لقد اختارت الأكاديمية السويدية منح جائزة نوبل للآداب لسنة 2008 إلى الكاتب الفرنسي (والموريسي) جان ماري غستاف لوكليزيو.
وجاء في بيان الحيثيات أن الأكاديمية اختارت تكريم “أحد كتاب القطيعة والمغامرة الشعرية والإحساس المرهف الذي يقوم بسبر أغوار إنسانية تحت وطأة الحضارة المهيمنة”.
والحقيقة أن للأديب لوكليزيو مكانة فريدة في المشهد الأدبي الفرنسي المعاصر، لا من حيث مساره الشخصي ولا من حيث الموضوعات التي طرقها في كتاباته الغزيرة والتي تناهز خمسة وأربعين عنوانا.
هذا التكريم العالمي ناله هذه السنة أكثر الأدباء الفرنسيين عالمية. فهو ينحدر من أسرة من جزيرة موريس بالمحيط الهندي حيث استقر أجداده في أواخر القرن الثامن عشر والتي كانت تحت السيادة الفرنسية قبل أن يستولي عليها الإنجليز بعد هزائم نابليون وبقيت مستعمرة بريطانية حتى حصولها على الاستقلال في ستينات القرن العشرين.
ازداد لوكليزيو في 13 أبريل 1940 بمدينة نيس على الشاطئ الفرنسي للمتوسط من أم حاملة للجنسية الفرنسية وأب انجليزي وكلاهما من جزيرة موريس. فهو مزدوج الجنسية، فرنسي وموريسي ويجيد اللغتين الفرنسية والانجليزية قراءة وكتابة. تابع دراسته الأدبية في نيس وبريسطول ولندن، لكنه اختار اللغة الفرنسية كأداة تعبير أدبي نكاية في الانجليز الذين استعمروا جزيرة موريس.
بأصوله العائلية هاته فكأنما خلق للترحال الدائم والسياحة الثقافية. عاش فترة الخدمة المدنية كأستاذ في التايلاند حيث تم توقيفه بسبب انتقاده في أحد الاستجوابات لدعارة الفتيات الصغيرات في بانكوك. وتم نقله إلى المكسيك حيث أسندت له مهمة ترتيب الكتب بالمعهد الفرنسي بمكسيكو وذلك سنة 1967. في هذا المعهد وفي تلك الفترة اكتشف وتعرف على حضارة وثقافة أمريكا ماقبل –الغزو الاسباني البرتغالي- وشكل هذا الاكتشاف منعطفا حاسما في حياته واهتماماته الفكرية والثقافية، بل وأصبح متخصصا عارفا بالثقافة الهند-أمريكية. بعد الخدمة المدنية عاد إلى المكسيك للاستمرار في البحث. من 1970 إلى 1974 عاش بين القبائل الهندية في بناما جنوب المكسيك ثم بإقليم(Michoacan) المكسيكي. وكانت هذه الفترة من حياته فترة بحث تاريخي وأنثروبولوجي وكذلك فترة زهد وتصوف وأخذ مسافة اتجاه الحضارة العصرية المفرطة في المادية والاستهلاكية التي سبق أن انتقدها في المحضر روايته الأولى التي نشرها سنة 1963 والحائزة على جائزة رينودو الشهيرة.
في هذه الفترة كذلك تعلم اللغات المحلية للولوج رأسا إلى الثقافة الهند-أمريكية، وكان من الغربيين الأوائل الذين ترجموا النصوص المؤسسة لتلك الثقافة الدينية مثلا: كتاب نبوءات شيلام بالام Pophetier de chilam balam وروايات مشواكان، كما نشر مقالات ويحرر أطروحة الدكتوراة في التاريخ. كان بالإمكان أن يستمر لوكليزيو في أبحاثه الميدانية ويصبح أحد المختصين الكبار في ثقافة الأزطيك والمايا مثل مواطنه جاك سوستيل، لو لم يتم رفض طلبه للالتحاق بالمركز الفرنسي للبحث العلمي.
بعد ذلك استقر لوكليزيو بمدينة “ألبوكيرك” عاصمة ولاية ” نيو مكسيكو” بجنوب الولايات المتحدة الأمريكية واشتغل أستاذا للآداب بجامعتها ابتداء من 1977 إلى اليوم. واستقراره في هذه الجامعة لن يحول دون الترحال المستمر الذي يغذي كتاباته الابداعية.
للكاتب لوكليزيو إنتاج غزير ومتنوع فهو قد كتب الرواية والقصة والمسرح والمقالة والمذكرات (الأيام) والسيرة والدراسة الفنية والاستطلاع الجغرافي والاثنوغرافي وترجمة النصوص الهند-أمريكية وحتى الروايات والقصص للأطفال واليافعين.
وعلى العموم يغلب على إنتاجه النفس الملحمي الأخاذ والشاعرية المرهفة. ورغم أن لوكليزيو لم يكن كاتبا ملتزما بالمعنى الذي صاغه الفيلسوف جان بول سارتر بعيد الحرب العالمية الثانية إلا أن كل مؤلفاته مطبوعة باقتسام الهموم الإنسانية وانتقاد الحضارة العصرية الاستهلاكية، كما تمتاز كتاباته بروح التضامن مع المضطهدين والمغلوبين على أمرهم أينما كانوا في بقاع العالم.
