في الكتابات التاريخية المعاصرة خاصة في فرنسا هناك عودة للموضة، عودة للسرد، عودة للحدث، عودة للتاريخ السياسي، والأسرع تكاثرا عودة البيوغرافيا التي اقتحمت دورالنشر وواجهة المكاتب العامة والخاصة، وحققت أكبر المبيعات وخصوصا البيوغرافيات الرومانسية التي هي أقرب إلى الكتابات الأدبية منها للكتابات التاريخية”(1). هكذا وصف المؤرخ الفرنسي الشهير جاك لوغوف “حارس القلعة المحاصرة” في مقاله الشهير (كيف نكتب البيوغرافيا التاريخية الآن) عودة هذا النوع إلى الواجهة بعد أنصادف كسوفا طويلا في حركة الحوليات.
1-حمى البيوغرافيات.
يؤكد فرانسوا دوس في كتابه الرهان البيوغرافي- كتابة سيرة- على وجود انفجار حقيقي في مجال كتابة السير خلال العشرين سنة الأخيرة في فرنسا، وقد استهل كتابه بلوحة بانورامية تقديمية عن هذه العودة القوية للبيوغرافيا بجميع أصنافها من خلال تتبع التطور الذي حققته سوق السير من مبيعات، وخلص من خلال لغة الأرقام أن البيوغرافيات التاريخية أضحت مسيطرة على سوق الكتب مستفيدة من هوس الجمهور المتعطش لهذا النوع ومن التنافس الحاد بين الناشرين الذين كان لزاما عليهم أن يتصرفوا ويتفاعلوا حتى يتجنبوا السقوط في حتمية التفتت. في ظل هذا التنافس الذي وسمه دوس “بالحمى البيوغرافية” وقعت طفرة هائلة تعبر عنها بشكل واضح الإحصائيات التي قدمها في مؤلفه، فقد بلغ عدد البيوغرافيات الجديدة التي نشرت سنة 1985م حوالي 200 بيوغرافيا، وفي سنة 1996م نشرت 611 بيوغرافيا، وفي سنة 1999م صدر 1043 مؤلف بيوغرافي، هذا دون حساب السير الذاتية والبحوث الأكاديمية. و بهذا احتلت الكتابات البيوغرافيا المكانة الأولى في محلات البيع. هذه الأرقام تعبر حسب مقدمة المؤلف عن النجاح الهائل لهذا النوع من الكتابات فهناك “حمى بيوغرافية” حقيقية في فرنسا حاليا، وقد وسمت بعض المجلات الشهيرة ومنها “لوفيغارو” هذا السيل من الاصدرات “بالانفجار البيوغرافي”. لقد حدث إقلاع بيوغرافي على حد تعبير دانيال مادلينا وهو إقلاع يندرج في سياق حركة اسطوغرافية عامة وجديدة في أوربا خلال الفترة الحالية. لقد ظلت السيرة لفترة طويلة من القرن الماضي محظورة في أوساط المؤرخين، إذ لم يكن هناك أسوء من النوع البيوغرافي في العلوم الإنسانية، لكن منذ سنة 1980م استعاد مشروعيته المفقودة في الحقل الأكاديمي، فهذا النوع الذي رفضته مدرسة “الحوليات” عرف اليوم انتعاشة جديدة، لقد كان يبدو في الأفق أن البيوغرافيات انتهت، ثم بدأ الاهتمام بها يعود تدريجيا من خلال مقاربات جديدة. لقد استعادت البيوغرافيا في فرنسا الكثير من بريقها حاليا ويشهد على ذلك هذا الزخم الكبير من الإصدارات. تقوم فرضية المؤرخ دوس في هذا المؤلف على أن “حمى البيوغرافيا” التي انطلقت منذ العقود الثلاثة الأخيرة ليست ظاهرة عابرة أو “موضة” أو “عودة إلى المواضيع التقليدية”، وإنما هي توجه جديد يتوافق مع التفكير المعمق حول الفردانيات. فالماضي في نظره سيصبح أكثر فردانية في القرن الحالي. البيوغرافيا حسب المؤلف ظلت دائما ذات قيمة عند الجمهور، فرفض السيرة كان محدودا في الساحة الأكاديمية فقط بخلاف القراء الذين اهتموا دائما بهذا النوع، فلدى المرء رغبة وفضول في الاطلاع على ما هو خفي وغامض في حياة الآخرين، فحتى في مرحلة الخسوف و الانحدار سجل فرانسوا دوس استمرار كتابات حققت ضالة المحبين لأسرار بيوت النوم ولمغامرات المحاربين المخيفين، كما ظلت بعض النجاحات ذائعة الصيت كما هو الحال بالنسبة للمؤرخ وكاتب الروايات الشعبية ماكس كالو (Max Gallo) الذي كتب بيوغرافيات عديدة، فقد تجاوزت مبيعات كتابه حول نابليون 800 ألف نسخة كما حققت رواياته البيوغرافية التي أنجزها عن فولتير وروبسبير وموسوليني ودوكول والقديس مارتن وغيرها من الروايات نجاحا كبيرا برغم كل الانتقادات الموجهة إليها. كما مثل كل من الآن دوكو (Alain Decaux) واندريه كاسطيلو (Andre Castelot) قاطرة لمنارات دور النشر الكبرى في مجالات البيوغرافيات التقليدية مثل بيران (Perrin) وطالانديير tallandier)).
