شأن البعد التخييلي على حساب الواقعي، حيث نجد حضورا مكثفا لأسماء كتاب الرواية (بلزاك، استندال، ديكنز، كوليت، غارسيا ماركيز)، واحتفاءً صريحاً بفعل الكتابة الروائية (إنني تنازلت عن قسط من متعة جسدي لأستمتع ببعض الروايات وفتنة السرد (ص 39)، كما أن النصوص التي تمثل عتبة فصول الرواية هي لأسماء إبداعية دالة ( بيسوا، متشادو، أوماسيبس، صلاح شاهين، بونفوا). وهذه الاشارات إلى الأسماء الابداعية تتجاوب مع مقاصد حيوات متجاورة التي تريد القبض على حدود الواقع والتخييل “أين توجد حقيقة بشرية؟ من يستطيع كشفها” (ص 129).

كما نجد في رواية حيوات متجاورة تقنية الشاهد الذي يحيل إلى نصوص تخييلية معروفة، مؤكداً بذلك نوع الطبيعة الأدبية والنصية للرواية الميتاتخييلية التي تجعل من العمل الروائي طرساً ممسوحاً شفافاً يقتفي أثر النصوص الإبداعية السابقة على وجوده أو المتزامنة معه، حيث يمثل حضورها في الرواية محفزاً على الكتابة لنسج الحكاية على منوال النصوص المذكورة؛ ففي رواية حيوات متجاورة نجد أن سبب اللقاء الذي جمع بين الراوي ونعيمة في الطائرة هو الكتاب “بعد قليل ترك الكتاب يسقط على أرضية الطائرة واستسلم لغفوته عندما أحس بلمسة خفيفة على كتفه، وانتبه الى يدها التي تمد إليه رواية بوليسية لسيمنون، كان يزجي بها وقت الرحلة” (ص 17).

قد نفهم ذكر هذه الرواية كذريعة أدبية لانطلاق كتابة الرواية ما دامت الرواية لا تصنعها إلا قراءة الرواية، أو كرغبة في تنشيط الحكي والتواصل مع الآخر، هذا ما يؤكده راوي الحكاية “هذه المرة يعود الفضل إلى ربط الصلة بنعيمة إلى الغفوة التي خطفتني، وإلى رواية سيمنون الطريفة التي فكت عقدة لساني وأمدتني بعناصر للغزل غير المباشر” (ص19)، يضاف إلى ذلك أن رواية سيمنون تنتمي إلى الرواية البولسية كما يقول المؤلف، وهذه الإشارة ليست مسألة اعتباطية أو مجرد ذكر لمعلومة شاردة، بل إن وظيفتها حاضرة في تشكيل بناء الرواية وتوجيه أسلوب الميتاتخييل في حيوات متجاورة إلى اعتماد تقنية تخييل التحري fiction detective الذي يسعى إلى التقصي والبحث عن لغز الحكاية وجمع أدق التفاصيل عن شخصية نعيمة، وكيف تحولت إلى منعطف الجريمة وإلحاح الراوي على ولد هنية أن يحكي له حكايتها. كما أن تخييل التحري يبرر طرائق الكتابة في هذه الرواية التي اعتمدت على تقنية الاستجواب مع (الوارثي) وتسجيل الحكاية الشفوية بتفاصيلها وتقليب سرد هذه الحكاية بأشكال مختلفة تجعل الكاتب يتماهى مع دور المحقق الذي يتحرى أقوال الشهود ليصل إلى معرفة الحقيقة الغائبة.

برغم أن الحكاية في رواية حيوات متجاورة هي واحدة لكنها تتحول الى مجموعة من المحكيات المختلفة كلما انتقلت الى أحد الرواة، الذي يحكيها من موقعه الذي يتكلم منه. وبذلك تتحول قصة نعيمة على ألسنة باقي الشخصيات (الراوي – السارد – المسرود له – ولد هنية – نعيمة) إلى علب صينية تتداخل الواحدة في الأخرى، أو إلى لعبة مرآوية متقابلة، لكن عند إعادتها وتكرارها على شكل حوار أو سيناريو، فإن هذا العود لا يكون مكروراً لاختلاف سياق الحكي بين الرواة ووضعهم الخاص وزمن استعادتهم للحكاية.

يمكن تلخيص القصة النواة لهذه ا لرواية من خلال تجربة نعيمة، فتاة جميلة من أزرو، تشتغل مضيفة في شركة الطيران، كانت على معرفة سابقة بالراوي، تزوجت من (الكوكبي) الذي هجرها ليعيش في اسبانيا بعد أن رزقت منه بولد (نعيمة انتقلت إلى العمل في البنك الوطني للإنماء الاقتصادي الذي تعرض للإفلاس، في إحدى زياراتها لزوجها في اسبانيا تعرفت على عصابة لتهريب المخدرات وتولت مهمة التهريب في المغرب، ونجحت فيها لما تتمتع به من ذكاء وجمال وثقافة، لكن في الأخير انكشف أمرها وتعرضت للاعتقال. وعند سماع المؤلف لخبر اعتقال نعيمة سعى الى تقصي أخبارها، واستعادة حكايتها عن طريق أحد أصدقاء الطفولة (ولد هنية) الذي كان مقرباً منها، واستعانته بمخزون الذاكرة وعلاقته بها ليعرف المصير الذي آلت إليه حياتها.