واستمر يكتب بهذه الروح رغم الانتقادات اللاذعة التي أمطره بها النقد الصحفي في فرنسا وأمريكا الذي عاب عليه سذاجته و”براءته” السياسية خاصة بعد نشر روايته نجمة هائمة Etoile errante عن مأساة الفلسطينيين. والحق أن كل رواياته تشكل مراجعة ضد الاستعمار: الاستعمار الإنجليزي: كتاباته حول جزيرة موريس وخاصة الأربعينية، الاستعمار الفرنسي:صحراء رواية ملحمية حول مقاومة الاستعمار الفرنسي في الجنوب المغربي، الاستعمار الاسباني: كل ما كتبه حول المكسيك والحلم المكسيكي المجهض. وعلى العموم اشتهر لوكليزيو بانتقاده لعنف الحضارة الغربية وبطشها اتجاه الحضارات الأخرى التي انهزمت بسبب التفوق التقني للأوربيين، هذه التقنية التي فتكت كذلك بالطبيعة وأحدثت بشراستها شروخا في النظام البيئي مما قد يؤدي إلى تدمير الحياة كلها في الكوكب الأرضي. التضامن مع الشعوب التي استعمرها الأوربيون والدفاع عن البيئة المهددة بالاندثار وانقطاع الحياة بها هي ميزة الكاتب الأديب لوكليزيو.
وقد رد هذا الأخير على منتقديه بأن الوقوف إلى جانب المضطهدين والمستضعفين والمكلومين وكل الذين لم يسعفهم الحظ ليس بالموقف الساذج ولا يمكن نعته بالضحالة السياسية بل هو الواجب بعينه. وقد لا يختلف لوكليزيو في هذا مع الكاتب ألبير كامي ( الحائز هو كذلك على جائزة نوبل سنة 1957 ) الذي قال “إن الأديب ليس في خدمة من يصنعون التاريخ بل مع الذين يرزخون تحت وطأته”.
في اختياره للموضوعات التي يريد الخوض فيها ينطلق الكاتب من قناعاته وإحساسه الشخصي، مستلهما ما ترسب في ذاكرته وما يعانيه من خلال مطالعاته وتجواله عبر العالم، كما يغلب على أسلوب لوكليزيو الطابع الملحمي حيث لا يصف المسارات الشخصية إلا داخل المسارات التاريخية للجماعات التي تنتمي إليها الشخوص. مسار الشخصية المحورية في الرواية مرتبط ومحدد بمسار الجماعة. مسار الفتاة في رواية صحراء مرتبط ومشروط بمسار ونكبة القبيلة أمام الجيوش الاستعمارية. مسار الأم في آخر رواية نشرها وهي أنشودة الجوع مرتبط ومشروط بمسار فرنسا واحتلالها من طرف الألمان. نفس البنية الروائية في الأربعينية حول الموريسيين والاستعمار البريطاني أو في رواية أورانيا Ourania حول استغلال الأطفال في ظل الرأسمالية المتوحشة بأمريكا اللاتينية. ومن الملاحظ كذلك أن الكاتب يختار في الغالب مواضيع مرتبطة بمحيطه العائلي الذي يلهمه أجمل رواياته. مثلا من جهة الأم: أنشودة الجوع، من جهة الأب: اونيتشا Onitcha، والرجل الإفريقيl’africain، من جهة زوجته المغربية: صحراء Désert، وأهل السحب Geus des nuages، وسمكة من ذهب Poisson d’or، ومن جهة أجداده الأربعينيةLa quarantaine إلخ…
والجدير بالذكر أن لجان تحكيم الجوائز الأدبية، وكذلك البحث الجامعي لم يسايروا النقد الصحفي الذي له على كل حال تأثير على القراء/ الزبناء، ومن ثم على حجم المبيعات وبالتالي على مداخيل الكاتب وقوته اليومي. كما أن هناك أبحاث عديدة حول مؤلفات لوكليزيو تم إنجازها في جامعات مختلفة عبر العالم، بل هناك مجلة مختصة تصدرها “جمعية قراء لوكليزيو” وهي دورية تصدر مرة في السنة بحجم كتاب تنشر فيها مقالات ودراسات حول كل جوانب إنتاج لوكليزيو وترصد كل ما ينشر حوله.
وفيما يخص الجوائز الأدبية فقد كان حظ صاحبنا وافرا وذلك منذ أول إصدار له. ففي سنة 1963 وعمره آنذاك 23 سنة نال لوكليزيو عن رواية المحضر Le procès verbal جائزة رينودو وهي من أرقى الجوائز الأدبية بفرنسا، كما حصل سنة 1980 على جائزة “بول موران” التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية عن رواية صحراء وله جوائز شتى من بلدان مختلفة كان آخرها جائزة نوبل لسنة 2008.
بيبوغرافيا موجزة:
1963 Le procès verbal – المحضر
1978 Mondo et autres histoires – موندو وقصص أخرى
1980 Desert – صحراء
1991 Onitsha – أونيتشا
1995 La quarantaine – الأربعينية
1997 Poisson d’or– سمكة من ذهب
2004 L’Africain – الرجل الإفريقي
2008 Ritournelle de la fain – أنشودة الجوع