2- البيوغرافيا: موضة عابرة أم منبع للتجديد؟
بعد أن فقدت الكتابات البيوغرافية بريقها خلال المرحلة التي سيطرت فيها الحوليات على المعرفة التاريخية وتراجع الاهتمام بها بعد أن كيلت لها اتهامات بقلة الضبط والإفراط في الخيال والانتماء للتاريخ السردي، ها هو جنس السير ينتعش ويفرض نفسه من جديد على الكتابات التاريخية والروائية مثله في ذلك مثل الحدث، لقد أعيد الاعتبار ضمنيا إلى التاريخ الفردي من زاوية ما أصبح يعرف ب “رهان كتـابة البيـوغرافيا” وهو الموضـوع الذي يعــالجه بعمق فرانسوا دوس في كتابـه biographique) le pari) والذي يطرح فيه أيضا الإشكاليات والتعقيدات المرتبطة بكتابة السير. هل البيوغرافيا قادرة اليوم على احتواء التجديدات في الفكر والكتابة التاريخية؟ هل بالإمكان أن ننعتها اليوم بمنبع التغييير والتجديد؟
كان هناك اشمئزاز ورفض جذري للبيوغرافيا كنوع في ميدان التاريخ، نلمس ذلك من خلال المثل الشهير “لا تقولوا لأمي إني كاتب سير فتعتقد أني مؤرخ”. أما اليوم فان كتابة البيوغرافيا التاريخية أضحت أكثر شعبية ورواجا، وأصبحت نوعا متميز من الكتابة والتفكير في التاريخ، إذ استطاعت أن تفرض نفسها من جديد على الاتجاهات التاريخية والانثربولوجية والسوسيولوجية والأدبية، وأصبحت ميدانا جديدا لاختبار قدرة المؤرخ خصوصا بعد أزمة الهوية والممارسة التي برزت للوجود مع الجيل الثالث لمدرسة الحوليات، الذي بذل جهدا كبيرا من أجل إعادة صياغة مجالات التاريخ وتحديد التوجهات الجديدة والعمل على التكيف مع الوضع المتغير، إنه القلق بخصوص مستقبل الكتابة التاريخية في سياق موجة المعاصرة، فمع التفتح الحاصل في العلوم الإنسانية والاجتماعية ظهرت كتابات متعددة وخصبة فرضت نفسها كحقل جديد لإحياء الذاكرة التاريخية أهمها السير الجماعية، والسير المتوازية، والسير المتقاطعة، والسير الفكرية وسير الناس العاديين.
هذه العودة القوية للبيوغرافيا في الكتابات التاريخية المعاصرة أثارت ردود أفعال متباينة، بل يشير فرانسوا دوس إلى أنه حتى في الحقبة التي سيطرت عليها الحوليات استمرت البيوغرافيا في اكتساح الناشرين، لكن رغم ذلك لم يصبح هذا النوع شرعيا، فقد وُصف أغلبه بأنه مجرد حكايات بسيطة وأقصوصات لكتاب رديئين، شبههم جاك لوغوف “بالمهاجرين الذين عادوا بعد الثورة الفرنسية دون أن يتعلموا جديدا أو ينسوا قديما”. وقد اعتبر أن هذا الاهتمام بالسير ليس إلا “عودة غامضة” إلى مواضيع تاريخية قديمة تحركها بعض التوجهات الايدولوجيا، كما أكد في مقاله الشهير بمجلة (le débat) أن هذه العودة ليست “إلا جزءا من “التحركات ضد تاريخ الحوليات”.
أثارت العودة الحالية للتاريخ السردي جدلا واسعا في صفوف التاريخ الجديد، وفي نظر جاك لوغوف فإن هذا النوع أصبح جثة يجب عدم النفخ فيها، وفي حالة إعادة إحيائها يجب إعدامها مرة ثانية، إذا كان هذا هو الشأن بالنسبة لتعامل أغلب رواد الجيل الثالث من الحوليات مع عودة الحدث(2)، فإن العودة إلى تاريخ السير يعتبر الأكثر وفاقا في الظاهر إذ يبدو أن هذه العودة لم تلاق معارضة كبيرة على الرغم من الانتقادات التي وجهت إلى “سوق الكتاب البيوغرافي” الذي يعج حسب لوغوف بمؤلفات “مخيبة للآمال وعاجزة عن إظهار الدلالات التاريخية للسير الفردية” فاغلبها “سطحي وطرائفي” لا يخلوا من “الطابع الحكائي”(3).
هذا الاكتساح البيوغرافي الذي عده جاك لوغوف مجرد موضة ضمن “العودات الغامضة” التي تعرفها مواضيع التاريخ التقليدي في الكتابات التاريخية المعاصرة لم يرق إلى نفس مستوى الهجمة التي شنها ضد عودة الحدث التاريخي، فهو ينبه القارئ في تقديمه للطبعة الأولى من المؤلف الجماعي (التاريخ الجديد) سنة 1987م أن “المقالات المرتبطة بالسير والتراجم قليلة ولم تهتم إلا بالمؤرخين الذين لهم قيمة خاصة من منظور التاريخ الجديد مثل هيرودوت”(4) وذكر مؤرخين وفلاسفة عديدين وطرح إمكانية كتابة سيرة أو ترجمة لهم لكن بمنهاج التاريخ الجديد وفي إطار الإشكاليات العميقة، فالبيوغرافيات التي لها قيمة في نظره هي تلك التي تسلط الضوء على الشخصيات التاريخية الغارقة في محيطها، وقد أعطى المثل بالسيرة التي أنجزها هو نفسه عن القديس لويس التاسع .
مرت الحوليات منذ تأسيسها وإلى الآن بمراحل كبرى عرف فيها التاريخ لحظات قوية حتى العصر الذي أطلق عليه المراقبون من مؤرخين وغيرهم إسم الأزمة مما جعل الحديث يدور عن تاريخ مجزأ بل عن تاريخ مفتت. لقد تمت إزاحة الحدث إلى المركز الأخير بعد البنية والظرف، وكان هناك رفض شامل للتفرد، تفرد الحدث، تفرد الأفراد، لذلك تمثل عودة السير إلى الواجهة الآن معاكسة ضمنية لكتابة التاريخ كما كانت سائدة في العصر الذهبي للحوليات، وتحديا أمام جيل التاريخ الجديد. لكن وكما قال جاك لوغوف”سيكون من الخطأ أن نرى في الجيلين الأولين من الحوليات أعداءً للبيوغرافيا وللرجال الكبار”، فمدرسة الحوليات على عهد الجيل الأول المؤسس لم تتخذ موقفا معاديا للبيوغرافيا، وإنما العداء بدأ مع فترة الجيل الثاني للحوليات والتي وسمها فرانسوا دوس” بالمرحلة ضد البيوغرافيا” حيث تم تهميش دور الأفراد في التاريخ.