يتبنى الكاتب في الرواية الرؤية اللامركزية المرتبطة بجهاز التلفظ واعتماد الشك الديكارتي الذي لا يثق في وجود الذوات والشخصيات، والكيانات الثابتة والمتجانسة التي لها موقف أحادي نحو ما يجري حولها، وذلك من خلال الارتياب في مركزية الراوي الذي لا يعرف الحقيقة أكثر من غيره، لأن ما نعيشه ليس له مركز يتفرع عنه، كل نقطة تصلح لأن تكون بداية ما يحكى عنه (ص 182)، بل إنه لا يعرف كنه ذاته لهذا يلجأ الكاتب إلى سارد يتولى حكي الرواية بالنيابة عنه متسائلا: لكن من هو؟ أو بالأحرى من أنا؟ (ص 6 ) حيث تتحول علاقة الكاتب بباقي الشخصيات إلى علاقة حوارية بين وجهات نظر مختلفة تتساوى مع المؤلف الراوي، في الحق الحكائي دون ادعائه لسلطة عليا تميزه عن باقي الشخصيات، حيث يقتصر دوره على “نوع من الترتيب وحسن إدارة الحوار بين وجهات النظر، وكأننا أمام شخصية المؤلف المنشطرة إلى ذوات متناثرة، أو حيوات متجاورة تجتزئ حكايتها وتختزلها بفعل إكراهات الزمن وعجز الذاكرة”.

يتحدث امبرتو ايكو عما يسميه بالسنن المزدوج Double coding الذي يجمع عليه منظرو أدب ما بعد الحداثة كالمعماري شارل جينكس، والناقد الأمريكي إيهاب حسن. يعرفه إيكو بأنه عملية المزج بين الجانب الثقافي النخبوي وما هو شعبي الذي يخاطب عموم الجمهور. (ص 271) وخير نموذج لرواية السنن المزدوج الرواية الشهيرة لأمبرطو إيكو باسم الوردة التي حظيت بشهرة واسعة وحطمت الرقم القياسي في عدد الطبعات والمبيعات.

في رواية حيوات متجاورة يتجلى السنن المزدوج من خلال التوازي بين حكاية نعيمة الواقعية والبسيطة والسجل اللغوي الدارج الذي يتلفظ به ولد هنية والحكي الخطي المتعاقب، كما في حكاية نعيمة والوارثي القريب من أفق القارئ العادي، لكن غالباً ما نلاحظ أن هذا السنن الحكائي يتراجع إلى الوراء عندما يمارس عليه المؤلف تقنيات التعليق الشارح، والحوار الداخلي، وتعدد الأصوات، وبلاغة الشاهد، أو حسب تعبير المؤلف “أن علاقة التواطؤ بين الحكاية وكاتبها هو ما يخلق المَصْهَر الذي تتحول داخله الرواية إلى سرد يميزها عن الحكي الواقعي، عن طريق تكسير خطيتها الغائية وتوقيف دائريتها الحكائية”.(ص189) لقد كان المؤلف واعياً بهذه التقنية حتى لا يسقط في شرك الرواية الشعبية “غير أني أخشى أن أغرق في التفاصيل وأنجر إلي الاحتفاء بالمفاجآت، فتنقلب الحكايات إلى (وقائع مختلفة)، مثل تلك التي تقرؤها في الصحف المهتمة بالفضائح والجرائم وغرائب الاحداث” (ص 189)، إلى انزياح الكاتب عن الرواية الواقعية والحكي الجماهيري المتوفر بغزارة في كل درب وشارع ومدينة لكي يقلص من عفوية الرواية المباشرة. بفضل لعبة السنن المزدوج، أو كما يسميه محمد برادة باللمسات التي يبصم بها الروائي محكياته . (ص 189)

إن رواية حيوات متجاورة رواية مفتوحة تجعل من لعبة الحكي المرآوي عملاً جاداً يريد أن يتجاوز مستحيلات الرواية وتحرير أزمة التخييل الروائي بعد انبلاج أوهام السرديات الكبرى وموت الثنائيات المطلقة، سواء تعلق الأمر بالحقيقة أو الكذب الإبداعي، بالواقع أو الوهم بالحتمية أو الاختيار، لحيواتنا ومصائرنا التي لا يمكن النظر إليها إلا من خلال فسحة الصمت التي تخلقها الكتابة.

- أنور المرتجي

60

أضف ردا

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.