فمارك بلوخ مؤسس تاريخ العقليات رصد تصورات ملايين الناس بقدرة ملوك انجلترا وفرنسا على صنع المعجزات، أما لوسيان فيفر فقد كتب بيوغرافية لوثر الذي اختاره لإنارة العالم الديني لرجال القرن السادس عشر. وقد أضاف إليه رابليه ومرغريت دونافار، هذه الكتب الثلاثة تبدو في مظهر كتب السيرة إلا أنها تكشف في الجوهر عن السمات الجماعية التي تتجاوز الفرد(5). مع رموز الجيل الثاني للحوليات بدأ العداء للبيوغرافيا والشخصيات الرئيسية، فقد وضع فرناند بروديل في أطروحته الشهيرة اسم ملك اسباني لكن البطل كان البحر الأبيض المتوسط وليس فيليب الثاني هنا ابتعد بروديل عن أستاذه لوسيان فيفر. لذلك يمكن القول أن الكسوف البيوغرافي يعود إلى المرحلة البروديلية أكثر من عودتها للجيل الأول من مدرسة “الحوليات”.
3-البيوغرافيا جنس هجين
من بين الأسباب التي جعلت مهنة البيوغرافي أسوء مهنة في ميدان التاريخ الطابع الهجين لهذا النوع وتعدد العوائق الملازمة له، حتى أصبح البيوغرافي على حد تعبير دوس يُشَبَّهُ “بعازف البيانو في ملهى ليلي”. كان الحذر من هذا النوع المحفوف بالمخاطر والمحكوم بقدر كبير من الخيال لطبيعة الكتابة الأدبية التي تميزه السبب في حصول قطيعة بين التاريخ والبيوغرافيا. لذلك تخلى المؤرخون في الماضي عن هذا النوع للروائيين لأنه يأخذ من الكتابة الأدبية أكثر مما يأخذ من الكتابة التاريخية. يحلل المؤلف فرانسوا دوس في الفصل الأول من كتابه (الرهان البيوغرافي) التوتر الموجود بحدة بين التاريخ والخيال الكامن في هذا النوع المختلط والهجين من الكتابة من خلال نماذج متنوعة. ليخلص في النهاية أن الاستنجاد بالخيال في العمل البيوغرافي أمر لا مفر منه، فمن صبغة البيوغرافيا وجود فراغات ظرفية لا بد من ملئها، هذه الخاصية الغير الخالصة التي تميز هذا النوع أثارت فرجينا وولف التي شبهته بالمولود الغير الشرعي لزواج محرم بين النقيضين الحقيقة والخيال، ومن ثم فإن قدرة البيوغرافي على إنجاح أو إفشال المناولة البيوغرافيا يتعلق بقدرته على المعايرة الجيدة للجانب الخيالي مع الجانب الحقيقي.
العائق الآخر الذي يواجه البيوغرافي في علاقته بالتاريخ هو صعوبة تناول الحياة الخاصة بسبب قلة المصادر، فإذا كانت المقاربة التاريخية تسعى إلى الحفاظ على الفرق بين الحياة الخاصة والعامة، فإن البيوغرافيا تقتحم المجالين معا، ومن هنا تأتي الخطورة، فبخلاف الروائي الذي يطلق العنان للخيال باعتباره أقل ارتباطا بالوثيقة على البيوغرافي أن يكون أكثر قربا من الحياة الحقيقية للأشخاص. من هنا تعتبر البيوغرافيا رهانا صعبا، فالكاتب الذي يطمح إلى تسليط الضوء على كل الأحداث في ظل النقص الوثائقي قد ينتهي به الأمر بسبب ذلك إلى الفشل والإخفاق.
“البيوغرافيا، مُعاقة التاريخ” إنه تعبير صارم لمارك فيرو(Marc Ferro)، وكتابة البيوغرافيا “ورطة” في نظر المؤلف فرانسوا دوس لأنها تتضمن أخطارا متعددة، فبالإضافة إلى التوتر الذي يظل على أشده بين الرغبة في قول الحقيقة وبين الرواية التي تمر عبر الخيال، هناك الخوف من السقوط في المحظور: “الأفراد صناع التاريخ”. لابد من قراءة جديدة بعيدة عن القراءات الروتينية أو التأبينات ذات الخطاب التمجيدي الموجه، وأيضا تُطرح “مشكلة الذاتية والموضوعية”. فاختيار البيوغرافي ليس اختيارا عشوائيا هناك تأثير الموضوع هذا أمر أكيد، قد نجد تطابق أو علاقة بين الشخصية وبين ميولاتنا واختياراتنا، يتساءل فرانسوا دوس لماذا نكتب البيوغرافيا؟ “بدون شك لا أحد كتب سيرة حياة شخص بهدف علمي صرف ينحصر في المعرفة بل تختفي أسباب أخرى وراء هذا القناع، وهو ما نلمسه مثلا في البيوغرافيات التي ينجزها الساسة أو تنجز عن الساسة”. فالمسافة بين الكاتب وموضوع البيوغرافيا قد تنتقل إلى علاقة خاصة جدا، لذلك كثيرا ما نجد تطابقا بين الشخصية وميولات الكتاب، إن البيوغرافيا هي عمل على الذات بقدر ما هي عمل على الآخر، فعلاقة الذات بالآخر تؤثر على العلاقة بالموضوع. وفي هذا السياق تدخل سلسلة (l’un et l’autre) التي أشرف عليها عالم النفس الفرنسيّ جان برنارد بونطاليس Jean-Bernard Pontallis، فقد اقترح على عدد من مؤلِّفي السير تدوين ارتساماتهم الشخصية حول طبيعة العلاقة التي ربطتهم بالشخوص التي كتبوا عنها، وذلك بهدف الكشف عن مدى حدود تأثر الكاتب في مساره بسيرة الآخر الذي أنجز عنه دراسة بيوغرافية سابقة، إنها طريقة مستوحاة من أسلوب التحليل النفسي، كانت التجربة مغامرة استهدفت الكشف عن مدى حضور الذات لدى الحديث عن الآخر والعكس.وقد ترك برنارد بونطاليس للكتاب المعجبين بأعمالهم حرية اختيار مواضيعهم، وكان من بين أشهر ما أنجز في إطار هذه السلسلة كتاب LeTrès-Bas (1992م) لكريستيان بوبان(Christian Bobin) الذي اختار لصياغة ارتساماته ضمن هذه السلسلة شخصية القديس فرانسوا داسيزFrançois d’Assise وهو راهب إيطالي المنشأ عاش بين سنتي (1182م– 1226م) واشتهر بتأسيسه لرابطة الإخوان الصغار الفرنسيسكان، وقد لقي هذا الكتاب إقبالا كبيرا لدى الجمهور القارئ إذ بيع منه أكثر من 160.000 نسخة.
سلسلة هذا وذاك اعتبرها المؤلف “بيوغرافيات ضد الببيوغرافيا” فهناك خلط واضح بين الخيال والحدث، بين الكاتب والموضوع. يعترف فرانسوا دوس ويقر بأن الذاتية موجودة في الأعمال البيوغرافيا لكنه يؤكد بالمقابل أنها موجودة في الأعمال التاريخية أيضا، فالذاتية رافقت على الدوام الأبحاث التاريخية، فالمؤرخ يكشف عن ذاته من خلال أعماله، إذ ليس هناك تاريخ بدون ذاتية المؤرخ التي تصبح جزءا من العمل التاريخي، وفي العمق التاريخ هو تاريخ المؤرخين الذين يكتبونه. فالمؤرخ الذي عايش الأحداث وشارك فيها كذات فاعلة وكتب عنها تختلف نظرته عن الذي يكتب عن الحدث اليوم، إنه يكتب تاريخ مختلف بمنظور وقراءة جديدة. ومع ذلك على البيوغرافي أن يترك مسافة بينه وبين الموضوع الذي يشتغل عليه ليس على المستوى الفكري فقط ولكن أيضا على المستوى العاطفي وإلا سقط في “الوهم البيوغرافي”.
الكتابة البيوغرافية تواجه المؤرخ بمشاكل كثيرة ناتجة عن طبيعة الاكراهات التي يفرضها هذا النوع، لذلك فإن كتابة السيرة أفق صعب التناول لأنها تتميز بمميزات أدبية وذاتية. فالبيوغرافيا هجينة تتموقع بين مهنة المؤرخ والصحافي وعالم النفس والسياسي والأديب، وإن خوض غمارها نوع من”الورطة” كما وصفها المؤلف دوس، فالبيوغرافيا جنس متعدد وخليط بين المعرفة المعمقة والإبداع الأدبي والحدس السيكولوجي، وانخراط البيوغرافي في موضوعه يتطلب منه استثمار كل هذا التركيب المعقد.
4- مراحل تطور الكتابات البيوغرافية.
ألقى المؤلف فرانسوا دوس في ما تبقى من فصول الكتاب الضوء على المراحل الكبرى التي عرفها تطور الكتابات البيوغرافية التاريخية منذ بداياتها الأولى وحتى الفترة الراهنة، وقد ميز بين أربع محطات بارزة من كتابة السير.
أولا: مرحلة الأبطال والرجال العظام.
تمتد هذه المرحلة حسب فرانسوا دوس من العصور القديمة إلى القرن التاسع عشر، كانت كتابة السيرة في بداية هذه المرحلة نوعاً من الخطاب التمجيدي حول الفضيلة والأخلاق، وقد ارتبطت بفكرة العناية الإلهية وبأهمية دور الرجال العظام، فالشخصيات موضوع الدراسة البيوغرافية كانت تمثل غالبا نماذج مثالية. ويعتـبر كتاب بلوتـاركوس السيـر المـتوازية Vies parallèle نموذجا لهذا النوع من الكتابات في بداياتها الأولى، عقد فيه مقارنات بين الشخصيات اليونانية والرومانية بشكل متوازي، وقد ميز بلوتارك بشكل واضح بين كتابة السير وكتابة التاريخ بقوله: “نحن لا نكتب التاريخ وإنما سير حياة”، لذا فهو يعد من أشهر مؤرخي السير و التراجم في العصر القديم. بلوتارك كغيره من المؤرخين السابقين أمثال هيرودوت نسب إلى بعض الملوك القدرة على الشفاء من الأمراض وإيقاف الأوبئة والتحكم في الرياح، وأورد العديد من الرؤى والخوارق والكرامات. ونسجل هنا ملاحظة مهمة أشارت إليها سابينا لوريكا وهي أن “تيوسيديد بخلاف بلوتارك ظل متحفظا إزاء بعض الكرامات كما عبر عن امتعاضه من البيوغرافيا”.
وخلال فترة القرون الوسطى لم نشهد قطيعة مع الممارسات السابقة، اذ انتعشت خلال هذه الحقبة سير حياة القديسين(الهجيوغرافيات) بما تحمله من تمجيد ومديح وتخليد، إنه عصر كتابات مناقب الرهبان والقديسين بامتياز، وقد تم تسخير مقاصد هذه السير تبعاً للقيم الأخلاقية التي يراد إيصالها لأفراد المجتمع. وخلال القرنين13م و14م مجد الكتاب الملوك وسادة الإقطاع من خلال التركيز على ذكر شجاعتهم وبطولاتهم، وحتى إلى حدود القرن17م ظلت سير الفرسان والأبطال الملوك تحتل الجزء الأكبر من اهتمامات الكتاب، ولم يتراجع هذا النمط من الكتابات إلا بعد الثورة الفرنسية. خلال القرن التاسع عشر ظهرت أنواع جديدة من البيوغرافيات حيث كانت كتابة السيرة تُعني إلى حد كبير بسرد مجموعة من«الروايات والحكايات» التي تركز على المشاعر والعواطف من خلال تناول مواضيع عن الطقوس السحرية والجن والموت والمرض والحياة الحميمية والفرسان المخيفين وغيرها من المواضيع الحساسة التي تجلب اهتمام جمهور القراء، لقد ظل هذا النوع محفوفا بالمخاطر ومحكوما بالصبغة الأدبية والخيالية التي ميزت الفترة الرومانسية.
ثانيا: مرحلة الكسوف البيوغرافي
أصبحت البيوغرافيا ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر في وضعية كسوف، هذا النوع تعايش ولكنه ظل غير معتبر ومتخلى عنه، وازدادت الوضعية تأزما في بداية القرن العشرين وقد بلغ هذا الرفض ذروته منتصف القرن. فمع الجيل الثاني لمدرسة الحوليات وفي وقت قصير جدا أصبحت البيوغرافيا رمزا للتاريخ التقليدي أو حسب تعبير بروديل التاريخ الوقائعي الذي يركز أكثر على الأشخاص بدل الجمهور، لقد تراجع تاريخ السير لفائدة تاريخ أكثر انفتاحا على الاقتصاد والمجتمع. لقد رفضت مدرسة “الحوليات” البيوغرافيا مثلما رفضت الحدث، واعتبرتها إحدى الأصنام التاريخية الغير المفيدة في فهم معنى التاريخ، وبذلك تم تهميش السيرة من طرف المؤرخين الذين اتجهوا لدراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي وتاريخ العقليات. هذا الكسوف الذي عرفته البيوغرافيا شمل أيضا ميدان علم الاجتماع والانتربولوجيا واللسانيات. لقد تم احتقار السيرة من طرف المؤرخين والأكاديميين وأصبحت عملا مستهجنا ومتهما، وتحولت كما قال دوس إلى “وهم” و”طابو محرم” وتُركت فقط للهواة وفي أحسن الظروف اتخذت كوسيلة ديداكتيكية لتدريس المتعلمين مادة التاريخ. لكن هل هذا يعني أن جميع أنواع البيوغرافيات اختفت خلال هذه الفترة؟ أو بتعبير آخر ما هي البيوغرافيات التي استمرت خلال مرحلة الحوليات ؟
لقد استمرت بعض مجالات البيوغرافيا في الوجود خلال مرحلة الحوليات والتي سماها فرنسوا دوس “biographie modale ” واعتبرها مرحلة انسياق وراء “موضة الفئات الاجتماعية”، حيث ينبغي لسرد سيرة حياة أن يخدم “نموذجا مثاليا” يتجاوز شخصية الفرد، وهكذا ازدهرت الكتابات عن قضايا اجتماعية من خلال دراسة السير الفردية بينما عرفت الأنواع الأخرى كسوفا وتراجعا ملحوظا وتم تصنيفها ضمن الكتابات الرديئة والسطحية التي تجاوزها الزمن. هذه هي الشرعية الوحيدة التي بقيت لهذا النوع البيوغرافي فقط بواسطة قيمته التمثيلية لوسط اجتماعي واسع، إذ الشخص لا قيمة له في حد ذاته إلا من خلال أنه يصور المجموعة، فالبيوغرافيا لم تعد خاصة بالأفراد بل هي قصة فترة نراها من خلال هذا الشخص. فالفرد يصبح مدخلا لدراسة الجماعة إنه يعطي صورة معدل سلوك لمجموعة اجتماعية في حقبة معينة.
انتعشت نتيجة ذلك سير أشخاص فقط كنماذج عن أوساط اجتماعية، فلوسيان فيفر عندما تناول (Rabelais) في كتابه مشكلة عدم الإيمان في القرن السادس عشر: ديانة رابليه لم يتناوله في فردانيته ولكن قابل بينه وبين الصنف العقلي والذهني الذي ميز فترته، “لقد أراد أن يبرهن أن الإلحاد مستحيل في الفترة التي عاش خلالها رابلي”. لقد أثبت بشكل مقنع أن الإيمان المتوفر في هذه الفترة أداته الذهنية لا تسمح بالإعلان عن الإلحاد ولا حتى بتكوين رؤية للعالم ملحدة بشكل علني.
أكد لوسيان فيفر أن من اعتبر رابلي رسول الزندقة والإلحاد سقط في خطيئة المفارقة التاريخية، لذلك انتقد بشدة أطروحة أبيل لوفران(Abel. Lefranc) الذي جعل من رابليه رجلا عقلانيا ومفكرا حرا واتهمه بالوقوع في “المفارقة التاريخية”: أي أنه قرأ نصوص القرن 16م بعيون القرن العشرين. فالآلية الذهنية للقرن السادس عشر في نظر فيفر لا تسمح أبدا بظهور فكر منطقي كالذي سيولد فيما بعد خلال القرن 17م . لقد بين من خلال كتابه “رابلي” إلى أي مدى كانت المسيحية تضبط بشكل كامل الحياة الجماعية والفردية خلال القرن السادس عشر. وفي كتابه الآخر عن “لوثر” قابل سيكولوجية الفرد مع العقلية الذهنية للألمان، لقد عالج مشكلة العلاقة بين الفرد والجماعة بأن وضع وجها لوجه نفسية فرد هو لوثر مع المحيط الذهني لألمانيا في القرن السادس عشر، ومن جراء لقاء هذين العاملين في نظره ظهر الإصلاح الديني والانشقاق عن روما، وعلى عكس الدراسات التقليدية لم يتم تفضيل أهمية الفرد لوثر في هذه الدراسة، لأن لوسيان فيفر يرفض بشدة هذا التصور الضيق للتاريخ، ولكن الجو الذهني هو الذي يسود حيث يتم الالتقاء بين الطموحات الفردية والجماعية. وقد سلك مارك بلوخ نفس الأسلوب في كتابه الملوك العجائبيين إذ وقف كثيرا أمام الممارسات الجماعية والرمزية والتمثلات الذهنية غير الواعية لمختلف المجموعات الاجتماعية وربط بين سيطرة الشائعة أو الخبر الكاذب حول قدرة الملوك على شفاء المصابين بمرض داء الخنازير عن طريق وضع اليد وبين وجود تعبد شبه ديني نحو النظام الملكي.
استمر هذا النوع في التواجد حتى خلال مرحلة “ضد البيوغرافيا” (anti biographie) وهو مصطلح استعمله كثيرا فرانسوا دوس ووصم به مرحلة الحوليات مع جيلها الثاني الذي حارب البيوغرافيات التقليدية بمختلف أصنافها. بالإضافة إلى هذا الصنف الذي يخدم “نموذجا مثاليا” يتجاوز الفرد، حافظ نوع آخر قريب من البيوغرافيا على الوجود في بعض الزوايا المختبئة من الكتابات التاريخية على حد تعبير سابينا لوريكا والمقصود به حقل البروسوبوغرافيا، وهو نموذج تصنيف اجتماعي وسطي يهتم بالطابع العام للمجموعة دون التعمق في الفردانية. لقد كان هدف البروسوبوغرافيا الانتقال من التفرد إلى التعدد عبر دراسة المجموعة من خلال تقاطعات الأفراد الذين لهم مميزات مشتركة مثل الانتماء لنفس المهنة أو الحرفة أو الطائفة أو التخصص أو الوظيفة الاجتماعية.
انتقلت البروسوبوغرافيا من الاهتمام بأوساط الخيالة والعسكريين والسياسيين إلى باقي الأوساط الاجتماعية الأخرى، وقد ساهمت هذه الأبحاث في ظهور معاجم الأعلام التي تقدم نبذة تاريخية أو لمحة مختصرة عن سير مجموعات. وقد استمر هذا النوع في الوجود وزُكي دائما في حقل التاريخ ولم يكن موضوع انتقاد من طرف الحوليات لأنه ينطلق من وجهة نظر فردية ليصل إلى مستوى جماعي، وقد ظهرت معاجم بيوغرافيات عامة ومهنية وجهوية عن أوساط العمال وعن البرلمانيين والعسكريين وأيضا عن المجرمين فقد ألف كلود كوفارد Claude Gauvard بروسوبوغرافيا المجرمين بفرنسا في نهاية العصور الوسطى، وألف آخرون بروسوبوغرافيات عن القرون الوسطى وعن القديسين.
ثالثا: المرحلة التأويلية
تبدأ هذه المرحلة حسب فرانسوا دوس منذ ثمانينيات القرن الماضي، فإذا كانت السيرة استهدفت سابقا بناء الأبطال العظام ورسم نماذج مثالية لحقب زمنية معينة من خلال قراءات أحادية حول الشخصيات التاريخية، فإن هذه المرحلة الجديدة تتميز بتعدد زوايا النظر، إنه عصر التأويل والهويات المتعددة حسب المؤلف. في البداية تم تحويل مجال الاهتمام إلى سير الرجال العاديين بدل الشخصيات الكبار، لقد انتقلنا من سير الأفراد العظماء إلى سير الأشخاص الذين ليسوا من المشاهير (antihéros) بل وأحياناً هم من المغمورين تماماً. وقد ساهمت السوسيولوجيا والاثنولوجيا بقوة في النجاحات التي بدأ يعرفها هذا النوع خلال مرحلة الستينات و السبعينات. لقد بثت السوسيولوجيا الجديدة بالإضافة إلى أنصار الميكروتاريخ الروح من جديد في كتابة السير، فالفرد كان يعتبر إلى ذلك الوقت خارجا ومبعدا عن ساحة الخطاب العالم، لقد ردت السوسيولوجيا والاثنولوجيا الاعتبار للفرد، وفي هذا الإطار تندرج سيرة أطفال سانشيز للسوسيولوجي اوسكار لويس من جامعة شيكاكو والذي قدم نموذجا لمنهج بيوغرافي في الاثنولوجيا بجميع مؤهلاتها وخصائصها في الرواية العائلية من خلال سرد حياة أسرة مكسيكية تحت بروليتارية.
رواية أطفال سانشيز المنجزة من طرف لويس قدم بها صورة وطريقة بيوغرافية في الاثنولوجيا أطلق عليها الاثنوبيوغرافيا، والتي يمكن عدها جنسا هجينا بين البيوغرافيا والسيرة الذاتية، وقد استخلص الفرنسيون من خلال رواية أطفال سانشيز فائدة كبيرة فيما يتعلق بأهمية “روايات الحياة”، وقد حققت هذه النوعية رواجا من خلال أعمال كثيرة مشابهة. في نفس السياق دائما اتجه بعض المؤرخين الآخرين مثل الان كوربان (Corbin Alain) للبحث في التاريخ الصامت لإحياء الذاكرة التاريخية من خلال التركيز على سير الفئات والأماكن المهمشة. وتعتبر الأبحاث التي أنجزها ذات أهمية كبرى خصوصا في باب سير حياة الناس العاديين، ويعد كتابه “العالم المكتشف للويس فرانسوا بيناكوت:على خطى مجهول(1798-1876)” الأكثر شهرة في هذا المجال. ولويس ف. بيناغوت Louis-François Pinagotالذي يتناوله الآن كوربان بالبحث في كتابه هو قباقيبي (sabotier)، عاش بين سنتي (1798م- 1876)، أمي متزوج من خياطة وأب لثمانية أطفال، لم يشر إليه احد في أي مكان ولم يترك أية مأثرة خاصة تبرر كتابة سيرة عن حياته. ومع ذلك لاقى هذا الكتاب نجاحاً كبيراً على مستوى المبيعات.
لقد سعى المؤلف في هذا الكتاب لإحياء سيرة شخص غريب تماما اكتشفه صدفة من خلال مراجعته لسجلات منطقة أورن orne، لويس ف. بيناغوت هو بحث في “التاريخ المنسي” أو ما يسمى “التاريخ الصامت” لاستعادة “جزء من العالم المفقود” لهذه الشخصية التي لم يكن يملك عنها إلا معلومات قليلة، ففيما يخص الناس العاديين و بخلاف الشخصيات المشهورة يصطدم المؤرخ مع صمت النصوص، فهم أشخاص غير مرئيين ولا تعطى لهم أي قيمة ولا أي رمزية إلا إذا ارتكبوا جرائم خارقة أو نالوا عقوبات قاسية، فقط في مثل هذه الحالات النادرة يسلط عليهم الضوء وقد يصبحون شخصيات ضمن أعمال قصصية أو أدبية(6). إن سيرة فرانسوا بيناغوت عمل بيوغرافي رائع استطاع فيه مؤلفه أن يعيد بناء حياة هذا الشخص من خلال تسليط الضوء على الأحداث التي عاشها خلال فترة حياته الطويلة التي قاربت 78 سنة، وهي فترة تزامنت مع أحداث كبرى عاشتها فرنسا. قصة هذا القراقيبي كما تناولها هذا الكاتب سمحت لنا بإلقاء نظرة مختلفة عن القرن 19م ببوادي وقرى فرنسا. فصورة هذا القرن كما تظهر من خلال هذه السيرة تختلف كليا عن الصورة المتداولة في الكتابات التاريخية التقليدية، فإذا كان القرن 19م عند المؤرخين هو قرن الثورات والتغيرات الكبرى، فإن فرانسوا بيناغوت الذي عاش ثلاثة أرباع هذا القرن لا يرى عصره بهذا المنظور، فهو وأمثاله من سكان قريته لم يعرفوا أي شيء عن التحولات السياسية والاقتصادية التي كانت تجري خارج فضاء قريتهم التي لم يغادروها ربما طيلة حياتهم.
رابعا: السير الفكرية
في شهر نونبر من سنة 2000م نظمت الجمعية الفرنسية للفلسفة نقاشا في موضوع “بيوغرافية المثقفين والفلاسفة”، وبهذه المناسبة أثيرت مسألة ندرة الدراسات البيوغرافية التي تناولت حياة المفكرين بينما جميع المهن الأخرى كانت موضوعات تحقيق واستقصاء ناجحة، فقد كتبت سير لزعماء ورؤساء وللاعبي كرة القدم لكن بيوغرافيات الفلاسفة وأصحاب القلم لم يعطى لها الاهتمام الكافي، وكأن الفلاسفة “مضادات حيوية ضد البيوغرافيا” كما عبر دوس. كان السؤال المطروح للنقاش هو لماذا حياة الفلاسفة تسترعي اهتماما أقل مقارنة مع الأشخاص الآخرين؟ عموما تكون الإجابة الجاهزة هي أن كبار الفلاسفة يعيشون للأبد بسبب أعمالهم وأفكارهم الخالدة، وكأنهم بهذا المعنى مبعدين من الحياة المشتركة للفانين.
ميز Beyssade Jean-Marieبين ثلاث أسباب تدعو لكتابة حياة الفلاسفة حاليا. الأول يتمثل في الحاجة الملحة لفهم أعمق وجيد لأعمال الفيلسوف مرورا بمشوار حياته. الثاني: للحكم جيدا على أعماله من خلال قراءة تنبني على الشك والريبة وتبحث عن النشاز والتنافر بين ما أعلن وبين الواقع المعاش. السبب الثالث: أن بيوغرافية الفلاسفة لا تكون موجهة للمختصين وإنما للعاديين لمساعدتهم على فهم جيد لأفكارهم، هنا تصبح السيرة بديلا عن أعماله الكاملة. لقد أصبح إذن الفلاسفة ورجال الآداب والفكر حاليا موضوع حب استطلاع وفعل بيوغرافي، لكن بأي طريقة يمكن تناول هذه الشخصيات؟
أكد هنري بيرغسون Henri Bergson أن إقحام العائلة في العمل البيوغرافي أمر غير مجدي ونصح من أراد كتابة بيوغرافيته “عدم الاكتراث بحياته والتركيز فقط على أعماله”، كان مصرا على وجهة النظر التي تقول أن حياة الفيلسوف لا تسلط أي ضوء على مذهبه وتوجهاته، ونجد نفس الرأي عند رونالد بارث الذي شبه السيرة بالنصب التذكاري المزيف وعدها نوعا أدبيا كريها.إذ كان لا يحتمل أن تتشكل له صورة ويتعذب لدى ذكر اسمه هذا ما يقوله عن نفسه، وقد استعمل ضمير الغائب في كتابة سيرته الذاتية الغير المألوفة “رولان بارت بقلم رولان بارت”(1975).
بيير ريفارد (Pierre Riffard) سلك مسارا مختلفا تماما إذ ركز على الحياة الخاصة للفلاسفة ولم يهتم بأعمالهم. وإذا أخذنا بالفكرة التي تقول أن الفلاسفة عقل خالص فريفارد حاول بنهجه المناقض أن يبين لنا أن هذه العقول الخالصة هي كذلك كائنات من لحم ودم. الدخول هنا في الحياة الخاصة لا يهدف إلى كشف الأسرار الحميمية ولكن لتقريب الشخصيات من الفكر وذلك عن طريق إعطاء سلسلة من المعلومات الدقيقة حتى فيما يتعلق بالمأكولات المفضلة والعادات اليومية والحياة الاجتماعية والمظهر الخارجي.
البيوغرافيا الثقافية كما يطرحها فرانسوا دوس تقتضي إعادة الصلة للقطيعة التي سادت طويلا بين الفكر والوجود. فالفهم العميق لأفكار الفلاسفة ينطلق من تتبع حياتهم، والتقييم النقدي لأعمالهم لابد أن يمر من العلاقة المعقدة بين ما هو من صميم عمل المفكر وبين واقعه اليومي، من هنا تأتي أهمية حياة الفلاسفة، لابد من مقارنة الفكر والتصور بالواقع المعاش، لأن القارئ يطالب بنوع من الانسجام بين العمل والفعل والفكر.
حياة الفيلسوف تتدخل في أعماله بطريقة أو بأخرى، هناك أشياء لا تظهر في الكتابات لكنها أشياء مؤثرة ومهمة ويجب أن نستحضرها كالحياة الخاصة، فكل ما يحيط بعمل وفكر الفيلسوف له أهميته الخاصة، الأصدقاء، المعارف، الأسرة، المستوى الاجتماعي..، لذلك فإن إنجاز البيوغرافيا الثقافية يتطلب توسيع مجالات القراءة من خلال البحث والتنقيب عن الحوارات والمراسلات والأرشيف الشخصي وكل الوسائط الممكنة، وفرصة اللقاء مع الشخصية يعطي للعمل قيمة أكبر.
البيوغرافي ليس مرآة للشخصية التي يدرسها لأنه لا يستطيع أن يكون كذلك. ولا يمكنه أن يزعم امتلاك مفاتيح الشخصية التي يقوم بتقصي سيرتها بغض النظر عن الوقت الذي خصصه والجهد الذي بذله في سبيل ذلك، وإنما هو يعكس الشخصية من خلال روعة العمل البيوغرافي الذي يقدمه، ومهمته تتطلب منه إبراز وملامسة الخصائص والمميزات الفردانية، فكل فيلسوف له صرخة خاصة، سماها دولوز “الصرخة البيوغرافية”، وكتابة سيرة فيلسوف هو بحث عن تلك الصرخة: أي تفريد الفردانية وذلك عكس “البيوغرافية النموذج” التي تبحث عن الأشياء العامة المشتركة.
رغم تعدد وجهات النظر حول الجوانب التي يجب التركيز عليها في سير المفكرين، لا بد أن نشير إلى أن التاريخ الفكري وتاريخ المفكرين بفرنسا اعتبر بدوره ولزمن طويل أحد “الطابوهات” لأنه اقترن دائما بسير حياة الأفراد. لقد اعتبر فرانسوا دوس أن فرنسا لديها تأخر كبير بالمقارنة مع ألمانيا والولايات المتحدة التي كانت سباقة للاهتمام بهذا النوع من المواضيع، لذلك فقد انخرط دوس بقوة في إعادة الاعتبار لهذا الجنس من خلال كتبه مسيرة الأفكار : التاريخ الثقافي وتاريخ المثقفين وتاريخ البنيوية وأيضا أطروحته التاريخ المفتت.. التي هي تاريخ نقدي لتاريخ الحوليات. وبالموازاة قدم أنواعا مختلفة من البيوغرافيات التاريخية الفكرية لفلاسفة ومثقفين معاصرين باعتبار أن البيوغرافيا لبنة أساسية في صرح التاريخ الفكري بمفهومه الواسع، بناءا على قراءات تأويلية “للهويات المتعددة” واعتمادا على التغيرات في السياق الفكري، ومن أهم البيوغرافيات التي أنجزها سيرة حياة الفيلسوف بول ريكور Paul Ricœur – Les Sens D’une vie لقد انطلق دوس في ظل غياب الأرشيف الشخصي لبول ريكور من أعماله ومن النظرة المتعددة للآخرين عنه، لقد أعاد إحياء خط الحياة المتعددة لريكور من خلال الذين تقاطعوا معه في لحظات وسياقات مختلفة، وأكد أن فهم فكره لا يتأتى إلا عن طريق لقاءاته بالآخرين. إنها بيوغرافيا بحث عن المعنى والحياة من خلال مسح شامل لمسار حياته، إنها فصول من سيرة فيلسوف لم يحظ بالشهرة في فرنسا إلا بعد عقده السبعين فالساحة كانت محتلة من قبل فلاسفة البنيوية والوجودية. وقد خصص دوس لريكور أعمالا بيوغرافية أخرى.
كما أنجز سنة 2007 بيوغرافيا متقاطعة لشخصيتين بارزتين من الثقافة الفرنسية هما الفيلسوف جيل دولوز والطبيب النفسي فيليكس كاتاري Gilles Deleuze et Félix Guattari, biographie croisée كشف فيه أسرار أعمالهما المشتركة، كما تناول أيضا فرانسوا دوس سنة 2002م سيرة الفيلسوف ميشال دو سيرتو.وقد صدر له قبل أيام سيرة المؤرخ بيير نورا Pierre Nora homo historicus مؤسس مجلة حوار وصاحب مشروع “أماكن الذاكرة”.
خلاصة
إن كتابة السيرة نوع من المخاطرة والمغامرة، إنها رهان صعب بل مقامرة وورطة، لأن البيوغرافي لا يمكنه أن يمتلك مفتاح الشخصية، فعالم النفس ولو قضى عشرين سنة في دراسة حالة ما لن يملك أبدا مفتاحها، والبيوغرافي أيضا لا يمكنه الوصول إلى حقيقة الشخصية، لهذا نجد بيوغرافيات متعددة عن نفس الأشخاص ليس لأن الأمر يتعلق باكتشاف أرشيفات أخرى، وإنما لأن هناك أسئلة جديدة تطرح. فالفرضيات والنتائج التي يتوصل إليها البيوغرافي تبقى مفتوحة أمام دراسات جديدة ومن المستحيل الوصول إلى حقيقة الشخصية، لذلك فإن من يلعب الرهان البيوغرافي يقامر دائما لأن كسب الرهان أمر صعب إن لم نقل مستحيل، لأنه في نهاية المطاف قد يكون رهانا خاسرا .
الهوامش:
(1)Jacques le Goff. « Comment écrire une biographie historique aujourd’hui ». Le Débat, 54, mars-avr. 1989.
(2) من أشهر رموز عودة الحدث بول ريكور”إني أكرم الحدث حين اعتبره المقابل الفعلي للشهادة “. وميشيل دو سيرتو “الحدث هو ما يصير إليه”. يتناول فرانسوا دوس في كتابه الجديد إحياء الحدث مدى الخصوبة المتجددة لهذا المفهوم في زمن الإعلام. مؤكدا أننا نعيش اليوم ولادة نظرة جديدة حول الحدث. وهي ليست عودة بسيطة بمعناها القديم. وقد سبق لبيير نورا تناول هذا الموضوع في مقال مفصل. للمزيد راجع :
François Dosse, Renaissance de l’événement – Un défi pour l’historien : entre Sphinx et Phénix, Paris, Presses Universitaires de France, 2010.
(3)Jacques le Goff Le Saint Louis, Paris, Gallimard, 1996, p.14.
(4) جاك لوغوف، التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطاهر المنصوري، مراجعة ع الحميد هنية، بيروت، المنظمة العربية للترجمة ، 200، ص61- 62.
(5) بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناتي. بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة 1، 2009 ص289.
(6) Les mondes retrouvés de l historien .Entretien avec Alain Corbin. (L histoire aujourd’hui) coord. Jean- Claude Ruano-Borbalan, édition Sciences Humaines . nouveaux objets de recherche .courants et débats .le métier d’historie. p 258- 259.
من أعمال فرانسوا دوس
– Dosse François. Paul Ricœur. Les sens d’une vie, Paris, La découverte 1997.
Dosse François, Michel de Certeau , chemins d histoire, avec Christian Delacroix , Patrick Garcia, Michel Trebitsch , Complexe, 2002.
Dosse François. Michel de Certeau. Le marcheur blessé, Paris, La découverte 2002.
Dosse François. La marche des idées. Histoire des intellectuels, histoire intellectuelle, Paris, La Découverte, 2003
Dosse François. Le Pari biographique. Écrire une vie], Paris, La découverte. 2005
Dosse François , Paul Ricoeur, Michel de Certeau. Entre le dire et le faire, Paris, Cahiers de l’Herne, 2006
Dosse François , Gilles Deleuze et Félix Guattari, biographie croisée, Paris, La Découverte , 2007.
Dosse François. Paul Ricoeur et les sciences humaines, Paris , La découverte. 2007.
Dosse François, Renaissance de l’événement – Un défi pour l’historien : entre Sphinx et Phénix , Paris, PUF, 2010.
Dosse François. Pierre Nora homo historicus, Paris, Perrin, 2011.
.
دوس فرانسوا ، التاريخ المفتت من الحوليات إلى التاريخ الجديد، ترجمة د محمد الطاهر المنصوري، مراجعة جوزيف شريم، بيروت، المنظمة العربية للترجمة الطبعة، 2009.